بواسطة محمد سبيلا - مفكر مغربي | نوفمبر 1, 2019 | مقالات
عندما طلبت مني النقابة المغربية للفنانين التشكيليين تقديم مداخلة حول الأنوار لم أتردد لحظة واحدة لا في قبول الاقتراح ولا في فهم المقصود المزدوج من الحديث عن الأنوار. فالفنانون التشكيليون يسحرهم الضوء والألوان والأنوار. والسحر هنا بمعنى الانجذاب، والافتتان، أي بين بعدين أولهما فيزيائي وكيميائي والثاني روحي وسيكولوجي، أضفْ إليهما البعد الفلسفي المتمثل في الانبهار بالعقل كمصدر لنور أو لأنوار المعرفة. كنا نظن أن الفلاسفة وحدهم هم المهووسون بالأنوار لكنْ شغف بل هوس التشكيليين لا يقل حدة عن هوس الفلاسفة إنْ لم يَفُقْهُ هيامًا. ولعل هذا الشغف الثنائي هو على الأقل ما يبرر عقد القران هذا بين الأنوار التشكيلية والأنوار الفلسفية.
هكذا نطل على شسوع الدلالات المختلفة لمصطلح أو لموضوع الأنوار. فهي نقطة التقاء مجموعة كبرى من المعارف ومن الممارسات الإنسانية، أنوار الإيمان والأنوار الروحية أو الصوفية، أنوار العقل من حيث هو ضوء تسلطه المعرفة الإنسانية على كل الموجودات والموضوعات، أضف إلى ذلك الدلالات الفلسفية الخاصة التي ارتبطت بها فلسفة الأنوار أو عقل الأنوار أو مرحلة الأنوار. أنوار الروح وأنوار العقل هل يجتمعان؟ هل يتعايشان؟ أولهما مبني على الاعتقادات والمسلَّمات والغيبيات، في حين أن أنوار العقل قوامها التساؤل والتشكك ونقص البديهيات ومساءلة المسلمات. أنوار العقل قلقة ومتوجسة وكشافة، في حين أن أنوار الروح تقوم على السكينة والقناعة والطمأنينة والاكتفاء.
ارتبطت مسألة النور والأنوار إذن بتاريخ الفلسفة، وعندما نختار مصطلح النور بدل الضوء فالمقصود بذلك هو إبراز الفرق بين مصطلحي الضوء والنور. فالأول هو أقرب إلى كونه مصطلحًا فيزيائيًّا يدل على انبعاث أشعة ضوئية من نقطة مكانية ما وانعكاسها على أرجاء المكان بحيث ينتج عنها تمايزات إدراكية واضحة بين عناصر ومكونات هذا الفضاء. ولعل القول الفصل في موضوع الضوء يعود إلى الفيزياء وبالضبط إلى علم الكهرباء. وقد ارتبط الضوء أو النور منذ القديم إلى اليوم بملمح سحري وجذاب لم يتخلَّ عنه حتى وهو محط تحليل وتشريح فيزيائي وكيميائي.
فالضوء من منظور الفيزياء الحديثة هو حزمة من الأشعة أو الإشعاعات الصادرة من بؤرة ضوئية ما طبيعية أو اصطناعية. وهذه الأشعة تنتشر على شكل بلورات أو جسيمات أي بطريقة corpusculaire جسمية أي على شكل تموجات وتيارات، أو كما يقال في نظريات الضوء بطريقة تموجية ondulatoire أو بهما معًا، أو بطريقة كهرومغناطيسية.
المقاربة العلمية للضوء أبرزت أبعاده الكمية القابلة للقياس calculable: الجسيمات – الأمواج – التيار – الدائرة الكهربائية – الشدة – التردد. لكنها لم تلج سحره وسحريته وخصوصيته وانتماءه الجزئي أو الكلي للعالم المضاد له، أي عالم الغموض والخوارق. دلالات ثورة الكهرباء هي طرده الساحرات والكائنات المعششة في الظلام والبراغيث السوداء، والخنافيش…. وأنارت حيزاتها وأمكنتها لكنها خلقت لنا الفوتون والإلكترون… وهي بالنسبة لنا كائنات شبه غيبية لا مرئية أشبه ما تكون ببراغيث الظلام، وإن كانت بالنسبة للعلوم الفيزيائية كائنات قابلة للقياس والعد وللتحديد المكاني والزماني والوتيرة والتردد. وقد سبق لهيدغر أن أشار إلى اسم إشعال الضوء بالضغط على زر هو فعل لا يقل سحرية عن سابقه. وفي المقابل فقد حافظ النور أو الضوء على سمته الرمزية التي ارتبط بها منذ الحضارات القديمة، ومنها ارتباط الضوء إما بالإيمان أو بالمعرفة أو بالحقيقة.
فالاستعارة الضوئية مشتركة بين كل الثقافات والحضارات كما أنها حاضرة في كل ثقافة على حدة، إلا أن هذه الاستعارة Métaphore ظلت لصيقةً بشكل قوي بالتيارات الفكرية والأدبية والفنية التي سادت أوربا في القرن الثامن عشر والتي ربطت عن قصد ووعي النورَ بالعقل والمعرفة ورجحت أنوار العقل على أنوار الروح.
الأنوار أو عصر العقل
يطلق اسم الأنوار على مجموعة من التيارات الفلسفية والأدبية والفنية ظهرت في أوربا في القرن الثامن عشر، ويطلق عليها كذلك اسم عصر العقل. وقد تنوعت هذه التيارات الفكرية حسب البيئات الثقافية المحلية مما جعل مؤرخي الفكر يميزون بين الأنوار الفرنسية والأنوار الألمانية والأنوار الإنجليزية والأنوار الإسبانية أو الأنوار الإيطالية والأنوار البرتغالية والأنوار الأميركية والهاسكالا اليهودية.
ورغم تنوع هذه التيارات وتعددها فإن مؤرخي الفكر يتحدثون عن القواسم المشتركة التي تجمع بين هذه التيارات، سواء من حيث القضايا الفكرية أو من حيث نوع المواقف التي تتبناها بصددها:
– نقد السلطتين الدينية والسياسية.
– الرفع من شأن العقل والدعوة إلى استعماله بقوة في كل المجالات الإنسانية.
– إعمال النقد باعتباره وظيفة عضوية للعقل، وهذا النقد يعني الاستعمال الفعلي الأقصى للعقل وإلى اليقظة والخروج من السبات الدوغمائي.
– الإيمان بالتسامح بين المعتقدات والآراء والأعراف والمذاهب المختلفة.
– التمسك بنزعة إنسانية كلية معرفية وأخلاقية.
– إيلاء الأولوية للعلم وللأفكار العلمية ولمهمة إشاعة العلم والمعرفة العلمية.
هي إذن تيارات فكرية وثقافية قوية، الجامع بينها هو التمرد وانتقاد التقاليد وسُلَط التقليد والأحكام المسبقة وسطوة السلطة السياسية والدينية وتحالفهما، والدعوة إلى الاستعمال الأقصى للعقل في المجال العمومي وإلى نقد الذات بوصفها تستمرئ هذه السلط ولا تتحمل المسؤولية الفردية في مقاومتها والتكتل ضدها، وهذه الأفكار سنجد أصداء متفاوتة لها في الأيديولوجيا المؤطرة للثورة الفرنسية 1789م.
وقد تقاسمت مجموعة كبيرة ومتعددة من الأدباء والفنانين والفلاسفة والعلماء العديد من هذه الأفكار بدرجات متفاوتة وهو ما أضفى على العصر (القرن الثامن عشر) صبغة أيديولوجية متقاربة، قوامها: محاربة السلط العتيقة الدينية والسياسية، ونقد الأفكار المترسبة التي تتحول إلى قيود في التفكير، والاعتقاد أن في الإمكان تحقيق أحسن مما كان أي الاعتقاد الراسخ في مقولة التقدم، وما لازمها من دعوات إلى تبني الروح الكونية والتسامح وطبع فكرها لقدر من التفاؤل.
ولأن هذا التفاوت الذي خلق ما أطلق عليه «روح الأنوار» التطابق التام بين المشاريع الفردية. فدافيد هيوم (Hume 1776 -1711) والمدرسة الإنجليزية عمومًا ارتبطوا بالنزعة التجريبية وركزوا على فكرة أن المعرفة العلمية لا يمكن أن تتحقق إلا عبر التجربة وليس عن طريق الأفكار العقلية المسبقة.
أما جان جاك رسو (17١٢ -17٧٨م) فقد ارتبط بالدفاع عن فكرة المساواة بين كل الكائنات الإنسانية وبشَّر بالديمقراطية وإقامة العقد الاجتماعي، وألح على ضرورة التربية في إعداد الإنسان وتهيئته للتطور والتقدم، واستنكر وأدان التراتبية المجتمعية. هذا بينما يؤكد كانط 1804 -1724)م) أن العقل والعقل النقدي خاصة هو أهم ميزة للإنسان، وأنه هو الأداة المثلى للتفكير والطريق الأكيدة للمعرفة، وأن الأنوار هي خروج الإنسان فردًا ونوعًا من دائرة الخضوع إلى دائرة استعمال العقل. يُعَدُّ فولتير عنوانًا بارزًا لهذا التيار الفكري؛ بسبب راديكاليته الفكرية المتمثلة في الدفاع عن فكرة التسامح الكوني، وإدانة كل أشكال التعصب والتحجر والعبودية والسحر والحرب.
