بواسطة عبدالله البريدي - كاتب و أكاديمي سعودي | مايو 1, 2023 | مقالات
شهدتِ المملكةُ العربية السعودية في العقدين الماضيين نشاطًا متناميًا في حقل الفلسفة، وقد كانت الأندية الأدبية الأكثر فاعلية في هذا الحقل دون منافس؛ عبر مناشط منبرية وكتابية متنوعة، كما في «حرف» في نادي الرياض (2008م)، و«فكر» في نادي القصيم (2009م)، و«إيوان» في نادي جدة (2018). ولقد أفلحتْ هذه المناشط، على قلة مواردها، في تشييد بوابة ولجنا عبرها إلى عالَم أكثر احترافية وتخصصية وتراكمًا، حيث شهدنا كيانات مؤسسية، ومن أبرزها: الجمعية السعودية للفلسفة (الجمعية)، منصة معنى (معنى)، المركز السعودي للفلسفة والأخلاقيات، بجانب إسهامات مقدرة من قِبل الموسوعة العالمية للأدب العربي (أدب).
التأسيس لحالة التفلسف
من أبرز مخرجات هذه المؤسسات وثمراتها:
أولًا- تأسيس أول مجلة فلسفية سعودية محكَّمة: المجلة السعودية للدراسات الفلسفية SJPS (عن طريق معنى). ولا شك أن ذلك يعد حدثًا مفصليًّا له دلالته، وتبقى المسؤولية الأضخم في تقوية هذه المجلة الفتية وضمان بقائها وانتظام صدورها، مشيدًا بجهود الأستاذ بدر الحمود، والأستاذة سارة الراجحي، والدكتور بدر الدين مصطفى.
ثانيًا- تأسيس مجلة فلسفية عامة (عن طريق الجمعية)، تتضمن أبوابًا متعددة، وتقوم على فكرة الاستكتاب المباشر، والنشر للأبحاث والمقالات الفلسفية، وهي أيضًا مُطالبة بضمان البقاء والاستمرار والتطور.
ثالثًا- إصدار كتب فلسفية عدة عبر باحثين سعوديين؛ وفق الصنعة الفلسفية (عن طريق الجمعية وأدب ومعنى)، وفق مقاربات فلسفية متنوعة، وقد حقق بعضها قدرًا من التأثير في مستويات عديدة، وهذا شيء لافت بحق؛ إذ كيف يكون للنص السعودي الطري مثل هذا التأثير؟!
رابعًا- تنظيم برنامج قراءات فلسفية في الفكر السعودي (عن طريق الجمعية)، وهو برنامج يُعنى بتتبع موارد الفكر الفلسفي وتلمس منابعه لدى الرواد السعوديين، والعمل على إعداد أوراق بحثية، وجمعها في كتب متخصصة، يجري نشرها تباعًا، وهو برنامج نوعي له قيمته الكبرى في الأدبيات، حيث يمثل -في عمومه- عملًا أصيلًا، وهو ما يجعلني أشيد بجهود الدكتور عبدالله المطيري والدكتور شايع الوقيان في هذا السبيل.
خامسًا- تنظيم مؤتمرات وندوات متخصصة في الحقل الفلسفي (الجمعية وأدب ومعنى ودعم من لدن هيئة الأدب والنشر والترجمة) ومن بينها: المؤتمر السعودي الفلسفي: الأول والثاني. ولعل من المؤشرات الإيجابية في إطار التخصص، أنه أضحى لدينا أكاديميون رِصان في الحقل الفلسفي، ومن بينهم: الدكتور حسن الشريف والأستاذ الوليد السقاف.
التوصيف السابق توسل بقالب سردي احتفائي، وهذا من النقد؛ إذ ليس النقد في جوهره بالسلبي دون الإيجابي، فلا يطير النقدُ المنهجيُّ إذن إلا بجناحي الإيجابي والسلبي معًا؛ في ممارسة منهجية متزنة منصفة، تدوّن الإيجابي وتنميه، وتشخّص السلبي وتعالجه. ولو عدنا إلى السؤال الرئيس الذي وقع استكتابي لكي أدندن حوله، فمفاده: هل يمكن لمثل هذه الجهود أن تؤسس حالة من التفلسف في الفضاء السعودي؟
في الحقيقة، معلوماتي القاصرة من جهة عن تلك المؤسسات والجهود، وحجم هذا النص الصغير من جهة ثانية؛ لا يخولانني البتة إصدار حكم دقيق، مع نفوري المنهجي من تقديم إجابات قطعية بـ «نعم» أو «لا» في سياقات مركبة معقدة كهذه؛ من شأنها الجور في الحكم أو التغاضي عن الإيجابيات والفوائد والثمرات، أو عدم مراعاة الاختلاف في المداخل والمقاربات للمشتغلين في الحقل الفلسفي.
وعوض هذه المقاربة المتجهِّمة، سأبحر بمقاربة سمحة صغيرة صوب توصيف عام؛ لا يتوجه لكيان مؤسسي بعينه، ولا يتقصد شخصًا بذاته، وإنما هو تناولٌ منهجي يتعالى على الكيانات والشخصيات والسياقات الجزئية؛ علَّه بذلك أن يلامس روح المعالجة الفلسفية في تعاليها وعموميتها. ولكي يكون الطرح مركزًا ومكثفًا، فسأجعل المقاربة صريحة شفيفة في ثلاثة عناصر متسلسلة:
السلفية الفلسفية أو خصوصية فعل التفلسف
التفلسف هو فعلٌ يستلزم فاعلًا وهو: المتفلسفُ، لينتج لنا فلسفة أو نتاجًا فلسفيًّا (مفعولًا به). وهذا ما يجعلني أنبِّه إلى خطورة اشتغالنا بأكثر مما ينبغي في القراءة الفلسفية، حيث يحيلنا ذلك إلى تلامذة (نجباء أو غير نجباء) للدرس الفلسفي المنجز، وهذا أبعد ما يكون عن روح التفلسف الحقيقي، وأقرب إلى نمط من «السلفية الفلسفية»، الذي ينشِّط الذاكرة والاسترجاع والحفظ على حساب العقل والخيال والإبداع. وهذه السلفية الفلسفية يغلب عليها في سياقنا السعودي السلفية الفلسفية للآخر الغربي. وأنا هنا أقول من وحي تجربتي الطويلة في قراءة النتاج الفلسفي الغربي في مدة تتجاوز 33 سنة، أنني لم أفد كثيرًا من كثرة القراءة في هذا النتاج، ولاحظ أنني قلت: «كثيرًا»، «كثرة»، فالقراءة بقدر ما هي مهمة ومفيدة أيضًا لبعض، غير أن الفائدة الكبرى التي ظفرتُ بها، تكمن في القراءة في التراث العربي الإسلامي.
قد يقول أحدكم: لا تُلقي الكلامَ على عواهنه: فما دليلك على هذا الزعم؟
الكلام حول هذا يطول، والدليل ذو طبيعة «تجريبية»، ولذا فإنني أُلمح، على عجل، بأنني -مثلًا- قرأتُ باهتمام شديد -ضمن مجموعة قراءة مع عدد من الأصدقاء المعرفيين النابهين في مدينتي بريدة- نصوصًا فلسفية غربية بكامل قضها وقضيضها كـ«نقد العقل المحض» لكانط، «فكرة الفينومينولوجيا» لهوسرل، «الكينونة والزمان» لهايدغر، «الكينونة والعدم» لسارتر، «منطق البحث (الكشف) العلمي» لبوبر وشطرًا من كتابه «المشكلان الأساسيان في نظرية المعرفة»، «بِنية الثورات العلمية» لتوماس كون، فضلًا عن مئات الكتب الأخرى في مباحث وجودية وإبستمولوجية وأخلاقية ومباحث فلسفية أخرى، مع ذلك لم أكتب نصًّا فلسفيًّا صغيرًا، فضلًا عن كتاب فلسفي؛ بناءً على هذه القراءات العسيرة المتطاولة.
