مقامات بديع الزمان الهمذاني: اكتشافات جديدة، نصّ لا ينضب
شكّلت مقامات بديع الزمان الهمذاني (ت 398هـ/ 1008م) موضوعًا شغل بال عدد كبير من المؤلفين العرب والمستشرقين في حقل الدراسات العربية. والهمذاني هو مبدع هذا الفن الذي ترك أثرًا كبيرًا في الأدب العربي والعالمي عامة على مدى أكثر من ألف سنة، ولذا فإن مقاماته تكتسب أهمية خاصة في التراث العالميّ. لكن منذ صدور طبعة محمد عبده لمقامات الهمذاني سنة 1889م، لم تطرح الدراسات عن المقامات أسئلة عن التاريخ النصي لهذا العمل؛ فقد ساد الاعتقاد أن محمد عبده عدّل النص في مواضع قليلة ليتوافق مع العرف الأخلاقي السائد في عصره، وفيما عدا ذلك رسخ في أذهان الدارسين أن النص المطبوع يمثّل ما قاله الهمذاني، وبذلك أضحى نص محمد عبده، بكلّ سلبياته وأخطائه، في الغالب، المرجع المعتمد عند الحديث عن مقامات الهمذاني. لكنّ نظرةً متأنّية في عشرات المخطوطات التي وصلتنا تشير إلى أنّ نصّ المقامات قد قام برحلة مذهلة قبل أن يصلنا شكّلت معالمه وغيّرته.
غالب الظن أن مقامات الهمذاني لم تكن تمثّل عند مؤلّفها عملًا أدبيًّا متكاملًا، على الأقل في المرحلة الأولى من تأليفها؛ فالشاعر مثلًا يبدأ بنظم القصائد ومن ثم يجمعها في ديوان حين يتشكّل لديه عدد كافٍ منها، ويمكن للشاعر أن يضيف قصائد إلى ديوانه المجموع في مرحلة لاحقة. وغالبًا ما يجمع الديوانَ أحدُ المقرّبين من الشاعر أو رُواته في حياته أو بعد وفاته. هذا الأمر يصحّ أيضًا في دواوين الرسائل والخطب، ولعلّه الأقرب إلى الصواب أيضًا فيما يتعلّق بمقامات الهمذاني وجمعها، فنحن لا نعرف على وجه التحديد كم مقامة كتب الهمذاني أو ترك لنا، ولا نعرف ما إذا كان هو صاحب جميع المقامات المنسوبة له.
ويمكن بالعودة إلى أكثر من أربعين مخطوطًا لمجموع مقامات الهمذاني، تقسيم مخطوطات المجموع إلى ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى: وهي أكثر المجموعات تجانسًا، تتألّف من المخطوطات الخمسة الأقدم، وهي: فاتح 4097، ومدرسة اللغات الشرقية والإفريقية 47280، ويال – سالسبري 63، وآيا صوفيا 4283، وباريس 3923.
المجموعة الثانية: مكوّنة من 20 مخطوطًا تعود إلى ما بين القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) إلى القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي). تعتمد هذه المخطوطات ترتيب مخطوط فاتح 1097، وتتضمن عددًا آخر من المقامات والمُلَح، من بينها الهمذانية والشريفية والخاتمية.
المجموعة الثالثة: تتضمن 15 مخطوطًا تعود إلى ما بين القرن العاشر الهجري (القرن السادس عشر الميلادي) والقرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي). ترتيب المقامات في هذه المجموعة هو الترتيب الذي نجده في طبعة محمد عبده، وتتضمن، إضافةً إلى المقامات الموجودة في مخطوط فاتح، المقامات التالية: المغزلية، والناجمية، والخلفية، والنيسابورية، والعلمية، والشعرية، والملوكية، والصفرية، والسارية، والتميمية، والخمرية.