أكتفي هنا بشهادة Michel onfray في مجلة magazine de philosophie- في رجل الأنوار العظيم الذي كثيرًا ما يتم تناسيه هو كوندورسيه لانه، رجل ميال للتربية الشعبية، وهو مؤمن حقيقي بقضيته ومدافع شرس عنها، فقد ناهض حكم الإعدام ورفض العنف، وأنتج أفكارًا تنويرية واقعية، وناهض العبودية.
من أبرز الأنواريين كذلك مونتيسكيو، وهو من أهم المفكرين الذين وضعوا الأسس الفكرية للحداثة السياسية المتمثلة في المبدأ الأساسي الذي دافع عنه مونتيسكيو، وهو الفصل بين السلط المختلفة التي تشكل هيكل الدولة: الفصل بين السلطة القضائية والسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، كما عُرف بانتقاده للسلطة الملكية المطلقة والمتعسفة.
أختم هذا الجزء المتعلق بعرض مكونات الأنوار بأكبر محاولة لفهمها وتصنيفها فلسفيًّا وهي مقال كانط «ما الأنوار»: «الأنوار هي تحرر (خروج) الإنسان من قصوره (أو عدم نضجه) الذي هو نفسه مسؤول عنه. القصور هو عدم القدرة على استعمال أو استخدام العقل (أو الذهن) من دون الاعتماد على قيادة أو توجيه الآخرين. هذا القصور هو صفة راجحة للإنسان (= الفرد) ذاته ليس بسبب افتقاد العقل بل بسبب افتقاد القرار، والقدرة على استعمال العقل من دون اللجوء إلى الاقتياد والاستعانة بالآخرين.
اجرؤ على المعرفة
إن شعار الأنوار هو Saper aude: اجرؤ على المعرفة لتكن لديك الشجاعة على استخدام ذهنك الخاص (أو ذكائك الخاص). ومع ذلك فإن كانط لم يتخذ موقفًا صلبًا وصادمًا تجاه هذه السلط؛ إذ إنه ميز بين الاستعمال الخصوصي للعقل والاستعمال العمومي.
تعرضت الأنوار لانتقادات عديدة داخلية وخارجية. فقد كانت هدفًا للعديد من الاتجاهات نذكر منها الحركة الرومانسية أو الفكر الرومانسي في ألمانيا الذي تميز بتقربه من الكاثوليكية، ورفض النزعتين الثورية والمهدوية أو الرسولية، والدفاع عن الاستقرار، ونقد النزاعات العدمية ونقد فكرة التقدم على أن منطقه هو المنطق الميكانيكي الشكلي للتقدم الحالي. كما عبرت الرومانسية عن رؤية مثالية وحنائنية للعلاقات الاجتماعية التي كانت قائمة قبل حلول العصر الحديث، وكذا استلهام مسيحية محافظة بعيدة من أي فكر نقدي. في هذا الصدد نذكر سجالات الفيلسوف الألماني Shelling دروس ميونيخيه (1837م) ضد العقلية الهيغيلية ممجدًا في الوقت نفسه القوى والمنابع اللاعقلانية للأفكار، وهي الأفكار التي رُسِّختْ نهاية القرن في أوربا (Encyclopédie 1442).
وهذه الأفكار ستُتَبنَّى جزئيًّا أو كليًّا من طرف الاتجاهات الأدبية والفلسفية والجمالية المناهضة للحداثة أو المضادة لها. يرى لوك فيري في كتابه«Les plus belles histoires de la philosophie» Robert Laffont 2014. أن النقد الرومانتيكي للرومانسية هو على وجه العموم مجموع التيارات الأدبية والفكرية المرتبطة بالحاضر والماضي التي تتبنى تصورًا مثاليًّا وحنينيًّا Nostalgique للعلاقات الاجتماعية التي كانت موجودة قبل حلول العصور الحديثة.
عرفت الحركة الرومانسية تطورًا كبيرًا، وهو ما يميزها بين حقبتين زمنيتين متباينتين، تتميز إحدهما بنزعة ثورية وهو ما ينعكس على تنوع تيارات بين الرومانسية المسيحية والرومانسية الفلسفية والرومانسية.
اتسمت الحركة الرومانسية بنزعة محافظة قوية تقوم على تمجيد القوى والأبعاد اللاعقلانية في الحياة وبأبعادها الليليةEncyclopédie de la philosophie. Paris 2002 p 1442.
وقد شكلت النزعة الرومانسية فكرًا مناهضًا للأنوار، ومنها استلهمت العديد من الاتجاهات المضادة للثورة وللأنوار وللحداثة ثقافتها وفكرها. يمكن إجمال هذه الأفكار والتوجهات ذات النكهة الرومانسية سواء في الأدب أو الفن أو الفلسفة في نقد النزعة الكونية وعدّها مجرد زعم أو وهم، ونقد النزعة العقلانية في فهم التاريخ التي تقوم على مبدأ العلية، ونقد فكرة التقدم، ونقد الحداثة ذاتها كما نجد لدى نيتشه وهايدغر، وكذا إعادة الاعتبار للتقليد وللأحكام المسبقة كما لدى الفيلسوف الألماني جورج غادامير، وهذا مؤشر قوي يدل على مدى حيوية الفكر الغربي كما تمثلها اختلافاته الجوهرية وحِدَّة نقاشاته الداخلية. فالأنوار متعددة ومتنوعة وهي مستمرة حتى الآن.
أشكال النقد التي وجهت للأنوار يمكن إجمالها في:
١. النقد ضد الثوري والرومانسي للأنوار يندرج في سياقه نقد الحضارة وLe lux من طرف روسو، والنقد السياسي للثورة Burke وRehberg الذي يجد امتداده في الفلسفة الألمانية المعاصرة في فكر غادامير رائد الدفاع عن التقليد والأحكام المسبقة.
٢. النقد الأنثروبولوجي القائم على نقد فكرة الكونية وإبراز نزعة «فروقية» Différentialisme ونسبوية ترى أن لكل ثقافة ولكل مجتمع ثقافته الخاصة وقيمه الخاصة ولا مجال للمفاضلة بينها، وهي التحليلات التي تقدمها لنا الأنثروبولوجيا البنيوية (كلود ليفي ستروس).
٣. نقد فكرة الاعتقاد في التقدم، وهذه الفكرة محورية في فكر مدرسة فرانكفورت، التي ترى أن العقلانية التقنية، التي كانت الأنوار تعدها الوسيلة الأساس لتحقيق التقدم الاجتماعي للناس وتفتح لهم الطريق نحو السعادة بتحريرهم من الحتميات الطبيعية، ارتدت ضد ذاتها وبدل أن تحرر الناس ضاعفت خضوعهم لقوانين مجهولة وللتحكم والمراقبة فأصبحوا أقرب إلى أن يكونوا مجرد أشياء. وتحولت وفي نطاقها ظهرت أنظمة شمولية مهولة مثل النظام النازي والنظام الشيوعي، كما أنها هي ذاتها (الأنوار) تحولت إلى ميثولوجيا تعتقد في التقدم.
٤. انتقادات صادرة عن تيار الإيكولوجيا العميقة التي ترى أن الطبيعة أولى من الإنسان، وأن المشروع الأنواري للسيطرة على الطبيعة والتخلص من إكراهاتها وحتمياتها مشروع ضارّ بالطبيعة.
والخلاصة أن عصر الأنوار طور أيديولوجيا متفائلة تقوم على أن الإنسان يمكنه أن يسيطر على الطبيعة (الطبيعة الإنسانية) محققًا الظفر والسعادة. فحسب الأنوار أن الناس سيتخلصون من كل الظلاميات المتمثلة في التصورات اللاعقلانية للدين، والشعوذة والجهل والأحكام المسبقة.
ظلامية الأنوار نفسها
مقابل ذلك نجد نقاد الأنوار والحداثة ينسبون الظلام والظلامية للأنوار نفسها، هايدغر مثلًا ينسب للحداثة سمات ظلامية فهو يتحدث عن حالة عناء العالم، عناصرها الأساسية هي:
– اقتلاع الإنسان من جذوره.
– نزع القدسية عن كل ما هو مقدس.
– إضفاء صبغة ظلامية على العالم. أو تلييل العالم (نسبة إلى الليل).
– تحطيم الأرض.
وفي الوقت الذي كان فيه المبتهجون بالأنوار والحداثة يتحدثون عن اقتلاع الطابع السحري أو التغني بنزع الطابع السحري عن العالم نجد هايدغر يَسِمُ هذه بأنها إعادة «إضفاء طابع سحري» على العالم.
قبل ذلك نجد أن فلسفة نيتشه (فيلسوف المطرقة) هي في وجه من وجوها بمنزلة عاصفة فكرية مدمرة؛ لأن نواتها هي نقد ما يسميه بالأفكار الحديثة كفكرة التقدم والنزعة الإنسانية، والهوية الثقافية والمثل الأعلى، الأخلاقي والعقلاني القاسي.
إلا أنه رغم هذه الأشكال في النقد فإن هناك تيارات فكرية ترى نفسها وريثة للأنوار وتنصِّب نفسها للدفاع عنها. فالفيلسوف الألماني المعاصر هابرماس في كتابه الأساسي «الخطاب الفلسفي للحداثة» يدافع عن الأنوار والحداثة معًا ضد انتقادات كل التيارات الفلسفية اللاحقة، وبخاصة تلك المنتمية إلى ما يسمى بتيارات ما بعد الحداثة، وهو يرى أن الحداثة مشروع لم يكتمل إنجازه، بمعنى أنها لم تَفِ بالوعود الأنوارية التي قطعتها على نفسها والتي تتلخص في تحرير الإنسان من سيطرة القوى والمجتمعية.