وحينما عدتُ إلى القراءة المتأنية في التراث العربي الإسلامي، وجدتني أنعتق من: «تفكير الأذان» إلى: «تفكير الأذهان»، ومن ضيق المصطلح الأعجمي إلى شسوع المصطلح بلغتي الأم، حيث أنتجتُ أول نصوصي الفلسفية بعد مدة لم تطل من تلك القراءات التراثية، وهو كتاب: «ابن تيمية فيلسوف الفطرة– نحو كبسلة الفيلسوف» (2021م)، ثم تلاه مباشرة نصي الثاني: «كينونة ناقصة– أحد عشر سؤالًا في قراءة الفلسفة» (2022م)، وكذلك بحث «الحد المائز بين الدين والفلسفة والعلم» (2022م) للمجلة السعودية الفلسفية المحكَّمة، وذلك بعد قراءة معمقة لعدد من النصوص التراثية كـ«تهافت الفلاسفة» للغزالي، و«تهافت التهافت» لابن رشد، و«درء تعارض العقل والنقل» و«الرد على المنطقيين» لابن تيمية. ثم أنتجتُ نصًّا لغويًّا بقالب متفلسف (2023م)، بعد قراءةِ «دلائل الإعجاز» للجرجاني وشطرٍ من كتابه «أسرار البلاغة»، حيث وضعتُ كتابًا مع الدكتور معاذ الدخيِّل يتمحور حول فكرة «الانبناء اللغوي»، عوض «البناء اللغوي»، حيث ألهمني هذا الجرجاني العملاق بأن اللغة هي انبناء جوانيٌّ لا بناءً برانيًّا، ثم كتبتُ بحثًا فلسفيًّا لمؤتمر فلسفي في المغرب، بعنوان: «العلوم الإسلامية والإنسانية: من الفصل إلى الوصل: نحو بلورة مرشاد التكامل الاندماجي».
من الواجب عليَّ هنا التنبيه إلى أنه ليس مهمًّا إطلاقًا التعريف بأعمالي الخاصة لذاتها، فهي ليست ذات بال على الإطلاق في هذا السياق، وإنما أوردتها فقط من باب التدليل «التجريبي» على الفكرة التي أومأتُ إليها، والتي بِتُّ أعدُّها قاعدةً معرفيةً، وأضعها في هذه الشذرة: «تراثك يُخصِّبك، وتراث غيرك يعقِّمك!». ومن يشكك فيما قلتُه وعايشتُه وأنتجتُه، فعليه أن يخوض «التجربة» بنفسه، ولعله إذ ذاك أن يشاركنا نتائجها، أيًّا كانت، داعمة أو داحضة!
التفلسف الناجع
بمراعاة ما سبق وتأسيسًا على جانب منه، أشير إلى أن التفلسف الناجع للمجتمع، هو ذلك الذي ينبتُ في تربة المجتمع، ويتغذَّى على دينه ولغته وثقافته، وهذا ما يدعو إلى إقرار مبدأ «التفلسف المخصوص» عِوض «التفلسف الكوني»، وذلك في الجوانب التي يكون للدين والثقافة واللغة تأثيرٌ جوهريٌ في تشكيلها، من جهة: الغايات أو المالآت. وهذا ما يجعلني أشدد على أهمية عدم إقصاء «التفلسف الأصيل» النابع من تراثنا العربي الإسلامي أو تهميشه أو وصمه بالدروشة، أو نحو ذلك من التوصيفات الإقصائية السلبية، على أن يكون البرهان هو الحاكم في الساحة الفلسفية. وأحسب أن المشتغلين بالفلسفة هم من أحق الناس بصفة التعاطي السمح مع المداخل والمقاربات المتنوعة ولو كانت معارضة لما يؤمنون به، على أن يكون هذا التعاطي مسيَّجًا بالبرهان، حتى لا تكون الساحةُ مُستباحةً لكل من هَبًّ بكلمات أو دَبَّ بكتابات، مسترشدين بقول الله تعالى في كتابه العزيز في سورة الأنبياء: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ (الآية: 24). ليس ثمة دينٌ برهانيٌّ كالإسلام، فالإله يقول للمشركين به: هاتوا برهانكم على شرككم بي! يا له من تسامح معرفي، فالكل يطرح، شريطة البرهانية!
لا تكتمل نجاعة التفلسف إلا بكونه يتصدى لمعالجة الإشكاليات المجتمعية في سياقها المحلي وتراكماته وأدبياته وفواعله وغاياته وآثاره؛ وفق مبدأ «إحداث الأثر المجتمعي»، وتعظيم الانتفاع من التفلسف في: تغيير الأفكار والاتجاهات السلبية، وتنمية التفكير المنتج الخلّاق. وهذا محكٌّ مهمٌّ لنجاعة التفلسف، والسعي لترجمة التفلسف إلى: سياسات وإستراتيجيات وبرامج عملية ما أمكن، ولو بعد حين؛ فالعلم هو الذي تكون في العادة نتائجه أسرع تحققًا من الفلسفة. وهذا أمرٌ مسلمٌ به -فيما أحسب- في الأدبيات الإبستمولوجية وتاريخ الفلسفة والعلم. وكل ذلك يؤكد خصوصية فعل التفلسف لا كونيته المبالغ فيها. وحينما أقول «المبالغ فيها»، فإنني أعترف طواعيةً بأن ثمة تفلسفًا كونيًّا، وهو التفلسف المتعلق بالأبعاد ذات الصلة المباشرة بـ«الإنسان الكلي»، المتجرد عن الدين والثقافة واللغة، على أن هذه الأبعاد باتتْ تضمُرُ شيئًا فشيئًا؛ من جراء التشويه المتنامي للفطرة الإنسانية، وعبث القوى الكبرى في إعدادات الإنسان والتحكم في عقله ووجدانه وروحه وجسده. وهذا بابٌ يطولُ فيه الحديث، ولعل في هذه الإلماحة ما يغني.
ونُفيد من تقريرنا لهذا الضابط المنهجي في فعل التفلسف الناجع، التأكيد على ضرورة العناية الفائقة باختيار الموضوعات للمؤتمرات الفلسفية، ووضع معايير منهجية دقيقة لبلورة الموضوعات الأكثر إلحاحًا وتحقيقًا لمبدأ الأثر المجتمعي. الموضوعات الفلسفية الرصينة لا تكاد تخلو من فوائد، ولكنها قد تكون فوائد قليلة لنا، أو غير مباشرة، أو أننا لم نمتلك بعدُ ناصيتها، أو لم نستوعب ماهيتها وأبعادها الجوهرية كما يجب. فعوض معالجة موضوعات معقدة متقدمة، كاللامتوقع والفضاء والزمان، مع عدم وجود أو قلة المتخصصين في مثل هذه القضايا لدينا، يحسن بنا اختيار موضوعات تمس الحاجة إليها، على أن نعد لمثل هذه المواضيع، المركبة المعقدة، ما يكفي من حلقات نقاشية وندوات صغيرة، ونؤسس لها مجموعات قراءة متخصصة ومجموعات بحثية، لفترة كافية من الزمن والتخمر. فإذا كوَّنا قاعدة بحثية فلسفية صلبة حيالها، فإننا في هذه الحالة نتوجه إلى طرح مثل هذه الموضوعات في سياق عالمي؛ إذ إننا حينذاك يمكن أن نقول شيئًا ذا بال.
قد يسأل أحدكم: وما الموضوعات التي تقترحها أنت؟ أقول باختصار: لا أدري؛ لأننا لم نتفق بعدُ على معايير اختيار الموضوعات التي يمكن طرحها في مؤتمرات فلسفية ذات طابع دولي. وهذا ما يجعل النقاش الفلسفي السعودي منهجيًّا؛ إذ لا نفعل شيئًا ولا نحجم عن آخر إلا بالمنهج.
لعل في طرحي هذا المختصر، الذي تعمدتُ أن يكون على هذه الدرجة من التلقائية والصراحة، ما عساه يُفيد في استنبات التفلسف في التربة السعودية الخصبة، وأحسب أننا بِتنا نمتلك عقولًا رائعة، سواء في الجيل الذي كان، ولا يزال، يحاضر ويجادل ويكتب ويدرب، أو في الجيل القارئ الصاعد. أملي كبيرٌ، والله ولي التوفيق.
