بواسطة حبيب بن عبدالله الشمري - صحافي سعودي | مارس 1, 2018 | إعلام
قرب انتهاء أحد المؤتمرات التلفزيونية للكاتب والروائي البرازيلي باولو كويلو، بحث عني بين الحضور، ولم يجد صعوبة في رؤيتي في إحدى زوايا الغرفة الحجرية الصغيرة حيث عقد المؤتمر في قصر أثري قديم في مدينة سانتياغو دي كومبوستيلا الإسبانية نظرًا لارتباط المدينة بالحدث آنذاك، عرَّف الحضور بي أولا ثم سألني، إن كان لديّ سؤال قبل أن يُختتم المؤتمر؟ أجبته بالنفي، فقال مبتسمًا: «انتهت فرصتك فلن تكون هناك مقابلة صحافية حصرية خارج الحجرة»؛ لأنه يعرف أنني سأطلب مقابلة صحافية معه. فعلًا يعتذر كويلو عن طلبات كثيرة جدًّا من المقابلات الصحافية التي تصله كل يوم من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية والمحطات الإذاعية والتلفزيونية حتى المحاضرات، ولذلك يتساءل الناس لماذا يتجاهل روائي يملك جماهيرية عالمية الحضور الإعلامي! الذي يمكن أن يساعده في ترويج أعماله ومؤلفاته الجديدة مع كل حضور!
عُرف عن كويلو شغفه بالبحث عن كل شيء وملاحقة الأحلام والأسئلة التي يتحدث عنها أبطال رواياته، ولذلك فهو ليس بدعًا من الناس في هذه الثورة المعلوماتية وبخاصة في عالم الاتصال والتواصل بين البشر، وجد الروائي البرازيلي في شبكات التواصل الاجتماعي وقبلها المدونات ضالته في عالم الكتابة اليومية القصيرة والتواصل السريع مع الجمهور، استطاع مواكبة كل جديد بدءًا من دخوله عالم التدوين مبكرًا بمقالات قصيرة جدًّا، ونهاية بشبكات التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر وإنستغرام حتى سكايب والآن بريسكوب وسيلة البث المباشر، التي أجهضت ما تبقى من إثارة ورغبة عند الصحافيين بعمل المقابلات الصحافية.
يكنُّ كويلو احترامًا وتقديرًا شديدين لجمهوره حول العالم ولا يخجل من التعبير عن ذلك في أكثر من مرة، يتواصل مباشرة معهم، يشاركهم يومياته، يطلعهم على مراحل أعماله، ويطلب منهم أحيانًا اقتراحات، ويأخذ آراءهم في أمور كثيرة، منها: شكل الغلاف ولونه لكل كتاب جديد، ويكتب دائمًا في تويتر يشكر جمهوره ومتابعيه على اهتمامهم ودعمهم، ويثمن ذلك لهم من خلال الرد على بعض أسئلتهم، وتخصيص أوقات معينة بين وقت وآخر للبث المباشر والحديث مع الجمهور من خلال سكايب أو غيره وبأكثر من لغة، مرة بالبرتغالية ومرة بالإنجليزية.
ينشر أحيانًا روابط إلكترونية مجانية لبعض كتبه، وهو ما يلغي الشك بأن اهتمامه وتواصله مع الجمهور بهذا الشكل الكبير والمتنوع هو من أجل تسويق وبيع أعماله فقط، كتب ذات مرة عن بائع كتب هندي في أحد شوارع نيودلهي يبيع رواياته بلا حقوق أو ترخيص قانوني، كتب أن هذا العمل أشرف من التسول أو السرقة، معبِّرًا عن رضاه التام وعدم انزعاجه، ويقول: إن إيجاد عمل لكسب الرزق الشريف أكثر أهمية من قضية قرصنة كتبه.