كما نجد أن ميشيل فوكو الذي يتسم الكثير من إنتاجاته الفكرية بنقد الأنوار والحداثة (والذي قال عنه أكسل هونيت: إننا لا يمكن أن نعثر في تاريخ الفكر الأوربي بعد كتاب «جدل الأنوار» لأدورنو وهو ركهايمر، على محاولة نقدية أكثر جذرية من نظرية السلطة عند فوكو من حيث هي محاولة لفضح أو تعرية الخلفية الفكرية لهذا النقد)، إن إيمان الأنوار بالعقل لم يتبين بما يكفي أن العقل ليس فقط أداة كشف وتحرير بل هو أداة سيطرة أيضًا. وهذا هو الدرس العميق وراء العديد من أعمال ميشال فوكو الذي ينسب نفسه للتيارات الفلسفية الكبرى ابتداء من هوسرل إلى ماركس ومدرسة فرانكفورت الذى يضعه على الخط الفاصل، بحيث يكون داخل الأنوار وخارجها في الوقت نفسه، وذلك من حيث إن النقد هو روح الأنوار ومنهجها الأساسي.
هل انتهت الأنوار؟ ونحن نتحدث عنها وكأننا نرثيها أو نسير في جنازتها.
إن الأنوار هي مجموع الأفكار الجريئة الناقدة للسلطتين الدينية والسياسية في أوربا في القرن الثامن عشر، وهي المحضن الكبير لأفكار الحداثة ولعل روح الأنوار هي روح الحداثة نفسها. والأنوار لم تنطفئ، فثوراتها العلمية والفكرية والجمالية تحولت إلى ثورات سياسية، وأصبحت نموذجًا للتطور في جل بقاع العالم.
يميز مؤرخو الفكر بين بعدين مختلفين للأنوار: فهي رائدة العقلانية وطرد الساحرات والخوارق والظلاميات، وهي التي هيأت الأسس الفكرية للتحديث السياسي في الغرب، إلى غير ذلك من الإيجابيات لكن الأنوار استعملت لتبرير السيطرة والاستعمار، كما مهدت للأيديولوجيات الشمولية وللأنظمة الكليانية.
الأنوار في الفكر العربي
أما انعكاسات الأنوار على الفكر العربي الحديث فهي متنوعة؛ نورد منها كمثال نموذجي أفكار عبدالله العروي الذي يوجزها في مطالب عدة. فهو يدعونا إلى أن:
– نودع نهائيًّا المطلقات جميعًا.
– ونكف عن الاعتقادات بأن النموذج الإنساني وراءنا لا أمامنا.
– ونكف عن عدِّ كل تقدم هو في جوهره تجسيدًا لأشباح الماضي.
– ونكف عن الاعتقادات بأن العلم هو تأويل لأقوال العارفين.
– ونكف عن الاعتقاد بأن العمل الإنساني يعيد ما كان، لا يبدع ما لم يكن.
– بذلك ندرك لأول مرة معنى السياسة كتوافق مستمر بين ذهنيات جزئية تمليها ممارسات الجماعات المستقلة وتتوحد شيئًا فشيئًا عن طريق النقاش الموضوعي والتجارب المستمرة، بحيث لا يمكن لأي أحد فردًا كان أو جماعة الادعاء أنه يملك الحقيقة المطلقة عن طريق الوعي أو المكاشفة، ويفرضها على الآخرين.
– صيرورة الواقع الاجتماعي.
– نسبية الحقيقة المجردة (التاريخانية).
– إبداع التاريخ (فعل الإنسان).
– جدلية السياسة.
هذه هي معالم الفكر والمجتمع العصري، عرفها حقًّا البعض (النخبة الفكرية الطلائعية) وفسرها ونادى بها، لكن المجتمع العربي ككل، منذ القرن الماضي (القرن التاسع عشر) يتردد في تبنيها تبنِّيًا كليًّا، ينكرها ليس فقط في دائرة الأسرة والمسجد والكتاب، بل داخل البرلمان والمدرسة العصرية والمصنع.
– وباختصار في ذهن كل فرد منا.
إذا كان لتجارب الأمم مغزى فإن أمرنا لا يصلح إلا بصلاح مفكرينا، باختيارهم اختيارًا لا رجعة فيه.
– المستقبل عوضًا عن الماضي.
– الواقع عوضًا عن الوهم.
انظر ع. العروي : الأيديولوجيا العربية المعاصرة. مقدمة الطبعة العربية. ص. 16. بيروت. ط. 3. 1979م.
فهل نحن مؤهلون للاستجابة لشروط ومتطلبات العصر؟ هل نحن قادرون على الإنصات لحفريات الطليعة أو الطلائع الفكرية والثقافية التي تحفر في جدار الأنوار لاستخراج بعض جذور التنوير ولاكتشاف نسائم الحرية المنعشة؟
بواسطة محمد سبيلا - مفكر مغربي | نوفمبر 1, 2018 | قضايا
لعل سر اهتمام الفلسفة (والفلاسفة المعاصرين) بمسألة التحولات العميقة التي تحدثها التكنولوجيا الحديثة، وبخاصة منها هذا التحول الجذري والنوعي المتمثل في الانتقال من صناعة الأشياء إلى صناعة الكائن الحي، هو ضرورة التفكير في التحولات المشحونة بالدلالات الفلسفية والميتافيزيقية التي يتعين التفكير فيها على الحدود الفاصلة بين العلم التكنولوجي والفكر الفلسفي.
أولًا- الثورة الصناعية في العصر الحديث أو معجزات العلم الحديث
السيطرة الشاملة للعلم/ التقني على الحياة الإنسانية هي سيطرة حديثة بدأت تتضح معالمها منذ القرن 19 مع بداية الثورات الصناعية، والانتشار التدريجي والمتسارع للمنتجات التقنية عبر العالم. ورغم التباينات الواضحة بين مؤرخي العلم حول عدد الثورات التي شهدها العالم المتقدم، فإن المتعارف عليه السائد هو أن هناك على وجه العموم ثلاث ثورات علمية/ تقنية كبرى حدثت في الغرب منذ القرن السابع عشر، وانتشرت تدريجيًّا عبر العالم. وحسب التحليل الذي قدمه الباحث الأميركي جيرمي ريفكين (G.Rifkin) فإن الثورات الصناعية الكبرى المؤثرة تلازمت فيها ثلاثة عناصر أساسية: الطاقة والإنتاج والتواصل. فالثورة الصناعية هي مجموعة اكتشافات علمية تقنية تيسر شكلًا جديدًا من أشكال الطاقة التي ستكون هي المصدر المحرك الأساسي للإنتاج الاقتصادي، كما سيرتبط بها شكل جديد من أشكال التواصل. فالثورة الصناعية الأولى (نحو 1750م) تمحورت حول استخدام الفحم كطاقة أحفورية ارتبط بها اختراع الآلة البخارية التي ستصبح محرك الإنتاج الاقتصادي والتواصل بالقطار. وقد استفادت الطاقة الجديدة ونمط الإنتاج المصاحب لها من اختراع سابق هو المطبعة التي يعود اختراعها إلى القرن الخامس عشر. وشكل التواصل الذي طوره النظام التقني- الإنتاجي الجديد هو تعميم الطباعة وتعميم التعليم ونشر المعرفة، مع ما صاحب ذلك من تخطيط المدن وتعمير وتمركز وسائل الإنتاج جغرافيًّا وبشريًّا.
أما الثورة الصناعية الثانية فحدثت نحو سنة 1850م ومحورها الأساسي هو اكتشاف الكهرباء والبترول كمصادر جديدة للطاقة، تلاها اختراع المحرك القائم على الاحتراق الداخلي أو المحرك الانفجاري. وتعد الثورة الصناعية الثانية لحظة أساسية في تشكل النظام الرأسمالي الغربي الحديث وانتشاره عبر العالم. وقد رافقها ظهور عدة اختراعات تقنية شكلت ذراعها التواصلي: الهاتف، والتلغراف، والسيارة، والراديو، والتليفزيون، والطائرة كلها في وجهيها المدني والعسكري.
شهدت الثورة الصناعية الثالثة ابتداء من عام 1950م تقريبًا تحولات نوعية هائلة تميزت أولًا باستدماج واستجماع كل أدوات ونتائج المرحلتين السابقتين وثانيًا بتسارع متزايد لوتيرة تطور الاكتشافات وثالثًا بالجدة النوعية المتواترة. هناك قدر من الارتباك في تصنيف هذه الثورات بحيث يتحدث البعض عن ثورة رابعة وآخرون عن خامسة، إلا أننا سنتابع التصنيف الذي قدمه جيرمين ريفكي في كتابه «الثورة الصناعية الثالثة» الذي تبناه لوك فيرى في كتابه «la revolution transhumaniste» (Plan 2016) وإن لم يكن موافقًا على التأطير النظري والأيديولوجي (الطوباوي) الذي تبناه المؤلف.
ثانيًا- الثورات البيوتكنولوجية من رحم الثورة الثالثة
نشأت الثورة الصناعية الثالثة مع ظهور موارد جديدة للطاقة: الطاقات الحيوية الخضراء المتمثلة في الطاقة الشمسية والطاقة الهوائية والطاقة الإلكترونية، وهي طاقات تنضاف إلى طاقات منحدرة من المرحلة السالفة كالطاقة الذرية كما أنها ذات أبعاد وأذرع أخرى من بينها ارتياد مجالات الكون اللامتناهي. صاحب هذه المرحلة الثالثة ابتكار أدوات تواصل جديدة هي عصارة وخلاصة تجديدية تتمثل وتستعمل معطيات الثورات السابقة المتمثلة في الذرة والإلكترونيات والتواصل، ومن أبرزها المركب NBIC:
1- النانوتكنولوجيا أو التكنولوجيات اللامتناهية الصغر (النانو جزء على مليار من المتر)، التي استُخدِمت في الجراحات وفي صناعة الإنسان الآلي المتناهي الصغر.
