بواسطة عبدالوهاب أبو زيد - كاتب سعودي | يوليو 1, 2021 | مقالات
ربما لا أجمل من قراءة شعر الشاعر الكبير قاسم حداد سوى قراءة نثره، فالنثر لدى قاسم ليس فضيحة الشاعر، كما يُقال، بل هو عرسه ومهرجانه وتاجه ومنصة تتويجه. فالمتعة الجمالية ولذة القراءة معه مضمونة، والحفر في الأعماق الإنسانية والمعرفية لديه متحقق فيما دأب على كتابته من مقالات وسمها بطابعه الشخصي، وأسلوبه المميز الذي لا يتنازل فيه عن المعايير الجمالية العالية التي شاءها لنفسه، رافضًا الرضوخ لمتطلبات اللغة الصحفية المباشرة، وذلك في مختلف الصحف والمجلات والمنصات والمنابر الإعلامية التي نشرت مقالاته على مدى عقود طويلة.
قاسم حداد
في كتابه «جوهرة المراصد»، الصادر هذا العام عن دار روايات التابعة لمجموعة كلمات في أبوظبي، يقدم لنا قاسم مجموعة كبيرة من «البورتريهات»، كما يسميها هو، وكما يسميها أيضًا الشاعر والناقد عبدالله السفر الذي كتب مقدمة للكتاب، وأهداه المؤلف كتابه هذا لاقتراحه فكرة البورتريهات، ولمشاركته السعي لتحقيق الفكرة.
المتتبع لكتب قاسم الكثيرة أو بعضها على الأقل سيدرك أن كثيرًا من هذه البورتريهات سبق نشره في مؤلفات سابقة له، حتى إنْ أغفل المؤلف والمقدم الإشارة إلى ذلك. وبطبيعة الحال ليس في ذلك ما يضير، ولكن ربما كانت الإشارة إلى ذلك أجدى وأولى حفاظًا، على أقل تقدير، على البعد التوثيقي للمقالات التي كتبت على مدى عقود من الزمن. وأتصور أنه كان من المفيد أيضًا الإشارة إلى تاريخ كتابة تلك المقالات حفاظًا على الجانب التوثيقي ذاته ولوضع القارئ في الإطار الزمني الذي كتبت فيه كل مقالة.
ولكن كل هذه الملحوظات لن تفسد شيئًا من متعة القراءة لهذه البورتريهات المتقنة التي رسمها قاسم بريشته لعدد كبير من الشعراء والكتاب والفنانين والمثقفين وسواهم ممن تقاطعت سبل حياته الشخصية أو الإبداعية (وفي كثير من الحالات الاثنتان معًا) معهم.
وبالحديث عن الجانب الشخصي، يشير عبدالله السفر في مقدمته إلى أن الصورة التي يقدمها قاسم لهؤلاء إنما هي «صورته الخاصة. من منظوره الشخصي، وفيها أيضًا تلك الملامح التي مسته وغارت فيه عميقًا لتعود بازغة كأوضح ما تكون؛ سمة فارقة ودرسًا نوعيًّا في الثقافة والحياة».
سلسلة من المراثي
ومما سيلحظه القارئ حتمًا أن هذه البورتريهات توشك أن تكون سلسلة من المراثي المكتوبة نثرًا بحبر القلب لمجموعة من الأصدقاء، أصدقاء الحياة وأصدقاء الكتابة على حد سواء، فمعظمها قد كتب في سياق رحيل أو وداع أخير يتغيا تأبينهم وتخليد ذكراهم. ونظرًا لكثرة من رحلوا من أصدقائه نسمعه يقول: «لقد تعبت من رثاء الأصدقاء، أرقبهم وهم يذهبون، وفي هذا عقاب، لا يحتمل، على الاستمرار في العيش».
