بواسطة الهنوف الدغيشم - كاتبة سعودية | مايو 1, 2019 | نصوص
تلك الليلة الماطرة والباردة كانت ليلة موحشة شعرت فيها بالخوف، ذلك الخوف الذي يحتاجه الإنسان أحيانًا، ويثير في النفس رغبة حميمية بألا يكون وحيدًا، ذهبت إلى غرفة أمي وبخجل وقفت على الباب، لم تسألني تلك الأسئلة التي تشعرني فيها بأنني كبرت ويجب أن أنام في سريري. بل أشارت بيدها: تعالي، فهرولت نحوها، احتضنتني كما لو أنها هي أيضًا تشعر بالوحدة والخوف. كان ذلك اللطف النادر منها يجعل لحميميتها مذاقًا آخر. لم تكن مسرفة في أي شيء، كان كل شيء منضبطًا، احتضنتني ونظرت إلي وهي تحاول أن تمنع دمعها من الانحدار، ونجحت كما تفعل بكل شيء تريده، وقالت: رغم أنني لا أستطيع أن أكون لك أمًّا وأبًا، وأنت كبرت الآن لست بحاجة لأن أقلد لك زئير الأسد؛ أليس كذلك؟
حاولت أمي أن تكون بالنسبة لي أبًا أكثر مما ينبغي ومما يحتمل لعلاقتنا أن تكون، حتى إنها لم تُبقِ لي في ذاكرتي أي تخيل عن أبي لأقتات عليه. كانت الحياة بالنسبة لأمي مفكرة أعمال، فكل شيء يسير حسب ما خططت له، حتى الأوقات التي نقضيها معًا ونحن نرسم لوحة أو نقرأ قصة، أو تحكي لي عن فنانتها المفضلة فريدا كالو، فهو مذكور في مفكرتها حسب الوقت والموضوع.
لا شيء يمكن أن يخلّ بجدية أمي مع الحياة، مع الدور الذي تعهدت أن تقوم به كأم، كأب إلا حضور صديقتها آشا، التي لا تحب أن أناديها الخالة آشا، بل آشا. زيارة آشا لنا هو خبر مبهج نستعد قبله بعدة أيام، تصبح أمي ذات مزاج رائق، وتتكلم معي أكثر من المعتاد. ولعل أكثر ما كان يلفت انتباهي أن أمي تضع طلاء أظافر ذا لون عنابي غامق، لا تضعه إلا إذا زارتنا آشا، وهو أمر لا يحدث إلا مرة في السنة، ويفوح في المنزل عطر كوكو شانيل الذي لا تستخدمه أمي إلا لهذه المناسبة، وتنظف الفازات الكريستالية المركونة في زوايا المجلس التي يتراكم عليها الغبار حتى تزورنا آشا.
تزورنا آشا كل سنة في شهر مايو، تحضر معها باقات الورد وتوزعه بكل خفة في الفازات. ورودًا صفراء، مرة توليب أصفر ومرة عباد الشمس، كانت تفعل ذلك ببهجة وهي تغني أغاني لم أسمعها من قبل وكنت أخجل أن أسألها. كانت أمي تراقبها كما أفعل أنا بذات البهجة وبذات الدهشة. كانت آشا في تلك اللحظة هي أغنيتنا المفضلة. عندما تنتهي من طقسها الاحتفالي مع الورود أنتظر منها بشغف لا تخفيه عيناي هداياها. كل مرة تفاجئني بهدية أحدث بها كل من أعرفهم عنها. مرة أهدتني مظلة مصنوعة من الدانتيل الأبيض بأطراف مزركشة، وكنت أقول لصديقاتي: إنني أملك مظلة مميزة فهي تحجب أشعة الشمس وليس المطر. ومرة أهدتني كيسًا صغيرًا بحجم الكف ممتلئًا باللافندر المجفف وطلبت مني أن أضعه تحت وسادتي لتحقق أحلامي السعيدة، كما قد أهدتني سلسلة فيها حجر الفيروز-الذي يجلب لي الحب- والتي ما زلت محتفظة بها حتى الآن، هدايا آشا تشبهها، تشبه أناقتها، وخيالاتها، وأحلامها، وطريقة أحاديثها عن علاقاتها العاطفية، إحدى هداياها لي كان قرص فِلْم أودري هيبورن، لسبب ما فضلت أمي أن تحتفظ به بين مجموعة أفلامها، ومن حين لآخر تشاهده، مفضلة أن تكون وحدها.
