ثمانية عقود من النفط في الخليج.. أين الثقافة؟ محمد الرميحي
السؤال الذي طرحته مجلة الفيصل، وإن بدا في ظاهره بسيطًا ومباشرًا إلا أن محتواه ومرماه عميق ومتشعب الإجابات؛ هل أثّر ظهور واستخراج وتسويق النفط في الثقافة بمعناها العام في مجتمعات الخليج، أم لا؟ ليس هناك إجابة يمكن لمتابع أن يعطيها بشكل قاطع، نعم أو لا! هي في الحقيقة نعم ولا في نفس الوقت! الموضوع يأخذنا أولًا إلى تعريف الثقافة، رغم وجود عشرات التعريفات للثقافة، التعريف الجامع عندي هو مجموع (معرفة ومهارة وموقف إيجابي من الحياة)، أما التعريف العملياتي فهو (الإنتاج الثقافي) مثل: العمل الفني أو الأدبي أو المسرحي أو غيره من المنتج ذي البعد الثقافي المتعارف عليه.
ماذا أعني بموقف إيجابي؟ كمثال قد يحصل شخص ما على معرفة ومهارة، مثل طبيب حاذق، أو مسرحيّ متميز، لكن إن افتقد هذا الطبيب أو ذاك المسرحي موقفًا إيجابيًّا من الحياة، فهو (ناقص ثقافة!) – أي أن رفض الطبيب علاج شخص بسبب انتمائه العرقي أو الديني أو غش في عمله، أو مسرحي قدم مسرحية تُعلي أفكار التعصب، وتهزأ مثلًا من ذوي الاحتياجات الخاصة، ذلكم عندي يفتقد العنصر الثالث والمهم في الثقافة (الموقف الإيجابي)، حتى إن حاز العنصرين الأولين! ما هو الموقف الإيجابي من الحياة؟ هو أن يكون الإنسان الفرد أو الجماعة لها علاقة إيجابية بالإنسانية وما توصلت إليه من قيم كبرى وعليا، مثل: المساواة، والعدل، واحترام الآخر، وإعلاء التسامح، وحل الصراعات من خلال آليات متوافق عليها، أي تعظيم الروح الإنسانية بصرف النظر عن ديانتها أو مذهبها أو لونها، والأمانة في العمل وقيمه، والسعي لترقية المجتمع واحترام المرأة، والصدق في أداء العمل، إلى آخره من القيم الإيجابية.
السؤال المركزي
في السؤال الذي طرحته مجلة الفيصل يذهب في تقديري إلى الجزء (العملياتي) في الثقافة وهو الإنتاج الثقافي بتنوعه، لكن الثقافة هي أوسع من النشاط إلى الفكرة والموقف، بل إن الثقافة في نظري هي سُلطة تستطيع أن تمنع وأن تمنح؛ تمنع التطرف مثلًا، وقد تمنح التطرف، هي قد تمنع فهم الآخر، وقد تمنح الآخر الفهم السليم، هي سُلطة قد لا تكون ظاهرة، لكنها مؤثرة في الأفراد والمجتمعات.
إذا حسمنا الجزء الأول من الإشكالية، فلدينا الجزء الثاني منها، وهو: هل انعكس النفط (استخراجًا وتسويقًا ودخلًا) على مجتمعات الخليج ثقافيًّا واجتماعيًّا سلبًا أو إيجابًا؟ هنا نجد أنفسنا أمام إشكالية تحليلية بالغة التعقيد، عادة الثقافة بمعناها الشامل لها علاقة بكيفية إنتاج المجتمع لخيراته، فمثلًا في بعض دول الخليج قبل النفط كانت تنتج الخيرات (الدخل المجتمعي) من العمل في صناعة الغوص أو غيرها من الأعمال المنتجة، فلذلك تكوّنت (ثقافة) مجتمعية مبنية أساسًا على تلك الطريقة لإنتاج الخيرات، مثلًا: توزيع الثروة، والعلاقات التراتبية في المجتمع، والزواج، والاحتفالات في المناسبات، والنظر إلى المرأة، وطريقة البناء ونوع الأكل، معظمها قائم على طريقة إنتاج الخيرات في ذلك المجتمع، سواء في المجتمع الزراعي المحدود أو ركوب البحر، وأيضًا رعي الأغنام والعيش في البادية والغوص لاستخراج اللؤلؤ. كان لذلك المجتمع الذي عاش بين الغلظة في الصحراء والليونة في الساحل التجاري أو مواجهة أهوال البحر غير المتوقعة، ذلك المجتمع كان له ثقافة ما مرتبطة بأنشطته الاقتصادية وطريقة حياته. فلا يوجد مجتمع من دون ثقافة، الاختلاف في نوع ودرجة وشكل تلك الثقافة.