أحلام مستغانمي
كتب في تويتر قبل مدة تغريدة: «لديَّ أكثر من 41 مليون متابع في تويتر وفيسبوك، ثم يشتكي الناشر لأنني لا أعطي مقابلات.. لديَّ اتصال وتواصل مباشر مع الجمهور، فلِمَ الحاجة إلى وسيط بيننا». ولديه حتى هذا التاريخ ما يقارب من 15 مليون متابع في تويتر، و29 مليونًا في الفيسبوك. تساءل هو ذات مرة: لماذا يتعين على الكاتب أن يجعل من صحيفة أو مجلة وسيطًا بينه وبين جمهوره، في حين يستطيع هذا الكاتب الوصول للجمهور مباشرة وإيصال الرسالة إليهم بلا إعادة صياغة أو عناوين مثيرة، تغريدة واحدة تجيب عن سؤال التجاهل المذكور آنفًا، وربما تكشف سر اقتحامه واهتمامه اليومي بهذا العالم الافتراضي الجديد، رغم بدايته في المدونات التي لم تقضِ عليها شبكات التواصل الاجتماعي، فهو مدون مستمر ولا يزال يكتب المقالات القصيرة التي تجعل من القراءة أكثر جاذبية، حيث عرف كيف يجعل من جمهور الشبكات الاجتماعية قُرَّاء دائمين لمدونته ومقالاته بأسلوب قصير رشيق ومثير يتناسب مع معدل السرعة في هذا العالم. رفْضه للمقابلات لا ينبع أبدًا من قلة احترام أو التقليل من الصحف والصحافيين بل لأنه وجد في التواصل مع الجمهور عبر الشبكات الاجتماعية أفضل وأسرع وسيلة وذات طابع شخصي يقرب المسافات ويجعل من العلاقة الافتراضية بين الكاتب والجهور أكثر واقعية وإنسانية.
من لا يملك حسابًا في جمهورية فيسبوك، يعتقد أن كويلو يكتب فقط في تويتر، ومن لا يملك حسابًا في تويتر، يحسب أن الروائي لا يغادر فيسبوك، في حين أنه يكتب هنا وهناك وينشر صوره وجولاته اليومية في أكثر من شبكة بحسب قواعدها ومفهومها، يكتب جملًا أطول في فيسبوك، ويغرد أقل حروفًا في تويتر يلخص فيها فلسفته الروائية بحكمة أو مثل ومقولة، ويخصص إنستغرام لصوره وهو يمارس رياضة المشي اليومية برفقة زوجته الفنانة التشكيلية البرازيلية كرستينا، أو عند التقائه أصدقاءه ونزهاته معهم. تواصله المباشر مع الجمهور جعله في اتصال دائم مع جمهور من جميع اللغات والشعوب والأديان، وإن صعب على صحيفة بلغة ما من دولة ما الوصول إليه، فهو اختصر المسافات واللغات ووصل إلى الجمهور بشكل أسرع وأسهل من وسائل الإعلام الموغلة في التقليدية.
كويلو الذي تجاوز السبعين من العمر، جعل من تواصله مع جمهوره بهذا الشكل العفوي والمباشر في السنوات العشر الماضية، اختراقًا لمفهوم المقابلة الصحافية التقليدية وفلسفتها، واستطاع أن يصنع لنفسه صورة ذهنية إيجابية وجميلة عند الجمهور، هذه الصناعة التي أتقنها لم تتطلب منه عقدًا كبيرًا مع شركة علاقات عامة أو وكالة إعلامية، بل مجرد جهد وتخصيص وقت يومي واهتمام شخصي منه مع إيمان داخلي يقوم على حب الجمهور وتقديره والاعتراف بفضله على كاتب مثله.
وهذه التقنية الجديدة المتمثلة في الشبكات الاجتماعية التي كسرت الحواجز وتخطت الحدود التي تفصل بين الكاتب والجمهور؛ جعلت من كُتاب عرب آخرين أقل ميلًا وتفضيلًا للمقابلات الصحافية وأكثر عزوفًا عنها، فقد كتبت الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي ردًّا على باولو كويلو في حسابه العربي تقول: «أشاطره الرأي. بدوري على تواصل مع 12 مليون متابع في صفحتي في الفيسبوك وأكثر من مليون متابع هنا (تويتر). ما حاجتي لإعطاء مقابلات أو حضور مؤتمرات. قارئي هنا».
