بواسطة لطف الصراري - صحافي يمني | مارس 1, 2018 | نصوص
قبل أن يطلق مدفعي الدبابة القذيفة الأولى، جفل سرب اليمام البري الذي كان يترقبه توفيق يَعبُر من وراء شجرة عوسج. لم يكن سربًا كبيرًا؛ عشر يمامات على الأكثر، لكنها كانت كافية ليختبر حظه في صيد اثنتين كما فعل ذات مرة. الإحباط الذي لفح نشاطه الصباحي على إثر جفول سرب اليمام، ثبّطه في وضعية الجلوس جاثيًا على ركبة واحدة. بقي لبرهة متشائمًا من إخفاقه المتزامن مع شروق الشمس، ثم رأى يمامة لم يعرف هل شردت عن السرب أم جاءت متأخرة عنه، وحطت على رأس ماسورة الدبابة. سحب شريطي المقلاع إلى الخلف وبين إصبعيه ثلاث حصيات. يجب أن يصطادها فورًا لكي يتمكن القائد من تناول إفطاره على الأقل.
توفيق يعبُر هو اسم مركب علق بهذا الشاب المتأنق بعد أن تطوع للخدمة العسكرية في حاجز تفتيش على المنفذ الغربي للمدينة في ذروة الحصار المفروض عليها. وحين كان أفراد الحاجز يمنعون دخول السيارات المحملة بمواد غذائية قبل نبش أكياس الخضراوات ودقيق القمح والأرز والسكر… كان توفيق يستاء على طريقته من بعثرة محتوى الأكياس على الأسفلت؛ لذلك كان يتجول بين خطي العبور ويتصرف بضوضاء مربكة لأفراد الحاجز؛ إذ يكتفي بنظرة على وجه السائق ومن إلى جانبه، ثم يدور حول السيارة وعيناه على صندوق الحمولة، وبضربة قوية من يده على جانب الصندوق، يصيح نحو السائق: يعبُر. ومع تكرار صيحته هذه، صارت لازمة سمّاه بها قائد حاجز التفتيش قبل أن يرفع طلبًا بنقله بالاسم نفسه. كان يمكن طرده نهائيًّا أو اعتباره اختراقًا من قبل العدو، لولا أن توصيات بمراعاة وضعه تأتي من مستوى قيادي عالٍ. ذلك هو السرّ الذي لم يبح به لأحد، وحين كان يسأله القادة الصغار والمقاتلون في محيطه، من أين يعرف كبار القادة، يكتفي بالقول: «لكل وجه كرامة». كان وجهًا قمحيًّا عريضًا، بأنف مقوس وعينين غائرتين تحت جفنين خفيفي الشعر، تحذران من يمعن النظر من قوة دفاعية هائلة تكمن وراء المظهر الساذج.
منذ تم نقله إلى هذا الموقع المنغرس عند ملتقى تلّين في الضاحية الشرقية للمدينة، بالأحرى بعد أسبوع فقط، اعتاد قائده الجديد أن يأكل يمامة مشوية «على الريق»، ثم يتناول إفطاره مع الجنود والمقاتلين في موقعه. في الظهر، اعتاد أيضًا أن يأكل يمامتين قبل الغداء. بدا الأمر كما لو أنه دواء قرره طبيب أعشاب أو وصفة عرّافة. غير أن المقدم، ذا القامة القصيرة والبطن البارزة بقسوة، هو من قرر هذه الوصفة لنفسه بعد فشل المقاتل الجديد في اختبارات الرماية بالكلاشينكوف والرشاش المتوسط. في آخر اختبار، قال له ساخرًا: «شكلك ما بتعرفش ترمي حتى جَولَبة»، وسحب منه الكلاشينكوف الذي كان صرفه له مع خمسة مخازن للذخيرة. انصرف المقدم لشؤونه، تاركًا المقاتل عديم الحيلة تحت شجرة السدر التي ظل طيلة أسبوع يتلقى تدريبات الرماية تحتها. بعد لحظات اختفى الشاب، لكنه عاد قبيل الظهر بينما كان المقدم يستظل مع جنديين تحت الشجرة نفسها. أفلت من يده اليسرى حزمة حطب على الأرض ورفع باليد الأخرى يمامتين برأسين مقطوعين، وشرع في شيّهما لأجل القائد.