كانت أمي تنظر أحيانًا إلى آشا نظرة آمرة أن تخفف التفاصيل الحميمية في حكاياتها بحضوري، لكن آشا كانت تنظر لي وتستمتع وهي تحكي قصصًا أشبه بالأفلام الرومانسية القديمة، عن رسامين رسموها، وكتّاب كتبوا عنها في روايات وقصائد، أحيانًا يصاحب هذه الحكايات دموع من الأسى المختلط بالحب. لكن أكثر ما كان يبهرني كيف تحكي آشا لأمي بالتفاصيل تخطيطها لعيد ميلادها القادم، وأي فستان سترتدي، وأنها محظوظة لكونها من مواليد شهر سبتمبر، حيث الجو لطيف في جزر إيطاليا، فلم تحتفل أمي بعيد ميلادها إطلاقًا حسب علمي، لكن في عيد ميلادها تصلنا باقة ورد وبطاقة بريدية غالبًا من رسومات كليمت، مرسلة من آشا.
لا أعرف كيف تعرفت أمي إلى آشا، أو الحقيقة أن أمي لا تحبذ أن تحكي لي كيف تعرفت إليها، وحينما أسأل آشا.. تضحك وتقول لي: اسألي أمك. كما أنني لا أعرف كيف لأمي أن تستمع بكل حب لحكايات آشا وتجاربها العاطفية، فهي تتحدث عن أودري هيبورن وغريس كيلي، عن تسريحات الستينيات والفساتين ذات الأزرة الخشبية، وعن مجوهرات إليزابيث تايلور، والتحولات الفنية في لوحات بيكاسو، وأمي كانت تتحدث عن عملها وكيف استطاعت أن تزيد من نسبة ادخارها، تتحدث عن سوق الأسهم وصناديق الادخار، وترقيتها ومنافسات العمل، والتزاماتها الاجتماعية.. كلتاهما كانت تُولِي اهتمامًا بالغًا لحديث الأخرى، وكلتاهما كانت قادرة على مساعدة الأخرى في اتخاذ قراراتها، والغوص في تفاصيل حياتها. كنت أستغرب أن آشا ترى في أمي مستشارها العاطفي، وكيف يلتبس لدي رؤيتي لأمي الجادة والجافة وأمي التي تتبع قصص آشا العاطفية بشغف وترشدها للتصرف الصحيح، وآشا كانت تأخذ نصائح أمي على محمل الجد. وكل مرة قبل أن تودعنا، تحتضن أمي وتشكرها أنها ليست مثل الآخرين.. فلم تسألها مرة: متى ستتزوجين؟
