المنفيون
كونك منفيًّا لا يعني أن تختفي ولكنك تتقلص، فتصبح أصغر فأصغر ببطء أو بسرعة حتى تصل إلى طولك الحقيقي، الطول الحقيقي للذات، كانت سويفت –سيدة المنفيين– تعلم ذلك جيدًا، وبالنسبة لها كان «المنفى» هو الكلمة السرية للرحلة، هذا التعبير الذي سيرفضه العديد من المنفيين الذين يُشحَنون بقدر من المعاناة يتجاوز أسباب الرحيل. يحمل الأدب كله المنفى بداخله، سواء كان الكاتب قد جمع أغراضه ورحل في سن العشرين أو لم يغادر موطنه قط.
ربما كان أول المنفيين على الإطلاق هما آدم وحواء، هذا أمر لا جدال فيه، كما أنه يثير بعض الأسئلة: هل يمكن أن نكون جميعًا منفيين؟ هل من الممكن أن كل واحد منا يجوب الأرض غريبًا؟ إن مفهوم «الأراضي الغريبة» (مثلها في ذلك مثل «أرض الوطن») لديه بعض الثغرات، التي تطرح أسئلة جديدة: هل «الأراضي الغريبة» هي واقع جغرافي موضوعي أم أنها تصور عقلي في تغير مستمر؟ دعونا نتذكر «ألونسو دي إرثييا». (شاعر وجندي إسباني اشتهر بقصيدته الملحمية «لا أروكانا») بعد رحلات قليلة عبر أوربا، يسافر إرثييا، وهو جندي وسيد نبيل، إلى تشيلي ويحارب الهنود الحمر القدماء تحت راية «ألديريتي» (جيرونيمو دي ألديريتي وهو قائد إسباني عيِّن حاكمًا لتشيلي، لكنه توفي عام 1556م قبل أن يتولى منصبه). وفي عام 1561م قبل أن يبلغ سن الثلاثين، عاد واستقر في مدريد، وبعد عشرين عامًا قام بنشر «لا أروكانا» -أفضل قصيدة ملحمية في عصره، التي قام فيها بربط الصدام بين الهنود الحمر القدماء والإسبان بالتعاطف الواضح مع الهنود الحمر، هل كان «إرثييا» في المنفى خلال فترة الشتات الأميركي عبر أراضي تشيلي وبيرو؟ أم أنه شعر بالنفي عندما عاد إلى المحكمة؟ وهل كانت ملحمة «لا أروكانا» ثمرة ذلك الداء السوداوي لوعيه الشغوف بالمملكة الضائعة؟ وإذا كانت هذه هي الحال، وهو ما لا أستطيع أن أقطع به على وجه اليقين، ما الذي فقده «إرثييا» في عام 1589م، قبل خمس سنوات فقط من وفاته، بخلاف الشباب؟ ومع شبابه، الرحلة الشاقة، التجربة الإنسانية التي خاضها من خلال التعرض لعناصر قارة هائلة وغير معروفة، وجولات طويلة على ظهور الخيل، ومناوشات مع الهنود والمعارك ضد «وتارو» (أحد قادة المقاومة ضد الغزو والاستعمار الإسباني. قتل عام 1557م) و«كوبوليكان» ( قائد عسكري تحولت له قيادة المقاومة بعد مقتل وتارو) التي لاحت في الأفق الواسع مع مرور الوقت وتحدثت إليه، إلى «إرثييا»، الشاعر الوحيد والناجي الوحيد من أمر ما، حينما تُوضَع على الورق، سوف تصبح قصيدة، لكنها في ذاكرة الشاعر القديم هي مجرد حياة أو عدة حيوات، تصل إلى الشيء ذاته. وما الذي تركه الدهر لإرثييا قبل أن يكتب «لا أروكانا» ويموت؟ ترك «إرثييا» بشيء ما يمتلكه جميع الشعراء – حتى إن كان في الشكل الأكثر تطرفًا وغرابة، لقد ترك له الشجاعة، الشجاعة لا تساوي شيئًا في سن الشيخوخة، مثلما كانت تساوي في سن الشباب، لكنها تمنع الشعراء من إلقاء أنفسهم من أعلى الجرف أو الانتحار برصاصة في الرأس، وفي وجود صفحة بيضاء، تخدم الغرض المتواضع من الكتابة.
