توفيق بكّار.. القارئ العاشق لعيون الأدب العربيّ
مثّل رحيل الجامعيّ والناقد والمثقّف التونسي توفيق بكّار (1927 – 2007م )، خسارة كبرى لرمز من أهمّ رموز الثقافة التونسيّة وخسارة أكبر للجامعة التي غادرها منذ ما يناهز العقود الثلاثة، لكنّه ظلّ من فرسان العلم فيها بنصوصه واتّجاهه في النقد، وأثره في تدريس الأدب فيها. وليس من باب الصدفة أن تشيّعه نخبة متنوّعة من الجامعيّين والمثقّفين والأدباء والفنّانين والفاعلين في المجتمعين المدنيّ والسياسيّ التونسيّ من جميع الأطياف الأيديولوجيّة يتقدّمهم رئيس الحكومة ووزيرا التعليم العالي والثقافة، إضافة إلى عدد من رؤساء الجامعات. ولهذا الإجماع على شخص توفيق بكّار بوصفه رمزًا أسباب كثيرة نكتفي منها بإسهامه في تجديد الدرس الأدبيّ.
ينتمي توفيق بكّار إلى النخبة التي ساهمت في تأسيس الجامعة التونسيّة وتطوير الثقافة الوطنيّة. فما إن أتمّ دراسته الجامعيّة بالسوربون متحصّلًا على التبريز في اللغة العربيّة وآدابها أواخر الخمسينيات من القرن الماضي حتّى عاد إلى تونس للتدريس بجامعتها. وفي هذا السياق نفهم جوانب كثيرة من مآثره. فقد اهتمّ بالأدب التونسيّ توثيقًا له، وإبرازًا للأصوات القويّة فيه، وتنزيلًا له منزلته من الأدب العربيّ. فكان يدرّس إلى طلبته نصوص محمود المسعدي وعلي الدوعاجي ومحمّد العريبي والشابّي وحسن نصر وعز الدين المدنيّ وغيرهم على قدم المساواة مع نصوص كبار الكتّاب العرب من أمثال: نجيب محفوظ والطيب صالح وإميل حبيبي. وفي هذا كان بكّار يساهم مع أبناء جيله في بناء الذاكرة الثقافيّة التونسيّة من خلال الأدب ضمن مشروع أكبر هو بلورة الذاتيّة التونسيّة مع دولة الاستقلال. بيد أنّ إضافته الأساسيّة لا تكمن في الاهتمام بالأدب التونسي في جامعة لم تكن ترى فيه ما يستحقّ التدريس، بل تكمن أساسًا في أن أصبح توفيق بكّار يُعرَف بمناهج الدراسات الأدبيّة. فقد أنشأ وحدة للتدريس تعتمد على تكوين طلبة شعبة العربيّة في المناهج النقديّة الحديثة. ويقصد بها آنذاك ما أفرزه النقد الجديد في فرنسا، متأثرًا بالشكلانيّين الروس أساسًا، من نظريّات وما صاغه من مفاهيم في اتّجاهات سمِّيت الشعريّة والبنيويّة (تودوروف) والنصّانيّة (بارت) والبنيويّة التوليديّة (غولدمان). وإذا علمنا أنّ هذه التيّارات النقديّة كانت تخوض آنذاك في الجامعات الفرنسيّة معركة ضدّ التصوّرات النقديّة الكلاسيكيّة أدركنا حجم المغامرة الشجاعة التي أقدم عليها توفيق بكّار بنقلها إلى الجامعة التونسيّة الفتيّة. ولولا تكوينه المتين في اللسانين والثقافتين العربيّة القديمة والفرنسيّة والاحترام الذي كان يحظى به من زملائه لما أمكنه أن ينجح في مغامرة استنبات النقد الحديث في الجامعة التونسيّة. لقد كان من القلائل الذين استطاعوا إقناع زملائه بأهمّيّة أن يكون حظّ الطالب التونسيّ مماثلًا لحظّ الطالب الفرنسيّ في الاطلاع على تيّارات نقديّة معاصرة لم تستقرّ بعد الاستقرار الذي يقنع أساتذة درسوا عن المستشرقين علمًا كان يقدّم بمناهج كلاسيكيّة.