بواسطة عبدالله البريدي - كاتب و أكاديمي سعودي | سبتمبر 1, 2020 | الملف
للإجابة عن أسئلة «الفيصل» حيال العلاقة بين التنمية المستديمة وبين فاعلية الثقافة وتنوعها، وهي أسئلة متشابكة عويصة، سنلجأ إلى تحليل مفاهيمي متفلسف، بما يمكّننا من الإجابة عن هذه الأسئلة بعمق وقالب تكاملي، مستفتحين بهذا السؤال المباغت: أليست الثقافة بحَّاثة عن أسرار ضعف فاعلية المجتمع ومؤسساته؟ ألا تتلبس الثقافةُ بنقد صارم وتفلية موجعة حيال ضمور أنساق الفاعلية التنموية لدى مختلف فئاته؟ وحيث إنه يقال في المثل: «طبّاخ السم آكله»، فسنقول ها هنا: مُنقّع النقد شاربه، وعليه فإننا سنشرِّب الثقافة شيئًا من النقد في الفضاء التنموي المحلي، فلتتحمل مرارته، فلعله يشفيها.
ما صورة الثقافة وما مادتها؟
دعونا نفكك الثقافة بوصفها معرفة أو نشاطًا معرفيًّا، وليكن ذلك بقالب كانطي، من زاوية أن المعرفة تتكون دومًا من صورة ومادة. حينما نأخذ المعنى الأكثر ترسخًا للثقافة في الأدبيات والممارسات، يمكننا في حقيقة الأمر الخروج بعدة صور للثقافة، بيد أن من أهمها على الإطلاق القول بأن القالب الصوري للثقافة هو: «الهَمّ العمومي»، أي الاشتغال المستمر بـ«الصالح العام» تحقيقًا لغايات المجتمع وفق إطاره الأخلاقي، وبهذا يفترق المثقفُ عن العالِم مثلًا، حيث يشتغل العالِم على تحقيق «صالح العلم» الذي يشكّل هو أحد أفراد جماعته العلمية، تحقيقًا لغايات العلم وفق إطاره الإبستمولوجي والأخلاقي. وعليه، فالمثقف هو الذي تـتأوبه الهمومُ أو همومُ العامّة، وهو الأحسَّ بآلام الناس والأشعر بآمالهم.
هنا ربما يطرح بعضٌ سؤالًا: هل يسع المثقف أن يكون مثقفًا أي حاملًا للهمّ العام في مجالات معينة، بينما لا يكون كذلك في مجالات أُخر؟ هذا سؤال وعر جدًّا. في الحقيقة، لا أزعم أنني أمتلك إجابة شافية؛ لذا سأطرح مجرد مقاربة أولية. الأصل أن المثقف هو مثقف في كل أحواله ومجالاته وتموضعاته. بيد أن الواقع يكشف لنا أن المثقف في بعض الحالات قد يضعف أو قد يخامره جبن من أن يكون مثقفًا في مجال ما، إما خوفًا من سلطة، أو رغبة فيما عندها من الأعطيات المادية والمعنوية، أيًّا كانت هذه السلطة، مع احتفاظه بسمة المثقف في المجالات الأخرى.
لو افترضنا حدوث هذا الأمر، هل يُطرد المثقفُ من «الثقفوت» أو ملكوت الثقافة؟! إن قلنا بنعم، فإن هذا يعني أننا اخترنا بُعدًا مثاليًّا صِرفًا، يصعب تحققه في جميع الحالات ولكل الأنماط الشخصية، وقد نخسر بذلك قطاعًا من المثقفين. ولئن جنحنا إلى المُلاينة في هذه المسألة لاعتبارات عملية، فإننا نشدد القول على أن المثقف الأسمى هو الذي يكون مثقفًا في كل أوضاعه، فلا يكون مثقفًا إلا مرة واحدة صابغة لحياته، حيث تغدو الثقافة فيها نَفَسَه الذي يتنفسه. وحده هذا المثقف الصادق، الذي يظل باقيًا في الذاكرة الجمعية الوطنية، فلا يغيِّبه مرض ولا يُخمِله موت.
هذا القالب الصوري للثقافة ثابت ولا يتغير، أي أنه هو هو في أي مجتمع إنساني؛ إذ لا يعد الإنسان مثقفًا في مجتمعه أيًّا كان، إلا إذا تلبس بهذا الشرط المحقق لصورية الثقافة وهي الاشتغال بالصالح العام، حيث لا يقبل هذا القالب أي مضمون مخالف له، وهذا يعني أنه يشتغل كما لو كان إطارًا «قبليًّا» للثقافة يُشكِّلها أَنَّى شاء، وإنه لكذلك أو قريب من ذلك.
الإشارة إلى ثبات صورة الثقافة، يوحي بديناميكية «مادة الثقافة» وتغيرها أو تنوعها. هذا صحيح تمامًا، فمادة الثقافة ديناميكية تقبل أي مضمون يتناغم مع صورية الثقافة ويحقق الجانب الغائي لها. وهذا يعني قبولًا قسريًّا لفرضيتين اثنتين:
1- فرضية فاعلية الثقافة.
2- فرضية تنوع الثقافة.
حسنًا. دعونا نعالج كل فرضية على حدة، مع الحرص على إحداث التكامل فيما بينهما، كما في العنوانين المتسائلين الكيفيين التاليين:
كيف تجد الثقافةُ أكسيرَ فاعليتها؟
يخطئ المثقف حينما يعمل كما الأكاديمي أو المتخصص، من جهة تركيزه على الأطر التخصصية أو الفنية الصرفة، والذهول عن السمة الأساسية له، بل عن الشرط الصوري الضروري للفعل الثقافي والمتمثل في الاشتغال بالهمّ العمومي؛ إذ نلحظ أن بعض المثقفين استحالوا إلى متخصصين أقحاح، وبعضهم بات يعمل بالقطعة، وربما يقبض بها أيضًا، وأعني من تورط منهم في البعد النفعي واقتاتوا على «الفعل الثقافي»، وهو الأمر الذي يُقبِعُهم داخل أعشاشهم الصغيرة، ويُضيِّق مناظيرهم ويُجفِّف الهَمَّ العام لديهم. هذه معضلة خطيرة جدًّا من شأنها القضاء على «مشروعية المثقف» من حيث أصلها وجوهرها، وقد تخرجه -حال استفحالها- من الثقفوت.
ومثقفون آخرون لا يتورطون في فخ التخصص أو العمل بالقطعة كسابقيهم، ولكنهم يغفلون عن تفعيل الثقافة في المسار التنموي الوطني، حيث يتوهم بعضهم أن التنمية هي ألصق بالاقتصاد أو بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، ومن ثم فلها ناسها وكتّابها وأدبياتها وأدواتها. لا أحسب أنه يركبنا خطأ إن قلنا بأن نسبة لا يستهان بها من المثقفين يؤمنون أو يميلون إلى هذا الرأي.
لا حل جذريًّا لهذه المعضلة في رأيي، سوى النظر في «جوهر» مادة الثقافة. ولكن كيف نطمع بحلها عبر مادة الثقافة، وقد سبق منا القول بتنوع هذه المادة، مما يعني أن المثقف له الحق في أن يهتمَّ بمسائل كثيرة ليست من بينها التنمية؟ هذا سؤال جيد، وجوابه يبتدئ بتفحص كلمة «جوهر»، حيث قلنا: جوهر مادة الثقافة، وهذا يعني أننا ننشد التعرف إلى أصل مادة الثقافة أو لنقل: «الهيولى الثقافية». تحديد هذا الجوهر الثقافي يستلزم استعادة صورة الثقافة، التي قررنا أنها الاشتغال المستمر بالهمّ العمومي. ألا يُشكِّل هذا الاشتغال الدائم في جوهره لونًا من الإنماء والزيادة والإثراء لِمَنْ نهتمُّ بأمرهم؟ بلى، هو قطعًا شيء من هذا القبيل. إن تقرر ذلك، تمهَّد لنا سبيلُ منهجي بربط الثقافة بالتنمية بحبل وثيق. وذلك أن التنمية في اللغة إنما تعني: الإنماء والزيادة والإثراء.
