بواسطة حسن مدن - كاتب بحريني | مايو 1, 2023 | مقالات
الحديث عن ضرورة إصلاح النظم التعليميّة في بلداننا ليس جديدًا، ولكننا لا نزال في حاجة إلى انعطافة حقيقيّة كتلك التي جرت في البلدان التي صممت على النهوض، فاختارت أن تبدأ بإصلاح التعليم. بلد كالهند، على سبيل المثال، لم يكن للتعليم فيه، حتى عقود قليلة، تلك السمعة الطيبة، لكنه يملك اليوم عددًا من أفضل المعاهد في العالم في مجال المعلوماتيّة. وهذا يندرج في أسباب النهضة الهنديّة الراهنة. كما أنّ نهضة التعليم هي سرّ النهضة الآسيويّة؛ في اليابان وفي البلدان التي عرفت بنمور آسيا.
وحين نتحدث عن برامج وإستراتيجيات تطوير التعليم، فإن العبرة ليست في الذي يُكتب على الورق، وإنما في الذي ينفذ على الأرض. ومشكلتنا أنّ «إصلاح» التعليم، كما أشياء أخرى في بلداننا العربيّة، أو غالبيتها، لا يرتبط برؤية تنمويّة على المستوى الوطنيّ الشامل؛ لذلك تكثر عندنا البدايات وتتكرر محاولات التجريب التي لا تقود إلى نتيجة يعوّل عليها. لأننا نتجاهل أنّ إصلاح التعليم يبدأ بعقلنته وتحريره من الخرافة، وهو إصلاح لن يمكن من دونه لبلداننا أن تغادر حالة الضياع التي تعانيها، وهي محاصرة بضغوط متعددة وتحديات غير مسبوقة، نراها في تفكك الدول والكيانات الوطنيّة، والإمعان في التطرف والغلواء المدمرة.
ولا يصحّ أن تختزل مهمة كبرى مثل إصلاح النظام التعليميّ في جانب واحد أو في تفصيل جزئي، يغفل بقية الأجزاء والتفاصيل، ومن ذلك النزوع المتزايد نحو ما بات يعرف اليوم بـ«تمهين» التعليم، أي جعله مهنيًّا، انطلاقًا من وهم مستحوذ على بعض الأذهان من أن التعليم لكي يكون حديثًا وعصريًّا، عليه التخلي عن الكثير من مكوّنات منظومته، وأن يتوجه لتلبية ما يعرف بـ«احتياجات» السوق، التي تتطلب إعداد الشباب للمهن المتاحة في هذه السوق اليوم. وهي مهن تتجه نحو الخدماتيّة، والوظائف الماليّة والمصرفيّة، التي تتطلب مهارات معينة من نوع معرفة معقولة باللغة الإنجليزيّة، وبخاصة في المجالات التي يتطلبها هذا النوع من المهن، فضلًا عن كفاءة التعامل مع البرامج الإلكترونيّة.
في نهج مثل هذا ازدراء للتعليم نفسه كمنظومة متكاملة من المعارف والقيم المنفتحة على أفق إنسانيّ واسع، وحصره في أطر ضيقة محدودة؛ فإذا ما اكتفينا بأن يلبي التعليم ما تتطلبه السوق هدفًا وحيدًا نكون قد هيأنا هذا التعليم ليكون وسيلة لتخريج أجيال من عبدة الآلة، وليس أجيالًا من الراشدين المسؤولين. فالمطلوب ليس إعداد من يلبون متطلبات السوق فحسب، وإنما أيضًا وأساسًا، إعداد كوادر بتكوين ثقافيّ إنساني عالٍ مع ما يتطلبه ذلك من تدريس للفلسفة والفكر التنويريّ، وقراءة الأدب والاستمتاع بالموسيقا والفنون عامة.
هذا ما يراه تربوي أجنبي مرموق اسمه اليغي ربول، الذي يعتقد أنّ ما يستحق أن يُدّرس هو ما يوحّد وما يحرّر، وهو بذا يضع معيارًا مزدوجًا: التوحيد والتحرير؛ لكي يكون التعليم جديًّا ومجديًا. ويقصد بالتوحيد، تلك المواد والمناهج الجديرة بأن تحقق للتلميذ والطالب اندماجًا في مجتمع يتسع ما أمكن لأبنائه، وبالتحرير التغلب على معوّقات التفكير الحرّ.