الجامعة مختبرًا للقراءة
لم تكن دروس توفيق بكّار بالنسبة إلى طلبته إملاء بليدًا، ولا محاضرات منقولة من الكتب يستشهد فيها بمن يعتقد أنّهم أئمّة النقد. بل يشهد طلبته الذين اختلفوا إلى تلك الدروس أنّها كانت دروسًا في المنهج: «كيف نحلّل نصًّا؟»، تعلّمهم مراس الكلام الأدبيّ شعرًا ونثرًا على نحو مدقّق لا يقنع إلّا بالنصّ منطلقًا ومادّة للاستدلال العقليّ. ولكنّ هذه الدروس كانت أيضًا فرصة للتمتّع بفصاحة نادرة فاتنة عُرف بها هذا الأستاذ الهادئ الرصين ذو الصوت الخافت الذي يتجوّل بين المقاعد مفكّرًا ينحت قوله نحتًا، فتخرج الجُمَل من فمه موقّعة سلِسلة تأخذ الألباب. إنّه بعض من سحر توفيق بكّار الذي تجد أثره حتى في الفصول التي جمعها في كتب بداية من السنوات الألفين. لقد كانت قاعة الدرس عند بكّار مخبرًا يشتغل فيه مع طلبته على نصوص كثيرة من عيون الأدب العربي القديم (ابن المقفّع، والجاحظ، والهمذاني، والأصفهاني، وبشّار، وعنترة، وأبو نواس… إلخ) والحديث (المسعدي، والشابّي، والدوعاجي، ومحفوظ، والطيب صالح، ودرويش… إلخ). فالتلازم بين التدريس والبحث عنده كالتلازم بين التنظير، اطّلاعًا على دقيق المقاربات وجليل المفاهيم، والتطبيق، تحليلًا لخصائص المباني ومميّزات المعاني، هما عمدة هذه التوجّه الاختباريّ الذي كان يلحّ عليه توفيق بكّار غير مؤمن بإطلاقيّة المنهج ما لم يساعد على الإصغاء إلى النصّ وخفايا المعنى فيه، وييسّر الكشف عن أدبيّته. إنّ هذا المختبر النقديّ هو فضاء القراءة التي يتفاعل فيها المعرفيّ العلميّ بالحسّ الجماليّ الذي يمكّن من تتبّع دقائق النصّ بحثًا عن فرادته بين النصوص.
منهج بكّار في القراءة
ليس من المبالغة في شيء إذا قلنا: إنّ لبكّار منهجه الخاصّ في ممارسة النصّ. فهو يسلّم، بادئ ذي بدء، بأنّ النصّ بعلاماته وشكله ومبناه أساس التحليل. لكنّه لا يقيّد نفسه بمدرسة في النقد أو منهج دون غيره، وإن كنّا نجد في أعطاف كتاباته اطّلاعًا دقيقًا عليها. فهو من الذين يتملّكون المنهج ويطوّعون المفاهيم لفكّ شفرات النصوص وإعادة تركيبها حتى يخرجوها مخرجًا طريفًا لا يعرف سرّه إلّا الفنّان المتذوّق لجيّد النصوص مثله. إذ يستحيل النصّ بين يديه شيئًا آخر غير النصّ وقد قرأه الواحد منّا دون شرح بكّار له. يكفي دليلًا على ما نزعم أن تقرأ المسعدي أو الطيب صالح أو إميل حبيبي من دون مقدّمة من بكّار. فالنصّ الأدبيّ عنده يصبح فضاء للترحال في المعاني ومجالًا للتفاعل بين ذات المبدع وذات الناقد الفنّان العاشق للنصّ الذي يصيب قارئه بعدوى هذا العشق. ومَنْ خبر نصوص بكّار يجده يعتمد على ما يسمّيه الجدليّات التي اقتبسها من تصوّر فلسفيّ يعدّ النصّ، شأنه شأن الظواهر جميعًا، مؤسّسًا على صراع النقيضين. وهما، عند التثبّت، قطبان دلاليّان يشدّان النصّ ويمثّلان عمودًا لتناسق مكوّناته الشكليّة والدلاليّة ومستوياته معنًى ومغنًى أو خبرًا وخطابًا. لذلك كثيرًا ما يختار في عناوين النصوص التي يحلّلها عبارات تمثّل جوهر التحليل من قبيل «جدليّة الحكمة والسلطان»، أو «المال والأقوال»، أو «الأدب والذهب» وغيرها كثير. وقد أخرج هذا المنهج في النظر تحاليل بكّار من الرتابة التي نلمسها في كثير من المقاربات التي تعتمد منوالًا واحدًا لا يفضي، في الأغلب الأعمّ، إلّا إلى التشابه والتكرار. ولكنّنا نجد فيما كتبه بكّار سعيًا واضحًا إلى وضع اليد على الخصائص المفردة للنصوص وما به تتميّز عمّا يندرج في جنسها سواء أكان نادرة أم مقامة أم خبرًا أم رواية أم قصيدة. فنحن دائمًا أمام ناقد يرهف السمع إلى النصوص، يتأنّى في تتبّع أدقّ تفاصيلها ومكوّناتها، لا يرضى بردّها إلى أشباهها، بل يعمل على تبيّن وقعها المختلف ونغمتها الفذّة.
لقد كان بكّار مجدِّدًا كما تشهد على ذلك كتبه التي جمعها في «قصصيّات عربيّة» و«شعريّات عربيّة» و«مقدّمات». وكان محرِّضًا لنخبة من طلبته على التجديد منذ بداية السبعينيات قبل أن تنتشر البنيويّة في العالم العربيّ، ومنهم حسين الواد وسالم ونيس، لكنّه كان في أسلوب مقاربته وطريقته في تخريج المباني والدلالات أمّة برأسها جمع إلى روح العالم الخبير بالنظريّات روح الفنّان وروح المثقّف واسع الاطلاع والمعرفة بالنصوص الأدبيّة.
لقد كان عاشقًا للأدب يحلل فرائده وعيونه فيتفنّن ويفتن.