بواسطة زكي الميلاد - كاتب سعودي | نوفمبر 1, 2018 | الملف
يعد كتاب الدكتور طه حسين (1306- 1393هـ/ 1889- 1973م) «مستقبل الثقافة في مصر» الصادر سنة 1938م، أول كتاب في الأدب العربي الحديث يتحدث بشكل مستفيض عن مستقبل الثقافة، ويقرن ما بين الثقافة والمستقبل، ويضع الثقافة في صلب الحديث عن المستقبل، ويلفت الانتباه إلى أثر الثقافة في مستقبليات الدول والمجتمعات، وأن لا مستقبل ولا مستقبليات من دون الثقافة، مؤكدًا منظورًا حيويًّا يمكن تسميته المنظور الثقافي المستقبلي. كان المفترض من هذا الكتاب أن يأخذ في وقته صفة البيان الثقافي، ويكون دافعًا لتكوين وعي جديد في البلاد العربية نحو الالتفات لمسألة العلاقة بين الثقافة والمستقبل، وعيًا يجعل الحديث عن مستقبل الثقافة يجوب هذه البلاد وينتعش فيها، متجلّيًا في الحديث تارة عن مستقبل الثقافة في العراق، وتارة في الحديث عن مستقبل الثقافة في المغرب، وتارة في الحديث عن مستقبل الثقافة في السودان، وهكذا في باقي الدول والمجتمعات العربية الأخرى، لكن هذا لم يحدث!
لم يحدث هذا الأمر أو هذا التطور الثقافي المفترض، نتيجة ما حصل لكتاب طه حسين من التباسات واعتراضات حادة أدت إلى تعثر مهمته أو فشلها في موطنه، فحجبت إشعاعه عن أن يمتد ويصل إلى الدول والمجتمعات العربية الأخرى. الفشل الذي شعر به طه حسين متأسفًا، حين رأى بنفسه طريقة الاستجابة الملتبسة لرؤيته أو خطته في النهوض الثقافي لبلده، فقرر إيقاف طباعة الكتاب مرة أخرى، راغبًا في مراجعته وإعادة النظر فيه، فعد من مؤلفاته التي لم تطبع مرة ثانية في حياته، وبقي الكتاب على حاله من دون مراجعة ولا تغيير. ومن بعد هذا الكتاب لم تظهر تجربة مماثلة في مكان آخر، تتخطى محاولة الدكتور طه حسين أو تتواصل معها، وتجدد الحديث بسياقات ونظرات مختلفة حول مستقبل الثقافة في المجال العربي العام أو المجال الوطني الخاص.
وكنا بحاجة ماسة لمثل هذه المحاولات على الصعيدين العربي والوطني، وبخاصة بعدما انبثقت عندنا التجربة الأولى، وكان من الممكن أن يتبلور معها مسار يكون منتظمًا من جهة، وممتدًّا من جهة أخرى، مسار يتصل بالحديث عن مستقبل الثقافة في الأوطان العربية كافة، وهذا ما لم يحدث لأننا لم نعطِ محاولة طه حسين صفةَ انبثاق التجربة الأولى، ولم نتعامل معها كونها مثلت مسارًا كان علينا الانخراط فيه والانتظام. وإذا اعتبرنا أن هذه المحاولة قد تعثرت أو فشلت في عصرها وفي موطنها، فهذا لا يعني على الإطلاق الانقطاع عنها ومحوها ونسيانها، وعدم الاستلهام منها، حتى مع الاختلاف معها من جهة النظرات والتحليلات والمرجعيات جزئيًّا أو كليًّا، وذلك لكونها المحاولة التي لم تنسخها محاولة أخرى لا في موطنها مصر، ولا في باقي البلاد العربية الأخرى. لهذا ستظل هذه المحاولة حاضرة في دائرة الاهتمام والإلهام، لا أقل في أفقها العام الذي يتصل بتأكيد العلاقة بين الثقافة والمستقبل.
