علي فخرو: البترول فرصة تاريخية كبيرة أضاعها الخليجيون.. علي القميش
أوضح المفكر العربي علي فخرو أن بناء الدولة العربية على أسس حديثة لم يتم حتى الآن؛ ما دفع بالإنسان العربي إلى التوجه إلى القبيلة أو المذهب. ويلفت إلى أن الأفكار القوميّة والليبراليّة تراجعت، ما أوجد نوعًا من الفراغ في الحياة السياسية العربية، ليأتي الإسلام السياسي ويحتله. وقال فخرو في حوار لـ«الفيصل»: إن الصراع الطائفي في المنطقة الآن له تأثيراته البالغة في تفكير الشباب، الذين لا يفكرون في العدالة الاجتماعية أو في حرية الإنسان، أو في المواطنة أو الدساتير أو القوانين، إنما في قضية الشيعة والسنة. وذكر أن العرب ليس لديهم عقد اجتماعي ينصُّ وينظم العلاقة بين المواطنين بالتساوي، مشيرًا إلى أن أكبر إهانة توجه للشعب العربي هو القول بأنه ألعوبة في أيادي كل من هب ودب، وأن ما حدثَ في الربيع العربي هو زخم تاريخي حقيقي. وأكد أن دول الخليج أضاعت فرصة تاريخية كبرى تتمثل في البترول، مشددًا على اتحاد دول الخليج ومعهم العراق واليمن إذا ما أرادت علاقة أخوية وندية مع إيران.
● ربما تكون من بين أكثر المراقبين لما يحدث في الشرق الأوسط تحديدًا من بزوغ ظواهر مثل: «التوحش»، و«التطرف» وتفلت «الكراهيات»، مفردات بزغت في السنوات القليلة الماضية في منطقة الشرق الأوسط، ومن خلالها عاشت المنطقة سلسلة من الصراعات القاتلة قادتها تنظيمات كــ«داعش» أو ما يسمى «بالدولة الإسلامية»، و«النصرة»؛ كيف تقرأ تلك الظاهرة؟ وما الذي جعلها تتسع بهذا الشكل الخطر في منطقتنا؟
■ باعتقادي تلك هي أخطر ظاهرة تواجه الأرض العربية والإسلامية في هذا القرن، ولا أعتقد أنها قد واجهت إمكانية تدمير كما هي الآن، ليس تدميرًا وحسب، إنما أيضًا وضعها أمام العالم موضع الخطر الدائم. حين تراقب ردود الفعل المتعددة لوصول ترمب لمنصب الرئاسة، وقراراته العجيبة، أوربا وترددها، اليمين الأوربي الذي يزداد قوة وتوحشًا ودائمًا يستعمل ورقة الإسلاميين ويشير إلى الإسلاميين المتطرفين العنيفين الإرهابيين؛ فالتأثيرات هائلة وإذا استمرت لمدة طويلة في اعتقادي أنها ستكوّن أخطارًا رهيبة على هذه المنطقة كلها، لهذا السبب أصبحت الإشكالية الآن معقدة كثيرًا، ويمكننا النظر إليها على مستويين؛ المستوى السياسي، والمستوى الثقافي.
في الواقع السياسي نحن أمام ظاهرة تتقلب وتتغير حسب الظروف، بدأت بكونهم أفغانًا يحاربون ضد الاتحاد السوفييتي الملحد من أجل الديمقراطية الغربية العظيمة، استعملت تلك المشاعر والحركات الشبابية بخبث شديد من قبل CIA… والقصة معروفة، لكن الانتهازية الأميركية لا يمكنها التوقف عند حد. سقط الاتحاد السوفييتي؛ هل تتوقف هناك؟ بالطبع لا، فهي تريد استعمالهم بكل الأنواع، جاءت فرصة العراق؛ احتلال العراق والمقاومة وسمح بصورة مؤكدة لهذه الحركة أن تنتقل من أفغانستان إلى العراق، وهناك القصة أيضًا معروفة، كيف تطورت إلى أن وصلت إلى مرحلة الاستيلاء على أراضٍ كثيرة، ثلث العراق تقريبًا، حتى تعقدت الأمور وتداخلت معها بعض الدول الأوربية. ولا شك أن للاستخبارات الإنجليزية دورها أيضًا، حتى أصبحت بعد ذلك لعبة في يد بعض الدول العربية، بعض دول الخليج من المؤكد أيضًا أنها دخلت في اللعبة من أجل أن تستعمل هؤلاء، واستُعمِل هؤلاء في سوريا، والآن يُستعمَل هؤلاء في ليبيا ومن قبلهم استعملوا في اليمن وهلم جرًّا، والآن من الممكن أن تتمدد إلى أماكن أخرى كلما أرادوا أن يتدخلوا أو يسقطوا نظامًا معينًا يستعملون الأسلوب نفسه، إذن الآن هؤلاء أصبحوا جزءًا من ظاهرة عالمية بالغة التعقيد؛ فيها استخبارات، وفيها حكومات، وفيها أموال هائلة، وفيها شركات تلعب أدوارًا من أجل أن تبيع السلاح، يطلبون السلاح وبعض الدول تدفع الثمن.
إذن من الناحية السياسية إنهم يكوِّنون فعلًا كتلة حرجة وخطرة جدًّا، الإشكالية الآن أن هؤلاء إن هُزموا في الموصل وفي الرقة وأُخرجوا من العراق أو ما عاد لهم وجود على الأرض، فإن علينا الوقوف أمام ظاهرة الذئاب الفردية التي ستنتقل بعد ذلك لتكوين جماعات صغيرة لا تلتزم بقيادة واحدة، بل بقيادات وأشكال مختلفة، وفي هذه الظاهرة لا بد من الالتفات إلى توجيهات داعش لشبابها وعناصرها، ومن الممكن أن ينطبق هذا أيضًا على الآخرين، بضرورة أن يهيئوا أنفسهم لحلق اللِّحى وارتداء اللباس الغربي، واستخدام العطور المشبَّعة بالكحول؛ كي لا يكونوا عرضةً للشك إطلاقًا، فيسهل ترتيب أمورهم وانقضاضهم بين الحين والآخر، يفجرون هنا ويقتلون هناك، هذي الظاهرة الأخيرة هي أخطر ما في الموضوع؛ لأنها لا تنتهي، تستطيع أن تستمر لأمدٍ بعيد. وهناك دائمًا مجموعات من الشباب الذين يسهل اللعب بعقولهم وخديعتهم ليُجَرُّوا لمثل هذه المصيدة.