ولكنني كنت لا أقاوم تخيلها برفقة أحد الرجال الذين تتحدث عنهم، كنت أتخيلها بفستان أبيض دانتيل يشبهها، بشعرها الأسود اللامبالي والمسترخي على كتفيها. حينما كنت صغيرة كنت أنتظر آشا وورودها وهداياها ولطفها الغامر الذي تمنحه كلَّ المكان، كنت أحبها لأنها حينما تسلم عليَّ لا تفعل ذلك مجاملة لأمي، بل كانت تشعرني أنني هذه اللحظة محور اهتمامها وتصب كل مشاعرها وإطرائها لفستاني وتسريحة شعري، حتى تنتبه لسقوط أسناني اللبنية. وما زلت أنتظرها بحب، لكن بحب مختلف، بحب مصحوب بامتنان للبهجة التي تصنعها لأمي، فلم يعد منظرها الرقيق وهي تتحدث، بنفس الرتم العاطفي في حكاياتها، هو ما يشدني بل أصبحت أتأمل أمي وهي تستمع لها، أحيانًا أتساءل: أيهن التي كانت رافدة للأخرى في هذه الحياة؟ هل كانت أمي تقتات على حكاياتها العاطفية؟
لم تحضر آشا لتزورنا في شهر مايو كعادتها، أمي قالت لي: إن لديها ظروفًا خاصة، دون أن تبدي أية مشاعر تجاه أي شيء تقوله. فيما بعد قالت أمي: إنها تزوجت لكن زيجتها تبدو أنها لم تنجح. كنت أودّ لو حكت لي أمي أكثر عمن يكون، وكيف كان؟ وفي شهر مايو الذي يليه لم تحضر أيضًا، وقالت أمي نفس الجملة بنفس الرتم: إنّ لديها ظروفها الخاصة. مرت أربعة أعوام لم تزرنا، لكنها ما زالت في عيد ميلاد أمي ترسل الورود الصفراء، والبطاقة البريدية.
في ذلك اليوم الهادئ رنّ جرس الباب كان رنينه هو الصخب الذي من الممكن أن يمحو سكون المنزل، حينما فتحت الباب وجدت آشا. وبرغم تغير ملامحها إلا أنني عرفتها، تعرفت إليها بشامتها السوداء القريبة من شفتها السفلى، لكن الحزن تسلل سريعًا في داخلي وأنا أتأمل ملامحها فلا شيء بمظهرها أو لبسها كان يمكن أن يذكرني بآشا، فهذه أول مرة أراها ببنطال وقميص، كان يبدو أنها زادت عشرين كيلو جرامًا على الأقل. ولكنها حينما احتضنتني وقبلتني من خلف أذني كما تفعل دائمًا، شعرت أنه لا يمكن أن تتغير أبدًا.
لا يمكن أن أنسى تلك الزيارة ما حييت، فلقد جلست آشا قبالة أمي ورغم أنهما نظرتا إحداهما للأخرى بحب، فإنني شعرت ولأول مرة بخوف يحيط بأمي التي لا يمكن التنبؤ بمشاعرها عادة، وبنظراتها التي تتساءل من دون أن تهمس بكلمة.
قطعت آشا صمت اللقاء بلا مقدمات لطيفة فتحدثت عن كل شيء إلا عن سبب تعبها. كانت تتحدث وهي متجردة من كل غنجها الأنثوي، حتى بدا لي صوتها أقرب إلى أن يكون صادرًا من أمي لا منها!
