صحافة دول المغرب العربي.. نهايات مأساوية.. وأفق مسدود
قبل أسابيع، خاض صحفيو جريدة «صوت الأحرار» الجزائرية موجة من الاحتجاجات؛ بسبب عدم تلقّيهم أجورهم لعدة أشهر. هذه الأزمة، دفعت هؤلاء إلى الاعتصام أمام مقر حزب جبهة التحرير الوطني، وهو من أقوى الأحزاب السياسية الجزائرية؛ لمطالبة رئيسه بالتدخل لإنقاذ هذه الصحيفة الناطقة بلسان الحزب من الأوضاع المالية الصعبة التي أصبحت تُنذر بإغلاق هذه الصحيفة التي تأسّست سنة 1998م.
وفي الحقيقة، لا تُشكّل وضعية هذه الصحيفة نشازًا، بعدما أفلست صحفٌ كثيرة منذ بوادر الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الجزائر، والبقية الباقية من الصحف الأخرى تئنُّ تحت وطأة جملة من الظروف التي قد تُعجّل بنهاية العهد الذهبي للصحافة الورقية الجزائرية. وتتشابه أوضاع الصحافة الورقية في الجزائر مع جارتها الشرقية (تونس)، وجارتها الغربية (المغرب)، مثلما تتشابه الأعراض التي أدّت إلى هذه النهاية المأساوية التي تعيشها الصحف الورقية في بلدان المغرب العربي الثلاث، وهي الأعراض التي عجّلت بالدفع باتجاه هذا الأفق المسدود. ويبدو أنّ هذا المشهد، ما هو في حقيقة الأمر سوى رجع صدى لما تُعانيه الصحافة عبر العالم بعد ظهور تقنية الإنترنت التي غيّرت الكثير من المفاهيم، ليس في قطاع الإعلام وحسب، إنّما في مجالات الحياة كافة. ولهذا حاولت مجلة «الفيصل» أن تستطلع أحوال الصحافة الورقية في بلدان المغرب العربي الثلاث: الجزائر، وتونس، والمغرب، متسائلة عن حقيقة الأخبار التي نطالعها يوميًّا بخصوص أفول عناوين صحفية كثيرة عجزت عن المقاومة، وهو السؤال الذي يجرُّ حتما إلى الحديث عن الأسباب التي تقف وراء ذلك، مع تقديم محاولة فهم جذور هذه الأزمة من أفواه بعض رجالات مهنة المتاعب في الجزائر وتونس والمغرب.
الانتشار العددي للصحف عجّل بانحسار دورها
يرى نذير بولقرون، مدير تحرير يومية «صوت الأحرار»، أنّ الصحافة الورقية (المكتوبة)، مهدّدة بخطر، ليس فقط الانكماش، «ولكن الزوال أيضًا، وهذا الأمر نتيجة لعوامل كثيرة أهمُّها: انتشار الفضائيات وظهور تكنولوجيات الاتصال الحديثة التي تُمكّن متابع الأحداث من الوصول إلى الخبر في حينه مدعّمًا بالصوت والصورة، وهذا ما يجعل الصحافة المكتوبة تعاني انحسار المقروئية، حتى في الديمقراطيات العريقة، حيث صارت الصحافة الورقية تعاني أزمات مالية بسبب ضعف الإشهار. وقد عجّل ذلك بمحاولة كثير من الصحف أن تتكيّف مع الأوضاع الجديدة من خلال مسارعتها إلى إنشاء طبعات إلكترونية».