2- البيوتكنولوجيا أو تكنولوجيات الحياة التي بلغت اليوم ذروتها مع تطور البيولوجيا التركيبية (B.Synthetique) التي دشنت مرحلة الصناعة التكنولوجية للحياة مثلما حدث في صناعة الكائنات الوحيدة الخلية من طرف البيولوجي الأميركي Creig Venter(1).
3- الإعلاميات والمعلوميات وقاعدتها التحتية الأساسية هي الشبكة العنكبوتية Internet التي يعدها ريفكين البنية التحتية للتحولات التكنولوجية الجديدة وهي آلية متعددة الوجوه والاستعمالات:
– إنترنت التواصل والمعرفة وتخزين المعلومات الضخمة (Big Data) ومثالها غوغل وشبكات التواصل (GAFA).
– إنترنت الأشياء والطباعة ثلاثية الأبعاد (Int 3D)
– إنترنت الطاقة المتمثلة في توفير الطاقة لمجموعات كبيرة صناعية أو سكنية أو وظيفية وتنظيمها شبكيًّا والمرتبطة بما يدعى الاقتصاد التعاوني.
4- علوم الدماغ (S.Cognitives) وتتعلق بالذكاء الصناعي وبكيفية معالجة تخزين ونقل مليارات المعطيات والمعلومات في الزمن الواقعي. كل هذه المكونات العلمتكنولوجية تتكاثف اليوم في اتجاه ما يطلق عليه Transhumanisme أي تطوير النوع الإنساني وفق وتيرة تطوره الطبيعية بمساعدة التقنية وPosthumanisme أي مجاوزة النوع الإنساني عبر استخدام التقنية وتهجين الإنسان بها. الخلفية الفكرية المضمرة في كلا الاتجاهين هي أن تطور العلم والتكنولوجيا بوتيرة متوالية هندسية سيتجاوز التطور الطبيعي للإنسان وسيتخطاه وهو ما يعنيه مصطلح التفرد أو الفرادة Singularité المتعارف عليه في هذين الاتجاهين.
وما يمكن أن يستنتج من هذين التصورين هو أن التطوير Trans من جهة والتخطي Post من جهة أخرى كلاهما استجابة لتطور التقنية ولمتطلباتها التي بدأت تفرض نفسها كضرورة على الإنتاج بشقيه التقني والبشري. فالترانس هو لحظة أساسية ضمن تطور التقنية التي بدأت تتطور بسرعة هندسية مذهلة، بحيث لم يعد العقل البشري ولا الجسم البشري قادرًا على مواكبتها. ومن هذه الزاوية لا يجوز عدّ الترانس تعبيرًا عن إرادة الإنسان المتقدم ورغبته في تطوير العلم/ التكنولوجي، بل إن الوجه الآخر الخفي في العملية هو أن هذا التطور – الذي يبدو أحيانًا على أنه تعبير عن استقلال نسبي للتقنية وزواج بين التقنية ورأس المال- هو لحظة عضوية ضمن هذا التطور الموضوعي:
– تقوية الذكاء، الذاكرة.
– القضاء على الشيخوخة والموت والهشاشة
– تطويل العمر( إكسير الحياة).
ثالثًا- مشروع الترانس: الإنسان المستزاد
يقول راي كورتسفيل أحد أنبياء الترانس techno-prophete «نود أن نصبح أصل المستقبل، نود أن نغير الحياة، نود خلق أنواع جديدة من الكائنات، أن نساهم في بناء البشرية، أن نختار مكوناتنا الحيوية، أن ننحت أجسامنا ونفوسنا، أن نروض جيناتنا، أن نلتهم ملذات تحويل خلايانا الجينية، أن نهب خلايانا الجذعية، وأن نبصر الألوان ما تحت الحمراء، وأن نسمع الموجات الصوتية الرفيعة وأن نستشم جيناتنا، وأن نستبدل خلايانا العصبية، وأن نمارس المتعة الجنسية في الفضاء، وأن نجاذب أناسنا الآليين أطراف الحديث، وأن نمارس الاستنساخ إلى ما لا نهاية، وأن نضيف لنا حواس جديدة، وأن نعيش قرنين وأكثر، وأن نستوطن القمر، وأن نخاطب المجرات…». هذا النداء الذي لا يخلو من نفس شعري- بشائري هو إلى حد ما برنامج عمل وخطة للترانس. وكان فرنسيس بيكون سباقًا في القرن السابع عشر الميلادي إلى تسطير ما يماثل ذلك: «تطويل العمر، استعادة الشباب، تأخير الشيخوخة، الإشفاء من الأمراض المزمنة أو المستعصية، مضاعفة قوة الحياة، الرفع من القدرات الذهنية، نقل الجسم إلى جسم آخر»(2).
العناصر الأساسية لهذا البرنامج هي:
– تطويل العمر البشري.
– إقصاء الأمراض والآلام.
– إبعاد الشيخوخة.
– إبعاد الموت وتضبيب العلاقة بين الحياة والموت أو قتل الموت بتعبير L.Alexandre وكذا الشروع في صناعة الحياة.
– تقوية الذاكرة باستنبات شرائح إلكترونية.
– تقوية الحواس (السمع- البصر- الإحساس) ومضاعفة عددها.
– تقوية العقل والذكاء عن طريق الشحن أو تطوير قدرات التخزين أو تنشيط الدماغ بالتيار الكهربائي.
– تسريع وتقوية حركية الجسم.
– تطوير تجارب خلق كائنات حية وحيدة أو متعددة الخلايا. ويضيف البعض: شحن أو تقوية الإحساس بالسعادة. هذه المهام هي محاولة لتحقيق إكسير الحياة الذي حلمت به الإنسانية من أجل إطالة العمر والإشفاء من الأمراض، أو لتحقيق «ينبوع التشبب» (Fontaine de Jouvence) المؤثت للحلم البشري بالخلود، مع فارق أن الإكسير والينبوع هما مجرد أحلام وتخيلات في حين أن مشروع الترانس هو مشروع علمي تكنولوجي فعلي يحيا بدعم فكري وسياسي وبتمويلات فعلية من طرف غوغل وكثير من الشركات تحت عنوان الإنسان المعدّل (Amélioré) أو المقوّى أو المستزاد (Augmente) إما بالتحسين أو التهجين.
رابعًا- مواقف الفلاسفة من الترانس
تعرض هذا المشروع لكثير من التهجمات والانتقادات بل الشتائم. فقد اتهم بأنه داروينية جديدة خطيرة وبأنه تكنوفاشية جديدة، وإعلان حرب ضد النوع الإنساني، ويوتوبيا تقنية حالمة وهذيان، ونوع جديد من السحر، وكابوس، بل ذهب البعض إلى التصريح بأنه أخطر من الانتراكس الجمرة الخبيثة ومن داعش ومن طاعون التطرف الإسلامي(3) وقد ذهب أحد الرهبان المسيحيين إلى تشبيه الترانس بأنه محاولة يائسة لجعل الإنسان إلهًا. حتى مواقف كثير من الفلاسفة اتسمت بنوع من الحذر والتحفظ وأدرجوا في خانة المحافظين البيولوجيين، وذلك منذ ظهور البوادر الأولى لمحاولة الإنتاج الصناعي للحياة(4) أو قبلها في تجارب الاستنساخ (Clonage)، أو أبناك المني، أو تطوير آليات تحسين النسل (Fugenisme) أو تركيب قلوب صناعية أو حمل الأجنة في قوارير زجاجية، أو مع اكتشاف الخرائط الجينية للكائنات الحية وضمنها الإنسان، وتقطيع الجينوم، والاستعادة الجزئية للبصر أو للسمع أو الحركة للمشلولين إلى غير ذلك من الاختراقات ومعجزات العلمتكنولوجي الحديث.
فقد نصب الفلاسفة أنفسهم كمدافعين عن لُغْزِيَّة وقُدسية الحياة الإنسانية وعن النوع وعن الطبيعة والكرامة الإنسانية، وعن تميز الإنسان عن كل المخلوقات الأخرى. فقد سبق لفرنسيس فوكوياما أن عدَّ «فكرة مجاوزة الإنسانية transhumanisme هي الفكرة الأخطر في العالم»؛ لأنها فكرة تتهدد مفهوم الطبيعة الإنسانية الذي هو أمر أساسي من حيث إنه يقدم أساسًا مفهوميًّا أو تصوريًّا صلبًا لتجربتنا من حيث إننا نوع. وهذه الطبيعة هي بجانب الدين ما يحدد قيمتنا الأكثر أساسية. فتعديل المعطيات البيولوجية الأساسية لأفراد النوع معناه «نهاية الإنسان». لذلك فالترانس تشكل تهديدًا وخطرًا مهولًا ولا مرد له للنوع الإنساني من حيث هو نوع أخلاقي (فيري ص98). فالغايات الأخلاقية «ثاوية في الطبيعة»، مرسومة في كينونة الأشياء أي في النظام الطبيعي للكون. إن «نتائج الثورة البيوتكنولوجية: المعاصرة حسب فوكوياما تتهدد الإنسان المعاصر أي النوع الإنساني لأن مآلها الأقصى هو «نهاية الإنسان». يمكن عدّ آراء الفيلسوف والسوسيولوجي الألماني هابرماس أقرب إلى النزعة البيولوجية المحافظة (Bioconservatisme) فموضوعه الأساسي هو التفكير في حدود ومشروعية الانتقال من طب علاجي إلى طب استضافي. يطرح هابرماس مسألة حدود حرية الآباء مقابل حرية الأبناء. فإعطاء الحق للآباء في التصرف في حرية الطفل باختيار الكفاءات والإضافات التي يرونها مناسبة سيكون بمثابة مساس بحرية الطفل أو بعلاقته الانعكاسية تجاه ذاته. ينطلق هابرماس من فكرة عدم قابلية الطبيعة الإنسانية للمساس وهو المعنى الملموس لقدسيتها. فقد يرفض الطفل، عندما يبلغ، هذه التعديلات التي أدخلت على تركيبته الجينية ووجهته نحو رغبات واختيارات رياضية أو فنية أو فكرية أخذت تبدو له غير ملائمة. فلا حق لأحد في أن يفرض اختياراته الاجتماعية على المكونات الطبيعية لفرد آخر (فيري ص 140-117).