وفي نطاق هذا الاستلهام نتساءل في مجالنا الوطني: ماذا عن مستقبل الثقافة في السعودية؟ ومتى نكتب عملًا يستشرف لنا هذا الأفق؟ عملًا نريد منه أن يحمل صفة الكتاب المرجعي، أو صفة الكتاب الرائد، أو صفة الكتاب الملهم، أو غير ذلك من الصفات العالية والمميزة، بحيث يرسم لنا خطة، ويكتشف لنا أفقًا، ويفتح نقاشًا يكون واسعًا وممتدًّا حول مستقبل الثقافة في السعودية، وما يتفرغ منه في الحديث عن مستقبلنا الثقافي ومنظورنا الثقافي المستقبلي. يتأكد هذا الأمر من ناحية الزمن، مع وجود أول وزارة في تاريخ السعودية تعنى بالثقافة متفردة بهذا الشأن، ومع وجود هيئة عامة للثقافة، وفي ظل مشروع الرؤية السعودية التي تتخذ من المستقبل الطموح وجهة لها. إسهامًا في بلورة الرؤى والتصورات، وتفاعلًا مع النقاشات السائدة حول هذا الشأن الثقافي، أتقدم بهذه الملاحظات الآتية:
أولًا- في البحث عن صورتنا الثقافية
عندما نريد أن نبحث عن صورتنا السياسية نحن كدولة ومجتمع، الصورة التي تميزنا بقدر ما عن باقي الدول والأمم الأخرى، أو تعرفنا عند هذه الدول والأمم، أو التي تعطينا قدرًا من الفرادة أو الاختلاف عن غيرنا، فإن من السهولة التعرف على هذه الصورة في المجال السياسي، حيث تكشف عنها مجموع السياسات القائمة والمتراكمة منذ ما يزيد على سبعة عقود، كما تكشف عنها كذلك، مجموع المواقف السياسية المتحركة والمتفاعلة مع الأحداث الجارية، وطبيعة العلاقات السياسية مع الدول والمؤسسات. وعندما نتحدث عن صورتنا الاقتصادية، فإن من السهولة كذلك، اكتشاف هذه الصورة، والتعرف عليها، وعلى ملامحها ومعالمها ومكوناتها؛ لكونها صورة ظاهرة ومتجلية لنا، وإلى العالم الذي نتفاعل معه ويتفاعل معنا.
ويكشف عن هذه الصورة مجموع النشاطات والخطط والعلاقات والإستراتيجيات ذات الطابع الاقتصادي، فالجميع يعلم أننا دولة نفطية مؤثرة في اقتصاديات العالم، ولدينا مخزون نفطي كبير، الوضع الذي فرض على الجميع في أن يتعرفوا على صورتنا الاقتصادية. وهكذا عندما نتحدث عن صورتنا الدينية، فإن هذه الصورة تكشف عن نفسها من خلال مجموع النشاطات والمؤسسات والعلاقات ذات الطابع الديني، وبحكم التفاعل والتواصل النشط والواسع مع العالم الإسلامي، ومع جميع المسلمين في مختلف أنحاء العالم، الذين يأتون سنويًّا إلى الحج من كل فج عميق.
لكن عندما نتحدث عن صورتنا الثقافية، ونحاول أن نتعرف على هذه الصورة في أبعادها وملامحها، حدها ورسمها، فإن الوضع في هذه الحالة سوف يختلف. لا أعلم حقيقة طبيعة رؤية الآخرين لهذه الصورة وكيف يفهمونها؟ وأين يتفقون فيها؟ وأين يختلفون؟ وما درجة الوضوح عندهم في تشخيص هذه الصورة وتحديدها؟ وما درجة الغموض عندهم أيضا؟ لكن الذي أراه من دون أن أكون قاطعًا، ولست راغبًا في القطع أو الجزم، أن هذه الصورة ليست بذلك الوضوح، وأظن أنها ليس واضحة عند الكثيرين كذلك، أو لا أقل أحتمل أن هناك من يشاطرني ويوافقني على مثل هذا الرأي. أقول هذا الكلام والثقافة هي أقرب المجالات إلى نفسي، وهي الحقل الذي أوليه كل اهتمامي، مع ذلك عندما أحاول البحث عن صورتنا الثقافية أجد صعوبة في تحديد وتشخيص هذه الصورة.