عجن الثقافة بالتنمية بمفهومها السوسيولوجي والأنثروبولوجي العامين. يصعب كثيرًا تصور وجود مثقف عصري لا ينطلق من زاوية تنموية ما، أو لا يهتم بتحقيق بُعد تنموي محدد في مجتمعه الكبير (الوطني) أو الصغير (المحلي)، سواء أكان ذلك بالنقد والخلخلة أو التشخيص والبناء. يعسر علينا تخيل أي مسألة ثقافية يهتم بها مثقف ما، ولا تكون ثمة علاقة ما بالمفهوم الواسع للتنمية. ولكي نقيم الدليل على هذا الفرض، يلزمنا تعريف التنمية لكي نتحقق من ذلك بدقة. يمكن تعريف التنمية بأنها «أفكار وأفعال ونواتج وغايات، من شأنها ترقية متواصلة للحياة البشرية، بمنظور شمولي تكاملي، ضمن إطار حضاري ثقافي محدد» (عبدالله البريدي، التنمية المستدامة، ط 1، ص 34). ويمكن وصفها مختصرًا بأنها كل ما يؤدي إلى رفعة الإنسان والمجتمع وتحقيق سعادته وكرامته وحريته ورفاهيته. نعم، هذا التعريف أو الوصف للتنمية يُحتِّم صِلاتها بالثقافة في كل تنوعاتها التفصيلية.
إذن، هذا نقد نوجهه للثقافة التي تعرّي نفسها من جلبابها التنموي، ومعنى هذا بطبيعة الحال أن نقدنا مُتحدِّر على المثقفين الذين يجففون عروق التنمية في شجرة الثقافة، من جراء جهلهم بهذا الرباط المستحكم بين الثقافة والتنمية. ولكي يكون الحديث مقنعًا من الناحية التطبيقية، سأَعمِد إلى النص الثقافي السعودي، لننظر في مدى تضمنه لأبعاد تنموية ما. لتحقيق ذلك، التقطت مشهدًا واحدًا من «عصفورية» غازي القصيبي التي كانت في متناول يدي ساعة كتابة هذا المقال، حيث صوَّر «البروفيسور» شيئًا من كواليس الأكاديمية، بقوله:
«الحياة الأكاديمية، يا نطاسي، أروع من الرائعة. المخلوقات الأكاديمية مخلوقات من نوع ممتاز. يتحدثون فلا يفهمهم أحد؛ لأن أفكارهم فوق مستوى الدهماء والرعاع والسوقة. ويمضمون جُلَّ أوقاتهم في الكيد لبعضهم البعض، فيكفُّون العالم الخارجي شرَّهم وخيرَهم، واللي ما فيه شر ما فيه خير، كما قال بدوي لمّاح. وهم يشعرون بحسرة وجودية؛ لأن الحظ اختار للمناصب البُله والبُلداء تاركًا النوابغ والعباقرة في الحرم الجامعي يهيمون من مجلس إلى مجلس وجباههم مُغضّنة بوطأة التفكير في القرارات المصيرية المتعلقة بتعيين هذا المعيد وابتعاث ذلك المعيد… نصف دول العالم تموت من الجوع وجامعاتها تعلن حالة الطوارئ استعدادًا لترقية أستاذ مساعد إلى أستاذ مشارك…». (العصفورية، الساقي، ط 7، ص 118).
وللغرض ذاته، نلتقط مشهدًا ثانيًا لـ«أبي شلهوب» من «هدَّام» موسى النقيدان (الذي كان هو الآخر في مرمى النظر ساعة الكتابة)، حيث نرى فيه: بعد هذا الحوار، طلب من الجميع أن يتقدموا إلى طعامهم. قال: (يا هلا ومرحبًا، تفقّدوا ضِيفَتْكُم، تامَّة، والتامَّ وجه الله). كانت شاة سمينة، وقُدمتْ كاملة، لم ينقص منها شيءُ، ولو نقص منها لنقصت مكانةُ أبي شلهوب عند أفراد القبيلة وانحدرت سمعتُه إلى الدرجة الثالثة، ولقيل عنه: إنه من المستويات المنحدرة… قال مرة لأولاده الصغار وهو يدربهم على التعامل مع أفراد القبيلة: (ستر الوجه واجب، وترى يا عيالي اللي تاكل العين ما هو البطن). كل هذه الأشياء التي يقولها عبارة عن تبريرات مصطنعة لنفسه أولًا قبل أن تكون موجهة إلى أحد؛ لأنه اشترى الشاة بكل ما يملك من نقود، ولأنه الآن بقي خاوي اليدين، فمنذ مدة طويلة وهو لا يعمل… [ثم] قال: (كلنا لله وسنستظل بظله يوم لا ظل إلا ظله). (الهدَّام، مدارك، ط1، ص 103-104).
كيف تجدد الثقافة آفاقها وفاعليتها؟
التنوع في المضمون الثقافي يقتضيه عمومية الصالح العام، وحيث إننا نعلم جميعًا أن الصالح العام هو متعدد الأوجه ومتنوع المجالات، كما أن الفئات المجتمعية ذات العلاقة بهذا الصالح العام متنوعون أيضًا، سواء أكانوا من جهة الحل أو الدواء أو من جهة المشكلة أو الداء، كما أن السياقات السياسية والثقافية والاقتصادية، فضلًا عن الأبعاد المحلية المناطقية، تدفع كلها بمتغيرات عدة ومتنوعة هي الأخرى. كل ما سبق، يؤكد حتمية قبول فرضية التنوع في المضمون الثقافي أو في مادة الثقافة، ما دمنا نحقق صوريتها المتمثلة في تحقيق الصالح العام بوتيرة مستمرة. حسنًا، يبدو هذا جيدًا. هنا، يتخلق سؤال مهم: ما أشكال تنوع المضمون الثقافي؟ هنالك أشكال كثيرة، ويمكننا تصنيفها وجعلها في الآتي:
1- تنوع المضمون الثقافي من جهة المجال
لكي تحقق الثقافة فاعلية أكبر، يجب عليها تحقيق التنوع المجالي، فحينما نتحدث مثلًا عن التنمية المستديمة في الوطن ودور الثقافة في تحقيقها وتعزيزها ومجابهة تحدياتها ومعوقاتها، فنحن إزاء مضامين ثقافية متنوعة في هذا المجال التنموي؛ إذ يسع المثقف أن يلج هذا المجال من باب الاقتصاد مثلًا، فيمارس تثقيفًا اقتصاديًّا، بحيث ينخرط في الهَمّ الاقتصادي العمومي، متوسلًا بأدوات الاقتصاد ومفاهيمه بقالب ثقافي عام، يناسب المعالجة الثقافية لا الأكاديمية المتخصصة، ويمكن للمثقف أن يباشر فاعليته من الزاوية السوسيولوجية أو السيكولوجية أو الأدبية أو التاريخية أو الشعبية ونحو ذلك.
2- تنوع المضمون الثقافي من جهة المنهج
يتنوع المضمون الثقافي بتنوع المناهج التي نتوخاها لبلورته وطرحه في السياق العمومي. والمناهج التي يمكن للمثقف أن يستخدمها كثيرة، فمنها المنهج النقدي الهادم للأنساق الرديئة و/أو الباني للأنساق الجيدة، ومنها المنهج التوصيفي أو التفسيري (وقد تصنف المناهج بطريقة أخرى). دعوني أعطي مثالًا عمليًّا واحدًا على ذلك، وليكن في الجانب النقدي في المجال التاريخي الشعبي. يمكن للمثقف أن يشتغل على نقد الأمثال والحكم الشعبية التي تؤثر سلبًا في الفكر والسلوك التنمويين المستديمين، محاولًا استدعاء المنظومة التراثية الجيدة، وساعيًا لنشرها.