وتقصد هنا شبكات التواصل الاجتماعي، هذا الرد من مستغانمي الذي يعبر فعلًا عن توجه ورغبة لدى كُتاب كُثر غيرها في التواصل مباشرة مع جمهور القراء وعدم انتظار قرار مجلة أو قناة تلفزيونية بعمل مقابلات معهم وترويج حملاتهم والمشاركة في صياغة رسائلهم المجتمعية والثقافية، ومن أسباب ذلك كما تقول مستغانمي ذات مرة: «اعتزلت التلفزيون منذ سنوات هربًا مما ألحقته بي الأخبار العربية من أذى»؛ لذلك تقوم مستغانمي بصناعة صورتها بنفسها وصيانتها، وصياغة رسالتها من دون الحاجة إلى وسيلة إعلامية تشاركها ذلك.
مستغانمي عاشت تجربة جديرة بالاحترام في تواصلها الافتراضي مع الجمهور وعدم انتظارها أو اعتمادها على وسيلة إعلامية لإيصال تجربتها ورسالتها المتمثلة في دفاعها عن التراث الجزائري الوطني وحمايته من السرقة والانتحال؛ حيث قادت حملة مع مجموعة من الجزائريات شارك فيها الآلاف من الجزائريين بينهم عشرات المشاهير، حملة «البس جزائري في العيد» كانت عبارة عن احتجاج عبر مواقع التواصل الاجتماعي ضد جهات خارجية متهمة بالسطو على التراث الجزائري المادي واللامادي وبخاصة اللباس ومن ثم نسبته إلى بلدها.
وعندما بدأت مستغانمي حملتها وهي ترتدي لباسًا تقليديًّا عبارة عن «برنوس شاوي وصخاب من العنبر» لم تنتظر حصولها على مانشيت صحافي أو مشهد صحافي عابر ينتهي بنهاية ذلك اليوم، بل شاركت صورها باللباس التقليدي مع جمهورها الكبير في شبكات التواصل الاجتماعي على الفور، حيث طالبت «بيوم رسمي للزيّ التقليدي الجزائري»، وتضع الروائية الجزائرية صورتها باللباس التقليدي عنوانًا لها في تويتر وتنشر صورًا مماثلة بين وقت وآخر في حساباتها حيث تستثمر الشبكات الاجتماعية في نشر أخبارها، والأهم تكريس رسالتها الثقافية النبيلة للمحافظة على تراث وطنها.
وهناك أيضًا عدد من الكتاب والشعراء الآخرين في الدول العربية الذين يفضلون الكتابة في تويتر أو فيسبوك والتواصل مع الجمهور على تسجيل حوار صحافي أو انتظاره الذي قد يتأخر كثيرًا ويتلوّن قليلًا حتى يصل إلى الجمهور، وعلى النقيض تمامًا نجد هناك كُتابًا وروائيين عربًا وبعضهم من فئة الشباب لم يدخلوا الشبكات الاجتماعية بعد، وبعضهم دخلوها ولكن لم يتواصلوا مع أحد قط، أو ربما تحدثوا بفوقية وغطرسة مع الجمهور الحقيقي الذي غادر حساباتهم وهم غافلون، ومن يتابعهم إما زميل وصديق أو شخص عابر لا يفقه شيئًا بالأدب أو الثقافة، وربما جمهورهم عبارة عن حسابات وهمية. صارت حسابات بعضهم أشبه ما تكون بإعلانات الصحف المبوبة، يستخدمون الشبكات الاجتماعية باتجاه واحد فقط؛ لنشر الإعلانات من دون تفاعل وحوار حقيقي مع المتابعين من ردود وتعليقات وإعجابات، فما زالوا يعيشون في زمن الورق وانتظار يوم الطباعة التالي، وعدم معايشة اللحظة التفاعلية مع الجمهور التي خلقتها شبكات التواصل.