بعد أن الْتهم المقدم اليمامتين المشويتين بمشاركة ضئيلة لمرافقيه، وصلت سيارة التغذية محملة بصحنين من الأرز بلحم العجل وأربع سمكات كبيرات وأطباق أخرى أقل شأنًا بالنسبة لمعدة القائد. أكل مثل ضبع محبوس وكان آخر من قام من فوق المائدة. حينها قرر أن موقعه القيادي يتطلب أكل يمامتين قبل الغداء وواحدة قبل الإفطار. «لا يمكن أذوق لقمة صبوح أو غداء بدون ما آكل قبلها لحم جوالب؛ واحدة على الريق وثنتين قبل الغداء». أكد الوصفة بحزم. سأله أحد المرافقَين بتردد عن السرّ في ذلك، محاولًا إخفاء توقٍ كامنٍ نحو مواقع القيادة التي تتطلب أكل اليمام كمقبلات. «هذا غذاء اليقظة»، أجاب القائد بثقة مقتضبة.
منذ ذلك اليوم لم يحدث أن أخفق توفيق يعبُر في اصطياد «غذاء اليقظة» سوى مرة واحدة. وإذا لم يتمكن من اصطياد اليمامة التي حطت للتو على رأس ماسورة الدبابة، فسوف يرسله المقدم إلى القرية لجلب زوجي حمام لـ«فتق الريق»، ثم سيتوجب عليه بعد ذلك مباشرة، مطاردة اليمام فرادى عبر الحقول القاحلة والتلال البعيدة. تلك التسوية توسط بها مساعد القائد في المرة السابقة حين انقطع الشريط المطاطي للمقلاع بين أصابع الصياد في اللحظة الأخيرة لإطلاق الحصى. لكن «توفيق» صار يفضل الخضوع لأية عقوبة على الذهاب إلى القرية لجلب الحمام. ذلك أنه في المرة السابقة والوحيدة، تسبب بضرب طفل على يد جدته بعصا توجيه الثيران. ضربته ضربًا مبرحًا وخائفًا، فقط، لأنه احتج بالبكاء ورمى الحجارة على «العسكري» لحماية طيوره. ولأن «توفيق» كان في طفولته يربي الحمام في سقف منزلهم بالمدينة القديمة، ولأنه لم يكن بعيدًا عن طفولته تلك، فهو يعرف ما يعنيه فقدان زوجي حمام دفعة واحدة. لو أنه لم يهتم بتخمين من أين جاءت اليمامة الجريئة، لكان اصطادها قبل أن تثير اهتمامه لمتابعة حركتها فوق رأس الماسورة العملاقة، الماسورة التي توشك أن تنطلق منها قذيفة بحجم صقر بالغ؛ لقد بدأت بنقر قشور الطلاء الأخضر المتشقق بمجرد أن حطت كما لو أنها تنقب عن شيء ما تعرف مسبقًا أنه تحت الطلاء. سبق أن رأى مشهدًا كهذا مرة أو مرتين فقط خلال سنة كاملة هي كل خبرته في صيد اليمام؛ هذه يمامة عطشى تنقب عن قطرات الندى المتسربة تحت قشور الطلاء.