3- تنوع المضمون الثقافي من جهة الأداة
هنالك أدوات متعددة يمكن للمثقف أن يستخدمها، وطبيعي أن يتأثر المضمون الثقافي عند استخدام بعض الأدوات. فمثلًا، حينما يلوذ المثقف بالبعد الأدبي، وليكن ذلك في القالب السردي ممثلًا في الرواية والقصص القصيرة، فهذا يعني أن المضمون الثقافي سيتأثر من جراء استخدام هذه الأداة، حيث تقتضي مزج الحقيقة بالخيال، والمبالغة في تصوير بعض الأفكار أو السلوكيات ونحو ذلك؛ لتحقيق الأثر المتوخى من هذه الأداة، وقريب من هذا أداة الفن، وللأدوات الأخرى طبيعتها واشتغالاتها ومشاكستها.
4- تنوع المضمون الثقافي من جهة المنطقة
الأبعاد التنموية تستلزم في حالات عدة مراعاة الجوانب المحلية الصرفة. وهذا يقود إلى تعزيز جهود تنويع المضمون الثقافي بما يجعل الثقافة أكثر فاعلية في تحريك كوامن النفوس وفق «إعداداتها المحلية»، ولن يكون أحد بأقدر على ذلك من المثقف الذي ينتمي لهذه المنطقة أو تلك، فهو الأدرى بالأسرار الثقافية المحلية والأعرف بالشَّفَرَات الاجتماعية والنفسية، كما أنه الأمهر في استخدام اللغة الثقافية الملائمة والتوسل بأكثر المناهج والأدوات فاعلية لتحقيق الأهداف الثقافية التنموية المتوخاة في مدينته أو قريته أو هجرته.
وآخر الكلام أن الثقافة تفقد مشروعيتها وأهميتها وفاعليتها ونجاعتها، إن هي لم تسهم بحظ كافٍ في التنمية الوطنية المستديمة بمنظور نقدي صادق ناجع، وماذا عساها تكون الثقافة العصرية بلا إنماء مجتمعي مستديم، إنْ بهذا الفضاء أو ذاك، وإنْ بهذه الطريقة أو تلك؟! وزبدة القول في جملتين مكثفتين: (1) الثقافة = إنماء عام مستديم، (2) المثقف = جهاز استشعار للألم واستشساع للأمل. ولو رمت مزجهما في كلمات ست، فقل: الثقافةُ نِيءُ التنميةِ، والتنميةُ مطبوخُ الثقافةِ!
بواسطة عبدالله البريدي - كاتب و أكاديمي سعودي | نوفمبر 1, 2018 | الملف
نحن نعيش في «قرن المعرفة»، ويبدو أن هذا القرن أوجد صياغة جديدة للوجود الإنساني (كوجيتو)، مفادها: «أنا أعرف، إذن أنا موجود». بات من الواضح أن للمعرفة القدح المعلّى في إنتاج الثروات وبناء الاقتصاديات الحديثة وتوليد الوظائف وامتلاك أسباب القوة طيلة عقود القرن الحادي والعشرين. البقاء سيكون لـ«الأعرف» و«الأبدع»، حتى لو بدا صغيرًا أو هامشيًّا. توليد ثروات اليوم والغد يعتمد بدرجة كبيرة على قدرة الدول على خلق المعرفة وإدارتها وإعادة تشكيلها وتنظيمها واستخدامها في قوالب تشبع «النهم المعلوماتي» والاحتياجات المتزايدة للإنسان المعاصر الفضولي (هذا لا يعني البتة أنه فضول جيد أو عميق!). وفي سياق استعدادات السعودية لتفعيل رؤيتها الإستراتيجية وتبنيها لبرنامج تحوُّل وطني طموح، يلزمنا طرح سؤال جوهري عن مدى إمكانية توليد ثروات من المعرفة والثقافة، تفلح في تنويع مصادر اقتصادنا الوطني؟
من مهرجان أفلام السعودية
لكي تولد إيرادًا من شيء أو أصل، يجب أولًا أن تمتلكه، أليس كذلك؟ هذا يطرح بدوره سؤالًا آخر: هل نمتلك «معرفة سعودية»؟ هنا أنوه إلى شيء مهم، وهو أنني بطرحي مفهوم «المعرفة السعودية»، لا أقصد إطلاقًا صبغ مفهوم المعرفة بالنزعة الثقافية المجتمعية أو النزعة الأيديولوجية، إنما أشير إلى «المعرفة المولدة للثروة» التي ننتجها نحن في السعودية عبر باحثينا ومخترعاتنا ومنتجاتنا ومنظماتنا ومبدعينا وفنانينا، من خلال برامج خلق المعرفة الجديدة وإدارة المعرفة القديمة وإعادة تشكيلها واستخدامها بقوالب مبتكرة مربحة. إذن، مفهوم «المعرفة السعودية» يساوي في الدلالة مفهوم «المعرفة الوطنية» أو«الذخيرة المعرفية الوطنية»، أي المعرفة التي ينتجها وطننا السعودي، وتسهم في إكسابه إيرادات جيدة دائمة.
هل ثمة معرفة سعودية؟ جوابي عن هذا السؤال المحوري: نعم أرى معرفة سعودية يمكن أن تكون مولِّدة لقدر من الثروة بطريقة مباشرة وغير مباشرة. وحين نجيب بالإيجاب عن مدى وجود معرفة سعودية، فإنه يتوجب علينا التأكيد على التمييز بين: امتلاك أو توافر المعلومات لدينا، وقدرتنا على خلق المعرفة وإدارتها بطريقة تدر إيرادات. ومن هنا، أرجو ألا يتوهم البعض أن بإمكاننا أن نعد المعلومات المتوافرة لدينا بشكل أو بآخر على أنها ضمن «الذخائر المعرفية السعودية» المدرّة للإيرادات. المعلومات كالرمال التي نتوفر عليها في أراضينا وصحارينا، وأما المعرفة فهي كالزجاج الذي ننتجه من تلك الرمال، وشتان بين رمال لا قيمة لها، وزجاج فاخر نادر؛ له أثمانه وأسواقه. وتجدر الإشارة إلى أن المعرفة السعودية تنقسم إلى: معرفة علمية بحثية، ومعرفة ثقافية مجتمعية، ولعلي أركز على النوع الثاني لارتباطه بوزارة الثقافة، وهو ما يتناسب مع الموضوع المطروح في هذا العدد من مجلة الفيصل.
الصناعات الإبداعية
كل مجتمع إنساني يتوفر على «معرفة محلية» يمكن أن تكون مصدرًا للإيراد الجيد وتنويع مصادر الدخل الوطني، إن حظيت بتخطيط إستراتيجي محكم. المعرفة المحلية السعودية تعكس كل معرفة يمكن للسعوديين إنتاجها بشكل دقيق ومفصل وكامل وموثوق عن ثقافة المجتمع السعودي وتجلياتها الأدبية والفنية والشعبية والتراثية والمعمارية. ويدخل في هذه المعرفة المحلية أيضًا ما يسميه البعض بـ«الصناعات الإبداعية» Creative Products؛ التي تتضمن –ضمن أشياء أخرى– المنتجات الفنية والثقافية في سياق الثورة المعلوماتية عبر الشابكة (الإنترنت)، حيث يستخدمها مستهلكون تفاعليون جدد، مواطنون وغير مواطنين. ويندرج تحت الصناعات الإبداعية صناعة النشر بمختلف أشكاله. وكل ما سبق يمثل مجالًا خصبًا لتوليد إيرادات ضخمة وخلق عشرات الآلاف من الوظائف الجيدة للشباب السعودي.