منافٍ مدى الحياة
المنفى هو الشجاعة. المنفى الحقيقي هو المقياس الحقيقي لكل كاتب. عند هذه النقطة أود أن أقول على الأقل عندما يتعلق الأمر بالأدب، فأنا لا أومن بالمنفى، إن المنفى هو مسألة أذواق والشخصيات، إعجاب وعدم إعجاب، بالنسبة لبعض الكتاب المنفى يعني مغادرة منزل العائلة، وبالنسبة لآخرين هو مغادرة البلد أو المدينة التي نشأ بها، وبالنسبة لآخرين يعد المنفى بصورة أكثر تعمقًا هو النمو والنضج، ثمة منافٍ تستمر مدى الحياة، بينما تستمر غيرها لنهاية الأسبوع فقط، «بارتبلي» (هو أحد أبطال «هيرمان ميلفيل» في قصته الشهيرة «بارتلبي النساخ») الذي لم يكن يفضل الترحال كان مثالًا للمنفى المطلق، كما لو كان كائنًا فضائيًّا على وجه الأرض، أما «ميلفيل» الذي كان دائم التنقل والترحال، لم يختبر يومًا أو لم يتأثر سلبًا ببرودة كلمة المنفى، أما فيليب ديك (روائي وكاتب أميركي، توفي عام 1982م) فقد عرف أكثر من أي شخص آخر كيفية التعرف على اضطرابات المنفى، وكان «وليام بوروزو»( كاتب وروائي أميركي اشتهر بروايات تتحدث عن المخدرات والشذوذ الجنسي، توفي عام 1997م) تجسيدًا لكل واحدة من تلك الاضطرابات.
ربما كنا جميعًا، كتابًا وقراءً على حد سواء، نعيش في المنفى، أو على الأقل في نوع معين من المنفى، حينما تركنا الطفولة وراءنا، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى استنتاج مفاده أنه لا يوجد شخص منفي أو فئة منفية لا سيما فيما يتعلق بالأدب، المهاجر والبدوي والمسافر والسائر نائمًا كلهم موجودون، بعكس المنفى؛ لأن كل كاتب يصبح منفيًّا ببساطة عن طريق الخوض في الأدب، وكل قارئ يصبح منفيًّا ببساطة عن طريق فتح كتاب. لقد ذهب كل الكتاب التشيليين تقريبًا في مرحلة ما من حياتهم إلى المنفى، وضُبط العديد منهم ممن ظل متبوعًا بإصرار من قبل شبح تشيلي وإعادتهم إلى الحظيرة، بينما تمكن آخرون من زعزعة الشبح والاختباء، في حين غيَّر آخرون أسماءهم وطرقهم، ونسيتهم تشيلي لحسن الحظ.
حينما كنت في الخامسة عشرة، في عام 1968م، غادرت تشيلي إلى المكسيك، بالنسبة لي في ذلك الوقت، كانت «مكسيكو سيتي» مثل الحدود، تلك الأرض غير الموجودة والواسعة حيث الحرية والاستحالة هي العملة الشائعة. على الرغم من كل ذلك لم يُمْحَ ظل وطني الأم قط، وفي أعماق قلبي الغبي استمر اليقين أن قدري كان يقبع هناك. عدت إلى تشيلي حينما كنت في العشرين للمشاركة في الثورة، بقدر كافٍ من الحظ السيئ حيث جاء الانقلاب بعد وصولي إلى «سانتياغو» بأيام قليلة واستولى الجيش على السلطة، كانت رحلتي إلى تشيلي طويلة، وأحيانًا أفكر لو أنني قضيت وقتًا أطول في «هندوراس» على سبيل المثال، أو انتظرت قليلًا قبل أن الإبحار من «بنما»، ربما كان الانقلاب ليحدث قبل وصولي إلى تشيلي ولاختلف مصيري تمامًا.