وعلى الرغم من هذا التعب الذي أثقل كاهله وذلك الألم الذي طالما اعتصر قلبه فإنه يصرّ على استحضارهم «بالعمق اللازم والرغبة والاستعداد اللازمين، من أجل جعل حضورهم فاعلًا في حياتنا»، كيلا تذهب دروسهم معهم، فكل منهم ذو شأن في الفكر والتجربة والإبداع وإرادة التغيير.
ولعل في حديث قاسم عن هذه الشخصيات التي قد لا يعرف القارئ كثيرين منهم، ما يدفع القارئ للاستزادة والبحث عن معرفة المزيد عنهم، وفي الوقت ذاته ربما يوقظ ذلك شعورًا بالخجل من الجهل بهم وبما كان لهم من أدوار مهمة في مختلف الجوانب الثقافية
والحياتية المختلفة.
في مطلع مقالته/ دراسته المهمة، التي أعدها من أهم وأجمل ما قرأته شخصيًّا عن تجربة أمل دنقل الشعرية، يشير قاسم إلى ما أصبح عرفًا سائدًا لدى العرب من تكريم المبدعين بعد رحيلهم، ويقول: «نحن أمة تقدس الموتى. موتاها خاصة. بل إننا أمة تقتل مبدعيها لتقدسهم». وهذه الحالة باتت مألوفة ومتكررة حد أنها توشك أن تكون بمنزلة القانون والعقد الاجتماعي غير المكتوب، فالتكريم لا يسبق الموت، بل يليه دائمًا، وكأننا نقول دون أن نقول لكل مبدع: إن شئتَ أن نُكرّمك، فمُتْ أولًا!
محطات تستحق الوقوف عندها
ثمة كثير من المحطات التي تستحق الوقوف عندها والإشارة إليها في البورتريهات التي يرسمها قاسم عن بعض أهم أعلام الأدب والثقافة العربية، ومن هؤلاء الشاعر بدر شاكر السياب، الذي يشير إلى رسالته التي أرسلها إلى رئيس تحرير مجلة الآداب، سهيل إدريس، مرفقًا معها قصيدته الشهيرة «أنشودة المطر» وكيف كان السياب مفرطًا في تواضعه وخجله وهو يقدم ما ستكون علامة فارقة في متن الشعر العربي الحديث برمته، ويقارن ذلك بحالة اليقينية والثقة المطلقة التي لدى بعض الشعراء الشباب الذين ما زالوا يحبون على أعتاب مملكة الشعر.
وفي بورتريه آخر عن محمد الماغوط، يعبّر قاسم عن شكواه من أن الكتابات الشعرية الشابة تريد تجاوز النصوص السابقة عليها من دون أن تحسن قراءتها ودراستها أولًا. ويتسق هذا مع من ينادي بضرورة معرفة القاعدة قبل المناداة إلى كسرها، وإن كان مثل هذا السؤال يمكن أن يطرح على تجربة الماغوط نفسه: هل قرأ التجارب الشعرية السابقة وأحسن تأملها؟ ربما يطرح مثل هذا السؤال مساحة للجدل ليس هذا أوانها أو مقامها.
وعلى اتصال بذلك، يعترف قاسم بتأثره بأدونيس، في مقالته عنه، ويعبر عن قلقه من جنوح الجيل الجديد لإنكار آبائه؛ لأن «الشاعر الذي لا يعترف بالأساتذة الذين تلقى على تجاربهم دروسه الأولى، سيكون أقل جدارة بالمسؤولية الإبداعية التي تستدعي الوضوح أمام الذات»، كما يقول.
في مكان آخر من الكتاب، يقدم قاسم مقالة مهمة عن الشاعر الراحل أمجد ناصر هي أشبه بالقراءة النقدية العميقة عن مجمل تجربته، ولا يتحدث فيها عن الجانب الشخصي لعلاقته به على الرغم من أن ذلك كان متوقعًا بحكم تقاطع دروبهما الحياتية والشخصية شبه المؤكد.