عندما اهتزت الدبابة الجاثمة وسط حرش كثيف من الأراك والعوسج والحَلَص المتشابك أسفل التلّ، طارت يمامة الندى عكس اتجاه القذيفة. كان المقدم واقفًا أعلى الحرش الممتد إلى ثلث التل. ذلك هو مكانه المعتاد للإشراف على إطلاق القذائف وإعطاء الأمر الأخير بالتنفيذ، وقد حاول تأخير الإطلاق لما يقارب نصف دقيقة حتى يتمكن صياده البارع من قنص اليمامة على الماسورة. لكن توفيق يعبُر لم يكن لديه نباهة اليمام ليقرأ أفكار القائد. كان في الجهة المقابلة من التلّ الآخر، حيث الثكنات المبنية بمحاذاة جذور شجر الأكاسيا الشوكية. مستغرقًا في متابعة شرب اليمامة للندى البارد، كان يعرف أنه مشهد يمكن ألّا يتكرر إلّا في الشتاء التالي. ولطمأنة نفسه بخصوص غذاء اليقظة لذلك الصباح، اعتقد بما يشبه اليقين أن اهتزاز الماسورة سيخضّ اليمامة العطشى ويسقطها على مقربة من الدبابة. غير أن ما حدث لم يكن عكس توقعه وحسب، بل أغرب من طباعه التي يصفها جميع من في الموقع بالغريبة. ذلك أن السرعة التي انقذفت بها اليمامة إلى الخلف جعلته يقف بذهول أنساه من حوله. لم ينتبه حتى إلى أن سرب اليمام، الذي كان بعضه لا يزال فوق شجرة السدر والبعض الآخر وسط الحقل باحثًا عن بقايا حصاد حديث، قد جفل مرة أخرى بارتباك أشدّ، قبل أن يلتئم بسرعة مقتفيًا أثر عضوته المفقودة.
صرخ المقدم نحو صياده المشدوه: «انتباه يا عسكري. ما لك مقعّي كنّك أول مرة تشوف جوالب. فين الجولبة حق الصبح؟» «جوالب ما فيش اليوم يا فندم. طارين طارين، الدنيا شتاء ما فيش جوالب ولا حمَام». ردّ توفيق من جوار ثكنة مساعد القائد، كما لو أنه يتحدث مع زميل دراسة. كرر المقدم صراخه بصوت أقوى: «عسكري اجمع»، مع مطّة منفعلة للكلمة الأولى. كان يغذي انفعاله جوع لم يشعر به بعد لكنه متأكد من حدوثه. على الضفة الأخرى كان توفيق يتباطأ بينما يشدّه مساعد القائد من يده لإقناعه بتلبية نداء المقدم. قال توفيق للمساعد الطيب: «أنا مش عسكري. هو داري إني متطوع مش عسكري» «أيوه كلنا نعرف إنك مش عسكري بس إنت في موقع عسكري ولازم تطيع أوامر القائد»، ردّ المساعد، وواتته فكرة جديدة للتسوية؛ عرض على توفيق أنه إذا ما لبى النداء العسكري وذهب لجلب الحمام من القرية، فسوف يقنع القائد بشراء بندقية صيد هوائية تكون تحت تصرفه. التفت الشاب نحو المساعد كمن يطلب تأكيد الوعد، فبادر الأخير للتأكيد بأنه إذا لم يقتنع القائد بذلك، فسوف يشتريها بنفسه.
عندها فقط، استجاب كخروف متمرد تم ترويضه للتو. هرول المساعد وصائد اليمام منحدرين من منتصف التل الأول وصاعدين ثلث التل الثاني، وعندما وصلا أمام المقدم، لم تكن أوامره تتضمن الذهاب إلى القرية لجلب الحمَام. أراد أن يأتيه الشاب باليمامة التي كانت فوق ماسورة الدبابة. «كان يقدر يصطادها قبل ما تنطلق القذيفة. الآن يروح يدوّر عليها» قال المقدم، وكلّف اثنين من المجندين بمرافقته لضمان عدم تهربه أو مكره في تنفيذ الأوامر. في تلك اللحظة، كان جميع أفراد الموقع قد جمعوا خطاهم نحو القائد على إثر ندائه العاجل، بينما أطل المدفعي برأسه من برج الدبابة ليطلب تأكيد الأوامر بإطلاق القذيفة الثانية.