ظهر مفهوم الصناعات الإبداعية في أستراليا أوائل التسعينيات من القرن 20، وقد تفاعلت معه بعض الحكومات الغربية بشكل جادّ، ومن ذلك الحكومة البريطانية، حيث أسست وحدة خاصة للصناعات الإبداعية في وزارة الثقافة البريطانية مع تأكيد الوزارة على حتمية دعم وتشجيع الإبداع الناتج من (الملكية الفكرية) أو المتعامل معها، ومع الوقت أصبح التركيز بشكل أكبر على الصناعات ذات النزعة الفنية والثقافية وحقوق النشر (أي مع تركيز أقل على براءات الاختراع والماركات المسجلة التي تلقى اهتمامًا أكبر لدى وزارة التجارة والصناعة) (انظر: الصناعات الإبداعية، تحرير: جون هارتلي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة عدد 338، ج1، 2007م، ص 160 -158). وفي هذا الكتاب المهم، ورَدَ العديد من المؤشرات المؤكدة على أهمية الصناعات الإبداعية، ومنها على سبيل المثال:
في عام 2001م قُدِّر صافي عوائد الصناعات الإبداعية الناتجة فقط من (صناعة حقوق النشر الأميركية) بنحو 791 مليار دولار وهو ما يعادل 7.75% من إجمالي الناتج القومي، ويقدر عدد العاملين في تلك الصناعة بـنحو 8 ملايين، وتسهم في قرابة 89 مليارًا من الصادرات، وهذا يعني تفوقها على الصناعات الكيميائية والسيارات والطائرات وقطاع الزراعة والقطع الإلكترونية والحاسوب.
أما في بريطانيا فقد قُدرت عوائد الصناعات الإبداعية بـنحو 112 مليار جنيه إسترليني، ويعمل بها نحو 103 ملايين، وتشكل ما يقارب 5% من الناتج الإجمالي، وفي أستراليا تشهد تلك الصناعات نموًّا مطردًا بلغ ضعف معدل نمو الاقتصاد ككل.
وفي اتجاه يعزز الحديث عن الدور الخطير لمثل تلك الصناعات في هذا القرن يؤكد أحد مؤلفي الكتاب (ريتشارد فلوريدا) -أستاذ كرسي Hirst للسياسة العامة في جامعة جورج ميسون- أن الطبقة الإبداعية (من علماء ومخترعين وفنانين وموسيقيين) ستكون هي الطبقة الأكثر تأثيرًا، وأنها ستفرض أنماطها في التنظيم والإدارة وساعات العمل. وقد تعرض الكتاب إلى مفهوم «صناعة الثقافة» مع إيراد جملة من الانتقادات لهذا المفهوم (على سبيل المثال من قبل مدرسة فرانكفورت) وربطها بمفهوم «الاستنتاج الآلي» ومفهوم «تجميل السياسة» ومفهوم «تسليع الثقافة»، وهو ما يتوجب تجنبه. وفي هذا السياق، يلزمنا التنويه إلى أن الثقافة ارتبطت في عالمنا العربي بممارسات لا تمت بصِلة بالأبعاد التنموية في كثير من تصوراتها وممارساتها ونتاجاتها؛ إذ يتوهم كثيرون أنها معنيّة بالأدب والفكر من زوايا كتابية أو تنظيرية صرفة، من دون أن يكون لها دور ملموس في التعبئة الاجتماعية الواجبة لبناء منصات قوية للتنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وهذا وهم يجب إزالته.
في رأيي، يمكننا الإفادة الناجعة من فكرة «الصناعات الإبداعية» من جانب وزارة الثقافة بالتنسيق والتكامل مع وزارة الإعلام والجهات الأخرى ذات الصلة، عبر تأسيس وكالة متخصصة في وزارة الثقافة باسم: وكالة الوزارة للتنمية الثقافية، تُعنَى بجعل الثقافة رافدًا لتنويع الاقتصاد الوطني، بما في ذلك البناء والتعضيد لـ«رأس المال الثقافي» و«رأس المال الاجتماعي» وتعزيز «الابتكارية الوطنية»، حيث تمتلك السعودية مقومات كبيرة لتحقيق ريادة على المستوى العربي في هذا الفضاء الثقافي التنموي الإبداعي. وأحسب أنه سيكون للوكالة الجديدة دور رئيس في تقوية الذراع التخطيطي الإستراتيجي للوزارة في كل ما يخص الممارسات الثقافية على نحو يزيد من جودة المحتوى التخطيطي للثقافة وانعكاساتها في الخطط التنموية.
غياب الركائز القوية للفعل الثقافي
ومن خلال قراءة متمعنة في الخطط التنموية عبر مراحلها المختلفة، لم أجد ركائز قوية للفعل الثقافي والإبداعي حيث لم تفلح تلك الخطط في تفعيل الثقافة والإبداع وجعلهما رافدين للتنمية والاقتصاد، وقد يكون ذلك راجعًا لعدم وجود وحدة متخصصة في وزارة الثقافة قادرة على بلورة أهداف ناضجة ومبادرات ملائمة. وللمعاونة في تأسيس الوكالة المقترحة، أضع جملة من النقاط العملية:
أولًا- الإسراع في تكوين فريق وطني متخصص في الصناعات الإبداعية وفريق آخر للمعرفة السعودية (المحلية)، مع إمكانية الإفادة من بعض الخبرات الدولية الجيدة في الفريقين وبالذات الأول. على أن يكون الفريق ممثلًا لوزارات الثقافة والإعلام والتعليم (التعليم العالي)، وبقية الجهات ذات العلاقة.
ثانيًا- إعداد وثيقة لخطة إستراتيجية للتنمية الثقافية مشفوعة بخطة تنفيذية تفصيلية جيدة. وقبل إعداد مثل ذلك يتوجب علينا –بطبيعة الحال- القيام بتحليل إستراتيجي نقدي دقيق. وهنا أشير إلى أنه ليس من المبالغة في شيء إنْ قال أحد بأننا لم ندخل بعد قرن «المدن المعرفية»؛ إذ لا توجد أي مدنية سعودية تحقق إيرادات ضخمة عبر المعرفة التي تخلقها وتديرها، و«الإيرادات المعرفية» لا تشكل نسبة تذكر من دخلنا الوطني. نحن لا نريد أن نعيش فيما يشبه «عشوائيات المعرفة» مع انخداعنا بأننا في مخططات منتظمة ومعتمدة من جانب «السلطة المعرفية». نحن نمتلك بعض المقومات والإمكانيات ولدينا بعض البحث الجيد وبعض المعرفة التي تدرّ إيرادات أو التي يمكن أن تدرّ إيرادات، هذه حقيقة، ولكن الطريق طويل وشاقّ، والرؤية الملهمة يجب أن تكون حاضرة وموجهة للتفكير البحثي والقرار المعرفي، مع تشريعات مشجعة وآليات ميسرة، وضبط وتقنين، يعين على إعادة ضبط البوصلة البحثية بالاتجاه الصحيح؛ بما يوصلنا إلى الكنوز المعرفية، فهي مشاعة لكل من يطلبها بجدّ وتفانٍ.
ثالثًا- الاستعداد الحسن للإجابة عن أسئلة محورية، من قبيل: هنالك أسئلة فرعية عديدة تتطلب إجابات دقيقة، ومنها: هل نتوفر على معلومات دقيقة عن «المعرفة السعودية الناجزة» وتلك التي يمكن أن تكون «ناجزة»، ولو بعد حين؟ ما مصادر هذه المعرفة وتلك؟ وكيف تتحقق؟ وما قيمتها؟ وماذا تحتاج؟ وإلى أين تتجه؟ ما المزايا التنافسية للمعرفة السعودية؟ وماذا عن الصناعات الإبداعية السعودية؟ وماذا عن المعرفة السعودية المحلية؟ هل هنالك تنسيق كافٍ بين مؤسساتنا البحثية فضلًا عن التكامل؟ ماذا عن ربط البحث العلمي التطبيقي بالصناعة؟ وماذا عن ربطه بالابتكار؟ ما خصائص الابتكار الذي يقودنا إلى اقتصاد معرفي؟ كل هذه الأسئلة تتكثف حول سؤال واحد كبير: «المعرفة السعودية» هل أحد يرعاها؟
رابعًا- التنسيق الكافي من أجل إدماج المكون الثقافي العميق في الخطط والبرامج التنموية؛ إذ المفترض أن يكون ضمن الافتراضات والمدخلات الأساسية (Basic Assumptions) في أي نموذج تنموي، ولنعلم أن «غياب المكون الثقافي سيجعل من الإستراتيجية الوطنية حبرًا على ورق التنمية!!».