لم تكن آشا تنتظر تعاطفًا من أمي، ولم تكن أمي في حالة تريد أن تراها بذلك التعب القاسي، محاولة ضبط مشاعر صدمتها التي ربما تمس ذكاء استقرائها للآخرين. شعرت أن ما بينهما هو مباراة في القدرة على عدم إظهار أية مشاعر ومحاولة ضبط ردود الأفعال. كنت أشعر بكل شيء؛ بتعب آشا وبتعب أمي وبسطوة الزمن وما فعل بهما. كنت أتلاشى من المكان وآشا تحاول عابثة أن تسرد تفاصيل مبهجة عن الحياة والناس. لكن سرعان ما انزاحت تلك السعادة المفرطة في صوتها لتتحول لنوبات بكاء لا ينتهي، بعد أن هدأت، تحدثت آشا بصوت الحكيم الموجوع الذي يتحدث عن كيف أصبحت الأيام تتشابه، والألوان تتشابه، والآخرون.. ليتهم يتشابهون، كل التفاصيل الدقيقة عن نوبات الجنون التي مرت بها، ونوبات الطاقة والسعادة المفرطة التي تنقلب بسهولة لنوبات بكاء لا تنتهي، لكنها فجأة ولأول مرة تتحدث بأسى عن لطف زوجها. وأردفت بعبارة موجعة: رغم كل ذلك اللطف إلا أنني أشعر كأنه زوج لامرأة أخرى. ثم نظرت لأمي نظرة موحشة مؤكدة ظنون أمي الدائمة أنه لا رجل يمكن أن يكون لها كما تريد. بدا على وجه آشا إرهاق مفاجئ بعد هذه النظرة، وكآبة التبست على ملامح وجهها الجميلة الذابلة. فوقفت وقالت: أشعر أنه يجب أن أذهب، لكن أمي لم تمنعها من الذهاب كما توقعت، ولم تقف معها لتودعها. فلحقت بها إلى الباب.. ودعتها وهي تعدني أنها ستزورنا في مايو المقبل. شعرت لأول مرة برغبتي في أن أناديها عائشة كان ذلك الاسم هو من يعبر عنها تلك اللحظة ويمثلها، وليس آشا، إنها الآن عائشة.
عدت إلى أمي، كانت في مكانها لم تتحرك، وتبكي بشهيق موحش، وأنا التي لم أر دمعها قط، تجاهلتها وذهبت إلى غرفتي.
بواسطة الهنوف الدغيشم - كاتبة سعودية | أغسطس 31, 2017 | كتب
حينما سمعت عن كتاب أصدره زوجان ألمانيان يحكيان تجربة حياتهما في السعودية، شعرت برغبة عارمة في قراءته، ومحاولة فهم كيف يرانا الآخر من داخلنا وبعيدًا من سطوة الإعلام، إن أمكنه التحرر منه، وخصوصًا أنني أمضيت أكثر من ست سنوات في ألمانيا، وكنت أشعر في مواقف كثيرة أنه يصعب عليَّ فهم العقلية الألمانية. ربما يبدو العنوان «لا، السعودية ليست دبي!» للقارئ، هي حالة مقارنة اجتماعية ما بين السعودية ودبي، لكن من خلال تجربة حياتي في ألمانيا، لطالما مررت بمواقف كثيرة وقلت نافية.. لا، السعودية ليست دبي! الألماني البسيط، يعتقد أن دبي إحدى ولايات السعودية، وليس ذلك فقط، بل قطر وكل مدن الإمارات هي مدن وولايات تابعة للسعودية، لفظ الخليج في عقلية الألماني البسيط تعني السعودية فقط، وربما هذا لأسباب تاريخية قبل تبلور دول الخليج واستقلالها.
يكتب الزوجان أوليفر وساندرا كتابهما عن تجربتهما خلال خمس سنوات أمضياها في الرياض، التي ما زالت مستمرة. يفرقان بين كتابتهما بنوع الخط، ففي أثناء القراءة لنفس الموضوع، يتغير نوع الخط حسب الكاتب – الكاتبة، فحينما نقرأ لساندرا فنحن نقرأ بالخط المائل. وهذا يعكس الشخصية الألمانية التي تؤمن بالفردية والاستقلال.
سأحاول في هذا المقال أن أسلط الضوء على بعض الفقرات التي ذُكرت في الكتاب.
في مقدمة الكتاب يصف أوليفر بداية التفكير في الذهاب إلى السعودية، ويعنون هذا الفصل بـ«طريقنا إلى دولة مجهولة»، فيصف مشاعره وأفكاره التي تعكس القصور في معلوماتهما عن السعودية: السعودية، الاسم يرنّ في أذني كأنه يذكرني بحكايات ألف ليلة وليلة. أتخيل الصحراء والحرارة الشديدة، وطعم الرمال بين أسناني، لا أملك صورة واضحة عن السعودية، كل ما في ذهني عنها فراغ وغير قابل للتخيل. لذلك، حينما عرض عليَّ العمل في السعودية، كان صعبًا علي، أنا وشريكتي ساندرا، (التي أصبحت زوجتي فيما بعد) أن نتخذ القرار ونتّجه للسعودية. كانت ليلة صعبة لم أنَمْ فيها؛ لأن غدًا هو تسليم قراري بقبول العرض أو رفضه. اتخذنا القرار بقبول العرض، لكننا اتخذناه بوصفه مغامرة في حياتنا.