ماذا حدث للثقافة بعد ظهور النفط؟
هناك وجهات نظر متعددة في التاريخ لظهور النفط، بعضهم يأخذه إلى ثمانية عقود، وبعضهم يتحدث عن العقود الخمسة الذهبية للنفط في دول الخليج، الأول يؤرخ لبدء إنتاج النفط، والثاني يبدأ من نقطة الاستفادة العامة لهذه المادة في المجتمع، ثمّ هُناك حقيقة أُخرى أن النفط لم يظهر أو حتى يستفاد منه بشكل جماعي في منطقة الخليج كلها في وقت واحد، ظهر واستفيد منه على شكل حقب مختلفة، ربما تبدأ في الثلاثينيات من القرن الماضي في كل من (البحرين، والسعودية، والكويت) والستينيات في أبوظبي وعُمان. إلا أن الإشكالية المطروحة أمامنا أن الكثير من العناصر الثقافية في كل تلك المجتمعات استمر تأثيرها (أي شكل إنتاج الخيرات) في الظهور، حتى لو امتلكت النفط، النمط الجديد من الإنتاج (النفط) لم يُساهم فيه المجتمع بشكل واسع، الشركات الأجنبية اعتمدت على عُمال أجانب فنيين وشبه فنيين، وتركت الأعمال البسيطة للمواطنين لفترة طويلة، حتى الدولة الخليجية كان دخلها من النفط متواضعًا بنسبة أقل من دخل الشركات المنتجة، ولم تُعدَّل تلك المعادلة إلا في سبعينيات القرن الماضي نسبيًّا. فليس هناك قطيعة بين ثقافة ما قبل النفط وما بعد النفط، مع الاعتراف بأن هناك أنماطًا ثقافية تبناها المجتمع الخليجي- النفطي، لكونه قد تأثر بشكل أكبر بالثقافة العربية التي أنتجتها العواصم العربية التي امتلكت الهيمنة الناعمة على الثقافة العربية بعد التحرر من الاستعمار (منذ الثلث الأول من القرن العشرين) كالقاهرة ودمشق وبغداد، كما تبنت مجتمعات الخليج لاحقًا أنماطًا من الثقافة الغربية. ومن أجل حاجة الدولة الجديدة للتنظيم، كان لا بُدّ من اعتناق وتبنّي أنماط ثقافية مستجدة.
إذًا لدينا مشهد في (العقود الثمانية أو الخمسة الماضية) هو كالتالي: انحسار تدريجي لكن سريع في إنتاج الخيرات التقليدية (المتواضعة) في الخليج، ومن ثمّ تدفق الدخل النفطي والاعتماد على (ما تقوم به الدولة من خدمات وفرص عمل) وهي المالكة لمصادر الثروة الجديدة، وفي الوقت نفسه تصاعد تدريجي لدخل الدولة من النفط الذي مكّنها من أن تكون (ربة العمل) -بشكل شبه كامل- لليد العاملة. في الحال الأخيرة، قامت الدولة من الناحية الثقافية بافتتاح المدارس الحديثة (لكن ليس من دون مقاومة من العناصر الثقافية السابقة) كالقبول التدريجي بتعليم الأبناء ومقاومة تعليم الفتيات، على سبيل المثال. كما قامت الدولة الخليجية بإنشاء الجامعات وأيضًا بتقديم الخدمات الأُخرى كالعلاج وتوسيع جماعة الضبط (الشرطة والجيش)، وتوسع القطاع التجاري (الخاص) وهي مؤسسات لم تكن موجودة في نظام الإنتاج القديم (كان هناك حرس أسواق، وإن احتاجت الدولة إلى حماية فمن المتطوعين) فظهرت طبقة متوسطة واسعة، علينا هنا أن نلحظ أن الثراء النسبي لدول الخليج قد أثار حفيظة مجتمعات قريبة عربية، كانت حتى وقت قريب أكثر غنى نسبيًّا وأكثر تطورًا بشكل عام. هنا لعبت الثقافة دورًا مزدوجًا (بمعناها العملياتي والعام) فقد ساهم كثير من العرب بوضع اللبنات الأولى للأعمال الثقافية (مدارس، وصحف، ومجلات) وبعد ذلك محطات تلفاز إلى آخره، وكانت مساهماتهم إيجابية، وبخاصة في التدريس، لكن في الوقت نفسه ظهر لدى بعض (سِنْدرُم) سلبي، يقول في الغالب: إن هذه المجتمعات الخليجية هي مجتمعات (بدوية) لا تستحق تلك الثروة، بل تتصرف فيها بشكل سلبي!