يرد لوك فيري على اعتراضات هابرماس قائلًا بأن هذه الاعتراضات على تعديل أو استعمال الخلايا الجينية على أساس أنه متعارض مع الأمر القطعي الكنطي بعدم جواز معاملة الآخر كوسيلة بل كغاية، قائلًا: إن الخلايا الجينية ليست آخر بل هي مجرد خلايا مجمعة غير واعية، وهو الأمر الذي يرفضه هابرماس، مستعملًا حجة الكنيسة(5) حول وجود احتمالي أو ضمني لكائن إنساني في هذه الخلايا. فهي ليست شيئًا أو مجرد خلايا مجمعة بل هي كائن إنساني مفترض (فيري 121).
ويبدو أن تحليلات وموقف الفيلسوف الأخلاقي الأميركي ميكائيل ساندل (M.Sandel) لا تختلف كثيرًا عن موقف هابرماس، من حيث افتراض وجود طبيعة إنسانية «مقدسة» أو غير قابلة للمس والتعديل، ووجود حقوق طبيعية بناء على افتراض وجود طبيعة إنسانية، (لا يفهمها فيري إلا كجينوم). وقد كان ساندل عضوًا في «لجنة الأخلاقيات» التي أنشأتها الرئاسة الأميركية سنة 2002م للتفكير في نتائج الثورات التكنولوجية المتلاحقة والمتداخلة (NBIC) ومفاعيلها على الإنسان. في سنة 2007م أصدر ساندل كتيبًا حول الأخلاقيات في عصر الهندسة الجينية يدور حول القضايا التالية:
1) اعتراضات حول الانتقال من النموذج العلاجي في الطب إلى النموذج «التحسيني» (Melioratif).
2) حول مسألة الاستزادة في المجال الرياضي.
3) حول المشروع الأبوي و«مصنع الأطفال».
الفكرة الرئيسية التي حملها الكتيب هي أنه مع تطور الترانس يُنتَقَل من أخلاقيات الامتنان (Gratitude) تجاه ما هو معطى أو مُهدى إلى أخلاقيات التحكم المطلق للعالم الخارجي في الذات من طرف الإنسان البروميتي (H.Prometheen) والمعطى أو العنصر الموهوب قد يعني الطبيعة أو أية قوة دينية مفارقة. ففي كلتا الحالتين يُفْرَدُ موقع خاص إما لعناية علوية أو إلى مبدأ عطاء خارجي فائق أو متفوق على الإنسان. وبهذا المعنى فإن الترانس هي تفريط في علاقة العَرضية والصُدْفية وفي الوقت نفسه في سر الكينونة لصالح إرادة تحكم شديدة تكمن خطورتها في القضاء على القيم الأخلاقية الأساسية التي يقوم عليها العيش المشترك بين الناس والتي هي التواضع L’humilité والبراءة (أو التلقائية) Innocence وكذا التضامن (Solidarité)(6). كما يفرد ساندل انتقادات اجتماعية تتعلق بالقدرة المتفاوتة للفئات الاجتماعية على الاستفادة من نتائج الترانس، داعيًا إلى تدخل الدولة لتيسير إمكانية استفادة الجميع منها. وأخيرًا يبدي ساندل تخوفاته من إمكان استغلال الأنظمة الشمولية لهذه القدرات، وكذا إمكان سقوطها في أيادٍ إرهابية كداعش. (فيري ص117-109) أما التقدمية البيولوجية Techno progressisme فهي تدافع عن المقولات التالية:
– الترانس هو تحسين نوعي (Eugenisme) جديد مختلف عن التحسين العنصري النازي وقوامه تحقيق الانتقال «من الحظ إلى الاختيار» (From chance to choise).
– نزعة مضادة للطبيعة. فليس التقدم هدفًا مأمولًا فقط، بل يتعين ألا يقتصر فقط على الإصلاحات السياسية والاجتماعية كما يجب أن يشمل طبيعتنا البيولوجية نفسها.
– تحقيق أمل الخلود هنا من طرف العلم والتقنية.
– تحقيق حلول ملائمة لكل القضايا البيولوجية والأخلاقية بروح تفاؤلية.
– تحقيق عقلانية مادية واحدية.
– إرساء أخلاقيات نفعية وليبرالية متحررة تُراوِح بين الليبرالية الجديدة والديمقراطية الاجتماعية.
– إقامة أيديولوجيا تفكيكية، ذات نزعة مساواتية ملائمة للبيئة.
– الدفاع عن الحذر والديمقراطية وأخلاقيات الحوار (فيري ص268 ص60-89).
يمكن أن يندرج في سياق هذا النموذج المثالي أسماء مثل سلوتردايك الذي كان سباقًا إلى تبني فكرة أن تاريخ الإنسان (أو القطيع الإنساني بتعبيره) هو تاريخ ترويضه لذاته عبر أدوات مختلفة آخرها اليوم هي التقنية (Anthropo technique)، ومثل لوك فيري نفسه المدافع عن نوع من النزعة الإنسانية ذات الطابع العلماني (Humanisme laïc) وذلك في مواجهة تيارين فكريين أوربيين كبيرين هما: النزعة الإنسانية المسيحية التي تستلهم القديس توماس الأكويني وتفضل فكرة القانون الطبيعي، وذلك في مقابل نزعة إنسانية منسوبة للأنوار وأهم أعلامها Pic De la Mirandole (1486) وكوندورسيه وروسو. كما يمكن أن نصنف الفلاسفة والعلماء المنضوين تحت راية نيتشه والترانس مثل Ray Kurzweil (أميركا) وL.Alexandre (فرنسا) وماكس مور (M.Moore)، وبيتر سلوتردايك ولوك فيري ضمن رواد البيولوجيا التقدمية Bioprogressisme.
في سنة 1999م قدم سلوترادايك محاضرة تحت عنوان: «قواعد من أجل الحظيرة الإنسانية» أعطت دفعة قوية لنقاش فلسفي جرى في ألمانيا، وكانت له أصداء أوربية وعالمية. وبعد أشهر أصدرت مجلة Diezeit عددًا خاصًّا تحت عنوان: «مشروع زارادوسترا» أشارت فيه إلى هذه المحاضرة. وقد أعلن سلوتردايك أن من حرك هذه الهجومات هو يورغن هابرماس.
النقط الأساسية في محاضرة سلوتردايك:
– نزع الطابع الحيواني عن الإنسان وإخراج الإنسان من حالة الحيوانية desanimaliser أو إحداث قطيعة بين الإنسان والحيوان.
– وضع الإنسان في مقام عال «حذاء الآلهة» بوصفه «راعي الكينونة» ومالكًا للعالم وللغة.
– فتح الطريق أمام نزعة إنسانية جديدة إنتروبو تقنية قائمة على ترويض الإنسان في الحظيرة البشرية بهدف تحضيره؛ لأن التقنية هي التي أهلته لأن يكون إنسانًا في إطار نزعة إنسانية بيوتكنولوجية.
– رعاية الحياة عبر: المصالحة والمواءمة بين تعالي الإنسان (عبر اللغة) وقدرة الأدوات والآلات والمصنوعات والرمامات والبيوتكنولوجيات.
ينطلق الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك (1947م) من التفكير (مع هيدغر ضد هيدغر) في مسألة النزعة الإنسانية؛ إذ يرى أن خطأ هيدغر هو تصوره أن إنسانية الإنسان معطى يعتمل في ذاته ومن ذاته ضمن تجربتنا الإنسانية، في حين أنها صفة مركبة أو تركيبية مبنية عبر العمل والتربية والترويض (في الحظيرة الإنسانية). فترويض الإنسان هو الأمر المنسي الذي لم تفكره النزعة الإنسانية التقليدية بما فيها النزعة الإنسانية عند هيدغر التي تأخذ على النزعة الإنسانية التقليدية (المسيحية والماركسية والوجودية) أنها لم تفكر في إنسانوية الإنسان انطلاقًا من خصوصيته ككائن يملك «عالمًا» بل فقط انطلاقًا من تميزه عن الحيوان، الذي لا يملك إلا أفقًا غريزيًا محدودًا يحاول سلوتردايك أن يجاوز النزعات الإنسانية الكلاسيكية والحديثة، بما في ذلك النزعة الإنسانية «الأصيلة» التي يقول بها أستاذه هيدغر، نحو أفق أو فضاء مجاوز أو مفارق للنزعة الإنسانية (trans et post humaniste).