تساءلت: هل يوجد ستاربكس هناك؟
فتحت الإنترنت وبحثت في خرائط غوغل، وكتبت ستاربكس.. تفاجأت بعدد الفروع الكثيرة في الرياض، بدأت أبحث عن أسماء المطاعم التي أعرفها، كلها موجودة وبفروع كثيرة. كانت المعلومات في الإنترنت عن طبيعة الحياة فيها شحيحة. لهذا قررنا كتابة الكتاب؛ لأنه بعد خمس سنوات من الحياة في السعودية، لم نعش الحياة التي توقعناها وخفنا منها، ولم نر إطلاقًا الصورة النمطية التي كان الإعلام الغربي يصورها لنا. كتبنا هذا الكتاب عن تجربتنا الشخصية واحتكاكنا مع ثقافة مختلفة، إننا لا نهدف لأي نقد سياسي أو اجتماعي. حينما وافقت على العمل كمستشار في إحدى الشركات في السعودية، فهذا يعني أن تترك ساندرا عملها بصفتها ضابطًا وتأتي بصفتها مرافقة. بعد ستة أشهر في السعودية، أدركت أن السعودية ليست حكاية من ألف ليلة وليلة، وليست لورنس العرب، أو مجرد مخزن كبير للبترول. قررت البقاء في هذا البلد. فلقد سحرتني صحاريه اللامتناهية، ونزعته المأسورة بالاستهلاك، وأهله الفخورون والمتفردون. لقد قررت البقاء في هذا البلد، رغم فهمي وإدراكي لصعوبة عملي مع مجتمع هو الأكثر مقاومة للتغيير والتحسين في العالم. هذا القرار يعني أن على ساندرا أن تترك عملها، وأنه علينا أن نتزوج لتستطيع الحصول على فيزا.
العمل مع السعوديين
يتطرق أوليفر في الكتاب في أكثر من موضع إلى الكرم السعودي فيقول: الشعب السعودي شعب مضياف جدًّا، المفطح أحد أهم الوجبات التي تعبر عن الكرم والضيافة، لحم الخروف يوضع بأكمله على الأرز، ويكون الأكل في الأرض وبلا ملاعق، ولا حتى سكين للتقطيع، وفي اللحظة التي أفكر فيها كيف سأقطع بيدي اليمنى فقط، من دون استخدام اليسرى، قطعة لحم حارة، إذ إن استخدام اليد اليسرى غير مرغوب فيه، أجد قطع لحم تتهاوى في صحني معبرين عن حفاوتهم واهتمامهم، غالبًا ما تكون القطعة الممنوحة للضيف هي أفضل قطعة لحم، وحينما أقترب من انتهاء صحني.. تتهاوى قطع أخرى من كل جهة، إنهم يخدمونك قبل أن تسألهم.