لو بقيت المناهج الدراسيّة المعتمدة هي ذاتها، والرؤية التعليميّة هي نفسها المتبعة الآن، فإن مخرجات التعليم، من حيث الجوهر، ستبقى كما هي، ولن نشهد النهضة التعليمية المنشودة التي ما انفك المفكرون العرب ذوو البصيرة السليمة يطالبون بها، منذ الزمن الذي كان فيه الجديد يتقدّم، والقديم يتصدّع، حتى لو لم يَنهر، قبل أن نشهد ما شهدناه من تراجعات أمام صعود سطوة التيارات المحافظة والتكفيريّة وهيمنتها على فضاءات مجتمعيّة واسعة، منطلقة من هيمنتها على منظومة التعليم، وتكييف المناهج الدراسيّة بما يحقق غاياتها، في تجهيل المجتمع، وتكوين جيل متطرف التفكير والميول، وجد تجلّياته لاحقًا في الأعداد المهولة من منتسبي التنظيمات الإرهابيّة مثل «القاعدة» و«داعش» وسواهما، ممن تربّوا على تكفير وتسفيه حريّة الرأي وقمع للاجتهاد الحرّ، وتشرّبوا مما ينشره ويذيعه من يوصفون بالدعاة ممن حرّضوا هؤلاء الشباب على التهلكة بأنفسهم، فجرى تسليمهم للقوى والمحاور التي وظفتهم شرّ توظيف.
التعليم وتحرير الدِّين
إنّ «داعش» و«القاعدة» وغيرهما، هما فكرة قبل أن تكون تنظيمات ومسلحين. وهذه الفكرة ستظل قادرة على إنتاج نفسها ما لم تستأصل التربة المنتجة لها، في المدارس ومناهج التعليم والدروس الدينيّة التي يقدّمها دعاة من منتسبي هذه التنظيمات أو مريديها. «الداعشيّة» وإن تجلت في الصورة الدمويّة البشعة التي رأيناها في العراق وسوريا وسواهما، فإنها قد تتجلى أيضًا في صور أخرى، ناعمة، لكنها لا تقل خطورة، إن لم يجر احتواء فكر «الداعشيّة» المتغلغل في الكثير من المناهج الدراسيّة، وفي أدمغة الكثير من المعلمين والمعلمات.
نحن، إذن، إزاء مهمة كبيرة في تحرير الدين الإسلاميّ مما أقحمه غلاة المتطرفين من أفكار إرهابيّة ونسبوها، زورًا وبهتانًا، إليه، وما هي منه. وهذا يتطلب إصلاحًا دينيًّا، يعلي من قيم التسامح والانفتاح وحرية التفكير، وينبذ الكراهية والغلواء والتطرف بأشكاله كافة، ويؤكد قيمَ الإبداعِ والبناء، لا الخراب والإرهاب، ويقدّم ما في تراثنا الديني والفلسفي والحضاري من منجزات تركت أكبر الأثر في تطوّر الحضارة العالميّة، بدل إحياء دعوات الانغلاق والتّزمت.
ومن أجل بلوغ ذلك يجب أن نعود إلى نقطة البدء، أي إلى ضرورة إصلاح التعليم. فالتجديد الديني وثيق الصلة بالتجديد في منظومة التعليم. إنهما شرطان متلازمان، لن يتحقق أحدهما بمعزل عن الآخر، ولن يكون كافيًا إدخال مادة مثل الفلسفة في المناهج الدراسيّة، فالأهم هو طبيعة المادة المنتقاة من تاريخ الفلسفة الحافل والزاخر بالمتناقضات والرؤى المتعددة، والأهم من هذا منهج التدريس الذي تقدّم به هذه المادة، وكفاءة التربويين الذين يقدّمونها وطبيعة رؤاهم.