فالنزعات الإنسانية قد تناست عنصرًا مهمًّا وهو ترويض Domestication الإنسان لنفسه ضمن الحظيرة الإنسانية؛ لأنه هو منتج نفسه وصانع نفسه عبر عمليات التربية والتعليم والتدريب التي هي كلها عمليات ترويض بواسطة التقنية. فمفهوم الأنثروبوتقنية Anthropotechnique يمكّن من إبراز هذه الواقعة الإنسانية المتمثلة في أن الإنسان نتاج للإنسان بواسطة الفاصل الذي يقيمه هو نفسه مع المحيط الطبيعي. فترويض الإنسان يندرج ضمن منظور الأنثربويوتكنيك. من بين الخلفيات أو المضمرات الفكرية لسلوتردايك تصور مؤداه أن الإنسان ليس ماهية أو جوهرًا مستقلًّا، بقدر ما هو سيرورة Processur صناعية fabriqué، يتعين تحيينها باستمرار constament à faire. ولعل أكثر الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين الذين احتفوا بالمجاوزة هو لوك فيري Luc Ferry. يعيب فيري على الأوربيين عمومًا وعلى الفرنسيين على وجه الخصوص تأخرهم البيّن عن متابعة تطورات البيوتكنولوجيا والترانس، من حيث إنها تشكل بجانب العولمة وزواج الحب السمات الأساسية للعصر الحالي، ويعدّها نواة «الثورة» الصناعية الثالثة، وإن من نتائجها الأساسية (التي هي محط جدل الآن) «تهجين» (Hybridation) الإنسان بالآلة وخلق أجيال جديدة من الإنسان الآلي (Homme machine) (أو السيبورغ).
يبتهج لوك فيري لهذه الثورة من حيث إنها أولًا ستحُدُّ من الحتمية البيولوجية الظالمة أو ما يسميه يانصيب القدر، وثانيًا من حيث إنها ستفتح باب الاختيار الواسع كما يعبر عن ذلك شعار الترانس: من النصيب إلى الاختيار (From chance to choise).
يضع فيري الترانس في مواجهة نزعتين إنسانيتين تقليديتين هما النزعة الإنسانية المسيحية التي تعطي الأولوية للقانون الطبيعي وثانيهما النزعة الإنسانية الأنوارية ابتداءً من بيك دولاميراندول وكوندورسيه وروسو وماركس والأنوار عامة التي تعرّف الإنسان بحريته وبقدرته على تحقيق الاكتمال la perfectibilité، وعلى تجاوز الطبيعة وعلى اكتساب قدرات وكمالات لا نهاية لها.
يدافع فيري عن نزعة إنسانية لائكية ترى أن الطبيعة في حد ذاتها عمياء وقاسية وغير عادلة وأنها لا تعرف إلا القوة الغاشمة، وهو ما يبرر ضرورة تصحيحها وتحسينها خدمة للإنسان. إلا أن فيري لا يخفي تحفظه تجاه بعض التوجهات القوية للترانس نحو تطوير الإنسان وتقويته بسبب بعض انفلاتاته ونزوعه نحو الاستقلال الذاتي أو التطور الذاتي التلقائي (Autonomie) بعيدًا من تحكم الإنسان، داعيًا إلى ضرورة تأطير هذا التوجه وتنظيمه على المستويين العلمي/ التقني ثم الاقتصادي. كما يلمح فيري إلى بعض الانتقادات الفلسفية للمجاوزة (Psot H) من حيث إنها مقلقة واختزالية وحتموية ومادية وواحدية.
خامسًا- القضايا والتحديات الفلسفية التي تطرحها الترانس
الثورة البيوتكنولوجية هي أساسًا مجموعة ثورات متداخلة يتفاعل فيها المكون الرقمي والمعلوماتي والعقلي الرياضي المنطقي والكيميائي والفيزيائي والذري. فهي تحول نوعي عميق يمكن إجماله في الانتقال من صناعة الأشياء إلى صناعة الحياة؛ لكن أثرها لا يظل في حدود العناصر المادية المذكورة أعلاه بل إنها تحمل في الوقت نفسه تحولات نوعية في المجال الثقافي وبخاصة حول التصورات المتعلقة بالحياة والموت والشيخوخة، والنفس، والجسم، والروح، وحول مدى قابلية الكائن الإنساني للاكتمال Perfectibilité والخلود وقضايا ميتافيزيقية أخرى.
وبجانب التحولات الميتافيزيقية هناك تحولات وتبعات اقتصادية وسياسية وحقوقية وقانونية وأخلاقية كبيرة، إلا أننا في هذه الورقة نولي الاهتمام الأكبر للقضايا ذات الحمولة الميتافيزيقية. تطرح الثورات المذكورة اليوم على الفكر البشري عامة وعلى كل ثقافة محلية أو تقليدية أسئلة كبيرة وتحديات يتعين على الثقافات التقليدية المعروفة كافة بما فيها ثقافتنا العربية الإسلامية فهمها واستيعابها ثم تقويمها ومناقشتها من حيث إنها ليست مجرد آراء ونظريات مطروحة، بل هي أدوات ونظريات وعمليات ستنعكس على حياتنا على الأقل في مجالات الاتصال والتواصل، وفي مجال الطاقة والصناعات المختلفة وفي المجال الحربي، وفي مجالات الفضاء والسياحة الكونية.
هذه النظريات والأفكار والتقنيات الجديدة التي تطل برأسها اليوم على كل الثقافات تحت عنوان Transhumanisme، والتي هي تجسيد لمعجزات العلم التكنولوجي الحديث، هي إحدى موجات الحداثة التقنية (والفكرية) التي تلطمنا بها البشرية المتقدمة وتحمل استفزازات نظرية وعملية تتزايد حدتها باستمرار لثقافتنا ولمجتمعنا. وقد تكون هذه الموجات أقسى وأقصى من سابقاتها (النانو- الروبوت-الشحن- التقوية- صناعة الحياة- الانعكاسات العلاجية والطبية).
نستنبط بهذا الصدد مجموعة مصادرات (أو مسلمات أو خلفيات) فلسفية كامنة بنسب متفاوتة في حركة الترانس ومساره، تتجه أكثر نحو دعم التصورات التالية:
1) في التصور الآلي للجسم وللدماغ:
التصور الآلي هنا يقوم على اعتبار الجسم وكذا الدماغ أقرب ما يكون إلى آلة ذات وظائف محددة تؤديها بحكم برمجتها عليها. الآلي هنا تعني الميكانيكية أي الأداء المقنن للوظائف والمهام من دون زيادة أو نقصان. خلفية هذا التصور هو عدّ الإنسان آلة وظيفية مبرمجة، وعد الدماغ بدوره آلة وظيفية ضخمة تتكون من مليارات الخلايا والروابط العصبية والأنشطة الكهربائية وتخزين المعلومات والمعطيات والإدلاء بها. النموذج الواضح لهذا التصور الآلي الوظيفي هو الروبوت. لذا يصبح الدماغ والجسم متصورين من خلال منظور آلي يجعلهما بمنزلة آلات حية أو بيولوجية في انتظار صناعة المثيل. بل إن هذا الكائن (الآلي) الحي سيُزوَّد ببرامج عمل على شكل رقائق أو لاصقات أو مزدرعات أو حتى بمفاتيح معلوماتية (USB) تُشحَن ويُستَبدَل مضمونها بين الحين والآخر، هناك اليوم توجُّهٌ في اليابان نحو اختراع روبوت شبيه بالإنسان Robot homonoide، لديه عواطف وانفعالات وخيال، وقادر على ممارسة الحب، بل إن بعض العلماء يبشرون بروبوتات روحية مؤنسنة.
2) التصور الكيميائي للجسم:
الجسم آلة وهي آلة- لحم (meat machine) أي حزمة مواد فيزيائية كيميائية عضوية. اللحم مجموعة مواد تتفاعل فيما بينها كيميائيًّا. يتشكل جسم الإنسان من بضعة كيلوغرامات من الكربون والأكسجين والهيدروجين والأزوت؛ ومن بضعة غرامات من الكلسيوم والفوسفور والكبريت والبوتاسيوم والصوديوم والكلور؛ ومن بضعة ملغرامات من اليود والكوبالت والمنغنيز والموليبورن والرصاص والتيتان والبروم والزرنيج والسيلنيوم. هذا التصور الكيميائي للجسم هو تدقيق أو تكميم للنزعات المادية القديمة التي تصورت الجسم بهذا الشكل. فالعناصر الأساسية لتشكل المادة الحية هي الكربون والهيدروجين والأكسجين والنيتروجين والأزوت وهي العناصر التي تربط بينها روابط كيميائية.
3) التصور العددي الكمي للإنسان(7):
يحتوي جسم الإنسان على ثلاثة ملايين غدة، و16 مليون بصيلة شعر لدى الرجال و40 مليون بصيلة شعر لدى المرأة، و450 زوج من الأنسجة، وعلى 206 إلى 211 عظمة، و800 نوع من الأنسجة و4,5 مترمربع من مساحة الجلد، و950 من الأوعية الدموية و25000 مليار كرة دم حمراء، ومئة مليار خلية عصبية ومليون مليار رابط عصبي، ومئات الملايين من الهرمونات. ذاك هو التصور الكيميائى لجسم الإنسان لدى الترانس.