السعوديون لا يلقون أهمية للدقة في المواعيد، مواعيد الاجتماعات ذات مدى واسع، وطبيعة العمل مختلفة عن ألمانيا، لا يوجد إستراتيجية ولا خطة واضحة، وحينما يأخذون رأيي بوصفي مستشارًا يقولون: إن شاء الله، لكنهم لا يعملون عليه؛ لذلك لا أفضل المناقشة بل العمل مباشرة من دون اجتماعات ولا مناقشة خطتي مع أحد، وبعد التنفيذ حينما يرون النتائج تقول لهم هكذا! السعودي لا يقول: لا، لمديره، ولا يناقشه، لكن هذا لا يعني أنه سينفذ ما يقول! بيئة العمل ليس فيها نقد مباشر، أو وضوح في تحديد الخطأ، بل تطفو المجاملات ويذوب الموضوع. لدى القرارات الملكية ميزة وهي سرعة تنفيذها من دون بيروقراطية، مثلًا: تغيير إجازة نهاية الأسبوع من الخميس والجمعة إلى الجمعة والسبت تم خلال ستة أيام. لو كان هذا التغيير في ألمانيا لاستغرق أشهرًا، ولمرَّت الإجازة على لجان كثيرة، وبرلمان، ونقاشات في التلفاز قبل اتخاذ القرار. الشركات الغربية في السعودية لم تستطع تطبيقه إلا بعد أسبوعين.
قيادة السيارة في السعودية
من أكثر الموضوعات التي تطرق لها الزوجان في كتابهما هو سلوك قيادة السيارة لدى السعوديين:
فيشرح أوليفر بتعجب كيف أنه يموت في السعودية يوميًّا ١٩ شخصًا؛ بسبب حوادث السيارات، من بين ٢٩ مليون ساكن، منذ ٢٠٠٣م وعدد الحوادث تتضاعف. في كل بيت يوجد أكثر من سيارة، وبسبب عدم السماح للمرأة بقيادة السيارة، فهي تعتمد على أولادها الأطفال الذكور في مواصلاتها مما يزيد نسبة الحوادث، أو تعتمد على سائق أجنبي لقيادة سيارة كبيرة وفاخرة لم يجرب قيادتها من قبل في بلدته الفقيرة. يوجد قواعد مرورية في السعودية لكنها أشبه بالإرشادات وليس القوانين، يمكن وصف القيادة في السعودية بالخطرة على الحياة. لذلك لا أفضل أن أقود سيارتي وحيدًا، وأفضل أن يكون معي مرافق حتى يكون معنا أربع أعين، حتى إنني اتفقت مع أحد زملائي في العمل أن نذهب دائمًا معًا في سيارة واحدة، لذلك ساندرا لا تفتقد قيادة السيارة إطلاقًا.
المكالمات وتبادل الرسائل ممنوعة في أثناء قيادة السيارة، ومع ذلك كل يجريها. بعضهم يكون معه أكثر من جوال، فيتحدث بجوال من خلف المقعد، ويرسل رسائل بالجوال الآخر. أحيانًا نلعب أنا وساندرا لعبة اكتشاف كم سائق حولنا ليس بيده جوال؟
الإعلام الغربي.. والواقع المعيش
يوجد في السعودية كثير من الخدم، من جنسيات مختلفة، يعيشون مع العائلة السعودية: خادمة أو مربية أو ممرضة للنساء، أو سائق أو حارس للرجل. حياتهم متواضعة وربما في أعيننا حتى بائسة، لكن، كل الخدم الذين تواصلنا معهم كانوا شاكرين للفرصة التي جعلتهم يعملون في السعودية. دائمًا ما طرح موضوع تعامل العرب مع العمالة للنقاش في أوربا، ولطالما سمعنا عن التعامل السيئ معهم. خلال السنوات الخمس لم نشاهد أو نسمع عن حالة إساءة للعمالة، صحيح أنهم يتقاضون رواتب منخفضة حسب مفهومنا الأوربي، لكننا حينما نشاهد أنه هناك مئات الألوف من العمالة من شرق آسيا وإفريقيا يسعون للدخول إلى السعودية سواء بطريقة نظامية أو مخالفة، فهذا يعني أنهم يجدون في هذا البلد فرصة معيشة جيدة وآمنة أكثر من بلدانهم. في السعودية لم نسمع عن جرائم عنف أو سرقات، حتى إننا لا نقفل باب بيتنا ولا سيارتنا.