وأبعد من ذلك فإنّ النقاش يجب ألا يحصر في سؤال من نوع: هل نبدأ بتدريس الفلسفة في المدارس المتوسطة والعليا، وإنما يجب أن يدور حول مفهوم التعليم ووظيفته، من حيث هي وظيفة الإعداد السويّ للتلاميذ والطلبة ثقافيًّا وتربويًّا وتطبيقيًّا؛ أي بمعنى إعدادهم لمواجهة مرحلة ما بعد المدرسة، ومن ثم ما بعد الجامعة، حيث يتعين تحويل المدرسة إلى ما يشبه المصهر المعرفيّ الذي يُكوّن الطالب بأفق ثقافيّ منفتح، وهو الشرط اللازم لبناء المستقبل والرافعة الضروريّة له.
بواسطة حسن مدن - كاتب بحريني | سبتمبر 2, 2018 | الملف
من الآفات العربية؛ الولع بالموضات والتقليعات السياسية والفكرية التي تردنا متأخرة، في الأغلب الأعم، من سياقات سياسية وثقافية أخرى، غربية في الأغلب، فنأخذ بها، ونكررها من دون تمعن في محتواها، والتفكر في التطبيق الخلاق لها على ظروفنا الخاصة. من صور ولعنا بالمفاهيم من دون أن نسعى لتجليسها في بيئتنا؛ لأن أشكال تجليها عندنا لا يمكن أن تكون صورة طبق الأصل، أو بالحذافير، لصور تجليها في مجتمعات أخرى تختلف عنا، في ملابسات تطورها السياسي والثقافي والاجتماعي- طريقة تعاطينا مع مفهوم المجتمع المدني الذي يجري اجتراره بالكثير من السطحية، وعدم التمعن.
غدا هذا المفهوم اليوم من أكثر المفاهيم تداولًا في الحياة السياسية والثقافية العربية، ولو قارنا ذلك بما كان عليه الأمر قبل عقدين، أو ثلاثة، لكدنا نقول: إن مفهوم المجتمع المدني مفهوم جديد على الثقافة السياسية العربية، فالنظرة إلى هذا المفهوم، قبل ذاك، كانت هامشية، وربما انطوت على شيء من الازدراء، لكن انقلبت الحال الآن، وأصبح المفهوم من الموضوعات الأثيرة لدى نخبنا السياسية والفكرية. غير أن هذا التداول الواسع للمصطلح لا يعني أنه يُستخدم في حالات كثيرة في مكانه الصحيح، فما أكثر ما يطلق على مظاهر من النشاط، أو على تجمعات أو جماعات، يصعب إدراجها في إطار مفهوم المجتمع المدني، فبات، لدى الكثيرين، كل ما هو غير الدولة، أو خلاف المؤسسات الحكومية، يصنف على أنه مجتمع مدني من دون النظر في طبيعة الوظائف التي تؤديها تلك التجمعات والجماعات، أو الرسالة التي تنطوي عليها بعض الأنشطة التي تدرج، خطأً، في سياق المجتمع المدني.
لا يجري، كما يجب، التفريق بين مفهومين مختلفين، حتى لو انطويا على درجة من التقاطع أو الالتقاء في ظرف من الظروف أو في مرحلة من المراحل، وهما مفهوما المجتمع الأهلي والمجتمع المدني، فبينما يمكن للمجتمع الأهلي أن يستوعب في ثناياه كل ما هو «لا دولة»، نعني كل ما هو خارجها، بصرف النظر عن الحمولة الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية التي ينطوي عليها، حتى لو كانت تقليدية وأشدَّ محافظة من الدولة ذاتها؛ يعكس المجتمع المدني رؤية ومصالح الشرائح الحديثة من المجتمع، وهو إذ يتخذ لنفسه موقعًا مقابلًا أو معارضًا للدولة، فإنما بهدف حملها على المزيد من تدابير وإجراءات تجذير الممارسة الديمقراطية والشراكة مع المجتمع، وفي اتجاه تطوير بنى المجتمع هيكليًّا، نحو الحداثة وإقامة دولة القانون والمؤسسات، التي يفترض فيها أن تكون نافية للولاءات السابقة لبنية الدولة، والتي تعمل على النقيض من آلياتها. فلا يصح أن ندرج الحركات الاجتماعية، التي تبرز على شكل تيارات دينية أو مذهبية، في خانة المجتمع المدني، وهي التي تتحرك بإرادة مرشد روحي أو زعيم قبيلة، ولا صلة لها، من قريب أو بعيد، بالمجتمع المدني الذي هو، في المقام الأول، مؤسسات ومنظمات وجمعيات وهيئات مستقلة ليس عن الدولة وحدها، إنما أيضًا عن الأطر التقليدية القائمة في المجتمع، أو هكذا يجب أن تكون. ولأنها كذلك، فعلينا اشتراط صفة الحداثة فيها، لا أن تكون خاضعة للكوابح الاجتماعية والسياسية القائمة في مجتمعاتنا، التي تعوق فكرة الحداثة أو ترفضها جملة وتفصيلًا.