الثقافة والنفط، فجوات ثقافية غير مُجسرة
في المرحلة الانتقالية بين الاقتصاد القديم والاقتصاد الحديث، واجهت الدولة الخليجية الحديثة مجموعة تقاطعات بين الحاجات المطلوبة للدولة الحديثة، وبين المحافظة على الموروث ومطالب التحديث النابعة من القوى الجديدة في المجتمع (الطبقة الوسطى) ووجدت الدولة الخليجية أمامها ثُلاثية صعبة ليس من السهل التعاون معها. ولم تنتبه بشكل مُبكر لأهمية التمهيد الثقافي الأصيل.
وفي تقديري، من جهة أُخرى، لم تنتبه النُّخب في الخليج حتى وقت مُتأخر، وبشكل جدي لأهمية الثقافة بمعناها العام والعملياتي في تطوير مجتمعات الخليج، وكونها قاطرة للتنمية والتطور. وقد أطلق النفط في الخليج قوى متعارضة، فقد ظهرت وعلى الأخص توسعت النخب بمعناها الحديث في هذه المجتمعات، أي طبقة وسطى واسعة من موظفي الدولة في القطاعات المختلفة ومن الطبقة التجارية. كما أطلق النفط توترات اجتماعية؛ بسبب طبيعته (إنتاج الخيرات خارج جهد النخب) أدى إلى وجود الأمر ونقيضه في المجتمع، مثل وجود (تعليم المرأة والسماح بعملها وعزلها في الوقت نفسه!) ووجود مطبوعات جديدة وبالغة الثراء مع (رقابة نظامية أو مجتمعية صارمة) في الإطار الثقافي، فكثير من المشروعات الثقافية التي ظهرت في الخليج، لم تكن مؤطرة ومؤسسية وهادفة إلى تكوين ثقافة عامة للمجتمع تساعد على التوجه إلى أهداف تنموية واضحة وإلى تنظيم الشعور الثقافي المجتمعي. الأسباب كثيرة لهذه الظواهر، أحدها أسعار النفط، التي تنخفض وترتفع، أعطت الدولة شكلًا من الأمان النسبي، وربما الخادع بأن (القائم دائم)، وبأن مشكلات اليوم سوف يحلها ما يأتي به الغد، وهو جزء من التفكير الثقافي المرتبط بأسلوب إنتاج الخيرات السابق! ساعد على ذلك جماعات سياسية عربية، اضطهدت في بلادها لأسباب صراعية – سياسية، ووجدت ملاذًا للعمل في دول الخليج التي كانت تطمح إلى تقديم خدمات، وبخاصة تعليمية لشعوبها، فاستولت تلك الجماعات على مراكز نافذة في التعليم، خلطتها بأفكارها التي اعتقدت أنها مقبولة للمجتمع التقليدي (في الخليج)، وهي أفكار (تراثية) مطعمة بتصورات وطموحات سياسية! زامن ذلك اندلاع صراع أيديولوجي في المنطقة، جزء منه الصراع الدولي (الحرب الباردة)، وجزء منه صراع اجتماعي محلي في الإقليم المحيط بالخليج.
وبسبب تقلص فرص التعبير النسبي في بلاد كانت قائدة للأعمال الثقافية العربية، مثل: بغداد والقاهرة ودمشق، ظهرت مبادرات في دول الخليج على قاعدة (خدمة الثقافة العربية) فنشأت مثلًا «مجلة العربي» في الكويت 1958م، التي ذاع صيتها لعقود من الزمن، كما ظهرت سلاسل كتب مثل (عالم المعرفة 1977م) كما صدرت مجلات في كل من المملكة العربية السعودية، ولحقت بعد ذلك قطر بإصدار «مجلة الدوحة»، ثمّ باحتضان مؤسسات بحثية عربية أصبحت مرموقة، ولحقتها دولة الإمارات العربية المتحدة، فأصدرت على سبيل المثال النسخة العربية من مجلة (ناشيونال جيوغرافيك) الذائعة الصيت، كما ساهمت عُمان بإصدار مطبوعات لها قيمة ثقافية عالية. وظهرت وتطورت مؤسسات بحثية، أما داخل الجامعات الخليجية التي تكاثرت تدريجيًّا لتصبح اليوم أكثر من ستين جامعة (حكومية وأهلية) عدا المؤسسات التعليمية ما دون الجامعة (كليات) أو مؤسسات بحثية خارج الجامعات، مستقلة أو تابعة لإحدى الإدارات أو الوزارات. بل أنشأ القطاع الخاص في الخليج مؤسسات ثقافية مرموقة مثل: مؤسسة التقدم العلمي في الكويت 1977م (مؤسسة يمولها القطاع الخاص) ومثل: مؤسسة العويس والماجد في الإمارات في تسعينيات القرن الماضي، ومؤسسة البابطين وسعاد الصباح في الكويت، أو مؤسسة عبدالمقصود خوجة في مدينة جدة، بل أصبح رجال من الخليج يرعون مؤسسات ثقافية رائدة، كما فعل الأمير خالد الفيصل في التفكير وإنشاء المؤسسة المرموقة عربيًّا (مؤسسة الفكر العربي) وغير ذلك الكثير، وبخاصة في ظهور النوادي الأدبية المختلفة، كل ذلك التطور الكمي شكل تراكمًا معرفيًّا يُعزز نوعيًّا الإنتاج الثقافي العربي.
