دور البترول في حياتنا
لنتصور حياتنا اليوم لو لم نكتشف البترول في بلادنا، فهناك بلدان كثيرة لا يوجد تحت أرضها برميل واحد من البترول. هذه المادة السحرية التي غيرت مجرى التاريخ وهيَّأت لثورة عصر العلم والتكنولوجيا، كمصدر للطاقة وكمادة أساسية لأنواع متعددة من الصناعات الحديثة. فلو لم يكن في بلادنا هذا الكم الهائل من البترول، لما شاهدت شوارع مدننا وقُرانا تتحول في الليل المظلم إلى نهار، تتلألأ في جوانبها أنوار الكهرباء المتولدة من طاقة الغاز والبترول، ولما وُجدت لدينا أحدث أنواع المركبات وشيِّدت العمائر والأبراج، وشقت الطرق الواسعة بطول البلاد وعرضها، تمخر الهضاب وتشق الجبال، فأصبحت كالشرايين تنقل الحياة من عضو إلى آخر. ولولا المجهود والتوجيه المبكر من الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، ثم لاحقًا دخل البترول، لما شهدنا على أرضنا اليوم عشرات الجامعات ومئات المعاهد وآلاف المدارس، إلى جانب البعثات الخارجية المتواصلة.
ماذا عن السياحة والسفر والرحلات الموسمية التي وقودها المال؟ هل سيكون في مقدورنا فعل ذلك لو لم نكتشف البترول؟ كانت حياتنا قبل اكتشاف البترول، ومحدثكم ممن عاصروا ذلك الزمن، شحًّا شديدًا في المعيشة، وأرضنا خالية تمامًا من المدارس الحديثة والمرافق الصحية. نعيش على ما نزرع ونحصد بأنفسنا وبمجهودنا المحدود. لم نكن نعرف المركبات الأرضية، دعك عن الطائرات. وكان عدد سكان المملكة آنذاك لا يزيد كثيرًا عن مليون نسمة. ولو ظلت حالنا على ما كانت عليه من دون بترول ما صار سكان المملكة اليوم أكثر من ضعف ما كانت عليه قبل سبعين عامًا. وهذا يقودنا إلى السؤال التالي: ما مصيرنا بعد انتهاء عصر البترول إذا استمرت أحوالنا كما هي اليوم، حيث نعتمد كليًّا على دخل البترول وعلى عمالة أجنبية تعمل من أجل راحتنا ورفاهيتنا ونحن في سُبات عميق غير مدركين أن المصدر القابل للنضوب سوف ينضب ويتركنا نعود إلى ما كنا عليه قبل اكتشافه.
قصة فريدة
ولاكتشاف البترول في السعودية قصة فريدة، لا بدَّ لأولادنا ولأجيال المستقبل أن يعرفوا ولو نبذة يسيرة منها. فقد أدرك مؤسس هذه البلاد، الملك عبدالعزيز، بما جُبل عليه من الذكاء الفطري مبكرًا أنه لا بد من البحث عن مصادر طبيعية -أي نوع منها- تكون معينًا على العيش والبقاء فوق أرض الصحراء. وأي فكر هذا الذي قاده، وهو ابن البادية، إلى تحري وجود ثروة هائلة مدفونة منذ مئات الملايين من السنين تحت هذه الأرض الطيبة؟ وبسبب الحاجة الملحّة وحرصه على ضمان مستقبل واعد لشعبه وأمته، لم يأنف من دعوة أناس غرباء عن المجتمع وعن البيئة من أجل البحث عن المادة السحرية التي أطلقوا عليها «البترول»، لعلها تكون موجودة تحت أرضنا. وعقد مع الجانب الأجنبي اتفاقية متوازنة بمقاييس ذلك الوقت، حصلوا بموجبها على حق الاستكشاف والاستثمار في حال وجود البترول بكميات تجارية. كان ذلك عام 1933م. بدأ البحث في الصحراء، بعد أن تكامل وصول المعدات الأولية. وقد كان للجيولوجيين الذين كان بعضهم يعمل في البحرين المجاور، رأي خاص، كانوا يشاهدون جبال الظهران عن بعد ويخمنون أنها ترسو فوق قبة من مكامن البترول. وفعلًا صدق حدسهم، لكن بعد جهد واستنباط علمي فريد. انتقلوا إلى الظهران وبدؤوا في الحفر عام 1935م، بعد أن اكتمل وصول معدات الحفر. حفروا البئر الأولى، وصادفوا آثارًا للبترول، لكن ليست بكميات تجارية. فانتقلوا إلى البئر الثانية ووجدوا النتيجة نفسها. ومع ذلك فقد كانوا عازمين على مواصلة الطريق حتى يتأكدوا من النتائج النهائية. وعيون جلالة الملك العبقري ترقبهم من بعيد. انتقلوا إلى موقع البئر الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة حتى السابعة. ولم تكن النتائج بأفضل من المحاولة الأولى. وهنا بدأت الشركة الأميركية صاحبة عقد الامتياز، «سوكال»، وكان مقرها في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة، تظهر امتعاضًا مشوبًا بالحذر. وقررت وقف مزيد من عمليات الحفر. ولم يطرأ على بالهم آنذاك الانتقال إلى موقع آخر خارج منطقة الظهران، ربما لعدم توافر الإمكانيات المالية واللوجيستية وخشية الدخول في مخاطرة مكلفة غير مضمونة النتائج. فكانت البرقيات تتوالى من مقر الشركة إلى الظهران حول خطة الانسحاب من المملكة. ومن جميل الصدف أن يكون أحد جيولوجيي الشركة البارزين في زيارة خاطفة إلى الرياض لمهمة خاصة. ولاحظ، بثاقب ذهنه ومهارته الجيولوجية طبيعة التكوينات الصخرية التي كانت ظاهرة على سطح الأرض هناك. وقارنها بما شاهد من مكونات الطبقات التي كان يخترقها الحفر في آبار الظهران ويجري فحصها أولًا بأول. وربط بعبقريته وخبرته بين تلك الصخور، واستنتج أن من الأفضل تعميق إحدى الآبار إلى أعمق من المستوى الذي كانوا يتوقفون عنده لإنهاء عملية الحفر، وطلب من الشركة الأم منحهم الفرصة الأخيرة لتعميق الحفر، ووافقت الشركة. وبما أن جهاز الحفر كان وقتها راسيًا على بئر رقم سبعة، فقد صار التعميق الأول من نصيبها. وفعلًا تدفق البترول بكميات تجارية بعد إضافة عمق يقارب 1000 قدم. وأرسلوا تباشير الاكتشاف إلى إدارة الشركة في الولايات المتحدة وإلى الحكومة السعودية. وعادوا إلى بقية الآبار من البئر الأُولى إلى السادسة، وعمقوها ليجدوا النتيجة الإيجابية نفسها. وأطلقوا على الحقل اسم «الدمام»، على الرغم من وجوده في جبل الظهران. كان ذلك عام 1938م. وخلال عام واحد مدُّوا خط أنابيب من منطقة الإنتاج في الظهران إلى رأس تنورة من أجل التصدير. ومنذ ذلك الوقت أصبحت رأس تنورة من أكبر موانئ تصدير البترول في العالم. وبعد أن اطمأنت الشركة الأميركية لوجود البترول في أرضنا، جيَّشت إمكانياتها لاستكشاف حقول جديدة في مناطق الامتياز. ولم يخب ظنها، فقد اكتشفتْ حقل بقيق وأبو حدرية والسفانية ومناطق الغوار، وبقية الحقول الأخرى.