ولإعطاء الصحف الورقية في الجزائر جرعة من الأُكسجين تُمدّد بعض الشيء في دورة حياتها، يؤكد مدير «صوت الأحرار» أنّه «من الممكن أن نطيل في عمر الصحافة بأمرين اثنين: أولهما التركيز على صحافة الرأي، وثانيهما الاهتمام بشكل أساس بما يُسمّى عندنا «الصحافة الجوارية»، أي تلك التي تهتمُّ بنقل انشغالات المواطن، وتُعنى بشؤونه الحياتية المباشرة». ومن الأمور الأخرى التي عجّلت بانحسار دور الصحافة الورقية في الجزائر، بحسب نذير بولقرون، الانتشار العددي إلى درجة «التعويم» (160 عنوانًا يصدر يوميًّا) إضافة إلى كثير من الدوريات الأسبوعية والشهرية، لكنّها في وجود هذه التخمة العددية، «لم تتطوّر من ناحية المهنية والاحترافية وصناعة المضمون (المحتوى)، كما كان من المفترض أن تتحوّل الصحف الجزائرية الكبرى إلى مؤسسات، وهذا ما لم يحدث، بكلّ أسف، وبقي الجانب التجاري هو الذي يفرض سلطته على أصحاب هذه الصحف».
مطالب بالتجدُّد والبحث عن التمويل
من جانب آخر، يُؤكد العربي ونوغي، المدير العام لجريدة «المساء» الحكومية، أنّ ثورة التكنولوجيات الحديثة أثّرت في أوضاع الصحافة المكتوبة في العالم، وليس الجزائر وحسب؛ بسبب كونها غير مكلفة، فـ«يكفي أن تحمل بين يديك حاسوبًا مرتبطًا بالإنترنت ليكون أمامك العالم كلّه»، في حين إصدار صحيفة ورقية، مثلما يؤكد مدير «المساء»، صار عملية مكلفة، «وتحتاج إلى طباعة، وشبكات توزيع، وإدارة فعّالة، وعشرات الموظفين من صحفيين وإداريين وتقنيين، وغير ذلك، لتصل إلى القارئ في الوقت المناسب». وعلى هذا الأساس، يرى مدير «المساء»، أنّ الصحافة الورقية في الجزائر «فقدت، وهي تفقد يوميًّا، المزيد من قرائها لصالح الإعلام الإلكتروني والتلفزيوني وشبكات التواصل الاجتماعي؛ إذ إنّ تلك الوسائط توفّر المعلومة في الوقت المناسب، وبأقلّ التكاليف، ومهما بعُد مكان الشخص الذي يطلبها».
ولا يستثني العربي ونوغي من هذه القاعدة، التي تقلّص مجالات حركة الصحافة الورقية، تلك الصحف التي يُطلق عليها في الجزائر صفة «الصحافة العمومية»، أي التابعة للدولة؛ لأنّها تخضع كغيرها من المؤسسات لمنطق السوق، على اعتبار أنّها مؤسّسات ذات طابع اقتصادي وتجاري؛ فهي تعتمد بشكل أساس على مداخيلها من الإشهار، ولا تتمتّع بأيّ دعم حكومي، وهو ما يجعلها عرضة للاندثار والاختفاء تحت طائلة الإفلاس كغيرها من الصحف الأخرى. ويُطالب مدير يومية «المساء» هذه الصحف بضرورة «التجدُّد وإيجاد بدائل تمويلية إذا أرادت الاستمرار والبقاء»، ويضيف قائلًا: «نحن الصحيفة الأولى في صحف القطاع العام سحبًا ومبيعات، لكنّنا الأضعف في الحصول على الإشهار العمومي؛ لذلك رفعتُ راية النضال منذ تنصيبي قبل سنة على رأس هذه المؤسّسة للمطالبة بوضع ميكانيزمات وآليات دقيقة في توزيع الإشهار الذي تستفيد منه كلّ الصحف الجزائرية، سواء كانت عمومية أو خاصة، وهذا بالاعتماد على مقاييس السحب والمبيعات والتوزيع».