التقليدية الجديدة
ويفاقم من خطورة هذا طبيعة الحراك السياسي الاجتماعي في البلدان العربية الذي لم تعد القوى التي بشَّرت بفكرة الحداثة، أو رفعت رايتها هي المؤثرة والفاعلة فيه، حيث تراجع دورها كثيرًا لمصلحة قوى أخرى لا يمكن أن نصفها بأنها جديدة، رغم حداثة انخراطها في مثل هذا النوع من النشاط السياسي، وهي تمثل، برأينا، نوعًا من التقليدية الجديدة، أو أنها التقليدية ذاتها، منبعثة في ظروف اليوم، حاملة معها خصائص هذه الظروف، وهي تنخرط في النشاط السياسي والمجتمعي تحت تأثير ما يمكن اعتباره ردة الفعل القوية على ما أتى به التحديث المجتمعي، حتى لو اتفقنا على عشوائيته، الذي زعزع البنى التقليدية وأفقد رموز هذه البنى الكثير من مكانتهم ودورهم، حيث يسعون جاهدين لاستعادتهما، متكئين في ذلك على القاعدة الاجتماعية الواسعة التي تلتحق بهم في الظرف الراهن ومستخدمين إياها وقودًا لبلوغ هذا الهدف.
نحن من دعاة أن يكون هناك مجتمع مدني مستقل وفعّال في البلدان العربية، غير تابع للحكومات ولا يأتمر بأوامرها، من دون أن يعني هذا، بصورة آلية، أن يكون على خصومة مع الدولة، إنما يؤدي دوره في الحياة السياسية والاجتماعية للبلد المعني، موجهًا ورقيبًا ومُرشِدًا لأداء السلطة التنفيذية، دون أن يترتب على ذلك «تقديس» كل ما يمت للمجتمع المدني بصلة، إزاء «شيطنة» كل ما يمس للدولة بصلة. المجتمع المدني، من حيث هو مقابل للدولة، يتعين عليه أن يكون أكثر جذرية من الدولة ذاتها في انحيازه لقيم الحداثة والتقدم والحقوق الديمقراطية، حازمًا في نضاله من أجل بناء الدولة الحديثة والعصرية، التي عليها أن تتحرر من ثقل الولاءات والتعاضدات التقليدية السابقة لها، من قبيل القبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية والمناطقية وسواها، عبر تكريس مفهوم المواطنة المتساوية للناس جميعًا، وإخضاعهم جميعًا، وعلى قدم المساواة، للقانون بما ينص عليه من حقوق ومن واجبات، ونبذ أشكال التمييز والمحاباة كافة، بناءً على أي من الولاءات والانتماءات الفرعية.
نقول هذا إزاء الكثير من الأطروحات التي يسعى أصحابها لإقامة التضاد بين المجتمع المدني والدولة، فيقدمون هذه الأخيرة، في الأغلب الأعم، بصفتها خصمًا لا شريكًا. هذا الطرح محمل بالخطورة، ليس لأن دولتنا العربية بريئة من حالة الخصومة التي كثيرًا ما تختارها لنفسها في مواجهة المجتمع المدني، ناظرة إليه على الدوام نظرة الريبة والشك، إنما لأن هذه المقابلة بين «ما هو دولة (وبين) ما هو غير دولة»، يمكن أن يقود إلى مزالق في وضعنا اليوم الذي باتت فيه الدولة ككيان حديث مستهدفة من الطوائف والعشائر والقبائل، التي نظرنا إليها دائمًا على أنها سابقة للدولة وعائقة لبنائها.