بواسطة لطف الصراري - صحافي يمني | يونيو 30, 2017 | الملف
يمر الحديث عن الصحافة الورقية في اليمن، بسياقات إجبارية تتعلق بأمرين: صورتها التي كانت في طور التخلّق منذ النصف الأخير لعقد التسعينيات، وما صارت إليه في المشهد المأساوي الراهن. مسار منحشر بين زمنين؛ زمن تجسده صورة غير مكتملة التظهير، وزمن يجسده مشهد انهيار مستمر للمناخ الملائم للعمل الصحفي. هكذا باتت الصحافة الورقية مثيرة لحنين قرائها على قلّتهم في هذا البلد. ذلك أن ما كان متاحًا لهم من إصدارات صحفية يمارسون من خلالها متعة القراءة المتنوعة، تلاشى نهائيًّا. حنين لزمن كانت فيه الصحافة بدأت لتوها التنفس برئتي الألفية الثالثة، وكان المرور على أكشاك الصحف طقسًا يوميًّا يحرصون على أدائه قبل الذهاب إلى العمل، أو حين عودتهم، متأبطين جريدة تحتوي ما يثير اهتمامهم ونقاشهم في جلسات المقيل.
وفقًا للمعايير الصحفية دوليًّا، وعدد الصحف التي تخطت المئة صحيفة في عموم اليمن، لم يكن زمن الصورة غير المكتملة، زمنًا ذهبيًّا لصحافة مزدهرة مهنيًّا. رغم ذلك، قليل من الصحف الأهلية التي ظهرت بعد عام 2005م، حاولت جعله كذلك، عبر تفعيل حق الحصول على المعلومة وكسر نمطية الإعلام الحكومي والحزبي، ورفع نسبة أجور الصحفيين إلى حد ما، وانتهاج خط تحريري مغاير وغير متحيز. غير أن رئتي الألفية الثالثة التي ساعدت الصحافة الورقية على التنفس بشكل أفضل، وإحراز تقدم نسبي في مستوى المهنية والتوزيع والعمل المؤسسي إجمالًا، ساعدت أيضًا في تصاعد حظوة الإعلام الإلكتروني. وشأن جميع وسائل الإعلام في العالم، ازدهرت الشاشة، لكنها لم تقضِ تمامًا على جاذبية الورق.
في زمن الصورة غير مكتملة التظهير، عملت الصحف الورقية على تقليص الهوة التنافسية مع الإعلام الإلكتروني، بحيث تواكب الاستفادة منه تجاريًّا. لكنها استفادة لم تتقدم أبعد من استيعاب أرشيف المادة المنشورة ورقيًّا، ومقتطفات الأخبار العاجلة، وفتح نافذة صغيرة للإعلانات. غير أن مواردها الأساسية ظلت معتمدة على الإعلان الورقي، والمبيعات المعتمدة بدورها على قلة من القراء اعتادوا المرور على المكتبات والأكشاك صباحًا، أو من يصادفون بائعًا متجولًا لشراء صحيفة. أما الاشتراكات السنوية، فلم تكن تذكر ضمن الموارد الأساسية للصحف. ورغم أن هذا الانفتاح على الفضاء الإلكتروني خلق فرص عمل محدودة للصحافيين، فإنها فرص لم تكن مستقرة بحال، إضافة إلى كونها لا تسدّ الاحتياج المعيشي.