تكوَّن البترول من مواد نباتية وبقايا حيوانات برية وبحرية طمرتها السيول والأنهار منذ ما يقرب من ست مئة مليون سنة، وحولتها إلى سوائل وغازات بين طبقات صخور رسوبية تحت أعماق يراوح معظمها بين خمسة آلاف إلى عشرة آلاف قدم. وخلال ملايين السنين الأولى من عمرها، هاجرت أغلبية السوائل والغازات من مكان تكوينها إلى مناطق أخرى مجاورة بحثًا عن مكامن أو مصايد كانت قادرة على الحفاظ عليها من الهروب والانتشار فوق سطح الأرض، ومن ثم ضياعها عبر السنين من دون فائدة. وعادة تكون طبقات صخور المكامن على شكل قبب بفعل عوامل جيولوجية سابقة وسقوفها من نوع الصخور غير المنفذة أو الصماء بحيث تمنع تسرب السوائل والغازات إلى أعلى. وقد شاهد البشر على مر الزمن في أماكن معينة من الكرة الأرضية انبعاث مواد هيدروكربونية وجدت طريقها إلى أعلى ويصعب استغلالها اقتصاديًّا. وتبدأ عملية استكشاف حقول البترول بإجراء ما يسمى المسح الزلزالي. وهي عملية بسيطة لكن نتائجها مهمة جدًّا. وهي عبارة عن ضربات قوية ومنتظمة فوق سطح الأرض تسبب موجات صوتية متوالية تصل إلى أعماق بعيدة ويرتد أجزاء منها إلى السطح نتيجة لاصطدامها بأنواع مختلفة من طبقات الصخور. يلتقطون ارتداد الموجات الصوتية بواسطة أجهزة ذات حساسية عالية تسجل زمن وصول ارتداد الموجات بأجزاء صغيرة من الثانية. ومنها يحسبون عمق وأشكال الطبقات الصخرية. ويستنبطون إن كان من بينها تكوينات صخرية محدبة أو على شكل قبب من الممكن أن تكون مكامن بترول. لكن الذي يحدد وجود البترول بعد كل ذلك المجهود هو حفر بضع آبار في وسط وجوانب التكوين المقصود. فلا بد من الوصول إلى طبقات المكامن لمعرفة وجود البترول أو الغاز من عدمه. ومعظم مصادر البترول السائل نجدها تحت الأرض داخل مسام ميكروسكوبية في قلب الصخور الرسوبية. وهناك أنواع أخرى من البترول على الهيئة الصلبة ومعظمها فوق أو قريب من سطح الأرض، مختلط مع الصخور والرمل بنسب مختلفة. ويُنتَج ليس عن طريق حفر آبار كما هي الحال مع البترول السائل، بل عن طريق تجميع المكونات الصخرية والرملية ونقلها إلى أفران ذات حرارة عالية لفصل المواد البترولية ونقلها إلى موانئ التصدير أو معامل التكرير.
الثقافة البترولية لا تذكر
وعلى الرغم من مرور أكثر من ثمانين عامًا على اكتشاف البترول في بلادنا وكوننا نعتمد كليًّا على دخله، فإن الثقافة البترولية؛ الاقتصادية والاجتماعية والأدبية تكاد تكون لا شيء يُذكَر. فنحن نعرف الكثير عن كرة القدم وعن السياحة خارج البلاد. ويتحدث أفراد المجتمع بعمق عن المطاعم وأنواع الأكلات. ويتغنى الشعراء بالطبيعة والصحراء الخلابة وبالإبل والخيول، ونقدس النخلة ونعدّها رمزًا لشعارنا الوطني. لكن لا أحد يتحدث بإبداع عن البترول ومشتقاته، وهو الأكثر أهمية في حياتنا المعاصرة. سمّوه الذهب الأسود وهو في الواقع أغلى من الذهب. يحرقونه من أجل أن يسيِّر مركباتهم، الأرضية والبحرية والجوية، ويولد لهم الطاقة الكهربائية، وينشرونه فوق أسطح الطرق ليسهِّل سير عرباتهم. وتغافلوا أو تناسوا أنه أثمن من أن تهدر طاقته داخل مركبات لا تحمل إلا نسبة قليلة من حمولتها القصوى. ونخشى أن يأتي اليوم الذي نسمع فيه من يلومنا على هدره وإحراقه. ولا ننسى أن المواد الهيدروكربونية مصدر لعدد لا يحصى من المنتجات الصناعية والاستهلاكية. وما علينا إلا الالتفات يمينًا وشمالًا لنشاهد أن معظم ما حولنا وما يُلبَس وما يُركَب حتى مواد بناء المساكن، مصنوع من المشتقات البترولية.