يثني قاسم بشكل خاص على ارتباط شعر أمجد الوثيق وعلاقته القوية بجماليات اللغة العربية ويقول: إن أكثر ما يقلقه (أعني المؤلف) هو الإحساس بأنه في حضرة نص مترجم عن لغة غير عربية. ويضيف: «في المشهد الكوني، لن يكترث بنا الآخرون إن كنا نكتب مثلهم».
لحظات الحزن العميق حتى أشباح اليأس لا تغيب عن بعض فصول هذا الكتاب بطبيعة الحال، وحسبنا أن نسمع ما يخاطب به قاسم الشاعر اللبناني خليل حاوي، الذي لم يتحمل الاجتياح الإسرائيلي لمدينته الأثيرة بيروت عام 1982م، فقرر أن يضع حدًّا لحياته بيديه. يقول قاسم: «لقد ذهبت لأنهم لم يكترثوا بأحلامك، وبقينا لأن أحدًا لا يكترث بنا. من حقك علينا الاعتراف بحقك في الذهاب عن الحياة، ومن حقنا عليك أن تعترف لنا بنجاتك مما نحن فيه من موت لا يصفه الشعر».
أكثر من خمسين لوحة رسمها قاسم حداد بريشته التي لا تعرف كيف تقدم التنازلات، ولا تفرط في الاحتفاء بالجماليات في هذا الكتاب، الذي سيقرب القارئ من تلك الأسماء أكثر، وسيكون المدخل المثالي للتعريف بمن لا يعرفهم القارئ منهم.
بواسطة عبدالوهاب أبو زيد - كاتب سعودي | يوليو 1, 2020 | مقالات
كلُّ شاعرٍ ناقدٌ بالضرورة؛ ليس من خلال ممارسته الكتابة في هذين الفنين الكتابيين، أي الشعر والنقد معًا بالضرورة، بل من خلال ما يتمتع به من بصيرة نقدية ينعكس أثرها فيما يكتبه من نصوص شعرية. إنه، إذن، ناقد بالإمكان والقدرة الكامنة، وليس بالواقع الحياتي والتطبيق الفعلي لمفهوم النقد ومقتضياته وشروطه وتمثلاته. الحديث هنا بالطبع عن الشعراء الحقيقيين الذين كرسوا حياتهم للشعر وأفنوا أعمارهم في سبيله، فلا تتدفق ينابيعهم إلا منه، ولا تشير بوصلاتهم إلا إليه.
يمكن للوعي النقدي لدى كل شاعر أن يُستشف فيما يرجحه، ويميل إليه من خيارات فنية، ومسالك جمالية، وطرق كتابية يتبينها القارئ في نصوصه، ويستشفها من قصائده. وقد تتجلى جوانب من القناعات النقدية لشاعر ما من خلال ما يسطره من مقالات هنا وهناك، إن وجدت، بيد أن أحد أهم السبل التي يُتعرف من خلالها إلى تلك القناعات هي الحوارات التي تُجرى معه، وبخاصة إذا كان من يُجري تلك الحوارات ملمًّا بتجربته ومطلعًا بما يكفي على كتاباته وما كُتِبَ عنه أيضًا.
الشاعر العراقي المعروف سركون بولص (1944- 2007م)، الذي يقول عنه صبحي حديدي في كتابه «زوال لا يزول: قراءة في شعريات باقية»: إنه «صاحب تجربة بالغة الحضور واسعة التأثير»، واحد من هؤلاء الشعراء الذين كانوا يتمتعون بوعي نقدي واضح المعالم وشديد الصرامة مع الذات، تجلى فيما تركه وراءه من كتب شعرية تُعَدُّ من علامات قصيدة النثر العربية المضيئة عبر تاريخها الممتد منذ خمسينيات القرن الماضي.