انهيار مفاجئ
نائف حسان
كان عام 2011م نقطة تحول للصحافة الورقية في اليمن؛ فبعد أن توقفت معظم الصحف بسبب الأزمة الاقتصادية التي رافقت الاضطراب السياسي إبان احتجاجات «الربيع العربي»، ما لبثت أن عاودت الصدور مع بداية مرحلة الانتقال السياسي، الذي حظي بدعم دولي واسع. عدد من الصحف الأسبوعية تحول إلى يوميّ، إضافة إلى صدور صحف يومية جديدة، وصحف أخرى غير منتظمة الصدور أفرزتها ساحات الاعتصام. كان ذلك انتعاشًا مفاجئًا يشبه الإفاقة الحيوية لمريض على وشك التعافي أو لفظ أنفاسه الأخيرة. تكوّن مشهد الانهيار المفاجئ للصحافة بالتزامن مع انزلاق التوتر السياسي نحو الحرب. ومنذ سيطرة جماعة الحوثي على العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014م، بدأت بعض الصحف بالاحتجاب، وتعرض بعضها للإغلاق، وبخاصة الصحف الحزبية والأهلية المحسوبة على خصوم الحوثيين، ثم تضاعفت المأساة حين اندلعت الحرب الشاملة في مارس 2015م، إذ تكاثرت العراقيل أمام استمرار صدور الصحف، الأهلية على وجه الخصوص. عشرات من هذه الصحف، يومية وأسبوعية، توقفت، في حين تشتت الصحافيون بين البطالة والمعتقلات والهجرة، والاصطفاف الحربي.
محمد عائش
يختصر نائف حسان – رئيس تحرير صحيفة «الشارع» اليومية، المشهد المأساوي الراهن للصحافة في اليمن، بوصفه «مخاطرة كبيرة وأمرًا غير مجدي». فالصحف المستمرة في الصدور في صنعاء، «تمثل وجهة نظر سياسية- حزب المؤتمر وجماعة الحوثي». ويضيف حسان: «الحرب أجبرتنا على التوقف عن الصدور، والتوقف عن ممارسة العمل الصحفي، ولا بديل آخر لدينا إلا انتظار توقفها». من زاوية أخرى، يرى محمد عائش- رئيس تحرير صحيفة «الأولى» اليومية، أن «انهيار سوق المبيعات» كان أحد أسباب انهيار الصحافة الورقية. وهو سبب متفرع -حسب عائش- عن سبب رئيس تمثل في «الكلفة المالية الكبيرة التي كان على الصحافة تحملها بفعل الحصار وارتفاع أسعار الوقود والورق بصورة خيالية». إضافة إلى ذلك، فقد «تسببت الحرب بإغلاق مدن وعزل مناطق، وأصبح انتقال الصحف وسط هذا التقطيع لأوصال البلاد متعذرًا، ما تسبب في محدودية الطباعة بحيث لم تعد العائدات كافية للإيفاء بكلفة النفقات». ولا يغفل عائش سببًا رئيسًا آخر تمثل في الأوضاع السياسية والأمنية، التي أفرزت انقسامًا حادًّا لدرجة أن «كل صحيفة لم يعد بإمكانها العمل بشكل مستقلّ» ذلك أن «تصنيف الصحف على هذا المعسكر أو ذاك في ظل هذه الأوضاع، هو مقدمة لأذى قد يلحق الصحيفة والعاملين فيها».
فكري قاسم
استرسالًا في وصف تأثير حدة الانقسام في العمل الصحفي، يرى عائش أن من يصدر صحيفة من صنعاء «لا يستطيع أن يقدم صحافة حرة بعيدًا من خطاب «التعبئة» لدى الطرف الحاكم… والحال نفسها لدى من يصدر من عدن أو من تعز، فهو لا يستطيع أن يقدم عملًا إعلاميًّا خارج ما تريده الجماعات المتعددة المسيطرة هناك». في تعز، كان فكري قاسم يصدر صحيفته «حديث المدينة» بشكل منتظم قبل عام 2011م، ثم عاد لإصدارها بصورة متقطعة عدة مرات حتى عادت تصدر بانتظام في موعدها الأسبوعي. لكنها توقفت نهائيًّا ضمن التوقف الجماعي للصحف. يقول فكري، الذي اكتفى بالتنويه بأن استمراره في إصدار صحيفته «كان صعبًا جدًّا لأسباب كثيرة»: «من لحظة اندلاع الحرب، قررت الابتعاد عن أجوائها وأكتب عن السلام الذي يحتاجه اليمنيون؛ لكي يتعافوا من الكراهية وتتعافى البلاد. لقد مضيت في خطتي هذه إلى اليوم ككاتب صحفي».