السؤال الآن: هل الأسباب فقط سياسية مختزلة في أن الغرب عندهم مشاكل، وهؤلاء الشباب يريدون أن يحرروا هذه الأرض من الرِّبْقة، هذا الكلام غير صحيح؛ لا هؤلاء معنيون بإخراج الاستعمار، ولا معنيون أيضًا بإسقاط الصهيوني في فلسطين. فلننظر الآن إلى الجانب الثقافي؛ فهذه الظاهرة لا يمكن أن تجتث فقط ما له تأثير بالجانب الأمني أو السياسي أو وجود تحالفات بأشكال مختلفة، هؤلاء من المؤكد أنهم يستندون إلى خلفية ثقافية إسلامية، وهي خلفية لها تاريخ طويل جدًّا، ومع الأسف الشديد، إنها ظاهرة قراءة فقهية وقرآنية خاطئة، وبالتالي لا بدّ لنا الآن أن نسأل: هل نحن قادرون على أن ندخل في حركة إصلاحية للمجال الديني؟ أنا لا أقول حركة إصلاحية للقرآن أو للوحي الذي نزل لكنها حركة إصلاحية تتوجه إلى ثلاثة أشياء: الشيء الأول هو علوم الحديث، وهي علوم اندست فيها ألوف الأحاديث ضد الإسلام والإسرائيليات وغيرها، وهذه يجب أن تواجَه. لا نستطيع القول: إننا لا نعرف ما الصحيح وما الخطأ، الخطأ هو كل ما يعارض ما جاء في القرآن الكريم، وما يعارض المقاصد الكبرى للإسلام، والخطأ هو كل ما يمس شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يتكلم عن الغيب وهو لا يعرف الغيب، ما يتكلم عن أمور من الواضح جدًّا أنها أدخلت الصراعات السياسية السابقة: الشيعة والسنة والإباضية، هذا كله وأكثر.
الشيء الثاني ما يتعلق بعلوم الفقه؛ الذين اجتهدوا في كلّ المدارس الفقهية كانوا بشرًا: جعفر الصادق بشر، وأبو حنيفة بشر، والشافعي بشر، وغيرهم جزاهم الله خيرًا لأنهم اجتهدوا من أجل أن يوجدوا حلولًا لأوضاع مختلفة عن أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا شيء صحيح لكنهم كانوا يستعملون علوم عصرهم، وأفكار عصرهم، وظروف عصرهم. الظروف الآن كلها تغيرت، لا يمكن القول بأنّ ما قاله الشافعي أو جعفر الصادق يجب أن يؤخذ به اليوم، الذي يجب أن يؤخذ به هو وجوب إيجاد حركة إصلاحية تقرأ الفقه من جديد، وتقرأ علوم الأحاديث من جديد، وتضع ارتباطًا وثيقًا بين هذا المجال الديني الإسلامي وبين علوم العصر، هناك تحولات كبرى في اللسانيات وفي الأنثروبولوجي، وفي قراءة التاريخ، وفي طرق النقل، وفي قراءة الكلمة وإلى آخره، ونحن ندرك ذلك كله، ولا نستطيع أن نتجاهل وتقول: لا، ما قاله السلف هو الشيء الصحيح، هذه القضية في اعتقادي هي أكبر تحدٍّ، إيجاد حركة إصلاحية للمجال الديني؛ كي لا يجد الشباب أنفسَهم متخبطين تُدسُّ في عقولهم ادعاءات منسوبة إلى المقدَّس فيأخذون بها ويعملون بها، تلك قضايا معقدة تحتاج في تفكيكها لساعات طوال.
سقوط المشروعين: الناصري والبعثي
● كلامك يتقاطع مع الرؤية التي تذهب إلى أن حركات التطرف في منطقة الشرق الأوسط ودوائر التوحش ما هي إلا صناعة استخباراتية، ولكن هناك أيضًا استثمار لدوائر الجهل في المنطقة سواء كانت دينية أو ثقافية، ترى هل يعاني خطابنا العربي بشكل عام والديني بشكل خاص ضمورًا خطِرًا في مكوّناته الثقافية الحقيقية، بحيث أصبحنا كما أشرتَ في حديثك أننا بحاجة إلى إعادة صياغة المكوِّن الثقافي والعمل على ترميمه؟
■ هناك ضمور في الثقافة السياسية؛ يعني في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي، أو حتى الأربعينيات ظهر الفكر الحديث السياسي المتعلق بالدولة وبالقومية وبالوطنية وبالدساتير، بدأ ينتعش شيئًا فشيئًا، السقوط المذهل للمشروع القومي وتوحيد الأمة العربية وغيره، ولنكن أكثر وضوحًا؛ مشروع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في مصر، ومشروع حزب البعث الذي نشأ في سوريا وفي العراق، الجميع فشل لأسباب كثيرة لا يمكن الخوض فيها. لا الرئيس عبدالناصر استطاع أن يحقق تلك النظرة؛ قضية الوحدة والحرية والاشتراكيّة، ولا حزب البعث استطاع أن يحقق ذلك، وضيّع الاثنان مناسبات كثيرة جدًّا بسقوط المشروع القومي. حزب البعث ارتكب حماقات لا أول لها ولا آخر ويجب أن يقرّ بذلك، يكفي أن نذكر مثلًا واحدًا لفشل حزب البعث، أولًا عندما وقف مع انفصال سوريا عن مصر ارتكب جريمة كبرى بحق، وعندما كان يحكم سوريا والعراق كان يستطيع أن يوحّد سوريا والعراق في دولة قوية، أقوى دولة عربية، وأغنى دولة عربية، وأقدر دولة عربية، وأكثرها نموًّا في الزراعة وفي الصناعة وفي العلم، إنما لم يفعل ذلك!