مواد لم تتضمنها طبعة محمد عبده:
المقامة الشامية
هذه المقامة مثبتة في بعض طبعات المقامات، ولا يُشكّ بصحة نسبتها إلى الهمذاني. صحيح أن محمد عبده لم يضمنها طبعته، إلّا أن ذلك مردّه إلى دواعٍ أخلاقية بحتة؛ إذ إنه يقول في مقدّمة طبعته (مقامات بديع الزمان الهمذاني، تحقيق محمد عبده، ص2): «وههنا ما ينبغي التنبيه عليه وهو أن في هذا المؤلّف من مقامات البديع -رحمه الله- افتنانًا في أنواع من الكلام كثيرة، ربّما كان منها ما يستحي الأديب من قراءته. ويخجل مثلي من شرح عبارته. ولا يحمل بالسذّج أن يستشعروا معناه. أو تنساق أذهانهم إلى مغزاه. وأعوذ بالله أن أرمي صاحب المقامات بلائمة تنقص من قدره. أو أعيبه بما يحطّ من أمره. ولكنْ لكلّ زمانٍ مقال. ولكلّ خيال مجال. وهذا عذرنا في ترك المقامة الشامية. وإغفال بعض جمل من المقامة الرصافية. وكلمات من مقامة أخرى مع التنبيه على ذلك في مواضعه. والإشارة إلى السبب في مواقعه». يتّخذ الراوية عيسى بن هشام في هذه المقامة دورَ قاضٍ في بلاد الشام يختصم إليه رجل هو الإسكندري وامرأتان، الأولى تدّعي صداقًا، والثانية تلتمس طلاقًا ونفقة. يستمع القاضي إلى ادّعاء الرجل في تهرّبه من صداق الأولى، ثم يسمع ردّها، ثم دفاع الرجل الذي يتبيّن كذبه. بعدئذٍ تطلب المرأة الثانية الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، فيحكم القاضي للمرأة بنفقة قدرها «مئة» في الشهر. إلّا أن الإسكندري يجد أن هذا فوق الطاقة، فيهدّده القاضي بإبرام الطلاق. يعود الإسكندري بعد شهرين ليلتمس تخفيف النفقة فينذره القاضي بإبرام الطلاق مجدّدًا، عند ذلك ينشد الإسكندري أبياتًا في هجائه.
المقامة الطبّية
موضوع هذه المقامة، الموجودة حصرًا في مخطوط يال- سالسبري 63، هو الطبّ والصيدلة. يقص راوي المقامات المعتاد عيسى بن هشام مغامرةً لطبيب في مدينة الدونق مع رفقة من مدينة الأهواز. بعد تعداد بارع ومسجّع للأمراض النادرة والعقاقير التي تشفيها، يستطيع الطبيب، بمساعدة ابنه، أن يخدع هذه الرفقة ويحصل منهم رزقه. وكما هي العادة في مقامات الهمذاني الأخرى، يكشف الراوي قناع أبي الفتح الإسكندري في نهاية المقامة. وقد ناقشتُ وموريس بومرانتز في مقالة نُشرت في مجلة أرابكا صحّةَ نسبة هذه المقامة إلى الهمذاني اعتمادًا على الأسلوب والشكل، مؤكّدَين أن وجودها ضمن هذا المجموع القديم يجعلها أكثر موثوقية من خُمس المقامات المنشورة في طبعة محمد عبده.
المقامة الهمذانية
وصلتنا هذه المقامة والمقامتان التاليتان في أكثر من أحد عشر مخطوطًا نشرتُها وموريس بومرانتز في مجلّة الدراسات العبّاسيّة. ومضمون المقامة الهمذانية أن عيسى ابن هشام يصل إلى مدينة همذان الخاضعة لزعامة شخص يدعوه الشريف الحسني. يلتحق عيسى بمجلس الحسني ويلتقي شخصًا «ينتمي لابن المشرّف الكاتب»، وآخر «بالدسكرة قد عاوَدَ الدَّعْوة الأولى [العبّاسية] وانْتَمى لبغداذ». يبدأ هذا الرجل بإنشاد شعر يحنّ فيه إلى الزمن الماضي، ذاكرًا الشيب والشباب، وبعد ذلك ينتقل إلى تعداد المناطق البغدادية والمناطق القريبة منها. يخلص الشاعر بعدها إلى مدح الشريف الحسني بالجود والعطاء والإحسان، وهي صفات تمكّن الشاعر من التغلّب على «ريب الزمان». وفي البيتين الأخيرين يشير الرجل إلى سفره واختباره بخل الناس وَجودهم قبل أن ينصرف إلى حضرة الشريف. وفي ختام المقامة يتعرّف الشاعر إلى هوية الراوي عيسى بن هشام، فينشد بيتًا في الغزل ينمّ عن هذا التعرّف ويتداركه ببيت آخر يستره، فيردّ عيسى بن هشام ببيتٍ يعِدُ الشاعرَ بكتمان سرّه.
