حرية الإبداع وسلطة الوصاية
على الرغم من أن النثر جنس أدبي لا يقلّ رُقيًّا عن الشعر، فإن الذائقة الجمعية العربية، فيما يبدو، ظلت متمسكّة إلى وقتنا الحاضر بالشعر وبفكرة أفضليته وأولويّته، ولعلّ المقولة الموروثة: «الشعر ديوان العرب» مما يتّكئ عليه معظم المدافعين عن الشعر اليوم. من جهة أخرى، قد تثير هذه المقولة شيئًا من التوجّس والقلق على القيمة التي أصبح يمثّلها الشعر اليوم، بعد أن عُدّ في أزمنة سابقة روح الأمة، وضميرها النابض. إلاّ أن الشعر لم يعد اليوم ديوان العرب، وهذا لا يُقلل من قيمته بقدر ما يُمثّل واقعًا له أسبابه ومواضعاته الثقافية والاجتماعية وغيرها. لقد كان الشعر قديمًا «ديوان العرب» حين مثّل سجلًّا حفظ تفاصيل حياتهم وأيامهم وأنسابهم وغيرها، وهو دور لم تعد تتبنّاه القصيدة اليوم، ولا يبدو أنها مُلزمة به في ظل وجود بدائل تكنولوجية تقوم بدور السجلّات الحافظة لكل ما يخص حياة الأفراد والمجتمعات، إلى جانب أن الرواية اليوم تلعب، على نحو ما، دور التسجيل والحفظ الذي لعبه الشعر سابقًا.
من جهة أخرى، فإن مقولة «الشعر ديوان العرب» تكشف عن شبه قطيعة تحدث اليوم بين القصيدة وبين المتلقّي؛ ممّا تسبب في تضاؤل قيمة الشعر، وإحداث شرخ عميق بينه وبين الجمهور. ويُمكن تقسيم العوامل المتسبّبة في ذلك إلى: عوامل داخلية وخارجيّة تأتي، على التوالي، من داخل القصيدة ومن خارجها. وبوقفة سريعة على العوامل الداخلية، يبدو أن هجر (الأوزان الشعرية) التي ارتبطت بالقصيدة العربية الأولى (القصيدة الجاهليّة) يُمكن أن يُصنّف كأحد العوامل المهمة التي تسببت في هجر القصيدة في عصرنا الحاضر. فانقطاع ذلك الحبل السرّي (الوزني) الذي ربط المتلقي العربي زمنًا بالشعر مثّل له خيبة كبرى تسببت في زهده في الشعر. وهذا رأي يدافع عنه الأغلبية اليوم رافضين فكرة أن لكل (نوع) شعري موسيقاه المجدولة بروح عصره، وأن لكل عصر أنواعه الشعرية، وموسيقاه الخاصة به.
إن تحوّل القصيدة من الشكل العمودي إلى سواه، لا يُمثّل في حقيقته فعلًا تبنّاه التغريبيّون من الشعراء العرب، كما يرى البعض، بل يُمثّل ما تفرضه عجلة الزمن بدورانها الحتمي الذي يستحيل إيقافه؛ فكل عصر مشغول بحاجة أهله، لا بحاجة من سبقوهم، أو من سيلحقون بهم. لقد طال التجديد في الشعر اللغة والصورة الشعرية والوزن على مرّ العصور، ومن أمثلة التجديد في الوزن: الموشّحات التي غيّرت نسق العمود الشعري المتعارف عليه، إلا أن ثمّة من يرفض اليوم المساس بالعمود مُعتبرًا أوزان الخليل فيصلًا، وحدًّا فاصلًا بين الشعر والنثر، وذا مما يُشير إلى أن الماضي كان أكثر تسامحًا وانفتاحًا من الحاضر.
إضافة إلى أن تحقُّق عنصر (الوزن)، وحده في أي نص غير كافٍ لجعله شعرًا؛ وإلَّا لعُدّت «ألفيّة ابن مالك» في النحو، وغيرها من المنظومات مّما يُعرف بالشعر التعليمي من أفضل الشعر. إلى جانب أن المفاضلة بين نص شعري وآخر على أساس (الشكل) فقط، حكم غير دقيق وغير سليم، إن لم يكن حكمًا بليدًا؛ ذاك أنه يُكرّس مبدأ الاتّباع لا الإبداع، ويحصر الأفضلية في مجرّد تكرار جهود السابقين من دون إضافة أو تطوير. فلا جهد إبداعي لشاعر يكتفي، فقط، بتكرار القوالب الشعرية التي سُبق إليها بأزمنة؛ بقدر ما في ذلك من إشارة إلى كسل التفكير، والاكتفاء بجهود من سبق، من دون تطوير، أو إضافة من اللاحق إلى جهد السابق. ويظل للموسيقا دور السحر في الشعر، وهذا حكم خاص لا يفرض الوصاية على الأحكام الأخرى ولا يُصادرها. فالعنصر الموسيقي هو العنصر الذي يتسلل إلى الروح قبل الأذن مؤكّدًا على أن ما نستمع إليه ليس نثرًا خالصًا، وهو العنصر المُتمم والواهب والخلّاق، إلى جانب عناصر أخرى مهمة كالخيال الشعري والمعنى واللغة والعاطفة؛ إذ تُشكّل هذه العناصر مُجتمعة ما يُسمّى (الشعر). إن الموسيقا الخلّاقة تُلهم العاطفة واللغة والمعنى والصورة الشعرية، وهذه العناصر، مُجتمعة، تُلهم بدورها الموسيقا ضمن عملية خلق إبداعي تبادليّة وشديدة اللحمة.