وبعيدًا من الثقافة وفي جانب سياسي محض استعرضت مجلة «كولومبيا جورناليزم ريفيو» التي تصدرها كلية الصحافة في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك الأميركية، أهم الأحداث الصحافية خلال العام الماضي 2017م. حيث أشارت إلى أن تغريدات الرئيس الأميركي دونالد ترمب في تويتر، كانت سببًا في تقليل قدرة الصحافيين على تحقيق سبق وحوار صحافي معه، إضافة إلى أنها تسببت في عزوفهم عن إجراء مقابلات صحافية معه؛ لأنه يكرر ما كان يقوله في تويتر، ولا يضيف شيئًا جديدًا، وهذا الأمر يسري أيضًا على ضعف رغبة الصحافيين في الحوار مع المثقفين والروائيين المنخرطين في الشبكات الاجتماعية، ولدى الرئيس الأميركي أكثر من 47 مليون متابع في تويتر، أكثر من متابعي قناة سي إن إن، وصحيفتي واشنطن بوست ونيويورك تايمز، كل على حدة، وهي وسائل الإعلام التي اشتهرت بمهاجمة ترمب لها بشكل مستمر، واتهامها بنسج الأخبار الكاذبة؛ لذلك يلجأ يوميًّا إلى تويتر لإيصال رأيه بسرعة من دون تعديل.
وبسبب هذه الهجرة واللجوء إلى الشبكات الاجتماعية من مثقفين وسياسيين يخسر الصحافيون، الذين خسروا سابقًا إثارة وحصرية الخبر الصحافي البسيط، أمرًا آخر وهو سحر المقابلة الصحافية وسبقها ومعلوماتها الجديدة، وإن حصلوا على فتات منها، فهي أقل إثارة وحصرية مما ينشره الكاتب أو الروائي أو حتى السياسي عبر حسابه في تويتر أو فيسبوك، أو تسجيلاته المرئية في يوتيوب أو سنابشات وبريسكوب.
بواسطة حبيب بن عبدالله الشمري - صحافي سعودي | أغسطس 31, 2017 | إعلام
تعد القناة التلفزيونية الرابعة وصحيفة الغارديان اليومية وأختها صحيفة الأوبزرفر الأسبوعية من الوسائل الإعلامية العمومية والوقفية في بريطانيا، بمعنى أنها مستقلة تمامًا في تمويل نفسها وإدارة تحريرها وتوظيف كوادرها، وعدم وجود مساهمين أو ملاك أو سياسيين يؤثرون في إيراداتها ومحتواها وتوجهاتها، رغم أن التوجهات التي تسير وفقها هاتان المؤسستان قائمة على المحافظة على القيم الليبرالية، والتحديث، والابتكار، ومواكبة التغير التقني في عالم رأسمالي جشع تسيطر عليه النزعة الربحية التي تغيب معها الحقيقة أحيانًا، ويختفي الصوت الآخر أحيانًا أخرى، وتقترب من طبيعتهما التشغيلية قنوات البي بي سي إلا أن دافعي الضرائب شركاء في سياسة الـBBC ويرفضون تمويلها من الإعلانات التجارية. الحديث عن التنوع في ملكيات وإدارات وسائل الإعلام في بريطانيا مهم ولا سيما في إعلام اليوم الذي تدور رحى صراع الملكية فيه بين الحكومات العربية ورجال الأعمال في تغييب تام للمُشاهد العربي الذي لا يحدد ما يرغب في مشاهدته، بل يُحدَّد له ذلك رغمًا عنه، سواء بتوجهات سياسية أو بضغوطات مُعلِنين.
مؤسسات الإعلام البريطاني
تنقسم مؤسسات الإعلام في بريطانيا إلى ثلاثة أنواع رئيسية: أولها تمثله صاحبة الحصة الجماهيرية الأولى والأكبر هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) بوصفها مؤسسة إعلامية حكومية عامة، لكنها لا تتلقى أي دعم من الحكومة البريطانية، بل إن تمويلها وبشكل مباشر من المواطنين البريطانيين عبر ضريبة سنوية مفروضة على كل مواطن يمتلك جهازًا تلفزيونيًّا بما يقارب من 190 دولارًا، في حين يقتصر تدخل الحكومة على تحصيل الضرائب وتحويلها للبي بي سي، وكذلك مساءلتها في البرلمان عن خططها وسياساتها وإخفاقاتها. وبذلك تتحرر البي بي سي من أي تبعية مادية من الحكومة البريطانية؛ الأمر الذي يعفيها من الانحياز للحكومة وأي حزب سياسي، وتضمن الاستقلالية وعدم تدخل الحكومة في سياستها التحريرية، وكذلك تحمي نفسها من سطوة المعلنين؛ إذ إنها لا تبث إعلانات تجارية في قنواتها، ومن ثم تتمتع باستقلالية تامة من الجشع الرأسمالي، وتحصل على حرية تامة مريحة في تناول القضايا، وأهمها ما يمس حياة المواطن المستهلك، وهو دافع الضرائب البريطاني؛ الأمر الذي جعل منها مؤسسة تحظى بثقة واحترام المشاهدين ليس فقط في بريطانيا بل حول العالم.