ولكن ذلك «الكمي» سرعان ما سوف يصبح نوعيًّا، بمعنى تشكيل منصة (خليجية) للإبداع الثقافي أرى أن تباشيرها قد ظهرت في مجالات مثل: الرواية، والعمارة، والإدارة، والفنون المختلفة. ونرى كتابًا قد صدر مؤخرًا بعنوان: «هيمنة ناعمة: صعود وتراجع القوة الناعمة المصرية» لأحمد محمد أبو زيد، (دار عين للنشر، 2015م) يقول صفحة 159: «بأن النصف الأول من القرن الحادي والعشرين ستكون الكلمة العليا في تحديد مسار ومستقبل المنطقة العربية في أيدي دول مجلس التعاون» هذا النص الطويل الذي اقتطفت منه كلمة موجزة، لم أرغب أن أكتبه أنا، بل من متابع عربي من غير أبناء المنطقة، وهو شهادة إلى صعود القوة الناعمة الخليجية من خلال العمل الثقافي والعلمي والمؤسسي.
الإشكالية مع الآخر
تنظر بعض النخب العربية إلى مجتمعات الخليج نظرة سلبية ثقافيًّا، نابعة إما من عدم معرفة أو دوافع ربما تكون نفسية، ذكرت بعضها سابقًا، وربما لأسباب سياسية، تلك النظرة السلبية تقوم على فكرة غير علمية وهي (تفوُّقنا وتخلُّف الآخر) وأن هذه المجتمعات لا تواريخ حقيقية لها قبل ظهور النفط، كانت قبله متخلفة لا تملك أدنى مقومات الحضارة؛ لأن الحضارة تنشأ على حد قول الكاتب محمد حسنين هيكل في (الأخضر وليس الأصفر)! كناية عن المناطق الزراعية ومناطق الصحراء، تلك الأفكار بجانب أنها غير علمية تتصف بالمبالغة وربما التحيز أو التشفي، لأسباب مختلفة، وإن كان لي أن أضع نسبة من اللوم فإنه يُقاسم بالتساوي، بين النظرة السلبية من بعض النخب العربية، وبين تقاعس من جانبنا في الخليج، فنحن لم نبذل جهدًا من أجل العمل والتفكير في منظومة فقهية تساير العصر، أو إيمان راسخ بأهمية الثقافة ومؤسساتها، بل إن بعض النخب العربية تدعي أن (التخلف الفكري) المتمثل في (ملابس وأشكال ظاهرية للرجال والنساء) هو ( فقه الصحراء)! هذا الأمر لم نلتفت إليه بشكل جدي، كنا في الغالب في مكان الاعتذار أو التبرير، وليس في مكان التفكير الإيجابي لإعادة النظر في تخليص الفكر الفقهي مما اعتراه من مفاهيم ميتافيزيقية، وإعادة النظر في المنظومة التعليمية من أجل تخليصها من الشوائب السلبية التي تبدو كأنها مناقضة لواقع العصر.
لا شك عندي شخصيًّا في أن الثقافة بمعناها العام والعملياتي هي قائدة التطور، وأن ما نعانيه اليوم من أزمات جلّها أساسه ثقافي، كما لا أشك في أن (موضوع الثقافة) لم يلتفت إليه كما ينبغي من خلال أهميته وجدارته بأن يوضع في صلب خطط الدولة الخليجية، وألّا يُعامل كأنه (شكل زائد) من الكماليات، أول ما يصل إليه (سيف التخفيض) يصل إلى مؤسساته وأنشطته، الثقافة سلاح عرفته الشعوب جميعًا، وقد قال جلال الدين الرومي: أعطني قلمًا أستطيع به وحده أن أواجه به السيوف والرماح! كناية عن أهمية العلم والثقافة في تطور الشعوب ورقيّها.