مع الأسف فإنّ الشعارات التي رفعت لم تطبّق، ولم يؤخذ بها، ودخل حزب البعث في المغامرات العسكريّة والأمنيّة، إذن ذلك السقوط السياسي رافقه مباشرة سقوط ثقافي سياسي، تراجعت الأفكار القوميّة، وتراجعت الأفكار الليبراليّة، ووجد نوع من الفراغ في الحياة السياسية العربية، هذا الفراغ احتلّه الإسلام السياسي، تم ركن الفكر القومي، والفكر الليبرالي، وكذلك الفكر الاشتراكي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وإذا هناك فراغ هائل في الساحة السياسية والثقافية العربية ملأها الإسلام السياسي، الذي مع الأسف له إشكالياته؛ منها إشكالية عدم قدرته على أن يقرأ قراءة حديثة لمنطوق الوحي من جهة، وقراءة حديثة للتراث الفقهي والتراث الحديثي من جهة أخرى، والنتيجة رأيناها عندما استلم الإخوان المسلمون الحكم في مصر، كيف تخبطوا وأضاعوا فرصة العمر… لا بدّ من النظر الآن إلى العمل السياسي الإسلامي في تونس الذي تعلم درسًا وما زال يحاول، وبالفعل ما زالت لدى حزب النهضة في تونس محاولات لتطوير الفكر السياسي الإسلامي، بحيث يتعايش أكثر مع العصر الحديث، لكنه تطوير محدود وتونس بلد صغير لا يمكن أن يؤثر كثيرًا، كان المؤمل على الحركة الإسلامية السياسية في مصر أن تقود ذلك.
● هل هناك فراغ ثقافي؟
■ هناك نوع من المأساة الثقافية الحقيقية في داخل الأرض العربية، لماذا؟ ما أردناه نحن كان بتفكيرٍ ذاتي، فكر حزب البعث كان تفكيرًا ذاتيًّا عربيًّا، والرئيس جمال عبدالناصر حركته كانت بتفكيرٍ ذاتيٍّ، والإسلام السياسي كان من المفترض أيضًا أن يكون ذاتيًّا، إنما الآن دخلت علينا ثقافات أخرى لها تأثيراتها البالغة؛ ثقافة العولمة هي ثقافة جديدة تُشدّد كثيرًا على الفرديّة إلى حدّ أنها تمحو المجتمع في حياة الإنسان، وتمحو العائلة في حياة الإنسان، تشدد على الاستهلاك النهم الدائم، تشدد على الجانب الاقتصادي البحت في حياة الإنسان، بل الجانب المالي البحت، وقد أوجدت الآن وضعًا ثقافيًّا اقتصاديًّا وسياسيًّا بالغ التعقيد، وهو محلّ انتقاد شديد في الوقت الحاضر. كل هذه الأمور طبعًا لها تأثيراتها البالغة على شباب الأمة العربية، فهم الآن في حالة ضياع وتيه في فوضى هذا الفكر العولمي الذي لا يستطيع أن يحل إشكالياتك المحليّة، هو يخدم مصالح واضحة المعالم للدول الرأسمالية الكبيرة الغنية والشركات الكبيرة، أما أنت بوصفك فردًا فلا. اليوم يشهد الغرب أيضًا حركة تمرّد بالنسبة للفكر العولمي، وهناك نقطة لا بد من الدخول فيها؛ الصراع الطائفي في المنطقة الآن له تأثيراته البالغة في تفكير الشباب فهم لا يفكرون في العدالة الاجتماعية أو في حرية الإنسان، ولا في المواطنة أو الدساتير أو القوانين؛ لأنهم ببساطة مشغولون جدًّا بقضية الشيعة والسنة.
● في هذا السياق الخطاب الطائفي الذي استشرى في منطقتنا وتحركت مفاعيله بالشكل المزعج والكارثي عائد بالدرجة الأولى لغياب الدولة العربية العادلة؟
■ تمامًا… الذين يسكنون في دولة ما إذا هم شعروا بأن الدولة تحميهم من خلال القوانين والدساتير والتوزيع العادل للثروة والمساواة وتكافؤ الفرص، لن يحتاجوا إلى ارتباطاتهم الفرعية لتحميهم؛ لأن الدولة تحميهم.
● وهنا، أي في غياب الدولة، يرتد الفرد إلى الجماعة…
■ تمامًا… عندما يشعر بأن الدولة لا تحميه فليس هناك مواطنة متساوية، ولا تكافؤ فرص، فإلى أين يتوجه؟ هو وحده لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، يلجأ إلى انتماءاته الفرعية: الانتماء القبلي، والمذهبي، والديني، فهناك أيضًا أديان أخرى، وقد يكون الانتماء الحزبي؛ لأن الحزب أيضًا يحميني، لكن الحياة الحزبية في الأرض العربية تكاد تلفظ أنفاسها، ما عادت موجودة. إذن الإنسان يتوجه أكثر ما يتوجه إلى القبيلة أو المذهب الطائفي من أجل أن يحميه، أعطني في أي مكان في الأرض العربية أعطني قوانين عادلة، وأعطني نظامًا ديمقراطيًّا معقولًا يشعر فيه الإنسان بأن هناك أملًا في أن أمتنع من انتخاب حكومة ظلمتني، الحزب الذي يمثّلها في البرلمان لا أنتخبه، حينئذٍ لا حاجة لأن يستعمل العنف أو يتوجه إلى أيّة جهة لتحميه، هو قادر بصوته أن يُحدث فرقًا كبيرًا جدًّا، لكننا للأسف لا نمتلك مثل هذه الوسائل والطرق التي يتوجه لها الإنسان فيضطر لأن يلجأ إلى العنف، إذن القضية هي أن بناء الدولة العربية على أسس حديثة لم يتم حتى الآن، وما لم يتم ذلك فالإنسان العربي سيذهب ويتوجه إلى قبيلته أو مذهبه أو إلى عرقه.