والنوع الثاني تمثله القناة الرابعة ذات المركز الثالث في نسبة الجماهيرية التلفزيونية وصحيفة الغارديان وأختها الأوبزرفر، إلا أن هناك اختلافًا بسيطًا بينهما، وهو أن القناة الرابعة لا تزال مملوكة من مكتب الاتصالات البريطاني، لكنها هيئة عمومية تديرها شركة خاصة مستقلة تمامًا عن الحكومة في تمويلها وإدارتها وتحريرها، في حين تنفرد الغارديان بأنها وقف خالص يعيد استثمار الأرباح في صناعة صحافة حرة ومستقلة، ومواكبة التطور في المحتوى والتقنية، وتأهيل الشباب البريطانيين في مجال الإعلام.
الهدف الأساس من القناة الرابعة هو تقديم خدمة عامة مفيدة للبريطانيين تقوم على التنوع وقيادة الابتكار في المحتوى والتقنية، وقد أُلزمت هذه القناة منذ تأسيسها بتنفيذ هذا الالتزام تجاه البريطانيين، وتخضع للمساءلة الحكومية فقط في حال إخفاقها في تنفيذ خططها وتحقيق أهدافها، أو شكوى ضدها، وتتغير التزامات القناة بين الحين والآخر بحسب القوانين التي تصدر من مكتب الاتصالات البريطاني، وذلك من أجل تنظيم عرض البرامج التفزيونية، وتحديد الأهداف التي يجب تحقيقها، وتلتزم القناة الرابعة «بتقديم خدمة عامة تتمثل بتوفير طائفة واسعة من البرامج المتنوعة عالية الجودة التي تضم بشكل أساس: برامج تحث على الابتكار والتجربة والإبداع؛ تتناسب مع أذواق واهتمامات مجتمع متنوع ثقافيًّا؛ وتُساهم بشكل رئيس في مقابلة الحاجة إلى قنوات إعلامية مُرخصة تعرض برامج ذات طبيعية تعليمية وأخرى تثقيفية؛ وأن تتخذ طابعًا مميزًا لها». وتلتزم القناة الرابعة أيضًا بتأمين برامج خاصة بالمدارس، إضافة إلى أن تكون نسبة معينة ليست قليلة من برامجها مُنتجة بالتعاون مع شركات من خارج حدود العاصمة لندن؛ من أجل دعم مؤسسات الإنتاج الصغيرة والمتوسطة التي تقع بعيدًا من عاصمة المال والاقتصاد.
ولا يمكن أن يكون الالتزام بمثل هذه الأهداف إلا من طريق إدارة مستقلة وتمويل مستمر ومستقل أيضًا لا يؤثر فيها وفي طريقتها ورؤية القائمين عليها بتنفيذ هذه الالتزامات، ويأتي تمويلها من الإعلانات التجارية، والخدمات الإلكترونية، وبيع المحتوى حول العالم. في حين تعد صحيفة الغارديان من أكثر الصحف الناطقة بالإنجليزية قراءة عبر الإنترنت حول العالم، وراوَحَ مركزها خلال السنوات الماضية بين الثاني والخامس عالميًّا، وتتنافس معها باستمرار مواطنتها صحيفة الديلي ميل، ونيويورك تايمز الأميركية، اللتان تتبعان القطاع الخاص بشكل كامل، فهل أثر الوقف في صحيفة الغارديان؟ تأثرت الصحيفة مثل غيرها؛ بسبب الأزمات المالية، وتراجع نسب التوزيع، وهي مشاكل عصفت بجميع الصحف حول العالم، إلا أنها استطاعت النهوض مرة أخرى، ويرجع السبب برأيي إلى أنها مؤسسة وقفية احتفظت بجميع أرباحها وأصولها واستثماراتها، ولم يقتسم أرباحها مساهمون أو ملاك، وساعد ذلك القائمين عليها باستقلالية القرارات التي ساهمت في تنويع الاستثمار، وتطوير المحتوى، وبناء بنية تحتية تقنية متطورة جدًّا.