من جانب آخر: هل يمكن لتحقّق العناصر السابقة (ما عدا الموسيقا) في نصٍّ ما أن يجعل ذلك النص شعرًا؟ وهل الشعر مجرّد عاطفة ولغة ومعنى وصورة شعرية فقط؟ وهل يمكن أن تُسهم إضافة (عنصر الوزن) في رفع قيمة النص الشعري الذي يحقق العناصر السابقة مجتمعة؟ وهل يمكن أن يقرّبه ذلك من ذائقة المتلقّي اليوم؟ بل هل يجب أن يتحقق في النص كل ذلك ليصبح شعرًا وليخرج من دائرة النثر الخالص؟ هي أسئلةٌ أخرى تغيب إجاباتها ما لم تُحسم الإجابة عن ماهيّة الشعر، التي تبدو، حتى اليوم، أنها مُتغيّرة لا ثابتة.
ويلحق بما سبق، الحكم على مستوى الإبداع في نص أدبي ما من ناحية الموضوع، مع تجاهل القيمة الفنيّة، وتلك قضية أخرى مُوهِمة على صعيد الخلق والتلقّي على حد سواء؛ فالجرأة (وحدها) لا تصنع أعمالًا أدبية. وتركيز (بعض) الكتّاب والكاتبات، تحديدًا، على طرح موضوعات جريئة في نصوصهم لاستغلال الفعل الإبداعي لصالح الفعل الفكري والاجتماعي هو أمرٌ خطير وإن حقق مكاسب على أصعدة أخرى خارج نطاق الإبداع. وتأتي خطورته من إيهامه الذي قد يؤثر في ذائقة المبدع ذاته، والمتلقي الفرد، والذوق العام؛ فما دامت تلك الأعمال التي تكشف الحُجُب عن المستور والمسكوت عنه، وتغض الطرف عن القيمة الفنية تُصنّف على أنها أعمال أدبية: سيُنظر إليها كذلك، وسيظل فرزها، فنيًّا، منوطًا بفئة قليلة. ومن شواهد ذلك روايات عربية ومحليّة حققت نسب مبيعات عالية، وحصدت رواجًا كبيرًا وقت ظهورها لمجرّد أنها مسّت موضوعات جريئة، ولكنها مع الوقت انطفأت، حاملة أسماء كتّابها معها كدليل على أن ما يحفظ الخلود للأعمال الأدبية هو قيمتها الفنيّة في المقام الأول. إلا أن ذلك لا ينفي قيمة الجرأة في الطرح الأدبي؛ فلا إبداع دون حرية وجرأة دون أن تأتي على حساب قيمة النص الفنيّة.
وختامًا فإن قضية الشعر لا تتعلق بالأنواع سواء أكانت القصيدة عمودية، أو تفعيلة أو سواهما، وكما أن هناك نماذج من العمودي هي نظم خالص لا علاقة له بالشعر، فهناك أيضًا نماذج من شعر التفعيلة وقصيدة النثر ليس لها بالشعر صلة؛ فقضية الشعر ليست القوالب، بل روح النصوص، والتطوير ضد الجمود. وهذا التطوير والتجديد يجب ألَّا يقف بدوره عائقًا أمام احتمال ظهور أنواع شعرية جديدة فارضًا وصايته، ومُمثّلًا بدوره سلطة مُهيمنة تتحكم في ذائقة الإبداع والتلقّي. مع الالتفات إلى أهمية البحث عن ضوابط للأجناس والأنواع الأدبية المختلفة نابعة من رؤية كل عصر وحاجته.
وإن تمسُّك البعض، على نحو لا يقبل المراجعة، بالثوابت المُتعارف عليها في الشعر منذ القدم يُمثّل إصرارًا على بقاء سلطة الثوابت الموروثة بصفتها تقاليد أدبية لا يجوز المساس بها أو تغييرها من عصر لآخر تبعًا لحاجة العصر. بحيث تظل هذه التقاليد التي تُمثّل منظومة تعريفات وضوابط ومعايير تُعورف عليها، وأُقِرّت بصفتها ثوابت في زمن ما، ثم انتقلت إلى زمن آخر: عبارة عن تركة يرثها اللاحق عن السابق ولا يكون من حقه التصرّف فيها، وهذا من تضييق الواسع، ومما يتناقض مع مفهوم الترِكَة؛ إذ للوارِث، عادةً، حق التصرّف فيما يرثه من الموروث.