كرنفال داعشي
تداولت وسائل الإعلام العربية والغربية منذ 2016م، خبر فرار أعداد كبيرة من مقاتلي «تنظيم داعش» من المعركة، وهو أمر يتعارض مع «السردية» التي سعى التنظيم إلى الترويج لها منذ سنوات. فقد صوّرت «الأدبيات الجهادية» الرجال التابعين لـ«تنظيم داعش» على أنّهم الأقدر على الفتك بـ«الطواغيت» والأكثر رغبة في طلب الشهادة. وأشاد علماؤهم باقتداء الشبّان المقاتلين بسير الصحابة والتابعين والغزاة والمناضلين بدءًا بعمر بن الخطاب وصولًا إلى عمر المختار. ولم تتوقّف صناعة الأبطال وتشكيل المتخيّل «الجهادي» عند هذا الحدّ إذ تكفّل الجهاز الإعلامي للتنظيم بصناعة الأفلام الوثائقية والأناشيد «الجهادية» التي تُخَلِّد ذِكر الأسود، وترسم ملامح الرجولة «المتوحّشة والمُرعبة» صاحبة الإرادة التي لا تعرف القهر والعزيمة الجبارة الكبرى تلك التي «تمزّق الطاغوت والكفر» ولا تهاب الموت.
ولكنّ الأخبار والفيديوهات المتداولة بشأن «الدواعش الفارّين» أقامت الدليل على زيف الخطاب الذي روّج له التنظيم وتهافته. فالذين عبّروا عن «شوقهم إلى الجهاد» ورغبتهم في «المنيّة»، وبكوا وَجْدًا وتاقوا إلى يوم يلاقون فيه حور العين سرعان ما ولّوا أعقابهم، وفروّا من المواجهة مُتجاهلين كلّ الموروث الذي تجمّع حول الفروسية وأحكام الجهاد وصفات الجنود وأخلاقهم وسلوكهم…. بل إنّهم لم يكترثوا بالنتائج المترتّبة عن الفرار قانونيًّا واجتماعيًّا ورمزيًّا. ولعلّ أشدّ عقوبة يواجهها المنهزمون تلك التي تسلّطها النسوان على الرجال. فقد تضمّنت كتب الغزوات والحروب أخبارًا تصف أشكال استهزاء النساء بأشباه الرجال والجبناء وممثّلي الرجولة الهشّة، وحوت كتب الأدب قصائد الهجاء التي تُدين الفارّين وتصوّر أساليب التعيير التي تعتمدها النساء لتأديب من تجرّد عن صفات الرجولة وارتمى في أحضان الأنوثة.
لم يكترث الفارّون من المعارك بما قالوه أو فعلوه طيلة سنوات، بل كان همّهم الأكبر النجاة حتى إن اقتضى الأمر تغيير الهيئة والظهور في هيئة النسوان. وبعد أن أرسى منظِّرو «تنظيم داعش» قواعد العيش في دولة الخلافة فحدّدوا أشكال حضور النساء في الفضاء الخارجي، ومعاملاتهن مع الرجال، وتشدّدوا مع كلّ من خالفت الأوامر ها هي فئة من الفارّين تُقبل على التنكّر في أزياء نسائية مبرّرها في ذلك أنّ أَضمنَ طريقةٍ لإنقاذ الحياة هي في التزيِّي بزيّ النسوان، وأنّ السلامة تقتضي إتقان الأدوار النسائية. ولا حرج في ذلك ما دامت الغاية تبرّر الوسيلة.
تعدد هيئات النساء
غير أنّ اللافت للانتباه في «كرنفال الهروب» نوع أقنعة التنكّر «التي اختارها عدد من الرجال الذين وعدوا بأنّهم «سيبقون ثابتين» وردّدوا طويلًا «حبّ الموت بالعزّ مرام». فبالاطلاع على عدد من الصور والفيديوهات ننتبه إلى أنّ الفارّين قد أقرّوا بتعدّد هيئات النساء، وميلهم إلى تنويع أزيائهم بالرغم من حرص رجال الخلافة الشديد على فرض الهيئة المنمّطة واللون الأسود الموحّد على جميع النساء. فهذا منهزِم يفضِّل النقابَ والعباءة، وذاك يُؤثِر الثوب الملوَّن، وذاك يبرز في الزي الباكستاني، وهذا يلبس الملابس الداخلية فيضع الصدرية، والآخر يريد أن تكون له عجيزة مكتنزة فيستعين بما وفّرته السلع الصينية من بضائع تفي بالغرض. والجدير بالذكر أنّ التنكّر لم يتوقّف عند التدقيق في اختيار الأزياء بل عثرنا على رجال يتقنون التبرّج وهم الذين أدَّبوا النساء على التشبّه بالمشركات والتغريبيات. (فيديو هروب الدواعش بملابس النساء في الموصل، بتاريخ 22 أكتوبر 2016م). وبين الملابس «الخليعة» وأحمر الشفاه وبودرة الخدين وتغيير أشكال الحواجب… ضاعت معالم الرجولة «الكاملة».