كثير من الشعر.. قليل من النثر
لم ينشر سركون في حياته أي كتاب نثري يلملم فيه ما كان قد كتبه من مقالات قليلة حول الشعر أو الشعراء، وما نشر له في هذا الإطار بعد رحيله حتى الآن هو كتاب واحد بعنوان «الهاجس الأقوى: عن الشعر والحياة» عام 2018م، ويضم مقالات مختلفة تتنوع ما بين النصوص الأصيلة والمترجمة، وبعضها لا علاقة له بالشعر.
ولعل أهم مقالات الكتاب هي تلك التي تعرّض فيها كاتبها لجانب من تجربته الشعرية وفهمه للشعر، وعلاقته بشعراء جيل الستينيات في العراق، كمقالة «عن الشعر والذاكرة»، و«ملاحظات على الشعر والتحولات الثلاثة» التي يقدّم فيها تأملات عميقة حول الشعر وطبيعته ومهمته المركزية التي تتمثل، كما يرى، في تقديم الأدلة التي تذكّرنا بما يصدم ويوقظ بين آلاف الوقائع والتجارب التي هي خليقة بالنسيان. وفي «شذرات غير منشورة عن الشعر والحياة»، يتحدث سركون عما يسميه «صك المقبوليّة» الذي يسعى بعض الشعراء لنيله من الصحافة أو الجماهير، أو حتى النقاد، فهو لا يعقد اتفاقات مع أحد، كما يقول عن نفسه؛ إذ إن كل ما يريده هو أن يشاركه القارئ، إذا أراد أو استطاع، في محاولته لفهم قيمة إنسانية أو عاطفية معينة، تعبّر عنها القصيدة، ليصلا معًا إلى نقطة لقاء، وانفتاح عابر بين كائنين.
ويشن سركون في تأملاته تلك هجومًا ضاريًا على الأيديولوجيا وحضورها في الكتابة، فهي في الشعر، حسب تعبيره، عصاب فكري وليست من صلب الرؤية الشعرية، ويشبهها بالعُصابة الجلدية التي تربط بها عينا الحصان فلا يرى غير الطريق التي تمتد أمامه.
«سافرت ملاحقًا خيالاتي»
الكتاب الذي يسعفنا في التعرف أكثر إلى رؤاه النقدية يحمل عنوان: «سافرت ملاحقًا خيالاتي»، وهو صادر عن دار الجمل عام 2016م، ويضم عددًا كبيرًا من الحوارات التي أجريت مع سركون، وعددها اثنان وعشرون حوارًا على وجه التحديد، تفاوتت في طولها ومساحتها ومكان نشرها، وبالطبع من أَجْرَوْا تلك الحوارات. يقدم الكتاب مصدرًا توثيقيًّا مهمًّا للمعلومات والرؤى والأفكار والآراء والإضاءات على سيرة هذا الشاعر الذي لم يأبه لشيء ولم ينصرف إلى شيء سوى الشعر طوال حياته، حتى إن كتابة الشعر وترجمته والانغماس في عوالمه شغلته عن نشر شعره ودفعته للتأخر في نشر أول كتاب له حتى بعد الأربعين رغم أنه كان يكتب بغزارة وقد نشر كثيرًا من شعره في مجلات الشعر والأدب النخبوية في بدايات مسيرته الشعرية مثل مجلتي شعر ومواقف.
الكتاب لا يخلو بطبيعة الحال من المعلومات المكررة في أغلب حواراته نظرًا لتشابه محاور تلك الحوارات، ولكن ذلك لا يقلل من متعة القراءة واستكشاف أبعاد هذه التجربة المهمة في تاريخ القصيدة العربية الحديثة. ولأن الحوارات في غالبيتها، إن لم يكن كلها فيما يبدو، كانت شفاهية، فهي لم تخلُ من بعض مواضع التكرار واللَّبْس أحيانًا، بل التناقض في الآراء في أحيان أخرى، وذلك مبرر ربما نظرًا لاختلاف الحقب الزمنية التي أجريت فيها تلك الحوارات (أقدمها منشور عام 1982م، وأحدثها منشور عام 2009م)، وما يترتب على ذلك من تغير وجهة النظر حول بعض المسائل والقضايا والتجارب. ثم لا بد من الإشارة إلى أن الطابع الشفاهي للحوارات قد لا يمنح المحاوَر الفرصة لصوغ ما يريد قوله بشكل دقيق وبصورة يرتضيها ويطمئن لها.