بواسطة عبدالله البريدي - كاتب و أكاديمي سعودي | يونيو 30, 2017 | كتاب الفيصل, مقالات
مفهوم الترفيه يشير -في إطاره العلمي العام- إلى الأنشطة التي من شأنها التسلية عن الناس في أوقات فراغهم؛ وفق إطارهم الثقافي، وأمزجتهم الخاصة. قد يكون من المناسب أن نركب مقاربتنا الثقافية التنموية للترفيه في المجتمع السعودي على هذا المفهوم، عبر عمليتي التحليل والتعليق على الكلمات المفتاحية الواردة في هذا المفهوم، وليكن ذلك في ثلاثة محاور كبيرة.
رفّه عن نفسك بقدر إنتاجك!
وردت في المفهوم عبارة «في أوقات فراغهم»، فماذا عساها تعني؟ ماذا عن أولئك العاطلين أصلًا الذين لا يعملون ولا ينتجون، وكل أوقاتهم فراغ في فراغ، هل هم بحاجة إلى ترفيه؟ أم أنهم يحتاجون بالدرجة الأولى إلى العمل والإنتاج؟ هذه المسألة تجرنا إلى التأكيد على أن الترفيه هو نشاط مكمل للإنتاج، لا معوضًا عنه، ولا مسلِّيًا عن فقده أو ضعفه. الترفيه ليس هدفًا بحد ذاته، بل هو مجرد وسيلة. الترفيه ليس هو الطعام، بل الملح الذي يزينه. لقد تشكل وعي مجتمعي يقود إلى عدم القناعة بإنفاق الأموال الطائلة على مشاريع ترفيهية على حساب تشغيل الطاقات الشابة أو الوفاء بالاحتياجات الأساسية للناس. يخطئ كل من يعاند هذه الحقائق أو يتجاهلها، وسيكون للترفية -حينها- حمولات سلبية كبيرة في المخيلة الشعبية، وهذه خسارة فادحة يسعنا تجنبها. ويتأكد خطورة ما قلناه، بالنظر إلى تنامي تطبيق فكر الليبرالية الجديدة في المسار الاقتصادي المجتمعي في بيئاتنا العربية. إن الليبرالية الجديدة لا تؤمن بفكرة ربط الترفيه بالعمل والإنتاج، بقدر ما تهتم بتحصيل العوائد والأرباح، ولو كان على حساب إشغال الناس وإضعاف تفكيرهم وإنتاجهم، وحقنهم بالتفاهة والسذاجة (للمزيد يمكن القراءة حول مفهوم Tittytainment). لقد أفلحت هذه الليبرالية في إعادة تشكيل المكون الوجودي للإنسان المعاصر ليكون مندغمًا مع الترفيه وصادرًا عنه: أنا أترفّه، إذن أنا موجود. وهذا ما يجعلنا نرى ترفيهًا تافهًا لمترفهين تافهين، لا ينتجون شيئًا ولا يقدمون إسهامًا لمجتمعاتهم.
وتأسيسًا على ما سبق، أضع بعض النقاط التي أرى أن على الهيئة العامة للترفيه التفكير حيالها:
أولًا: إعادة النظر في الافتراضات الأساسية التي تشكل الخطاطة العامة للترفيه، بحيث يكون المكون التنموي ركيزة تخطيطية، إن في الغايات، أو في المراحل، أو في المشاريع، أو في الميزانيات.
ثانيًا: الحاجة إلى الترفيه تزداد كلما نجحنا فعليًّا في توظيف الشباب والشابات وجعلهم منتجين، وزودناهم بمهارات العمل في المستقبل.
ثالثًا: إيجاد تشريعات وآليات مشجعة على تبني الترفيه من قبل الشركات والمنظمات، لترسيخ فكرة الارتباط بين الترفيه والإنتاج.
رابعًا: إدخال خبراء محليين في مجال الربط بين مسائل الترفيه والأبعاد التنموية والمجتمعية، وهذا يعين على إيجاد هندسة مجتمعية ذكية لبرامج الترفيه.
خامسًا: تذويب أفكار «الترفيه التنموي» في المناهج والمقررات، وتسويقها في البرامج الإعلامية والتوعوية.
رفّه عن نفسك وَفْق ثقافتك!
لو جسدنا المعنى الوارد في هذا العنوان الفرعي، لقلنا: الترفيه صورة بروازها الثقافة. لا يستطيع الترفيه الانفلات من قبضة الثقافة؛ لا من حيث التشكيل الأولي الأصلي، ولا من جهة التطور المرحلي المتتابع، ولا من زاوية ما يقبل وما يرفض منه. إنها إطار مشكّل حاكم. هذه المسألة نجدها في كل مجتمع، وهي طبيعية جدًّا، غير أنها تمثل معضلة في المجتمع السعودي على وجه التحديد؛ لماذا؟ لأن الثقافة مأزومة! نعم، هي مأزومة من جراء أسباب عديدة ذات طبيعة تراكمية معقدة. ومن أهمها السبب الذي يعود إلى اشتباك «الثقافي المتنوع» بـ«الديني المنمط» في مسائل الترفيه وبرامجه ومساراته. الديني المنمط (الفكر السلفي) يصدر «فتاوى جماعية حازمة» لمسائل مختلف حولها دينيًّا وفقهيًّا، كمسائل المسرح والموسيقا والغناء، ويجعلها في مرتبة عالية في «هرم التدين السعودي»، الأمر الذي يُوجِد احتقانًا شديدًا لدى الفئات المحافظة إزاء البرامج التي تتضمن شيئًا من هذا، ويدفعهم إلى ممارسات احتجاجية فوضوية. الحقيقة عندي أن الجميع يتحمل قدرًا من المسؤولية حيال ترسخ الذهنية الدينية المنمطة، وعليهم جميعًا (السياسي والمجتمعي) أن يعترفوا بجسارة وشجاعة، وأن يتقبلوا دفع التكاليف والقيام بالاستحقاقات الواجبة، من خلال برامح إصلاحية ذكية ممرحلة.
بدون هذا الاعتراف وهاتهِ البرامج، لن يتطور المشهد الترفيهي السعودي، ولن يكون قادرًا على الانعتاق من الإسار الديني الممانع. وللتدليل على ذلك، أعود إلى خزانة الحكايا المجتمعية؛ لأستدعي قصة واقعية ظريفة حصلت في المعهد العلمي الديني في مدينة بريدة قبل ما يقارب 50 سنة (في حدود عام 1391هـ/ 1971م). هذي الخزانة تقول: قامت ثلة من طلبة المعهد (ممن كانوا روادًا لمكتبة الثقافة العامة ببريدة، وهذه لها قصة ثقافية يجب أن تروى) بإعداد مسرحية تدور حول الأدوار الشريرة التي يلعبها الشيطان في حياة الناس، ومنها حثهم على الكذب والغيبة والنميمة. اقترح أحدهم تسميتها بـ«برلمان إبليس». نُفذت المسرحية على حين غفلة من شيوخ المعهد، الذين علموا بها بعد ذلك، وهو ما استدعى إصدار عقوبات تأديبية صارمة للطلبة المشاركين، وقد وصلت أحيانًا إلى نَفْيِهم إلى معاهد علمية خارج المدينة (نُفي بعضهم إلى المعهد المناظر في الرياض). وحين ننظر إلى ردود الأفعال المجتمعية لفئات محافظة عريضة حيال بعض برامج الترفيه في الآونة الأخيرة، ندرك أن النهج الممانع في الخطاب الديني التقليدي لا يزال هو سيد المشهد، ولم تفلح السنوات الطوال في زحزحته نحو المرونة الفقهية الممارَسة في بقية الدول العربية والإسلامية، وهي المرونة التي تنتج تنوعًا في الفتاوى والاجتهادات والتطبيقات. هناك إخفاق كبير في تشجيع الفئات المحافظة على إعادة الترتيب للمسائل الجزئية في المنظومة الدينية وهرم التدين السعودي. معالجة هذه المسألة في إطارها التفصيلي تخرج عن نطاق هذه المقالة المختصرة؛ لذا سوف نعاود التركيز على مسائل الترفيه.