على أية حال، وبالرغم من المصائب الجماعية ومصيبتي الشخصية الصغيرة، أتذكر الأيام بعد الانقلاب كأيام كاملة، مكتظة بالطاقة، مفعمة بالإثارة الجنسية، الأيام والليالي التي يمكن أن يحدث بها أي شيء، ليس ثمة طريقة كنت أرغب أن يقضي ابني عامه العشرين بها، لكن ينبغي أيضًا أن أعترف أنه كان عامًا لا ينسى، تجربة الحب والسخرية السوداء والصداقة والسجن والتهديد بالقتل كانت مكثفة فيما لا يزيد على خمسة أشهر غير متناهية، كنت أعيش فيها حالة من الدهشة والإلحاح، كتبت خلال ذلك الوقت قصيدة واحدة، لم تكن بنفس القدر من السوء مقارنة بالقصائد الأخرى التي كتبتها في ذلك الوقت، وكلها كانت سيئة بشكل موجع، عندما انقضت تلك الأشهر الخمسة كنت قد غادرت تشيلي مرة أخرى ولم أعد إليها منذ ذلك الحين. كان ذلك بداية منفاي، أو ما يعرف عادة كمنفى، على الرغم من أنني لم أكن أراه على هذا النحو في الحقيقة. يعني المنفى أحيانًا ببساطة أن يخبرني التشيليون أنني أتحدث مثل الإسبان، وأن يخبرني المكسيكيون أنني أتحدث مثل التشيليين، ويخبرني الإسبان أنني أتحدث مثل الأرجنتينيين، إنها مسألة لهجات. إن المصائر التي اختيرت من قبل أولئك الذين ذهبوا إلى المنفى غالبًا غريبة، بعد الانقلاب التشيلي في عام 1973م، أتذكر أن عددًا قليلًا من اللاجئين السياسيين شقوا طريقهم إلى سفارات بلغاريا أو رومانيا على سبيل المثال، في حين كانت فرنسا وإيطاليا هي الدول المفضلة من قبل الكثيرين، وبالرغم من ذلك كما أذكر، فقد ذهب علية القوم إلى المكسيك والسويد أيضًا، وهما دولتان مختلفتان تمامًا بحيث إنهما ربما استقرا في اللاوعي الجماعي التشيلي كاثنين من مظاهر الرغبة المتناقضة، على الرغم من أن الكفة في ذلك الوقت كانت تميل نحو الجانب المكسيكي، وبدأ العديد ممن ذهبوا إلى المنفى في السويد العودة إلى المكسيك، فقد ظل غيرهم الكثير في ستوكهولم أو غوتنبورغ، وكنت أصادفهم حين كنت أقيم في إسبانيا كل صيف في الإجازة، وكان التحدث بالإسبانية مذهلًا على الأقل بالنسبة لي؛ لأنها كانت الإسبانية التي كنا نتحدث بها في تشيلي عام 1973م، ولا يتحدث بها الناس الآن في أي مكان سوى السويد.
المنفى خيار أدبي
والمنفى في معظم الحالات قرار طوعي، لم يجبر أحد توماس مان على الذهاب للمنفى، كما لم يجبر أحد جيمس جويس على الذهاب للمنفى، وبالعودة إلى أيام جويس، ربما لم يكن الأيرلندي ليهتم بالبقاء في دبلن أو الرحيل، أو أن يصبح كاهنًا أو يقتل نفسه، المنفى –في أفضل الحالات- خيار أدبي، على غرار خيار الكتابة، لا أحد يجبرك على الكتابة، يدخل الكاتب المتاهة طوعًا –لأسباب كثيرة بالطبع لأنه لا يريد أن يموت، أو لأنه يريد أن يكون محبوبًا… إلخ- لكنه لا يجبر على ذلك، في نهاية المطاف فهو ليس مرغمًا سوى بقدر ما كان السياسي مرغمًا على الخوض في السياسة، أو كان المحامي مرغمًا على دخول كلية الحقوق، مع ميزة عظيمة للكاتب عن المحامي أو السياسي حيث إن كليهما خارج بلدهما الأصلي يميلان إلى التعثر مثل سمكة خارج الماء، على الأقل لفترة من الوقت، في حين يبدو أن الكاتب خارج وطنه تنمو له أجنحة، ينطبق الشيء نفسه على مواقف أخرى، ماذا يفعل السياسي في السجن؟ ماذا يفعل المحامي في المستشفى؟ أي شيء إلا العمل، وفي المقابل ماذا يفعل الكاتب في المستشفى أو في السجن؟ إنه يعمل، بل أحيانًا يعمل أكثر من المعتاد، وناهيك عن ذكر الشعراء في ذلك الموقف، وبطبيعة الحال ربما يرتفع زعم بأن المكتبات في السجن ليست جيدة، وفي المستشفى لا وجود لها غالبًا، وربما يدفع في معظم الحالات بأن المنفى يعني فَقْدَ الكاتب لكتبه من بين خسائر مادية أخرى، حتى في بعض الحالات فقدان أوراقه ومسوداته ومشاريعه ورسائله التي لم تكتمل، وما المشكلة في ذلك، فأن تفقد المسودات أفضل من أن تفقد حياتك، على أية حال، فإن الفكرة تكمن في أن الكاتب يعمل أينما كان، حتى حينما يكون نائمًا، وهو ما لا ينطبق على المهن الأخرى، يمكن أن يقال: إن الممثل يعمل باستمرار، لكنه ليس بقدر الكاتب، فالكاتب يكتب وهو واعٍ للكتابة، في حين يكتفي الممثل بالنحيب، تحت تهديد السجن، رجال الشرطة دائمًا هم رجال شرطة، لكن ذلك ليس متشابهًا أيضًا؛ لأنه «أن تكون» شيء و«أن تعمل» شيء مختلف تمامًا، والكاتب يكون ويعمل في أي موقف، أما الشرطي فإنه يكون فقط، وينطبق الشيء نفسه على القاتل المحترف والجندي والمصرفي والعاهرة، ربما يقترب أي منهم في ممارسة مهنته من ممارسة الأدب.
الشاعر اليوناني أرخيلوخس من القرن السابع قبل الميلاد، هو خير مثال على هذه الظاهرة، حيث ولد في جزيرة «باروس»، وكان وفقًا للأسطورة من المرتزقة ومات في القتال، ويمكننا أن نتصور أن حياته انقضت في التجول في مدن اليونان. وفي أحد المقاطع التي كتبها، لا يتردد «أرخيلوخس» في الاعتراف بأنه في خضم المعركة، وربما في مناوشة، أسقط ذراعه وذهب يجري، التي كانت بالنسبة للإغريق عمومًا دون شك أكبر وصمة عار، ناهيك عن الجندي الذي يكسب قُوته اليومي من شجاعته في القتال، ويقول أرخيلوخس:
أحد ساكني جبال سايان
اصطدم اليوم بدرعي
فألقيته أرضًا خلف شجيرة وركضت
حينما حمي الوطيس
بدت الحياة بطريقة ما أكثر قيمة
لقد كان درعًا جميلًا
عرفت أين يمكنني شراء درع آخر
مثله تمامًا، بنفس الاستدارة
وقد كتب الباحث الكلاسيكي كارلوس غارسيا غوال عن أرخيلوخس: إنه اضطر إلى مغادرة الجزيرة التي ولد فيها ليكسب قُوته بحربته، كجندي مرتزق، عرف أن الحرب ما هي إلا عمل روتيني مجهد، ليس بوصفها مجالًا للأعمال البطولية، حظي بشهرة لنزعته التشاؤمية التي ظهرت في أسطر قليلة من النثر حكى فيها كيف هرب من ساحة المعركة بعد أن ألقى درعه بعيدًا، لقد كان انفتاحه على الاعتراف بمثل هذا العمل المشين لافتًا للنظر، في تكتيكات الهوبليت (مقاتلون في اليونان القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد)، الدرع هو السلاح الذي يحمي خاصرة الجندي، إنه رمز الشجاعة، شيء لا يمكن أن يفقد، «إما أن تعود بالدرع أو تهلك دونه» هذا ما كان يقال في سبارتا، جل ما كان يهتم به الشاعر الواقعي هو إنقاذ حياته، لم يكن يهتم بالمجد أو ميثاق الشرف.
ترجمة: عبدالله الزمّاي قاص ومترجم سعودي