لوجود مجتمع مدني يلزمنا وجود الدولة الحديثة، وبالتالي فإن أولوية التكوين يجب أن تعود لها، ففي غيابها يصبح الحديث عن المجتمع المدني ضربًا من العبث، فهي المنظم والناظم الضروري لأمن المجتمع واستقراره وتنميته، إذا وفت بشروط العدل والمساواة بين مواطنيها، وحين تضعف الدولة أو تنهار، يضعف المجتمع المدني أو ينهار. وعلينا أن نتمعن فيما شهده، ويشهده، عدد من بلداننا العربية اليوم: العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن وغيرها، فما إن انهارت الدولة المركزية أو ضعفت، حتى استشرى نفوذ الجماعات المتكئة على الإرث السابق لقيام الدولة، من تكوينات قبلية وعشائرية ومذهبية وما إليها، التي أصبح للكثير منها أذرع مسلحة، على شكل ميليشيات، تفرض سلطتها بالقوة على البلاد والعباد، وتحول بعضًا منها إلى أحصنة طروادة لقوى ودول خارجية. لكن قوة الدولة يجب ألا تكون على حساب قوة المجتمع، فلا بد من بلوغ مرحلة من توازن المصالح، بموجبها يحفظ المجتمع مهابة الدولة ويحترمها ويلتزم بالأنظمة والقوانين التي تنظم سبل الحياة في البلد المعني، مقابل أن تحترم الدولة استقلالية المجتمع المدني، وتقرّ بمجاله المستقل عنها الذي لا يجوز احتواؤه.
ثمة نقطة هنا جديرة بالوقوف عندها، حيث بات الكثيرون يماهون بين مفهوم المجتمع المدني وبين منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، مقتصرين المجتمع المدني عليها وحدها، وغافلين عن أنه أوسع بكثير وأرسخ مكانة وتأثيرًا منها، من دون التقليل من شأن مسألة الدفاع عن حقوق الإنسان وحيويتها وراهنيتها أيضًا، ولكن أيضًا من دون تجاهل أن الكثير منها عبارة عن «دكاكين» صغيرة تتلقى الدعم من جهات غربية، حيث يسترزق الكثير من الحزبيين السابقين والفاشلين، أو غيرهم من الباحثين عن أدوار، على هذا الدعم، من دون أن يكون لما يُديرونه من لجان مرتكزات قوية في مجتمعاتهم، وسبق أن كان هذا الأمر موضع جدل كبير في بعض البلدان العربية، ومثال ذلك ما قيل وكتب عن هذا الموضوع في مصر في عهد حسني مبارك.
بلدان الخليج والقضايا المسكوت عنها
في بلدان الخليج العربي، هناك توجه لا يزال بحاجة إلى تعزيز وتوطيد، بأن تخرج مسألة حقوق الإنسان من نطاق القضايا المسكوت عنها، وليندرج في نطاق القضايا المتداولة والمطروحة للنقاش بغية إيجاد الآليات الملائمة للنهوض بها، بما يتسق والمعايير المتبعة والمصالح الوطنية العليا لدول المنطقة، التي لا يمكن أن تكون في حالٍ من الأحوال مناقضة لاحترام حقوق الإنسان، وصونها. وشهدت بعض بلدان المنطقة تأسيس لجان للدفاع عن حقوق الإنسان، كما جرى إلغاء بعض التشريعات والقوانين التي تُشكل عائقًا في هذا المجال، ونُفذت تدابير في السياق نفسه، حظيت بترحيب داخلي ودولي، لكن يظل هناك جملة من المسائل الكبرى ذات الصلة بهذا الموضوع لا تزال محل نقد، بما فيها أوضاع العمالة الأجنبية في هذه الدول.