إرث استبدادي
● ما الذي يمنع قيام الدولة العادلة؟ من خلال مسار التاريخ تجد أن النخب الحاكمة في المناطق العربية تُبقي على تلك النتوءات التي تضع طائفة ما في مقابل طائفة أخرى، وهل أنت مع من يذهب إلى أن السلطات تعمل على استثمار تلك النتوءات لصالحها؟ وهل هي فكرة صحيحة أصلًا للحكم هو أنني متى ما زرعت تلك الفرقة سيدوم عمر الحكم لدي؟
■ أولًا أنت تسأل لماذا، لأننا نمتلك إرثًا تاريخيًّا استبداديًّا، بعد سقوط الفترة الراشدية التي هي محاولة لأخذ رأي الناس في الحاكم الذي سيعين، حتى لو كان ذلك بشكلٍ محدود، حتى جاء الحكم الأموي وظهر (الملك) والمُلْك، استمر هذا معنا منذ ذلك الوقت، إنه ما يسميه محمد عابد الجابري عقلية الغَلَبة؛ الذي يغلب هو الذي يحكم، الآن الغلبة قد تكون لقبيلة أو لعسكر وقد تكون لأجانب من الخارج. الأرض العربية حكمت من قبل الأتراك لمئات السنين إذن كان حكم الغلبة، من يستطيع ومن لديه القوة هو من يحكم، حسنًا، لديك هذا الإرث كيف يمكنك تغييره إلى نظام وأن الدولة هي ملكك أنت؟ ليست رعية وراعيًا، أنت مواطن وفكرة الرعية هي نفسها فكرة قديمة ربما كان لا بأس بها في زمانها، لكنها ما عادت صالحة، مع ذلك نجدها باقية مترسخة حتى اليوم، هذا ما يتعلق بتاريخك. إذن تاريخك يؤدي إلى الاستبداد، انقساماتك التي تحدثنا عنها تؤدي إلى الاستبداد، ثم أنت بالفعل مستهدف من الخارج وليس في ذلك ذرّة شك، يكفي أن نذكر سايكس بيكو، التي قسمت البلاد العربية وجزأتها ووزعتها بخطوط. جلس مستر سايكس ومستر بيكو وتقاسموا الأرض، كانت البلاد العربية بلادًا واحدة واليوم الوجود الصهيوني داخل البلاد العربية يقول بالحرف الواحد بأننا لا يمكن أن نعيش إلا إذا ظلت البلاد العربية مقسّمة، ولا يقف الأمر عند التقسيم، بل تقسيم المقسّم، حتى العراق يجب أن يصبح ثلاث دول، وسوريا خمس دول، ومصر وغيرها، لن يسلم أحدٌ من هذا الأمر في ظلّ هذه الظروف. الإرث التاريخي والوضع الداخلي نفسه المبني على الغلبة لا على الشرعية الديمقراطية، أن أنتخبك يعني أنّ بيني وبينك عقدًا اجتماعيًّا، نحن في الأرض العربية ليس لدينا عقد اجتماعي ينصُّ على أنّ (أنا وأنت) سنعيش في هذه الدولة مستندين لأسس محددة، هناك دستور وقوانين وكذا وكذا، هناك انتخابات وتعددية، نحن نفتقر لكلّ ذلك، إذن كل تلك الأمور هي التي أدت إلى أن الدولة العربية تصبح دولة ضعيفة وفاسدة في داخلها، مع الأسف.
● في هذا السياق، سياق تدخُّل الخارج في شأن المنطقة، ماذا عن الثورات العربية، الربيع العربي، هناك من يرى أنها تأتي في سياق صراع السيطرة، وأنها نتاج تلك المقدمات التي صاغتها فكرة الفوضى الخلاقة وفكرة صناعة جغرافيا مغايرة للمنطقة، سأذكر في سنة 2005م حين تحدثت كونداليزا رايس عن الشرق الأوسط الجديد، وعندما فشل في أعوام قريبة (2012م)، أيضًا مدير الاستخبارات الفرنسية، قال في مؤتمر بواشنطن: إن دولًا عربية مثل العراق وسوريا لن تستعيد حدودها السابقة أبدًا؛ هل الربيع العربي في حقيقته هو نتاج مطالب أبناء المجتمعات العربية بشكل خالص، أم هو صنيعة؛ كي يصلوا إلى ما تحدثت عنه من تقسيمات؟
■ أعتقد أنّ أكبر إهانة توجه للشعب العربي هو القول بأنه ألعوبة في أيادي كل من هب ودب، ما حدثَ هو زخم تاريخي حقيقي في المجتمعات العربية التي ملت الاستبداد والفساد والظلم، ملّت التوزيع المزعج للثروة المعنوية والمادية ولا شك في ذلك أبدًا، لنأخذ مصر مثلًا، المصريون ملوا من حكم كان فاسدًا واستبداديًّا، تونس أيضًا، وقِسْ على ذلك، لكن مع الأسف الشديد، فتلك الثورات الرائعة التي أبهرتِ العالم، وأعتبرها نوعًا من الثورات التي لم يمارسها أحد قبل العرب، اعتماد وسائل التواصل والزخم والإصرار اليومي إلى أن يسقط النظام، مثلما حدث في تونس وفي مصر، أسقط جهدها ثلاثة أشياء؛ الشيء الأول هو قلة خبرة من قاموا بهذه الثورات من الشباب، فلم تكنْ لديهم الخبرة الكافية