كيف يفهم قصيدة النثر؟
الجانب الأكثر أهمية بالنسبة لي في هذا الكتاب هو أنه سلط الضوء على آراء سركون النقدية ورؤيته للشعر ولقصيدة النثر، التي ظل يلح، حتى بُحَّ صوته، أن ما يكتبه لا يدخل في إطارها وفق مفهومها ونموذجها الغربي الفرنسي/ الأميركي على وجه التحديد. والحديث حول هذه المسألة بصورة خاصة متشعب ومتعدد الأوجه ومثير للاهتمام، وهو يستحق نقاشًا مستقلًّا لنفيه بعض حقه. يقول سركون بشكل قاطع: «أرفض تسمية قصيدتي بقصيدة النثر وألحُّ على هذا» (ص 420)، ويكرر في أكثر من موضع أن هذه التسمية خاطئة وبعيدة من الصواب، كما أشرنا أعلاه، ولكنه لا يخبرنا عن التسمية التي يفضلها ويرجحها. هل هي الشعر الحر التي أُطلقت، في خطأ تاريخي، على قصيدة التفعيلة، أو القصيدة الموزونة غير المنتظمة لناحيتي التفعيلات والقوافي؟ والأرجح أنها كذلك إذا ما شئنا تطبيق القواعد التنظيرية القادمة من الغرب؛ إذ إن قصيدة النثر هي ما يُكتب نثرًا، ليس فقط من ناحية تجنبها للوزن، بل كذلك طريقة كتابتها على الصفحة كمقطوعة من النثر تتتابع أسطرها وفقراتها أفقيًّا، وليس على غرار الأسطر الشعرية المتفاوتة الطول التي تكتب عموديًّا كما في قصيدة التفعيلة.
غير أن إصراره هذا لم يأتِ بنتيجة على ما يبدو، كما لم تأتِ الدعوات المتكررة لإعادة تصحيح المفاهيم والأسماء التي تطلق على أشكال الكتابة الحديثة في القصيدة العربية بنتيجة أيضًا. صحيح أن اسم «الشعر الحر» شبه مغيب الآن، وفق المفهوم الذي أطلقته نازك الملائكة، وحل اسم قصيدة التفعيلة مكانه، إلا أن اسم قصيدة النثر، وفق مفهومها الأوليّ، ظل صامدًا حتى الآن.
وبعيدًا من مشكلة الاسم التي لم تُحَلّ حتى الآن، يقدم سركون في حواراته آراء وتحليلات عميقة لمفهوم قصيدة النثر بعيدًا مما قدمه كل من أدونيس وأنسي الحاج وبول شاوول، كأمثلة بارزة، اعتمادًا على ما ورد في كتاب سوزان برنار الشهير عن قصيدة النثر، وظلوا يرددونه في كتاباتهم التنظيرية حول قصيدة النثر.
ومن ذلك قوله: إنها مستحيلة التكرار «بما يتطابق والتجربة الإنسانية في أن الحياة هي أيضًا فريدة في كل لحظة من لحظاتها ولا تكرر نفسها بل هي خلق مستمر». ومن سماتها أيضًا التوتر «لأنها تخلق الروابط بين أجزائها لا بقوانين الطبيعة الغنائية التي تميل إلى أن تكون خطية أو أفقية، بل بشروط الحركة التي تتصف عادة بالدينامية». كما أن النص يحمل مؤشراته في ذاته متخلصًا من «عادة التعميم، أي قواسم اللاوعي المشترك التي يتخاطب بها المجتمع ويتبناها كلغة معترف بها»، فهو «يقطف الشائع من هوائه الفاسد ليدخله في بريق التخصيص».