إن إحدى سمات تطور المجتمع الدولي الراهن، والمجتمعات المختلفة بوصفها وحدات مستقلة، هو التأكيد على دور المنظمات غير الحكومية في تحقيق التنمية المستدامة، المتوازية والسوية، وتوكيد قيم الشفافية السياسية والإعلامية واحترام حقوق الإنسان، وفي مقدمتها حقوق التعبير الحر عن الآراء المختلفة، وحق هذه الآراء في أن يعبر عنها من قبل أصحابها بوضوح. ومجتمعات الخليج ليست خارج استحقاقات هذا العصر، فهذه المجتمعات هي في قلب التدويل الاقتصادي الذي جعل العالم كله معنيًّا بأمر هذه المنطقة بحكم القيمة الإستراتيجية لسلعة النفط التي تنتجها بلدانها، بل إن هذه المنطقة كانت خلال عقود ثلاثة مسرحًا لحروب اكتسبت اثنتان منها على الأقل أبعادًا دولية، وبعض هذه الحروب اشترك العالم في خوضها إما بشكل مباشر أو غير مباشر، كما أن المنطقة محاطة بتحديات إقليمية كبرى، تُشكل، أو يمكن أن تُشكل، خطرًا على أمن بلدان المنطقة واستقرارها، وتظل هشاشة مؤسسات المجتمع المدني، وضعف دورها، وبالتالي قلة تأثيرها في مجريات الأحداث في بلداننا، إحدى الثغرات التي يجب العمل على تفاديها، لتقوية الجبهات الداخلية لبلداننا إزاء المخاطر المختلفة.
وإذا درسنا ما شهدته بلدان المنطقة من تحولات مهمة في العقود الماضية تحت تأثير التحولات الاقتصادية وتوسع نطاق الخدمات التعليمية والاجتماعية، والانفتاح الثقافي الواسع على العالم الخارجي، وتفاعل المجتمعات المحلية مع تيارات العصر وثقافاته، سنجد أن نواة مجتمع مدني أخذت في التشكل والنمو والتأثير على شكل هيئات مهنية وجمعيات نفع عام واتحادات معنية بشؤون الثقافة وحماية البيئة وحقوق المرأة… إلخ. وبحكم ملابسات التطور الخاصة ببلدان المنطقة، أو بعضها على الأقل، فإن عددًا من هذه الهيئات ظل متكئًا على دعم الدولة، ورغم أن مثل هذا الدعم قد يبدو ضروريًّا، فإن فكرة هيئات المجتمع المدني تتطلب في الأصل استقلالًا في الحركة عن الحكومات؛ لأنها تغطي فضاء آخر مختلفًا، يجب ألا تتدخل الدولة فيه، ويبدو ذلك ضروريًّا للدفع بالمجتمعات نحو النضج السياسي واستكمال مؤسسات الدولة الحديثة.
وإذا كان مبررًا أن الدولة في البداية مطالبة برعاية بعض المؤسسات، وبخاصة ذات الطابع الاجتماعي والخيري، فإن ما نحن بصدده من تحولات يجب أن يدفع بمؤسسات المجتمع المدني لأن تشب عن الطوق وتمتلك آلية مستقلة لنشاطها، وتلك هي المهمة المعقودة على رجال الفكر وقادة الرأي العام في الحقول المختلفة.
بواسطة حسن مدن - كاتب بحريني | مايو 2, 2017 | الملف
بعد ثمانية عقود لماذا بقي النفط بعيدًا من الكتابة الإبداعية؟ لماذا لم يتحول النفط إلى حافز للمتخيل وعنصر من عناصر التخييل؟
النفط ليس ظاهرة خليجية فحسب، من زاوية أخرى غير إنتاجه وتصديره، فهو في مفاعيل العوائد الناجمة عنه بات ظاهرة عربية، من خلال ما بات يعرف في دراسات علمي الاجتماع والاقتصاد بـ«الهجرة إلى النفط»، حيث تعمل وتعيش جاليات عربية كبيرة، هي عرضة لأوجه متناقضة من التأثيرات الناجمة عن ذلك، فهي من جهة تشعر بشيء من الغبن وسوء المعاملة، ومن جهة أخرى فإنها تتأثر بشكل كبير بنمط الحياة الاستهلاكي السائد في المجتمعات النفطية، وبالقيم المحافظة التي تَسِمُ هذه المجتمعات، بالقياس للمجتمعات المنفتحة التي أتت منها العمالة العربية المهاجرة، ومن ثم تحملها، أو تنقلها، إلى مجتمعاتها الأصلية، في تأثير عكسي، لا يمكن أن نعده إيجابيًّا.