في الحياة السياسية، والدليل على ذلك في مصر وغير مصر أنّ الشباب بعد سقوط النظام لم يسعوا لأنْ يتضافروا، ويكونوا أحزابًا وحركات جديدة، بل انقسموا وتوجهوا يمينًا وشمالًا، هذه إذن قلة الخبرة. الشيء الثاني لا شك أبدًا في أنّ الخارج قد خاف مما يجري، القول بأنه كان يرحب بالأمر هذا غير صحيح، كان هناك خوف من أن تدمّر تلك الثورات كل المصالح الموجودة للخارج في الداخل، وبالتالي ترك تدخلاته هنا، نوع التدخل يختلف لأنه يعتمد على هذه البلاد وتلك، هذه الجماعة والجماعة الأخرى. والجانب الثالث هو أن هناك ثورات مضادة؛ بمعنى أنك اليوم تمتلك قوة كبيرة جدًّا كانت مترسخة، عندها قدرات مالية وقدرات اقتصادية، وقدرات عسكرية وأمنية استطاعت أن تسترجع أنفاسها بعد الصدمة الجديدة في أول سنة، وتلملم نفسها، وتعود وتهجم مرة أخرى والنتيجة كما ترى…
لكنّ السؤال: هل انتهت؟ أنا في اعتقادي أن ما بدأ في سنة 2011م سيستمر في الانفجار بين الحين والآخر إلى أن يصل إلى مرحلة معينة من الاستقرار عبر عشرات السنين في المستقبل، الذين يعتقدون أن المجتمع العربي مات وانتهى أمره، ووصل إلى مرحلة، ولن يعود مرة أخرى هم مخطئون جدًّا، تاريخ المجتمعات العربية تاريخ مليء بالحركات الثورية، مليء بالمحاولات سواء على مستوى الاستقلال الوطني من قبل، أو بالنسبة للثورات على أشكال من الخلافات. الخلفاء، أمراء المؤمنين هنا وهناك، والشعب العربي من أكثر الشعوب التي ضحّت بملايين من البشر في ثورات مختلفة، يكفينا مثلًا الجزائر التي دفعت أكثر من مليون شخص ثمنًا لحريّتها، إذن هذا الشعب ليس من الشعوب غير المستعدة لتقديم نفسها من أجل الاستقلال ومن أجل الحريّة ومن أجل المبادئ التي يؤمن بها، إنما نحن الآن مثل كل الثورات تصعد وتنزل، ثم تبدأ في الصعود من جديد، ولا أشعر بالخوف من أن لها عودة في المستقبل، النقطة المهمة أنّ الدول الكبيرة هي القادرة على جرّ القاطرة العربية، دول صغيرة ليس لها حول ولا قوة، اليوم مثلًا بالرغم من النجاح الكبير الذي حققته تونس مقارنة بالآخرين لكنها بوزنها الصغير جغرافيًّا وسياسيًّا لم تكن فاعلة في التغيير العام، تصور لو أن هذا النجاح قد حدثَ في مصر، لكان الوضع العربي اليوم مختلفًا تمامًا بسبب ثقل البلد، فأنا أعتقد بأن القول استهزاءً بأن الربيع انقلب إلى خريف هذا كلام فارغ، هذا الربيع نفسه هو الربيع، ولكن تعتريه عواصف وشح في المطر وبالتالي يعاني، إنما هو ربيع وسيأتي وقته.
● هناك ما يشي بأن الآخر الغربي دائمًا ما يكون مدفوعًا لأن يقسم العالم لمصالحه؟
■ ليس هناك ذرة من الشك في أن الخارج يلعب دورًا، وما من شك في أنّه لا يريد لهذه الأمة أن تتوحد، يخاف من توحدها، ويريد أن يبقيها ممزقة، الآن وسابقًا كنا نقول: إن الإنجليز والفرنسيين أساسًا لا يريدون لهذه البلاد أن تتوحد، اليوم دخل عنصر ثالث بالغ الخطورة وهو العنصر الصهيوني، ولك أن تقرأ الكثير من كتاباتهم وأقوالهم التي تشير إلى استعدادهم التام إلى نسف وتدمير أي عنصر قد يستشعرون منه خطرًا ما ولو في المستقبل البعيد جدًّا، وقد يفسّر لنا ذلك كيف دمروا إمكانية القدرات الذرية في العراق سابقًا بمجرد بدء التفكير فيها، ودمروا اتحاد مصر وسوريا وساعدتهم دول عربية في تدمير ذلك، ومنعوا أي نوع من الاتحاد الجدّي، ويدخلون دائمًا في قضايا إذا ما تعلّق الأمر بذلك، إذن على المستوى الخارجي لا توجد ذرة من الشك، لكن السؤال الذي يجب أن أطرحه؛ أنا شخصيًّا لا يهمني ما يريده الخارج، أو ما يفعله وليس في يدي أن أغيره أو أحركه، ما في يدي هو الداخل، هل نحن الآن نبني حركة أو تيارًا على مستوى الأرض العربية كلها متماسكًا متناغمًا بعضه مع بعض، يفكر ضمن إستراتيجية في حدها الأدنى على الأقل؟ إستراتيجية مشتركة من أجل أن يقف ضد الخارج وتدخلاته، من أجل أن يقف ضد الاستبداد الداخلي، من أجل أن يدفع نحو مزيد من الديمقراطية ومزيد من العدالة.