إنها قصيدة تقف على النقيض من الابتذال واللغة المشتركة العمياء، وتحارب التلقي السلبي من القارئ، مجبرة إياه على التعامل معها «بمجموع حواسه في استجابة كلية». وعلى النقيض من الاعتقاد السائد من أن هذه القصيدة جاءتنا من الغرب، يميل سركون إلى الاعتقاد بأن جذورها موجودة في التراث العربي الذي يحتوي على كثير مما يمكن عدّه نماذج ونواة للشعر غير الموزون. وهذه المقولة تجد صدى لها بالطبع في بعض كتابات أدونيس التنظيرية التي تعود بأصول النص الحديث إلى بعض الكتابات التراثية المضيئة، وبخاصة النص الصوفي بغناه وتعدده واختزاليته.
وعلى الرغم من إيمان سركون العميق وشبه الرسولي بقصيدة النثر، إلا أننا نسمعه يقول في مكان آخر من الكتاب: «لا يمكن أن نجبر الشعر على أن يكون شيئًا معينًا. ذات يوم سيأتي جيل آخر يقول: إن الوزن لم يستنفد». (ص 192).
الموقف من الوزن
وفيما يتعلق بقصيدة الوزن، يبدو موقفه متناقضًا بشكل واضح، فتارة يقول: «أعتقد أن الحكم بالإعدام على قصيدة الوزن قد صدر. القصيدة العمودية تحتضر». (ص 320)، وتارة أخرى يشير إلى أنه ما زال يكتب بالوزن وأن الوزن «لم يستنفد». غير أنه يبيّن في مواضع أخرى مآخذه على قصيدة الوزن في مقابل قصيدة النثر، ومن ذلك قوله: «الوزن فيه مخادعة. إن تتبعتَ الوزن خدعتَ القول. وإن تتبعتَ القول خدعتَ الوزن. الوزن ينمط والنثر يحرر». (ص 320). ويوضح هذه الفكرة بإشارته إلى ما تفرضه بحور الشعر العربي على الشاعر، حتى قبل كتابته للقصيدة، من إيقاع هندسي تفرضه شكلية البحر المختار لكتابة القصيدة، مما يحد من حريته وتقدمه على الصفحة مهما كان مدى براعته في السيطرة والسيادة على الوزن. (ص 218). ويقول في موضع آخر: إن «التفعيلة أي الوحدة الوزنية ترتب لنا مسبقًا عملية التعبير حسب كلمات ومفردات وتعابير يمكنها أن تملأ الوحدات الوزنية». (ص 420).
المسألة بالنسبة له، إذن، ليست مجرد تمرد شكلي ومفارقة لمألوف نصيٍّ قارٍّ في التراث والمخيلة، بل محاولة لاجتراح آفاق جديدة وافتراع مسالك بِكْر لم تتردد عليها الخُطَى ولم تألفها الأقدام. ولا يقف سركون موقفًا عدائيًّا من الوزن لذاته كما يوضح في مواضع أخرى من الكتاب، فالنثر «يمكن أن يمتلئ بالوزن من دون أن يخضع له» (ص 312). ولعله يقصد بهذه العبارة الموهمة بالتناقض الإيقاعَ الذي هو أوسع وأشمل وأرحب من الوزن؛ إذ إن «القصيدة من دون إيقاع جثة هامدة» (263) كما يقول، ويمضي ليوضح ما يعنيه بالإيقاع فيقول: إنه «أذن مدربة تستجيب لقدرات إيقاعية خفية، تختلف من شخص إلى آخر»، وليست الموسيقا إلا جزءًا منه، ويختم بالقول: إنه «لا بد للإيقاع أن يحملك كالمهد على موجته»، وهي عبارة فيها من الشاعرية أكثر مما فيها من التحليل النقدي، كما هو واضح.