المرأة السعودية
تتحدث ساندرا في الكتاب كثيرًا عن المرأة السعودية: كان عليَّ في البداية أن أتكيف على مظهر النساء الموحَّد في السعودية، كل النساء مغطيات بالسواد. عالم النساء يبدو لي بعيدًا، وغريبًا، ومجهولًا. ومع هذا لاحظت أن النساء يحاولن أن يتخلصن من مظهر اللبس الموحد بإضافة بعض الألوان أو الخرز الملون حتى لا يفقدن هوية مظهرهن الخاصة.
تحت العباءة تلمع الأحذية الأنيقة، وكثير من الأحيان أرى على معصمهن ساعات فاخرة، وعلى أكتافهن يحملن حقائب جلدية ثمينة تحمل توقيع دور الأزياء الراقية. في البداية كان في ذهني حُكم أوّليّ على الحجاب، بتأثير من الإعلام الغربي الذي دائمًا ما يربط حجاب المرأة بكلمات مثل: (القمع – الإجبار)، و(التخلف)، و(الأصولية). هذا الحكم الأولي على الآخرين مع الوقت والاحتكاك بالنساء هنا سرعان ما تلاشى؛ لأني عرفت أن كثيرًا من النساء يتحجبن برغبتهن التامة تعبيرًا عن هويتهن الدينية. حتى إنني التقيت أختين إحداهما تتحجب والأخرى لا تفعل، والعائلة منحت كلًّا منهما حق الاختيار. مع الوقت، بدأت أرى الإعلام الغربي بعيون أخرى؛ إذ يحاول تصوير الأمور بطريقة سلبية ومن وجهة نظر واحدة؛ إنها أحكام أولية وغير متفهمة للثقافات الأخرى. هذا ما يجعلني أتساءل: لماذا يؤمن كثير في الغرب بأن المرأة المتحجبة تعني أنها مقموعة؟ هل يمكن لهم الحكم على المرأة خارج إطار ملابسها؟ هل يصنفون عقل المرأة بشكل عام انطلاقًا مما ترتديه إلى مؤمنة وغير مؤمنة، ومحافظة أو متحرِّرة؟ ولماذا تخاف الدول الغربية من الأجانب المختلفين عنهم؟ ألا يبهجهم التنوع الثقافي المصاحب؟ لا يهمهم ماذا يوجد في رأس المرأة، لكن ماذا تضع على رأسها؟ تحت العباءة والغطاء تحدثت مع نساء واثقات ولهن طريقتهن في التفكير، ومن حقها بوصفها إنسانًا أن يُنظَر لما تفكر به لا بما ترتديه.
مجلس الشورى
منذ ٢٠١١م سُمح للنساء بأن يكنّ عضوات في مجلس الشورى. لقد جاءتني الفرصة مع نساء غربيات لزيارة مجلس الشورى، والتحدث مع النساء. لقد تفاجأت بمستوى التعليم العالي لنساء مجلس الشورى، لقد كنّ يدركن تأثيرهن، وكنّ واقعيات جدًّا ومدركات للواقع السعودي. كنّ متحمسات ومنفتحات على العالم، ويرغبن في تحدي الظروف بشكل واقعي، بما يتناسب مع متطلبات المجتمع. ويرغبن في القيام بإصلاحات مثل السماح بقيادة المرأة للسيارة، لكن يفضلن بشكل بطيء بما يتناسب مع رغبة المجتمع.