وقد أدمن المجتمع الدولي على استخدام البترول الرخيص منذ اكتشاف هذه المادة السحرية قبل ما يزيد عن مئة وخمسين عامًا. فنحن اليوم نستنزف يوميًّا ما يقارب سبعة وتسعين مليون برميل من حقول قد عفا على أغلبها الزمن، وأصبحت تنتج النصف الأخير من مخزونها القابل للإنتاج. وقد لا يمضي وقت طويل ونصل إلى مرحلة يزيد فيها الطلب العالمي على الإنتاج، الذي مآله إلى الانخفاض القسري. ومن هنا يبدأ سعر برميل البترول في الارتفاع إلى مستويات قياسية. على الرغم من احتمال التوسع في استخدام مصادر الطاقة المتجددة، وزيادة إنتاج مصادر البترول غير التقليدية المكلفة، مثل البترول الصخري والرمل البترولي، وهذه المصادر عادة شحيحة الإنتاج ولن تكفي لتعويض كميات البترول التقليدي المتوقع اختفاؤها بسبب النضوب الطبيعي.
ونحن، في الدول الخليجية، نستنزف ثروتنا البترولية دونما حساب للمستقبل. فدخل البترول يكوِّن أكثر من 90% من ميزانيات دول الخليج. وقد مضى علينا في السعودية أكثر من خمس وأربعين سنة ونحن نحاول جاهدين تنويع مصادر الدخل، وتوطين نوع من الصناعات التي تتناسب مع بيئتنا وقدراتنا وإمكانياتنا المالية والبشرية. لكننا لم نفلح حتى الآن، رغم المجهود المبذول والخطط الخمسية التي كانت تهدف إلى تحقيق هذا المطلب. وقد يكون من أسباب فشل الخطط الخمسية ضخامة الدخل من صادرات البترول. فقد أدَّى ذلك إلى مضاعفة الميزانية العامة أكثر من ثلاث مرات خلال عقد من الزمن؛ مما أوجد مشاريع إنشائية أكبر من طاقتنا البشرية غير الجاهزة ولا المدربة. وهذا هو الذي اضطرنا إلى استقدام الملايين من العمالة الأجنبية الرخيصة، وتسبب ذلك، في الوقت نفسه، إلى قفل الباب أمام شبابنا الذين لم يكونوا حينها مؤهلين للعمل في المجالات الحرفية والمهنية والتقنية. إضافة إلى ضعف مستوى الرواتب بسبب وجود عمالة أجنبية رخيصة. وما زلنا نعاني هذه الظاهرة حتى اليوم. ولا بد من تحجيم المشاريع والاستغناء عن نسبة كبيرة من العمالة الأجنبية التي أصبح قسم كبير منها عالة على اقتصادنا. فبضعة ملايين منها تعمل في تجارة التجزئة لحسابها الخاص بتفويض غير نظامي من الكفلاء. وأصبح، من غير الضروري، بل من الملحّ أن نتخلص من ملايين العمالة الأجنبية حتى لو أدى ذلك مؤقتًا إلى ضرر يطول فئة قليلة من المواطنين. وذلك من أجل الصالح العام ومستقبل أفضل لهذه الأمة التي سوف تبقى تعيش فوق رمال الصحراء القاحلة. ومستقبلنا ليس فقط مهددًا بنضوب مصدر دخلنا الرئيس، بل أيضًا نضوب الماء الذي يعاني هو الآخر استنزافًا جائرًا. فمعدل استهلاك الماء في بلادنا أكثر من ضعفي المعدل العالمي، وبخاصة البلدان التي تنعم بكميات كبيرة من الأمطار وجريان الأنهار.
فلا شك أننا بحاجة إلى صحوة توقظنا من سُباتنا لنعمل ونكد ونعرق من أجل أن نلحق بركب الأمم الجادة التي تعمل بنفسها وتبني مجدها بسواعد وعقول أبنائها. وهذا ما نأمله من رؤية 2030 المباركة. فقد جاءت في الوقت المناسب وحركت المياه الراكدة، بعد أن أعيتنا الحيل، وأصبح قمة طموحنا استقدام أكبر عدد ممكن من العمالة الأجنبية التي -نسبة كبيرة منها- ليس لوجودها بين ظهرانينا ضرورة قصوى. ونأمل أن تؤتي الرؤية ثمارها قريبًا بإذن الله، ابتداءً بتوطين الأعمال المنتِجة، ليحل المواطن محل الأجنبي.