هذا ما لا يحدث للأسف، واللوم هنا علينا نحن الشعوب العربية، فأنت لا تستطيع أن تمنع الخارج إلا إذا تمكّنت من حلّ مشكلة ضعف الداخل، طالما أن لديك أنماطًا لا حصر لها ولا عدّ من الضعف الداخلي، على سبيل المثال فلننظر إلى الصراع الطائفي، الطائفيون هم الذين يذهبون إلى الخارج ويستعينون به، وهذا معروف فهناك حركات شيعية وسنية وليبرالية أيضًا كلها تستعين بالخارج، حتى أولئك الذين ينضمون لجماعاتهم على أسس عرقية مثل الأمازيغ والأكراد وغيرهما، كلهم يتوجهون إلى الاستعانة بالخارج، لماذا؟ لأنك أنت ضعيف، وبالتالي هم يتوجهون للخارج ويستفيدون من ذلك، فالقضية الأساسية هي أنك إن لم تَسِر ضمن حركة ما يسمى بالكتلة التاريخية إذا لم يكنْ هناك كتلة تاريخية حقيقية تنطلق منها وتعود إليها، يعني جمال عبدالناصر حاول أن يبني تلك الكتلة التاريخية، حزب البعث حاول أن يبني تلك الكتلة التاريخية لكنهم لم يعرفوا كيف يبنونها، وبالتالي كيف تستمر، ما يجب الالتفات إليه الآن في الأرض العربية هو: هل نستطيع أن نبني كتلة تاريخية تخرجنا من هذا الجحيم الذي نعيشه أم لا؟ هذه قضية لا أنا ولا أنت نستطيع أن نجيب عليها، مَنْ سيجيب عليها هم من فجروا تلك الثورات منذ خمس سنوات، ثم غلبوا على أمرهم، هل يستطيعون العودة من جديد لتفجير ثورات جديدة وحركات جديدة؟
إيران والخليج
● في سياق سابق تحدثتَ فيه عن خطر إسرائيل… الآن في منطقة الخليج العربي هناك إيران في قبالة دول الخليج والمنطقة، ومن خلالها برزت عناوين كثيرة مثل: صراع السيطرة على مفاصل حيوية في المنطقة كمضيق هرمز، والحرب من أجل استعادة الشرعية في اليمن، كيف تقرأ ما يحدث الآن؟ وهل بإمكان الصراع أن ينتج شيئًا إيجابيًّا في مستقبل المنطقة؟
■ أولًا أنا أعتقد أن مشكلتنا في الخليج هي أننا لا نضع إستراتيجيات طويلة المدى بالنسبة إلى موضوعات مثل: علاقة الدول العربية في الخليج بإيران، والفكر الإستراتيجي يقول ما يلي: إيران هي نصف الخليج؛ سكّانًا ضعفَا الخليجِ، اقتصادًا لا تقل عن دول الخليج، لديها البترول، بل أكثر فلديها إلى جانب البترول الزراعة والصناعة وعندها كل شيء، هذا هو الواقع الجغرافي، في الطرف الآخر هناك واقع تاريخي، قضية الإسلام وعلاقة إيران بالإسلام، هي دولة إسلامية بغض النظر عن قصة المذهب، فهذه ليست قضية كبرى. أرى أنه كان من المفترض من دول الخليج أن تتحد؛ إذا كانت تريد أن تكون علاقتها أخوية لكن نديّة مع إيران. وكثيرًا ما كتبت وقلت: إنه ليس فقط اتحاد الدول الست بل معهم العراق واليمن، عند ذاك أنت تبني دولة مساوية وكيانًا مساويًا لإيران، ليس من أجل أن تضاد إيران وتضعفها، إنما من أجل أن تقول لإيران نحن متساوون، نحن أخوَان متساويان، فلا تعتدوا علينا ولا نعتدي عليكم، هذا جانب والجانب الآخر في اعتقادي كان يجب أن تدمج إيران في الاقتصاد الخليجي، فعندما تبني مصالح اقتصادية تقل المخاطر السياسية، فتفكر إيران ألف مرة لأن لها مصالح، والخليج يفكر ألف مرة لأن له مصالح، نحن أمام وضع مع الأسف مرة أخرى لم نعرف كيف نتصرّف إزاءه، ما أريد قوله هو أننا لم نبنِ حوارًا مع إيران، ولم نُدخلها في الحياة الاقتصادية، وليست لدينا محاولة لحل الإشكالية الفقهية التي تقسمنا، وإيران تقف بفهمها البليد للقضية الإسلامية، ونحن كذلك لا نوفر جهدًا في بلادة الفهم.
لنكن صريحين مع أنفسنا، ماذا يعني إن كان الحق لأبي بكر أم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما؟ وقد كانت القضية في حينها، وذلك لا يعني أن أبقى مجترًّا لهذه القضية بعد 1500 سنة، لكننا بكل أسف ما زلنا على اجترارنا لها، لماذا نسمح للتاريخ بأن يحكم الحاضر؟ الأمة البليدة وحدها هي التي تفعل ذلك، علينا أن نستفيد من التاريخ ونتعلّم منه لا أن نتركه يحكم حاضرنا، وهذا ما يجري الآن في إيران وفي أوطاننا، نحتاج إلى عقلاء يخرجون الأمّة من هذه الدوامة بكلّ بلادتها وتخبطها، لا بدّ لنا من الوصول إلى حالة ننظر فيها إلى ذكرى مأساة الحسين بوصفها بطوليّة وليست بكائية، هذا الرجل الذي وقف من أجل مبادئه رجلًا ومات رجلًا، دون أن نختزل القصة في شربة ماء وحالة عطش. سبق أن كتبتُ كثيرًا في التاريخ وكيف صار يحكمنا، نحن يجب أن نخرج من هذه الدائرة، ونُخرج القرآن من قبضة التاريخ، وننأى عن تفسير الآيات بمزاجيّة ومذهبيّة، دون أن نصنف مقاصد الله بحسب ما يخدم أهواءنا، وكأننا نريد أن نمسك رقبة القرآن بالتاريخ، لا بدّ لنا من تطهير التاريخ، تطهير الذاكرة الجمعيّة المملوءة بالأمراض وهذه مسؤوليتنا كلنا، مسؤولية المفكرين والفقهاء والحكّام، لا سيّما فقهاء السلاطين ومن كتبوا التاريخ تزويرًا، بالنهاية وللأسف القوّة هي التي تكتب التاريخ.