زكريا الكمالي
وفي مدينة تعز أيضًا، توقفت الصحيفة الحكومية «الجمهورية» عن الإصدار ورقيًّا بصورة نهائية. ويقول زكريا الكمالي، الذي عمل مديرًا لقسم الأخبار فيها قبل أن يتولى رئاسة تحرير صحيفة «ماتش» الصادرة عن المؤسسة نفسها: «لم نكن نتوقع أن يأتي يوم تتوقف فيه الصحافة الحكومية التي كانت تستمر حتى في الأعياد. منذ عملي في مؤسسة الجمهورية في عام 2005م لم أعرف التوقف عن العمل سوى لثلاثة أيام خلال إجازة عيدي الفطر والأضحى، أما حاليًّا، فنعتمد على خدمة «ماتش موبايل» لإرسال أخبار المباريات ونتائجها فقط».
لم يقتصر مشهد الانهيار المفاجئ للصحافة في اليمن على إغلاق الصحف أو اضطرارها للتوقف عن الإصدار؛ فمئات الصحافيين الذين كانوا يعملون في الصحف الورقية أو مواقعها على الإنترنت، أو في مواقع إلكترونية أخرى، وجدوا أنفسهم في مواجهة بطالة مفتوحة ومزاج عام في أقصى درجات التوتر. لا يتحدث معظم الصحافيين عن البدائل المعيشية التي اضطروا للأخذ بها من أجل البقاء، غير أن الصحافي ريان الشيباني يختزل في السطور التالية، ثقل الركام المتهاوي على الصحافيين إثر فقدان أعمالهم: «تأثرت معيشتي بشكل مطلق، وبخاصة أنني كنت أعتمد بشكل شبه كامل على عملي كمدير تحرير ثانٍ لصحيفة «الأولى» التي توقفت بفعل أزمة المشتقات النفطية، والجو العام الذي شحنته الحرب». ويتابع ريان بمرارة: «فقدت مصدر رزقي، وأصبحت عاطلًا لأكثر من عام. ثمّ انتقلت للعمل في منظمة حقوقية، بمبادرة شخصية من بعض الأصدقاء».
آمال متفاوتة بالانبعاث
ريان الشيباني
رغم أن الأوضاع الراهنة تلقي بظلال شديدة القتامة على توقعات عودة الصحافة الورقية في اليمن على المدى القريب، فإن كثيرًا من الصحافيين لم يفقدوا الأمل بالعودة، حتى مع فارق سقف التوقعات. يؤكد نائف حسان أن استئناف الإصدار بالنسبة لصحيفته، مرهون بزوال أسباب التوقف. وفي حين يؤكد تمسكه بمستوى «الاستقلالية والمهنية والمصداقية»، الذي كان ملتزمًا به قبل التوقف، يؤكد أيضًا على ضرورة «تحسين الجودة»، ويرى أن عودة الصحافة الورقية وتعافيها مجددًا، «يعتمد على الصحافيين وطريقة ممارستهم لمهنتهم». في السياق ذاته، يتوقع محمد عائش، بدرجة تفاؤل عالية «أن تعود الصحافة المطبوعة إلى حالها من الحيوية والازدهار وربما أفضل». في حين يربط فكري قاسم توقعه لمستوى انتشار أي مطبوعة مستقبلًا، بقربها من ضحايا الحرب. وبنظرة ملامسة لواقع ما كانت عليه الصحافة اليمنية وما صارت إليه، يشير زكريا الكمالي إلى عاملين أساسين يرجحان أن تَلْقَى الصحافة الورقية صعوبات كبيرة في استئناف عملها؛ هما المبيعات والإعلانات. فالمبيعات التي لم تكن مزدهرة بالمستوى المطلوب في الماضي، لن تنتعش بسهولة مستقبلًا، ولن يعود الإعلان التجاري مثلما كان في الظروف الطبيعية أيضًا، وذلك «بسبب هجرة رؤوس الأموال وتضرر البيوت التجارية».