المقامة الشريفية
راوية هذه المقامة هو ابن عيسى بن هشام، واسمه محمد. يروي محمد أنه شهد أبا الفتح الإسكندري يكتب للشريف الحسني نيابةً عن طاهر بن محمد الإسكندري، وأن فحوى ما كتبه رغبته في العودة إلى حضرة الشريف ومدحه بعد أن اضطرّته صروف الدهر إلى ترك تلك الحضرة. ينتقل كاتب المقامة بعد ذلك إلى وصف ما لقيه في بُعده من شقاء وقلق وسهاد وبخل الباخلين، ليمدح الشريف مجدّدًا في الختام.
المقامة الخاتمية
يروي عيسى بن هشام في هذه المقامة قصة خلاف حول «زوجَيْ خاتم» بينه وبين أبي سعد القائجاني، وكان أبو سعيد قد قايض أحد الزوجين بـ«توزيع» ناله من الأستاذ أبي علي الحسن بن أحمد، ولكنه ندم بعد أن عرف قيمة الخاتمين. عند ذلك يتحدّى القائجاني الراويَ في لعبة شطرنج يكون الخاتمان فيها من نصيب الرابح، فإذا بالقائجاني يغشّ في اللعب مرّتين. وكان القائجاني أقرع لا يتجاسر أحدٌ على ذكر الرأس أو القرع في حضوره، فإذا بالراوي ينظم شعرًا ينذر فيه القائجاني ويذكر رأسه لأنه رفض تسليم الخاتمين الآخرين. وتستمر المكاتبة والخلاف وذكر القَرَع إلى أن يجتمع الاثنان إلى مائدة أبي الحسن بن أحمد. إلّا أن الراوي يمتنع عن الطعام بسبب حضور القائجاني، وينشد أبياتًا يهجوه معرّضًا برأسه الأقرع. ولما استغرب أبو الحسن هذا الفعل على المائدة، قص عليه عيسى بن هشام ما حدث. في إثر ذلك تناول أبو الحسن الخاتمين من القائجاني وأعطاهما لعيسى وسأله أن يتوقّف عن الهجاء. وتنتهي المقامة بأبيات من الشعر لأحد الكتّاب يمدح فيها عيسى بن هشام لهجائه القاسي للقائجاني. غير أن القائجاني شكا هذا الأمر إلى الأستاذ أبي الحسن، فردّ عيسى بشعر يذكّر فيه القائجاني بأنه كان قد حذّره من مغبّة فعله.
خاتمة
أسّس الهمذاني في مقاماته لفنٍّ ترك أثرًا كبيرًا في الأدب العربي والعالمي، غير أن نص الهمذاني نص مفتوح لكثير من الأسئلة التي لا تتعلّق بتأويله فحسب، بل أيضًا بجمعه وتكوينه وتاريخه وتداوله. ويبدو أن مجموع مقامات الهمذاني تشكَّل على صورة كتاب في مرحلة لاحقة من حياة المؤلّف، وذلك بتأثير من مجموع مقامات الحريري الذي تضمن خمسين مقامة. ولما كان ثمة مجموع مبكّر لمقامات الهمذاني قيد التداول يتضمن أربعين مقامة، فالظاهر أن نسّاخ مقامات الهمذاني وجامعيها أضافوا مقامات إلى هذا المجموع ليصل المجموع إلى خمسين. ولا يعنينا في هذا المقام صحة نسبة هذه القطع الأدبية إلى الهمذاني بقدر ما يعنينا أن إضافتها إلى مجموع مقامات الهمذاني دليل على أنها همذانية الطابع، وأن مجموع مقاماته كان لا يزال قيد التشكّل حتّى القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) على أقل تقدير.