الثقافة العربية عامرة بمحاولات الكثير من المفكرين العرب الذين كتبوا أشياء كثيرة جدًّا عن تغيير هذه الثقافة وعن تطهيرها، الإشكالية ليست هنا، بل في أن كلها محاولات فرديّة، والمحاولات الفردية لا تصل إلى نتيجة، نعود بحديثنا إلى الإصلاح الديني؛ مثلًا عندما بدأ محمد عبده بمحاولة الإصلاح آنذاك بدأ يتكون تيار لكنه مع الأسف لم يتمأسس، محمد عبده في جهة، والأفغاني في جهة، ويأتي بعدهم أناسٌ آخرون وهكذا، المذهب الشيعي اليوم يشهد محاولات حقيقية في إيران بالذات، وفي لبنان أيضًا نجد محاولات حقيقية لإجراء إصلاح في المذهب الشيعي نفسه، وكلنا يعرف أن قصة ولاية الفقيه مختلف عليها، والتاريخ الفقهي مختلف عليه، كما في المدارس السنية تمامًا إنما دائمًا على مستوى الفرد، وهذا لا يكفي أنت تحتاج إلى مؤسسات لتخلقَ تيارًا، وهذا ما لم نحظَ به مع الأسف، لو عدنا إلى الغرب لوجدنا تقاطع الفكر مع الثورة فما قاله فولتير وما قاله مونتسكيو وغيرهما انتهى في ثورة، الثورة الفرنسيّة التي اعتمدت على ذلك الفكر لتبني نفسها وبعدها مؤسسات ودساتير وبرلمان، نحن لم نتبنَّ فكرًا ونبني عليه الثورة، وهنا الاختلاف.
● تحدثت عن فشل كثير من الخطابات، ومنها الخطاب الديني والخطاب اليساري وغيرهما، التي بشكل أو بآخر أسهمت في فشل الخطاب العربي الجامع، لكن ألا ترى أن الخطاب القومي أيضًا كان من بينهم، وربما كان أكثر الخطابات فشلًا في أطروحاته الحالمة؟
■ منذ ما يقارب 30 سنة كانت هناك صيغة للحوار القومي الإسلامي عبر المؤتمر الذي حمل اسم الفريقين؛ الحوار القومي الإسلامي، الذي كان محاولة للتقارب والوقوف على نقاط الاختلاف والخلاف وحقيقة الصراع القائم خلال حقبة الخمسينيات والستينيات، تبيّن أنّ 80% من الفِكرين القومي والإسلامي هي أفكار واحدة لا خلاف عليها، بقيت 20% التي علينا أن نطرحها على طاولة الحوار وما يمكن أن نفعله تجاهها، طفح ذلك على السطح بعد أن حكم الإسلام السياسي بعض البلاد العربية، وأقولها بصراحة: إن الانتهازية تبدت، فبعض الذين كانوا في المؤتمر القومي الإسلامي وأكدوا على ضرورة التفاهم، تغير فكرهم تمامًا بعد تسلُّم الحكم في مصر.
● هل هي أزمة ثقة؟
■ أزمة ثقة وأزمة استعجال. لنكُنْ واقعيين، الثقافة العربية فيها جوانب سلوكية متخلفة ما زالت حتى الآن سلوكيات قبلية بدائية، مثلًا: ما زال هناك تخوّف من استعمال اليد، العربي يأنف من الاشتغال بيده، انظر أيضًا إلى جانب الكرم المبالغ فيه، والمظهرية، أَضُرُّ بعائلتي وبوضعي لأبدو بمظهر الكريم وهذا غير حقيقي. الأمر ذاته في البرلمانات، فهي غير فاعلة، معظم أعضائها لا ينظرون لمن انتخبهم، بل من يستطيع إعطاءهم الامتيازات. لا يقتصر الأمر فقط على النفط، تلك الامتيازات كانت في برلمان سوريا وفي برلمان مصر، من يعطيك الامتيازات هي الدولة، التي تمسك بالمجتمع من رقبته، بل أكثر من ذلك هي ما أعبّر عنه بأن الدولة العربية الحديثة ابتلعت مجتمعاتها في جوفها، أصبحت المجتمعات في جوف الدولة بدلًا من أن تكون هي وسلطة الدولة.
هي ليست حديثة، حديثة بمعنى الاستقلال، الحداثة نحن لم نصل إليها بعد، ومشكلة الحداثة هي مشكلة أخرى، فحين تتحدث مع من يدعون إلى الحداثة ويريدونها، تجدْ أنّ الحداثة بالنسبة لهم هي الحداثة الغربية، في حين أنها حداثة للغرب، أنت يجب أن تبني حداثتك، انظر مثلًا إلى الصين أو اليابان فهم يبنون حداثتهم، لديهم أشياء مختلفة عن الغرب، هذا لا ينطبق علينا مع الأسف الشديد، فقد ابتلينا بشيئين، بالسّلفي الذي يعتقد أن الحداثة هي ما فعله الآباء والأجداد، السلف الصالح، وبأولئك الذين يريدون أن يغربونا بالقضاء على ذاتنا، على إبداعنا، يدفعون بنا لبناء ما لا يصلح لنا، المطلوب هو حداثة عربية، تأخذ من الثقافة الإسلامية، فالإسلام هو جزء لا يتجزأ من ثقافتنا ولا يمكن القفز فوقه لأن الملايين من العرب يؤمنون بذلك، علينا أن نأخذ أفضل ما في الدين الإسلامي، خذ مثلًا فكرة العدالة؛ الدين الإسلامي يسمي نفسه دين الحق والقسط والميزان هو قائم على ذلك، خذ بهذه الفكرة وأدخلها بقوة وبشدة في ثقافتك السياسية. فهذا هو إرثنا الحقيقي، وليس استنادًا إلى ما قاله هوبز وفلان، لدينا الأسس الحقيقية في قلب الدين الإسلامي، أنت هنا لا تنسب نفسك إلى المتدينين، لكنّ دينك يعرض عليك فكرًا مستنيرًا مفهومًا وأنتَ ترفضه وتستعين بالفيلسوف الفلاني، لا يعني ذلك ألا نستعين بهم، لكن لديّ ما يوازيه أو يفوقه فلمَ لا أعتمده أساسًا، ويكون سواه مجرد عامل مساعد.