في حين يقود النوع الثالث شبكة قنوات (itv) ذات الحصة الجماهيرية الثانية في بريطانيا، إضافة إلى بقية القنوات والصحف والشركات الإعلامية البريطانية، وهو القطاع التجاري الخاص القائم على مبدأ تحقيق الأرباح للمساهمين بأي صورة وعبر أي توجه، حتى لو كان محتوى هابطًا أو عنصريًّا قبيحًا أو إباحيًّا، وهو ليس موضع النقاش في هذا المقال، فالأمثلة كثيرة في الوطن العربي. ويحتم كل من النوع الأول والثاني على سياسة الوسائل الإعلامية أن تهتم بكل بريطاني يتحدر من أي أصول وأعراق وخلفيات أو حتى دين مختلف؛ لأنه في حالة البي بي سي فإن الجميع يدفع لها وشريك في سياستها، وفي حالة القناة الرابعة وصحيفة الغارديان فإن نوعية ملكيتهما وأهدافهما تحتم عليهما العمل وفق مصالح المشاهد البريطاني، وسماع وبث كل الآراء من جميع التوجهات والتيارات، إضافة إلى الأقليات في المجتمع البريطاني، سواء التي تمثل العرق والأصل والدين مثل المسلمين والسود والهنود أو التي تمثل فئات خاصة مثل المرأة والمعاقين.
الإعلام العربي: أبيض وأسود
وفي الوطن العربي يبرز وبشكل رئيس اللونان الأسود والأبيض، فهناك مجموعة قنوات وإذاعات حكومية تعاني وبشكل حاد الضعفَ وعدم القدرة على التطور واستقطاب الجمهور رغم وجود التمويل، وهناك قنوات وإذاعات تجارية خاصة لها جمهورها ومحتواها الجيد لكن بعضها يعاني الخلل وسوء الإدارة وغياب الرؤية وضعف التمويل، وبعضها الآخر -وبخاصة الثرية منها- يعاني توجهات أصحابها أو بسبب النزعة الربحية الشرسة القائمة على جلب المعلن وإرضائه. في حين هناك نوع ثالث لا يكاد يُمَيَّز لضعفه، وهو الوسائل الإعلامية التابعة للأحزاب السياسية، لكنها في غالبيتها صحف مطبوعة أو مواقع إلكترونية ليس لها ذلك التأثير الذي تملكه القنوات الفضائية أو الصحف الأكثر شعبية؛ لذلك تبقى وسائل ضعيفة لا تحمل سوى صوت ولون واحد ممل وهو الحزب. أيضًا يوجد قنوات أنشأها ويمولها بعض رجال الأعمال أخذت على عاتقها الهدف الأسمى، وهو تقديم عمل إعلامي محترم يتوافق مع قيم ومبادئ المجتمعات العربية الإسلامية، لكنها تعاني بصورة شديدة إما بسبب غياب الإدارة الإعلامية المحترفة، أو بسبب نقص وعدم ثبات واستمرار التمويل، ومثل هذه القنوات غالبًا ما تتبع ملاكًا متحمسين يقومون بإنشائها، ثم سريعًا ما يتلاشى الحماس ويتركونها بلا تمويل ولا وقف يساعدها على النهوض في كل مرة.