لا أحسب أن الترفيه في السعودية سينجح في تخطي هذه العقبة الكَأْداء دون تغيير في طريقة التعاطي معها، من زاوية التشخيص والتحليل والتخطيط والتنفيذ، وعلى رأس ذلك الاعتراف الجماعي الجسور الذي أومأتُ إليه آنفًا، على أنني لست متفائلًا بحدوثه قريبًا؛ لضعف المؤشرات الدالة عليه، ومنها عدم تبلور القناعة الكافية بفك الاشتباك بين السياسي والديني، على نحو يقذف بنا خارج أسوار السلفية المقيدة.
على كلٍّ، سأطرح جملة من الأفكار التي ربما تعين في حل جزء من هذه الإشكالية من زاوية أو أخرى. ويمكن لهيئة الترفيه مع الجهات المعنية النظر في كيفية تطبيق هذه الأفكار:
أولًا: تعزيز فكرة «دولة القانون» في المجتمع السعودي. قد يقال: ما دَخْل القانون في هذه المسألة التي قلنا عنها: إنها ذات طبيعة دينية مجتمعية؟ باختصار، أقول بأن كثيرًا من مسائل الترفيه مختلف حولها دينيًّا، ولهذا فإن الحاكم على ذلك والضابط له ليس هو الرأي الفقهي لفئة مجتمعية معينة، إنما هو «القانون»، فما دام القانون لا يعارض إقامة برامج ترفيهية معينة نظرًا لصدوره عن رأي فقهي معين، فإنه لا يُسمح لأحد بمعارضة إقامتها باحتجاجاته الفعلية، أما طرح الآراء فقضية حرية تعبير، ويجب أن تكون مكفولة للجميع.
ثانيًا:صدور بيان من المؤسسات والشخصيات الدينية الرسمية وغير الرسمية تعزز هذه القضايا والأفكار، وتحذر من السلوكيات الاحتجاجية على برامج الترفيه المصرح بها قانونًا.
ثالثًا: ترسيخ هذه الأفكار في المناهج والمقررات والبرامج الإعلامية والتوعوية، بما يتناسب مع الشرائح المستهدفة.
رفّه عن نفسك وَفْق مزاجك!
لكل مجتمع محلي مزاجه الخاص. هذا المزاج يُنتج طرائق وأساليب محببة وأخرى غير محببة في مختلف جوانب الحياة، ومن ذلك ما يتعلق بالترفيه. ومن هنا، فإن من الواجب على هيئة الترفيه التعرف على «المزاج الوطني الخاص» للسعوديين بشكل عام، بجانب «المزاج المحلي الخاص» في كل منطقة. المزاج العام الوطني هو مزاج محافظ، ولهذا فإنه من المهم مراعاة ذلك في البرامج الترفيهية؛ بما في ذلك الموسيقا والمسرح والسينما؛ إذ إن المناسب للمجتمع السعودي هو الفن المحافظ، وهو الفن الذي أراه أصيلًا وراقيًا في الوقت ذاته. الفن الهابط أو الرخيص أو الماجن -في كل تمظهراته – لا يصلح للمجتمع السعودي، وإن كان ثمة طلب عليه من جانب بعض ممن لا يشكلون نسقًا عامًّا. ليس هذا فحسب، بل تتعين الإشارة إلى أنه من الطبيعي أن تشمل البرامج الترفيهية ما يناسب الفئات المحافظة دينيًّا في جميع المسارات، لا سيما أنها تشكل نسبة كبيرة في المجتمع. للوفاء بمتطلبات المزاج الخاص الوطني والمحلي، فإنه من الضروري العمل على تشغيل مكائن الإبداع الفني المحلي، الذي يتكئ على الأبعاد المجتمعية والدينية والجغرافية. سيحقق هذا الأمر ميزة تنافسية للفن السعودي الأصيل الذي لا يجده أحد إلا في هذا البلد، وهو المعبر عن روح البلد وعمقها الثقافي الحضاري. وفي ضوء ذلك، لا أرى أنه من المناسب -على سبيل التمثيل- التوسع في استجلاب فرق استعراضية دولية، لتقدم عروضًا ترفيهية؛ قد لا تكون قادرة على خلق الدهشة ولا على إنبات الابتسامة لدى المجتمع. صحيح أن كل شيء قد تمت عولمته، ومن ذلك الترفيه والنكت، لكنه صحيح أيضًا أن ما يضحك هذا الشعب قد لا يضحك الشعب الآخر بذات القدر من «الضحك الجواني»، في دلالة على رسوخ البعد المحلي في الترفيه والنكتة. النهج المتعقل المتوازن سيمكِّن الهيئة من جعل برامج الترفيه ملائمة لأمزجة الناس ومشبعة لأذواقهم، وملبية لتطلعاتهم الوجدانية والنفسية، وسيكون لهذا انعكاسات إيجابية على تقويم أداء الهيئة وإنجازاتها.
وهنا أضع بعض الأفكار العامة أمام هيئة الترفيه، فلربما تكون مفيدة في الجوانب التخطيطية والتنفيذية، ومنها:
أولًا: الحرص على تنويع البرامج الترفيهية المنفذة من جانب هيئة الترفيه، ومن ذلك مراعاة احتياجات المناطق المختلفة والفئات المحافظة، والسعي لسدها بشكل كافٍ، وبقوالب متوازنة.
ثانيًا: التشجيع على تأسيس معاهد فنية متنوعة، من أجل صقل المواهب المحلية المبدعة في مجالات الفن والمسرح والعروض ونحوها، مع تقديم الدعم المالي والاستشاري واللوجستي اللازم.
ثالثًا: تنظيم مسابقات من شأنها تعزيز التنوع والتلبية المناسبة للأمزجة والأذواق، والتعريف بالمبدعين في هذا المجال.
رابعًا: سعي هيئة الترفيه لأن تنأى ببرامجها وطروحاتها عن التصريحات الإعلامية غير المدروسة، ومن المهم أيضًا النأي عن معالجات بعض الكتاب السعوديين المنتمين لما يسمى بـ«التيار الليبرالي»؛ إذ إنهم يصوِّرون القضية على أنها انتصار على خصومهم من السلفيين والصحويين، وهذا يزيد الأوضاع اشتعالًا. باختصار: قوموا بعملكم بهدوء، واطلبوا من أولئك الكتاب الكفّ عن التهويل والمبالغة في خلق المعارك الوهمية مع الأطراف الأخرى. قولوا للطرفين: لسنا بحاجة إلى صداعكم وتناحركم. آمل أن تسهم هاته المقاربة الأولية في إعادة التفكير بالترفيه من منظور ثقافي تنموي، يتأسس على الحقائق الصلبة. ويمكن لهيئة الترفيه أن تجعل مبادرة مجلة «الفيصل» في استكتابي حول هذا الموضوع نواة لإقامة ندوات علمية متتابعة، يُدعَى إليها متخصصون في العلوم الاجتماعية والإنسانية والشرعية؛ لطرح أبحاثهم حول المسائل والإشكاليات المحيطة بقضية الترفيه، وما أكثرها، وما أعقدها، وما أحوجها لما أسميه بـ«الصدق الممنهج». هذا الصدق هو المعبر عن روح المثقف الحقيقي، الذي يؤمن بأن الصدق وحده هو ما يجعل مشاكل وطنه جزءًا من الماضي لا المستقبل.
وأخيرًا وبكل صراحة، أقول: المسألة معقدة وتتطلب معالجات علمية وفكرية معمقة؛ لتفكيك الاشتباكات المعقدة بين الأنساق والأفكار والتيارات، بين ذهنية الماضي وذهنية الحاضر والمستقبل. لا أحسب أن هيئة الترفيه ستفلح في تخطي العقبات والتحديات الكبار دون نهج علمي متعقل متوازن.