● فكرة أن الغربي كافر معضلة أنتجها خطاب ديني بائس…
■ فعلًا… فالقضية معقدة كثيرًا، والوضع العربي كلما أمعن الإنسان فيه كلما أدرك أن الترقيعات لن تحل إشكالاته، الأمر يحتاج إلى أكثر من ترقيع.
● لبناء الدولة؟
■ نعم لبناء الدولة، وهذه قضية كبرى، الأقليات التي تحكم لن تستطيع أن تفعل شيئًا حتى لو أرادت، أتاتورك في تركيا أراد هو وجماعته لكنّ هذا لا يكفي، لديكَ مجتمع، المجتمع نفسه يجب أن يتغير، المجتمع التركي بدأ ينظر إلى نفسه ويقول لديّ إرث إسلامي لا أستطيع التخلي عنه، لكنّي أيضًا أريد الإرث الحداثي الجديد، وأريد أن أمزجَ بينهما، لن تكون العملية سهلة فتطهير الماضي يأتي أولًا عن طريق منجزات الفكر الحديث ومناهج الفكر الحديث، المنهجية في تطهير الماضي وفي قراءة التاريخ وفي قراءة الدين، القضية معقدة جدًّا، لذلك عليك أن تقرأ المحاولات الإصلاحية، نحن مثلًا في مركز دراسات الوحدة العربية أوجدنا المشروع النهضوي القائم على ست نقاط، حتى الآن وبالرغم من غناه لكنه لم يبنَ على أسس فلسفية معرفية بالغة العمق، فيه نوع من التمنيات، ينقصه التحليل القوي الفلسفي الفكري العميق، وهذا أمرٌ يحتاج إلى مفكرين لا أدري إن كنتَ على علم بهذا المشروع النهضوي المطروح، لكنه ربما أفضل ما توصلنا إليه، هو محاولة لتحسين الفكر القومي.
● هل النخب الحاكمة على استعداد بأن تلقي نظرة…؟
■ لا أبدًا، لا تلقي نظرة فقصة الفجوة بين الحكم وبين الفكر في الأرض العربية كبيرة جدًّا.
الحاجة إلى فكر سياسي جديد في الخليج
● بعد نحو 8 عقود على ظهور النفط في منطقة الخليج، وعقب تحولات حادة شهدتها المنطقة نفسها، هل يمكن أن نتساءل اليوم عن انعكاس النفط على الخليج ثقافيًّا واجتماعيًّا، لماذا بقي حضوره في الأدب خجولًا، هل أفاد الخليجيون من النفط في تشييد مدن ومؤسسات ثقافية مؤثرة في الوعي والوجدان والمجتمع وليس مجرد تشييد مبانٍ، ما الذي جعل النفط ينحصر فقط في بعده الاقتصادي، هل لذلك علاقة بالموقف العربي، اليساري تحديدًا، من النفط والبترودولار، رغم أنه ثروة طبيعية لا علاقة لها بالأيديولوجيا، كما يرى بعض الخليجيين؟
■ الخليج أضاع وما زال يضيع فرصة تاريخية كبرى وهي فرصة البترول، فهو لا يستعمل البترول لبناء اقتصاد إنتاجي معرفي حقيقي، بالغ القدرة على الاستمرار في المستقبل، بنينا نعم، بنينا البنايات وأنشأنا المدارس، لكننا لم نبنِ تنمية شاملة مستمرة على المدى البعيد، لذلك إن انتهى البترول في يوم ما فهذه المنطقة ستعاني كثيرًا. كثيرًا ما أشبه ذلك بما حدث في الغرب الأميركي، فبعض المناطق اكتُشف فيها الذهب فانصبّ الناس عليها، بنيت فيها البيوت وصار فيها بهجة الحياة، وشرب وأكل وإلى آخره من الأمور الحياتية، لكن ما إنْ انتهى ونضب حتى اختفت وأصبحت الآن مدن ينعق فيها الغراب والأشباح. أنت مهيأ لذلك في الخليج إذا لم تفتح عينيك بأسرع ما يمكن، الآن بعد أن بدأت أسعار البترول في الانخفاض بدؤوا يفكرون في ضرورة البحث عن مصدرٍ آخر، وهذا ليس بالأمر الهيّن، دول تعتمد في 90% من ميزانيتها على البترول، وهذا يعني أنها إن نضبت فلن يكون بين يديك ما يفي مقدار رواتب الموظفين والعمّال، ولا شكّ بأن دخل البترول الآن ما عاد كافيًا لأبسط الأمور، هذا جانب، الجانب الآخر؛ ما الذي يؤخر وحدة الخليج؟ كلها دويلات صغيرة تتحدث عن التهديد الأمني، ما الذي يمنع قيام وحدة فيدرالية؟ لسنا نطالب باندماج تام، استغرقنا 30 سنة لتوحيد التعريفة الجمركية، في حين هو أمر لا يستغرق عامًا واحدًا فقط، مرّ عشر سنوات ونحن نتحدث عن توحيد العملة النقدية، وما زال الأمر معلّقًا، لا بدّ لنا من التفكير الجاد في أن كلًّا منا مجرد جزء وما سيبقى بالنهاية هو محيطك العربي ومحيطك الإسلامي، في حين وبكل أسف ما يجري الآن هو أن كل دولة في الخليج ترتبط بأخرى أجنبية لتحميها، الشيء الآخر هو أن الحكم كان قبليًّا، ويجب أن تنقله الآن من النظام القبلي إلى النظام الديمقراطي، أنت تعلّم الناس في المدارس والجامعات وتخرجهم، ثم تتعامل معهم كرعية، هذا غير منطقي إطلاقًا، نحن بحاجة أيضًا إلى فكر سياسي جديد داخل الخليج، يرى أن هناك شراكة حقيقية بين الحكم وبين المجتمع، ليس هناك من يطالب بزوال الحكم، لكن الجميع يطالب بإصلاح الحكم.