الصحافة الورقية تسير إلى زوال
يعتقد نجم الدين العكاري، رئيس تحرير صحيفة «الأنوار» الأسبوعية، أنّ أوضاع الصحافة الورقية في تونس تُشبه أوضاع مثيلاتها في أغلب بلدان العالم؛ إذ تبدو كأنّها تسير إلى زوال، لكن بخطوات بطيئة، متأثرة بانتشار الإنترنت والهواتف الذكية التي قدّمت خدمة كبيرة للصحافة الإلكترونية والمواقع الإخبارية، والإذاعات والقنوات التلفزيونية أيضًا، وكذلك مواقع التواصل الاجتماعي وصحافة المواطن. وللتدليل على أزمة الصحافة الورقية في تونس، راهنًا، يؤكد نجم الدين العكاري، على أنّ عشرات الصحف اليومية والأسبوعية، التي ظهرت بعد ثورة 14 يناير 2001م، مستفيدة من إلغاء تراخيص الإصدار السابقة التي اعتمدها النظام السابق، قد اضطرّت إلى غلق أبوابها والتوقُّف نهائيًّا عن الصدور، وهو ما أدّى بأصحابها إلى تسجيل خسائر مالية كبرى.
ويرى العكاري أنّ أسباب إفلاس هذه الصحف تعود أساسًا إلى ضعف مقروئية الصحف، وضيق سوق الإشهار نتيجة الأزمة الاقتصادية، واتجاه المستثمرين إلى الضغط على نفقاتهم بالتقليص في ميزانية الإشهار وتخصيص الجزء الأكبر منها إلى الإذاعات والتلفازات.
وللتدليل مرة أخرى على أنّ الصحافة الورقية في تراجع، يشمل حجم السحب والتوزيع وحجم التأثير في الرأي العام، فإنه يُلحظ أنّ الصحافة الحزبية اختفت تمامًا أو تكاد؛ إذ إنّ البلاد تضم نحو 210 أحزاب، ولا توجد فيها إلا صحيفة أسبوعية واحدة هي «الفجر» تصدر بانتظام، وهي تابعة لحركة النهضة الإسلامية، في حين تعتمد بقية الأحزاب، ذات الحضور القويّ في المشهد السياسي، على مواقع إخبارية تابعة لها أو مموّلة جزئيًّا منها وصفحات الفيسبوك للدعاية لأنشطتها والترويج لأفكارها. وللتدليل للمرة الثالثة على ضعف مقروئية الصحف الورقية التونسية خلال السنوات الأخيرة في بلد تعداد سكانه 11 مليون نسمة، يُعلّق رئيس تحرير صحيفة «الأنوار»، بأنّ الصحيفة الأولى انتشارًا، وهي جريدة «الشروق» اليومية، لا يزيد سحبها عن 80 ألف نسخة، في حين أنّ سحب يوميات وأسبوعيات أخرى، لا يتعدّى عشرين ألف نسخة، ولا يصل إليها أحيانًا.
وقد تكون الأزمة الاقتصادية وتراجع القدرة الشرائية والإنفاقية للتونسيين وراء تراجع المبيعات؛ إذ إنّ سعر الصحيفة يراوح بين 700 و 800 مليم، أي تقريبًا ثلث دولار، وهو ما يعادل سعر ثلاثة أرغفة خبز. إضافة إلى معاناة الصحف الورقية تراجعَ عائدات الإشهار، وعائدات البيع، وهو ما دفع بالحكومة، تحت ضغط نقابتي الإعلاميين ومديري المؤسسات الإعلامية، إلى تقديم مساعدات للمؤسسات بقصد الإبقاء عليها، ومنها دفع مساهمتها في صناديق الضمان الاجتماعي، وخاصة أنّ عائداتها تراجعت بنسبة ثلاثين بالمئة. ويتأسفُ العكاري في نهاية تشريحه لأوضاع الصحافة الورقية التونسية بقوله: «لم يتم إلى الآن البدء في تنفيذ هذا القانون الذي صادق عليه البرلمان، كما لم يتم إلى الآن، الاتفاق على كيفية توزيع الإشهار العمومي على الصحف».