غير أن من يقرأ قصائد سركون يدرك بسهولةٍ ويسرٍ حرصه على خلق حالة إيقاعية تعوض عن غياب الوزن المقعّد المنتظم الحسابي من خلال تكنيكات عدة، منها تكرار العبارة أو الكلمة الواحدة في مواضع متقاربة أحيانًا، ومتباعدة أحيانًا أخرى في النص، والحرص على تشكيل أواخر الكلمات لإشباعها تنغيميًّا. وهنا أشير إلى الدراسة المهمة التي كتبها صبحي حديدي بعنوان: «سركون بولص: العمارات الإيقاعية التي تستدرج الذائقة» في كتاب «زوال لا يزول» المشار إليه أعلاه؛ إذ يؤكد أنه «ما من شعر عظيم دونما عمارة إيقاعية رفيعة تحمل قسطًا وافرًا من أعباء الإعراب عن عظمة النص الشعري».
ضرورة مراجعة التجربة
ولأن الشاعر الحقيقي مثل النهر الهادر الذي لا يكف عن الجريان والتغير والتحول، فإن سركون ينبه إلى أهمية «أن يقف الشاعر على مبعدة من قصيدته وينظر إليها بعينين باردتين أكثر» (ص375)، وهو ما قام به بالفعل؛ إذ يشير إلى المقارنة التي عقدها بين اعتماده الكلي وانسحاره وهوسه بالصورة الشعرية في كتابه الأول، وبين التخلص منها وتبسيطها قدر الإمكان في كتابه الثاني، أي تطور الوعي الشعري من الاهتمام بالصورة إلى توظيفها لتخدم الحالة أو المشهد الشعري. ويدعو إلى ضرورة «التعامل مع الشعر بمنطق الحياة أكثر من منطق اللغة والتقنيات الشعرية» بما يستلزم «الابتعاد عن الثقافة في الشعر لإزاحة هم التركيب الذهني وإتاحة الفرصة للفيوض الإنسانية الأخرى كي تحتل القصيدة». وهو الأمر الذي يبرز على نحو خاص في مجموعته الأخيرة «عظمة أخرى لكلب القبيلة»، التي صدرت بعد رحيله.
على صعيد آخر، لا بد من الإشارة إلى أنه من المزعج في هذا الكتاب القيّم كثرة الأخطاء الواردة في كل صفحة من صفحاته تقريبًا، وكأنه لم يُحرَّر ولم يراجَع ولم يَنَلْ ما هو جدير به من عناية واهتمام. أحد أكثر الحوارات التي تزاحمت فيها الأخطاء والملاحظات كان الحوار الذي سبق نشره في مجلة نزوى، والذي دفعني الفضول للرجوع إليه في أرشيف المجلة لأفاجأ بأن الحوار منقول حرفيًّا كما هو من دون تعديل أو تصحيح أو مراجعة. ولعل ما زاد في استغرابي وحيرتي من كثرة هذه الأخطاء هو الشكر الذي يوجهه الناشر ومالك دار الجمل، خالد المعالي، في آخر الكتاب إلى عدد من الأسماء الكبيرة والكتّاب الذين «لم يأخذ هذا الكتاب شكله الحالي» لولا مساعدتهم. ومن هؤلاء صلاح فائق ومؤيد الراوي وكاظم جهاد وسنان أنطون ومحمد مظلوم.
ختامًا، على الرغم من كل المآخذ، يظل هذا الكتاب مرجعًا ووثيقة مهمة للراغبين في التعرف أكثر إلى ملامح تجربة هذا الشاعر المهم، وكذلك للباحثين والدارسين الذين قد يغريهم غنى تجربته وفرادتها بإيلائها ما تستحقه من اهتمام واحتفاء.