4) نفي وجود طبيعة بشرية:
لمفهوم الطبيعة البشرية مدلولان: المدلول البيولوجي المتمثل في DNA أو الجينوم أو ما يشكل الخصوصية النووية للكائن الحي، والمدلول الأخلاقي أو الميتافيزيقي الذي يشير إلى كرامة الإنسان أو إلى قدسيته أو إلى خصوصيته الأخلاقية التي هي أمر غير قابل للاختراق أو الاستلاب. ويبدو أن العلوم البيولوجية، ورواد الترانس يتجهون إلى إنكار أو نفي وجود طبيعة بشرية (بيولوجية) من سماتها الثبات. فكل الكائنات عاشت منذ آلاف بل ملايين السنين حالة تطور بيولوجي لقدراتها جعلت هذه الطبيعة تتغير بالتدريج، وهي لن تتوقف عند الحد الحالي بل منذورة للتطور في المستقبل بشكل أسرع، وبخاصة مع التجديدات التي يجملها لها تطور العلم التقني وبخاصة مع انفتاح أبواب تلقيح أو تهجين الإنسان بالآلة.
الترانس أقرب إلى كونه نزعة مضادة للطبيعة (Antinaturalisme) من حيث إن الطبيعة هي غير مقدسة بمعنى أنها ليست معبدًا(8). فهي تتطور تطورًا ذاتيًّا كما أنها يمكن أن تتلقى تعديلات خارجية تسرّع وتيرة تطورها وتيسر لها أداءً وظيفيًّا أحسن. وإحدى خلفيات الترانس هي الفرضية الفلسفية حول قابلية الإنسان للاكتمال (Perfectibilité) من حيث إنه كائن ناقص ويتميز بالمرونة plasticité أو القابلية المستمرة للتشكل وللتطور. وهذه هي الفكرة التي طورتها فلسفة الأنوار الأوربية ابتداءً من القرن الثامن عشر الميلادي(9).
5) النظرة الواحدية Monisme:
الفكرة الأساسية التي هيمنت عبر تاريخ الفكر الإنساني كله القديم والوسيط والحديث هي فكرة الثنائية أي الاختلاف في الطبيعة والماهية بين النفس (أو الروح) والجسم؛ لأن كلًّا منهما ذا طبيعة مختلفة عن الآخر. تبلورت هذه العلاقة في كل الثقافة الإنسانية القديمة وبخاصة في الفلسفة اليونانية. الصياغة الفلسفية لفكرة ثنائية العلاقة بين النفس والجسم نجدها في فكر أفلاطون في محاوراته (فيدون وطيماوس). فالجسم مادة تنتمي إلى العالم الواقعي بينما النفس تنتمي إلى عالم الفكرة أو المثال، والجسم هو بمنزلة سجن أو معتقل للنفس، بحيث تكون عملية الموت بمنزلة «خلاص» للنفس من حدود الجسم.
كما نجد هذه الفكرة لدى رونيه ديكارت (1650 -1596م) الذي يرى أن الجسم والنفس شيئان مختلفان في ماهيتهما. فالنفس غير مادية (Immaterielle) في حين الجسم امتداد هندسي وميكانيكي، وهو أشبه ما يكون بالساعة (L’horloge) أي آلة خاضعة لقوانين الطبيعة. فكرة الثنائية (Dualisme) أو التوازي التي هي فكرة تخترق الثقافات القديمة وتتبلور فلسفيًّا في الفكر الفلسفي الإغريقي، شُكِّلت فكرة مركزية في الثقافات الدينية القديمة والوسطى والحديثة وهي فكرة تتضمن الإعلاء من النفس أو الروح وتحقير الجسم. وستتبلور بجانبها فكرة الجسم كآلة (L’homme machine) وهي الفكرة التي ستتطور في الفكر الحديث في اتجاه إعادة الاعتبار للجسم كآلة بيولوجية دقيقة. نجد بذرة لهذا التصور لدى ديكارت (في القرن 17) في «تأملات ميتافيزيقية» وهي الفكرة التي سيتبناها الطبيب الفرنسي لاميتري La metrie وسيدمجها ضمن رؤية مؤداها أن «الإنسان آلة».
وقد تبنت اتجاهات الترانس والبوست هذا التصور في اتجاه عدّ النفس معلومة (L’esprit information)(10) محمَّلة أو منطبعة على الخلايا الحية. فالمعلومات تتحرك داخل الدماغ بفضل ترابطات النويات العصبية لأن الجسم يحتاز 40 مليار وحدة عصبية Neurones تمكن من نقل الأخبار والمعلومات. يصب هذا التصور في سياق التصورات المادية المتوارثة في كل من العلم والفلسفة المثال البارز هنا هو تصور نيتشه للنفس (Ame) أو الروح (Esprit) من حيث هي عنده بمنزلة هالة (أو نكهة أو حصيلة أو أريج أو عطر) أو صدى للجسم حيث يقول: «يتعين الإقرار بأن الروح هي التشكلات أو الأصداء الحركية (gestuelle) للجسم» (هكذا تكلم زرادشت ـ الجزء الثاني) كما يقول: «منذ عرفت الجسم معرفة أحسن لم تعد الروح بالنسبة لي روحًا إلا في نطاق محدود». الجسم في هذا التصور هو بمنزلة خزان أو مستودع لكل الطاقات العقلية والوجدانية والتخيلية والروحية التي يتميز بها الجسم، وهو ما يصب في خانة النظرة الواحدية التي تضيق الفروق بين النفس والجسم إلى أقصى الحدود.
تطرح الثورة البيوتكنولوجية اليوم على الفكر الإنساني بنوعيه الحداثي والتقليدي تحديات فكرية كبرى؛ لأنها تلامس قضايا في غاية الدقة والحساسية: الطبيعة الإنسانية- الحياة- الموت- الخلود. إنها بالتأكيد موجات معرفية وتقنية جديدة تلطم كل الثقافات التقليدية وتخلخلها وتحفزها على التفكير وإعادة النظر في كثير من مسلماتها.
هوامش:
(1) في سنة 2007م قام عالم البيولوجيا الجزيئية الأميركي بتركيب كروموزوم صناعي عدَّه «خطوة فلسفية مهمة في تاريخ نوعنا البشري» أي خطوة أولى في طريق صناعة أشكال من الحياة. وفي سنة 2011م قام فنتير وفريقه بإنشاء خلية جينوم تركيبي وهو ما عُدَّ لحظة إنشائية أساسية في مجال البيولوجيا التركيبية.
(2) F. Bacon : La nouvelle Atlantide, Flammarion 2000, p133
(3) كل هذه الانتقادات مستقاة مما يروج من مواد في الشبكة العنكبوتية.
(4) Craig Vener سنة 2011 قام العالم الأميركي Craig Vener المؤسس المشارك في برنامج Synthetic Genomix في كاليفورنيا.
(5) سلوتردايك (2003) يتحدث عن «البيولوجي المدني في جلباب الفيسلوف»
(6) يمكن أن يدرج M.Besnier (فرنسا) وG.Hottois (بلجيكا) في هذا السياق.
(7) من المراجع: رضوان شقور، أستاذ الكيمياء الحيوية: تأملات في سر الحياة، الرباط 2016م.
(8) Luc Ferry, RT p
(9) Nicilas Le Devedec : la démocratie à l’epreuve du posthumain de l’himanisme au posthumanisme الشبكة العنكبوتية
(10) FARID El Moujabber : Le posthumanisme : Un epi phénomène moderne du dualisme. Ometabasis. It) الشبكة العنكبوتية
بواسطة محمد سبيلا - مفكر مغربي | يونيو 30, 2017 | مقالات
مفهوم التقدم هو مفهوم حديث، فهو يقوم على نظرة مقارنة ضمنية بين درجات تطور المجتمعات على خط تاريخي واحد هو الخط (الافتراضي) للتطور العالمي الذي يتضمن ويفترض تفاوتات على الخط العام، وتفاوتات قطاعية أيضًا. مجالات التطور التي يفترضها هذا المفهوم هي التطور التاريخي عبر مفاصل أصغر هي التطور الاقتصادي، والتطور الاجتماعي، والتطور السياسي، والتطور التقني.
يمكن أن نرى كل هذه المفاصل إما من المنظور الكمي أو من المنظور الكيفي. فالتطور أو التقدم الكمي هو حساب درجة التطور الاقتصادي مثلًا من خلال عوامل أو مفاعيل كالناتج الخام الوطني، ومنسوب كل فرد سنويًّا، ومستوى الاستهلاك والإنتاج والتصدير، ومؤشر النمو الاقتصادي. كما يمكن أن تقاس درجة التطور أو التقدم التقني من خلال مستوى التصنيع إنتاجًا واستهلاكًا ونسبة توزيع واستعمال الآلات على المستوى الوطني. بل إن القياسات الكمية للتطور بدأت تطول المجالات كافة، فالتقدم السياسي يقاس اليوم بدرجة الاندراج في السيرورة الديمقراطية التي بدورها تقاس بمعيار الحريات والحقوق السياسية، والأحزاب السياسية، والنقابات المهنية، والمؤسسات التمثيلية السياسية المحلية والوطنية… حتى التقدم الثقافي على الرغم من سمته الكيفية الأساسية فقد أصبح قابلًا للقياس من خلال حرية الصحافة ومستوى القراءة والإنتاج والتوزيع الثقافي للكتب والمجلات والصحف، وقد أضيف إليه اليوم الاطلاع على المصادر الثقافية في الشبكة العنكبوتية، إلى غير ذلك من المؤشرات.
من المؤكد إذن أن علاقة العرب بالتقدم يمكن أن تخضع لتقديرات كمية كما يمكن أن تخضع لرؤية كيفية، تتطلب النظرة الأولى تجميعًا للمؤشرات الكمية القُطْرية والقطاعية إلا أنها تظل في حاجة إلى رؤية شمولية على مستوى من التعميم والتجديد، ومن خلال الاعتماد على رؤية دينامية تاريخية شاملة لا تخلو من افتراضات وتقديرات كيفية. يشكل العرب اليوم كتلة بشرية يجمعها تاريخ يلحمها تجمع مكاني وروابط تاريخية ومعنوية كثيرة، أهمها وحدة اللغة وهيمنة معتقد ديني يأخذ تلوينات مختلفة، وثقافة مشتركة ذات جذور تاريخية متجذرة.