أمّا أطرف قصص الفرار فتتمثّل في تنكّر أحد الفارّين في هيئة عروس تزفّ في ثوبها الأبيض، وتسدل الستار على وجهها تعفّفًا وحياءً، وتحمل باقة الورد (فيديو لحظة القبض على أحد الدواعش وهو متنكر بزي عروس، بتاريخ 14 يونيو 2016م)، وكأنّ بالفارّ يشير إلى ما ترسّخ من تمثلات في المتخيّل الجمعي. ولكنّ فرحة المتنكِّر لم تكتمل إذ سرعان ما «وقع» في يد الجيش العراقي، فاستُقبل بالسخرية والفكاهة والتندّر والتهكّم بعد القبض عليه متلبِّسًا بتهمة التشبّه بالنسوان، هذا فضلًا عن التهم الرئيسية كالذبح والتحريق… وهكذا تولّى الجنود العراقيون وغيرهم من المشاهدين تأديب من ضحّوا بمبادئ الذكورة المهيمنة في سبيل حفظ حقّ الحياة (نعثر على تعليقات كثيرة في هذا الصدد في فيديو بُثّ بتاريخ 25 مايو 2016م).
ولمّا كانت حفلات الكرنفال في الساحات العامة قائمة على طقوس وشعائر هزلية، فقد رضخ الفارّون لقوانين الجنود فحُلق الشعر الطويل أمام أعين المارّين بطريقة عنيفة تُذكِّر بتضحيات سابقة. فقد تخلّص أغلب رجال «التنظيم» من الشوارب واللحى التي طالما اعتنوا بها تهذيبًا وتخضيبًا، وكذا فعل بعضهم بالشعر الذي كثيرًا ما تباهى به «أبطال الخلافة». وإذا اعتبرنا أنّ الكرنفال هو فعل تحرّر من القيود وانبعاث مخبر بولادة جديدة، فإنّ طقوس التشفّي من الذي خان مقتضيات الرجولة تهدف إلى إهانته وإذلاله. وما دام التصوّر الكرنفالي يجيز استعمال الكلام البذيء وقاموس الفحش فلا مشاحة من توجيه الكلام النابي إلى الفارّين وتأنيث أسمائهم (من داعشي إلى داعوشة) ومناداتهم بأسماء تطلق على النساء إمعانًا في إذلالهم. وليس أشدّ على الرجل الذي أبدى كرهًا للنساء واحتقارًا للأنوثة من أن يتموقع بعد إلقاء القبض عليه في مكانة المرأة التي تنسب لها الثقافة مجموعة من الصفات السلبية كالجبن والضعف… وتعكس الأغاني التي انتشرت بشأن هؤلاء المتنكّرين مدى انتشاء القوم بالاستهزاء والسخرية اللاذعة من أشباه الرجال. فهؤلاء «أسود الخرافة الداعشية جبناء يهربون من الشهادة بملابس نسائية» وعندما يمسك الجنود بهم فإنّهم يكونون في «ملابس نعجة تركض وراءها الطليان»، (فيديو الدواعش: أغنية «العب بيها يا بوجحيشة»، بتاريخ 25 يونيو 2016م).
ولئن ادّعى المنتمون إلى تنظيم داعش أنّهم يعملون بالكتاب والسنّة ويطبقون الشريعة بصرامة، وأنّهم خير ممثّلين للإسلام والرجولة الكاملة، فإنّ تصرفاتهم زمن التحقّق من الخطر الداهم تكشف النقاب عن أشكال التصرّف في المرجعيّة وفق السياق. فقد أدّب فقهاء التنظيم من تشبَّه بالنساء مستندين في ذلك إلى حديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال. (صحيح البخاري). ثمّ إنّ المسؤولين عن الحسبة عاقبوا كلّ من حلق لحيته وشاربه ولم يقصّر ملابسه، ولكنّهم اليوم يتجاهلون حكم النهي أو التحريم وكلّ الحجج التي قدّموها.
هيمنة التمثلات الاجتماعية
تنمّ «حفلات» تأديب الرجل – المقاتل الذي تقمَّص شخصية المرأة عن هيمنة التمثلات الاجتماعية الخاصة بالأنوثة – الذكورة واستمرار المجتمعات المحافظة والتقليدية في تبخيس الأنوثة في مقابل إشادتها بالرجولة المهيمنة. وليس العنف اللفظي والمادي المسلّط على المتنكرين في زيّ النسوان إلَّا علامة دالة على أنّ المجتمع لا يرحم من تعدّى الحدود الجندرية (المتعارف عليها بين الجنسين)، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يضحّي الرجل بشرف الذكورة وتعاليها، وأن يقبل بالتخلّي عن امتيازات الرجولة. إنّ الموت أهون بكثير من التماهي مع النسوان: ناقصات العقل والدين، وحبائل الشيطان وصاحبات الكيد.
وبالرغم من إيمان المجتمع الذكوري بهذه التصوّرات فإنّ للحظة الحاسمة قوانينها. فعندما يمتلك الرعب قلب المقاتل يرتدّ إلى حضن أمّه، فيتماهى مع الأنوثة زيًّا ومشاعر، وهي مشاعر تتجاوز الحدود الجندرية الصارمة التي تمنع الرجل من إبداء الخوف والخور والانكسار وتقيّده بمجموعة من القيود والأدوار… إنّ لحظة الانكسار تجبّ ما سبق… تقفز على المعايير والقيم والنظام، وتؤكّد بما لا يدع مجالًا للشكّ على أنّ الرجولة رجولات وهي مسار من الاختبارات ولها صولات وجولات.