ولعل أفضل نموذج إعلامي واضح قائم على الوقف في الوطن العربي يمكن الحديث عنه في هذا السياق، هو مجموعة قنوات المجد التي بدأت تعمل وتُموَّل منذ عام 2012م من خلال وقف مخصص لها قادر نوعًا ما على تغطية نسبة كبيرة من تكاليفها بعجز بسيط يغطّيه المؤسسون وفاعلو الخير، والمجموعة قد تأسست عام 2002م ولكن كان تمويلها في البداية يأتي من الشركاء ورجال الأعمال، وتبرز المجموعة بوصفها نموذجًا لحالة الإعلام الوقفي بمعناها الصحيح، ودوره في المجتمع، لكنها هي أيضًا تعاني ضعفًا شديدًا في المحتوى، وغيابًا للإدارة الفعلية، والتخطيط الصحيح، وبغض النظر عن المحتوى الذي تقدمه والجمهور الذي تستهدفه تبقى قنوات المجد رائدةً في صناعة إعلام وقفي مستقل، ويمول ذاته بذاته، ولا يخضع لرغبات المعلنين، لكنه لا ينفك عن تأثير مؤسسي الوقف، وهو ما سيجعل من هذا النموذج بعيدًا كل البعد من هدف الوقف المستقل ومفهومه، وربما مع الخطط المستقبلية للمجموعة في صناعة المحتوى الشائق وفي توسيع أعمالها لتشمل الإنتاج ستكون أكثر جاذبية وأكثر نجاحًا مما هي عليه الآن مع استقلالية تامة من مؤسسي الوقف. هناك نماذج أخرى صغيرة لا تذكر، لكن يبدو أنه في جميع الحالات تعاني، مثل هذه المؤسسات، عدم وجود إدارة إعلامية جيدة، ناهيك عن الرؤية، وتقوم غالبًا على اجتهادات شخصية يعتريها الضعف، وكذلك هناك ضعف في الموارد البشرية، واستقطاب العاملين فيها وتأهيلهم، فالإعلام قضية شائكة وخطيرة على من لا يحسن الإدارة.
الحل لحالات التراجع والمشاكل المالية
بعد عرض نماذج الملكية في وسائل الإعلام في بريطانيا وغيرها من المتوافر في الوطن العربي، نستطيع القول أن الوقف في مجال الإعلام أو المؤسسات العمومية هو الحل الأمثل لحالات التراجع والانكماش سواء في الإعلانات أو المبيعات والاشتراكات والمشكلات المالية التي تواجهها المؤسسات الإعلامية والتي تزداد يوما بعد يوم، وهو الحل الأمثل لمعالجة غياب التنوع الثقافي والفكري، والوقف في هذا المجال هو بمنزلة ضمان استدامة دخل ثابت ومستمر لوسائل الإعلام للمحافظة على استمرارها وعلى القيم المجتمعية التي يقتلها المعلنون، الوقف الإعلامي سيكون سببًا في معالجة بعض المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من خلال استقلالية الطرح والمناقشة وتقديم الآراء والحلول الجادة التي لا تتأثر برأي وتوجهات المالك أو المعلن، وكذلك تكريس مفهوم الوطنية الذي يتجسد في تمثيل جميع أطياف المجتمع في أي بلد عربي، فعندما يكون المكون الأساسي للوسيلة الإعلامية هو ثقافة ورأي مالكها فقط، فلن يكون هناك فرصة لظهور آراء وثقافات أخرى.
مؤسسات ووزارات الأوقاف أو (الحبوس) في الوطن العربي تعد من أغنى المؤسسات والوزارات ماليًّا وعقاريًّا، لكن يغيب تمامًا عن أدبياتها ومفاهيمها قضية الوقف الإعلامي والتحبيس للعلم والمعرفة والتوعية؛ لأسباب كثيرة نعرف بعضها، ونجهل بعضها الآخر، ولعل أهم سبب ظاهر هو التصاق الوقف بمفهوم الحسيات مثل: المال، والطعام، والبناء مثل المساجد والعمارات، حتى عندما يتصدق رجال الأعمال بأموالهم فإنهم غالبًا ما يبحثون عن مثل هذه الحسيات أيضًا مثل: الطعام والكسوة، رغبة منهم في رؤية أثر عاجل وملموس. ويبقى السؤال في هذا المقال: ما أفضل طريقة وأنسبها لإدارة المؤسسات الإعلامية وتشغيلها بمعنى ملكيتها؟ حتى يستمر تمويلها وتتمتع باستقلالية فكرية وتحريرية، وتبقى قوية قادرة على الاستمرار وعلى أداء رسالتها وتطوير مجتمعها وثقافته!! هل هو نظام الضرائب أم الشركة العمومية أم الوقف؟ أم الملكية التجارية التي تخضع كليًّا لنظريات السوق المتوحش والمتقلب!!