صحة المرأة السعودية والاستهلاك
يوجد في السعودية جميع الماركات الغالية، والاستهلاك عالٍ جدًّا؛ بسبب سهولة الحصول على المال، ووفرته بيد المرأة السعودية. النساء السعوديات تنتقل من محلّ ذهب لمحل ذهب آخر وزوجها يسير خلفها. من أكثر الأمور الإيجابية المفاجئة عن السعودية هو مستواها وخدماتها الطبية العالية. الأجهزة الطبية المتقدمة متوافرة، والخدمات الطبية ذات جودة عالية. الخدمات الصحية مجانًا لكل السعوديين. الانتظار كلمة غريبة، فبسهولة يمكنك الدخول للطبيب المختص. في كل قسم طبي أجهزة أشعة وفحص خاصة به. مرت ساندرا بحالة مرضية وحينما توجهنا للمستشفى تلقينا عناية عالية ولطفًا من الأطباء والممرضات. لكن الطبيب السعودي رغم أنه تلقى تعليمه في الخارج كان يتحدث معي، ويشرح أسباب المرض، وليس مع ساندرا المريضة.
وبسبب الخدمات الجيدة تفضل النساء الغربيات الولادة في الرياض. المستشفيات تقدم الأدوية بالمجان، والصيدليات تعرض جميع الأدوية حتى المضادات الحيوية من دون وصفة طبية.
محاولة تغيير الصورة المرئية عن الآخر
خلال السنوات الخمس الماضية التي أمضيناها في السعودية، يبدو جليًّا التغير في الفصل الحاد بين الرجل والمرأة. فاليوم يعمل كثير من النساء في السوبر ماركت بائعات، صحيح أنها لا تخدم إلا النساء أو العائلات. رغم الفصل الحاد بين الشباب والشابات في المقاهي والمطاعم، لكن يبدو واضحًا كيف يتواصل بعضهم مع بعض بتبادل رسائل الجوال. إن التقدم والتنوع التكنولوجي في التواصل يذوِّب حدة التراث وصرامته. حينما قدمنا هنا، فكرنا في أننا سنبقى سنتين، مضى الآن أكثر من خمس سنوات، ولا يوجد لدينا خطة للعودة قريبًا. الأشياء والأحداث التي كانت توترنا في البداية، اعتدنا عليها، بدأنا نتأقلم على العقلية السعودية، حتى لو أنه لا يمكن أن نفكر مثلهم.
إننا نندهش بكمية اعتزازهم بتراثهم، رغم كل التطورات السريعة التي مروا بها.
المجتمع السعودي مختلف تمامًا عن المجتمع الألماني، ويصعب المقارنة بينهما.
كنا نتصور أن السعودية دولة منغلقة، لكن بسبب بساطة القانون فيها، فلا يوجد قوانين بالتفصيل، مجرد عناوين رئيسة، هذا الجانب يمنح مدى واسعًا من الحرية، فيمكنك في الشركة عمل كثير من التطوير من دون أن يحدك كثير من القوانين المفصلة كما في ألمانيا التي تسبب كثيرًا من البيروقراطية والإعاقة. كثير من الأشياء التي كنا نتابعها ونتحمس لتطور النقاشات فيها في ألمانيا، لم تعد تعنينا، مثل: حجاب المسلمات في ألمانيا، وكثير من المقالات، والنقاشات في البرلمان، والاجتماعات والقرارات، الآن أصبح هذا الموضوع لا معنى له لدينا؛ لأنه في الحقيقة هو محاولة تغيير الصورة المرئية عن الآخر، ولا يعني ذلك تقبله بشكله الجديد. فالألمان ليسوا أكثر تقبلًا للآخر من السعوديين.
يوجد في السعودية زيادة عدد الشباب المتعلمين بشكل جيد، ولديهم أفكار وطموح لعمل شركات. والدولة لديها تحدٍّ كبير في الموازنة بين الإسلام التراثي واللحاق بالتطور العالمي. لدينا فضول لنرى السعودية بعد سنوات، لا نعرف كم سنبقى، لكننا مسرورون بالوقت الذي أمضيناه، وبالوقت الذي سنمضيه في هذا البلد الذي أحببناه، ولدينا شغف برؤية ازدهار الحياة المدنية في صورة فن وفلم وحب، ومزيد من الحرية للمرأة، الذي بدأنا نراه.