يفترض أن يشكل هذا موضوعًا لأعمال إبداعية، ولكن ذلك لم يحدث كما تفضلت «الفيصل» في سؤالها، ما يتطلب بحثًا معمقًا، وبخاصة أن قضية النفط وتأثيراته نالت قدرًا كبيرًا من البحث والتحليل من الزوايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وإذا كان النفط ليس ظاهرة خليجية فحسب، فهو موجود وبكميات كبيرة في بلدان عربية أخرى غير خليجية، إلا أنه في الخليج بالذات يمتلك مكانة محورية لا في بنية الاقتصاد وحده، إنما في مجمل التحولات الاجتماعية، وفي التكوين الثقافي والنفسي للبشر. على الصعيد الخليجي، يمكنني القول، كاجتهاد شخصي: إن الأمر يعود، في جانبٍ رئيس منه على الأقل، إلى حقيقة أن المدينة الخليجية الحديثة، من حيث كونها نتاجًا للحقبة النفطية ما زالت حتى اللحظة في طور التشكل، ولم تثبت على حال بعد، فهي دائمة التغير والتحول، ما يجعلها في حالة من «السيولة» وعدم الثبات، وهو يعيق التراكم الضروري الذي يسمح بتشكل ذاكرة إبداعية، وبخاصة على صعيد السرد، الذي يتطلب بانوراما واسعة في الزمان والمكان؛ لذا نلحظ تعدد الأعمال الإبداعية التي تناولت المرحلة السابقة للنفط، كونها مرحلة تاريخية منجزة جرى تجاوزها، وشكلت ذاكرتها المنجزة، مقابل التهيب من الاقتراب من البيئة التي شكلها النفط.
تجربة عبدالرحمن منيف فريدة، كمًّا ونوعًا، لكن علينا ملاحظة أن «منيف» لم يعش البيئة التي دارت فيها أحداث خماسيته «مدن الملح»، لقد فعل ما يفعله الكتاب الكبار الناضجون المتمكنون من أدواتهم الفنية، بأن اشتغل على مادته شغلًا، ولم يشتغل على مادة متاحة منجزة عاشها. وفي الأصل فإن «منيف» درس اقتصاديات النفط، وفيها نال درجة الدكتوراه، وعمل كخبير في هذا التخصص، في سوريا والعراق، وفي بغداد رأس تحرير مجلة «النفط والتنمية». هذا الأمر أتاح له معرفة تفاصيل دقيقة عن الصناعة النفطية كاملة: استخراجًا وتكريرًا وتسويقًا واستهلاكًا، وتفاصيل دقيقة عن اقتصاديات النفط، وعن مكانة هذه السلعة الإستراتيجية في الأسواق العالمية وصلة ذلك بالسياسة، لقد أصبح خبيرًا فيما يمكن تسميته مجازًا «الاقتصاد السياسي للنفط». هذه المعرفة الواسعة التي عززتها التجربة المتابعة الدؤوبة جسَّدها في «مدن الملح»، التي بدأ فيها عارفًا بتقنيات النفط، وبالآثار الحاسمة الناجمة عن اكتشافه على الحياة الاجتماعية في الجزيرة العربية وعلى نفسيات الناس فيها.
فقد أفلح «منيف» في الخماسية في تتبع التحولات العميقة التي حدثت في البنية الاجتماعية والقيمية في منطقة الخليج بعد اكتشاف النفط وما جاء به من آثار متناقضة، ولا شك أن المقاربة الإبداعية لهذه التحولات هي الأكثر رهافة في اقترابها من العالم الروحي للإنسان الذي يتمزق بين بيئة نفسية وثقافية راسخة التأثير في وجدانه يجدها تتصدع أمامه، وبين ثقافة جديدة تحمل في ثناياها نقائض لا سبيل للخلاص منها؛ لأنها خرقت مسارًا مستقرًّا كان يمشي الهوينى، فإذا بنا أمام انقلاب عاصف أصابنا بما يشبه الدوار.
يمكن أن تكون تجربة «منيف» ملهمة للمبدعين من أبناء هذه المنطقة، ومن خارجها أيضًا، في تتبع أوجاع الإنسان الحائر بين ماضٍ اقتلع منه قسرًا وحداثة مشوَّهة غير مكتملة، وليست في طريقها نحو التمام.