دينامية الصراع
تاريخ العرب الحديث هو تاريخ تحكمه دينامية قوية هي دينامية التحديث أو على الوجه الأصح دينامية الصراع بين التقليد والتحديث، وذلك منذ أن هبَّت أول رياح التحديث على المنطقة العربية منذ أواسط القرن التاسع عشر، وعلى وجه التحديد منذ غزو نابليون لمصر. فالقانون الأساسي الذي يحكم تاريخ العرب الحديث هو بندول النهوض والسقوط، والمراوحة بين هذين الحدين: إرادة النهوض وعوامل السقوط.
تعود إرادة النهوض عند العرب إلى إرث تاريخي قوي يتمثل في أن العرب صنعوا فترة من التاريخ العالمي، وبلغوا ذروة التاريخ بين القرنين التاسع والثالث عشر عبر علومهم وآدابهم وتمددهم الجغرافي. لكن التاريخ مدٌّ وجزر. وظل هذا الحلم التاريخي يراود حسهم ووعيهم رغم كل الانكسارات والخيبات. يتمثل الامتحان التاريخي العسير الذي تعرض له العرب في العصر الحديث في سيرورة الحداثة التي انطلقت من أوربا وانتشرت عالميًّا خلسة وقوة، وأصبحت تمثل شرطًا أساسيًّا للوجود في العالم وللانتماء إلى العصر. ورغم ما للعوامل الخارجية المتمثلة في الاستعمار والإمبريالية وإرادة الهيمنة الغربية، فإن المآلات السلبية يمكن أن تفسر بدينامية وأهمية الكوابح الداخلية التي يتحايل الوعي العربي على نفيها أو تذويبها وإنكارها؛ لأن الوعي التاريخي وعي ماكر من حيث إنه يمارس ويؤسِّس للتضليل الذاتي بإسقاط ما هو داخلي على ما هو خارجي، أو ما هو رُوحي على ما هو عقلي، وما هو ذاتي على ما هو موضوعي أو تاريخي في مراوَحة حادة بين الاستهداء والتيه. اكتشف العرب العصر الحديث تدريجيًّا عبر مسلسل اكتشافات كانت كلها صدمات خادشة وجارحة للشعور بالذات أو بما سمِّي بالنرجسية وبالجروح النرجسية المؤلمة.
مر اكتشاف الحداثة عبر صدمات متلاحقة معالمها الحديثة والتاريخية الكبرى هي صدمة غزو نابليون لمصر (1799- 1801م) وصدمة الاستعمار ابتداءً من 1820م، وصدمة سقوط الخلافة 1928م، وصدمة احتلال فلسطين 1948م، والهجوم الثلاثي 1956م، والهزيمة 1967م، واحتلال العراق 2003م… وهي كلها صدمات ذات وجهين: العنف والتحديث، صدمات مزدوجة أو مركبة، سطحها حداثي وتاريخها، وعمقها فكري وثقافي.
ردود الفعل المختلفة التي واجهت هذه الصدمات هي أشكال متباينة من الوعي المراوح بين الوعي المغلوط أو المماوه والوعي التاريخي الحاد والجارح، وكذلك ردود أفعال من إرادة النهوض لدرجة تسمح بالقول بأن تاريخ العرب الحديث هو تاريخ النهوض والسقوط المستمر. وهو القانون نفسه الذي يحكم أشكال حركية الوعي العربي المراوح بين الارتداد والانفتاح، بين النكوص والاستجماع؛ ولعل الوعي التاريخي العربي الحديث هو وعي ظل يراوح بين استلهام الأصولية الإسلامية، أو استنشاق بعض هواءات الحداثة كما تمثل ذلك النزعة القومية في صيغتها الليبرالية والاشتراكية، بل إن المنحنى التاريخي للوعي العربي ظل بمنزلة حركية جيبية تراوح بين النزعة الإسلامية (أوائل القرن التاسع عشر في مصر والجزيرة) والنزعة القومية/ الاشتراكية (ابتداء من أربعينيات القرن العشرين إلى سبعينياته) ثم العودة القوية للتيارات الإسلامية بعد هزيمة 1967م وبداية الثورة الإسلامية الإيرانية (1979م)، أي في مراوحة مستمرة بين وعي تقليدي ووعي تحديثي تتخلله مزاوجات وتطعيمات، تسويات وتطرفات ذات اليمين أو ذات الشمال.
ورغم أن التضخم التدريجي لتيارات التطرف والعنف التي استمر تدرجها في سُلَّم تبنِّي العنف الداخلي والخارجي بوصفه في نظرها السبيل الأمثل لتحقيق الأهداف التي تبلورت في الوعي العربي الإسلامي، وتحوَّل ذلك إلى مشكل عالمي، فإن بإمكان القيادات الثقافية والسياسية للوعي العربي استعادة التحكم في هذا التوجه المتطرف بإعادة تدوير الدفة الثقافية للنواة الأصلية نحو الانفتاح والقبول بالاختلاف والتعدد على المستويات كافة، واستيعاب تغيرات العالم فهمًا وتعاملًا، وذلك في اتجاه التصالح مع تحولات العصور الحديثة والقبول ببعض سياقاتها ودلالاتها ومنظوراتها. تدخل كل هذه المخاضات ضمن ما يمكن تسميته مخاضات الحداثة والتحديث التي هي دينامية أو ديناميات تفرض نفسها بشكل موضوعي بعدّ العالم كله قد ركب قطار الحداثة منذ انتشار آلية التحديث عالميًّا التي بدأت مع مرحلة الاستعمار، واتخذت بعد ذلك أشكالًا أكثر شبكية.
رعاية مخاضات التحديث
لقد عهد إلى المؤسسات الدولية المختلفة السياسية والتقنية والثقافية الوصية برعاية مخاضات التحديث على المستوى العالمي بمتابعة ومراقبة سيرورات ومؤشرات النمو على مستويات التطور كافة ابتداء من المؤشرات الثقافية (نِسَب الأمية والإنتاج والاستهلاك الثقافي) إلى المؤشرات الاقتصادية (نسب النمو، والموازنة المالية، وتقليص الحصة الاجتماعية في الإنفاق العام، والناتج الوطني الخام…) والمؤشرات السياسية (نسب المشاركة، والتمثيلية، وفصل السُّلَط، وحقوق الإنسان، وحرية المعتقد) إلى المؤشرات الاجتماعية، ونسب الفقر، وعتبة الفقر، وتوزيع الثروة الوطنية، والأمل في الحياة، وحقوق الإنسان (النساء، والأطفال، والعمال، وذوي الاحتياجات الخاصة) والبطالة، والسجون، والإجرام، والتمدرس، والخصوبة. فقد أصبحت المؤسسات الدولية هي الساهرة ضمنيًّا على عملية التحديث التي اتخذت بالتدريج طابعًا كونيًّا.
من المؤكد أن العرب يتقدمون، وإن كان هذا التقدم بناء على المؤشرات الكونية، تقدمًا سلحفاتيًّا على وجه العموم، وبسرعة مختلفة داخل البلد الواحد، وغير متكافئ بين الدول (22) المكوّنة للمجموعة العربية. إذا كانت مشكلات التقدم ومشكلات التحديث أو وتائره (وهما متداخلتان في المؤشرات الكونية) متفاوتة داخليًّا، فهي أيضا متفاوتة بَيْنيًّا. فعلى العموم إذا ما ميَّزنا بين مستويات ثلاث للتحديث أو التقدم، فإننا نلحظ أن سرعة التحديث التقني هي ذات وتيرة متسارعة قياسًا إلى غيرها، في حين نلحظ أن التقدم التنظيمي في وجهيه التقني (المعمار وتنظيم المدن والطرق…) والتنظيمي (السياسي: الدسترة والتمثيلية السياسية والمأسسة والديمقراطية) يسير بخطًا أكثر بطئًا؛ لأنه يصطدم بمقاومات ثقافية ومؤسسية عضوية أو أهلية.
أما على المستوى الثالث (المستوى الثقافي) فوتائر التقدم تتباطأ أكثر؛ إذ «تسير» بسرعة سلحفاتية في أحسن الأحوال لأن المستوى الثقافي الكوني هو الأكثر تشعبًا وتمثلًا للبنية الثقافية والفكرية للحداثة، ومن حيث إن التحديث الكوني هو تعريف للمقولة المركزية للحداثة والمتمثلة في فصل الديني عن الدنيوي، والروحي عن المادي، والمقدس عن التاريخ، أو ما يصطلح عليه بالتمييز الواضح بين السياسة والدين مؤسسيًّا وفكريًّا. هذا إضافة إلى شحنات الحرية والأنسنة التي تحملها الشرعة الكونية لحقوق الإنسان فيما تتضمنه من حقوق (فئوية ونوعية) أهمها (حقوق الإنسان) والحريات (لعل من أبرزها حرية الرأي والمعتقَد).
فعلى هذا المستوى يبدو بندول التقدم العربي أكثر بطئًا وترددًا؛ لأنه يدخل في احتكاك حاد مع المكونات الميتافيزيقية للبنية الثقافية التقليدية، ويفرض ممارسة نوع من العقل التأويلي على العقل الجوهري، ويفترض تحويل النواة الثقافية من نواة جامدة وحيدة المعنى إلى سلسلة تأويلات وتكيفات وقوى تاريخية دافعة.