يجب أن نعلم ابتداء أن الثقافة هي المجال الذي لا ينبغي التستر عليه، أو كتمان الحق فيه، فالثقافة من طبيعتها الشفافية، وهكذا ينبغي أن ننظر إليها، فما الذي جعل هذه الصورة الثقافية ليست بذلك الوضوح، أو الاكتمال؟ هل لأن الثقافة كانت إلى عهد قريب لا يجمعها جامع، ولا يربطها رابط، باعتبار أنها كانت موزعة ومتفرقة بين الأجهزة والمؤسسات والوزارات، قبل أن تجتمع عند جهة محددة هي وزارة الثقافة؟ أم لأن مجموع النشاطات ذات الطابع الثقافي لم يكن بالقدر الكافي الذي يكون بإمكانه بلورة صورة ثقافية ناضجة ومحددة الملامح؟ أم أن هذه النشاطات أقل بكثير مقارنة بمجموع النشاطات المرتبطة بالمجالات الأخرى السياسية والاقتصادية والدينية؟ أم لأنه لم تكن لنا سياسة وإستراتيجية واضحة ومحددة في مجال الثقافة، على صورة الإستراتيجية التي أقرها مؤتمر المثقفين السعوديين الأول؟ أم لأن الصورة الدينية غطت على الصورة الثقافية، أو أننا اكتفينا بالصورة الدينية، أو أننا لم نرد مزاحمة الثقافة للصورة الدينية؟ سواء اتفقنا أو اختلفنا على هذه التصورات والتحليلات، مع ذلك يبقى أننا بحاجة لأن نسهم في بلورة وصياغة صورتنا الثقافية، الصورة التي يرى الجميع نفسه فيها، وبكل ألوان الطيف لتكتسب جمالية ألوان الطيف، وأن تكون معبرة عن جميع مكونات النسيج المجتمعي السعودي، وعندئذ ستكون هذه هي صورتنا الثقافية، وهذا هو مصدر الثراء والتخلق في كل صورة ثقافية! ويبقى السؤال مفتوحًا في البحث عن صورتنا الثقافية، فما هذه الصورة؟
من معرض الرياض الدولي للكتاب
ثانيًا- ما سؤالنا الثقافي؟
لعل أهم سؤال يمكن أن نطرحه على أنفسنا في مجالنا الثقافي هو: ما سؤالنا الثقافي؟ لا شك أن الإجابة عن هذا السؤال بحاجة إلى عصف ذهني، ومزيد من إعمال الفكر، وتكثيف التأمل والنظر، فهو السؤال الذي يبلور وجهة الثقافة، ويصيغ روحها العامة، ويحدد لنا ماذا نريد منها، وكيف ترتبط الثقافة بحاجاتنا الملحّة الراهنة والمستقبلية، وهي الحاجات التي يفترض أن تنتهي في حركتها إلى ما يخدم ويعزز التقدم العام والتطور الشامل. كما أن هذا السؤال، هو بمثابة اكتشاف بوصلة الثقافة، وهل يمكن للثقافة أن تكون بلا بوصلة ترسم لها الطريق، وتبلور لها المسارات والاتجاهات. والثقافة بلا سؤال ثقافي، هي ثقافة بلا وعي وبلا بصيرة بذاتها ووجودها، بحركتها وفاعليتها، بحاضرها ومستقبلها. وفي مثل هذه الحالة تصبح الثقافة مشتتة، ومعرضة للتفتت والانقسام، وقد تتنازعها الرغبات والأهواء من كل جانب. وهذا يعني أن البحث عن سؤالنا الثقافي، هو بحث عن جوهر الثقافة وعمقها، وهو من جهة أخرى بحث عن الجانب الوظيفي في الثقافة، بمعنى أنه السؤال الذي يحدد للثقافة وظيفتها، ولكن ليس أي وظيفة، وإنما الوظيفة الواعية والكبيرة التي تتصل بالمتطلبات الفعلية في نطاق علاقة الثقافة بالمجتمع.
والسؤال اللافت والمحير هو: كيف يغيب عنا مثل هذا السؤال؟ أو لا يتجدد طرحه باستمرار؟ مع أنه السؤال الذي يفترض ألّا يغيب عنا؛ لأن الإجابة عليه أو الاقتراب من هذه الإجابة، ليس فقط لا تتوقف على مجرد إبداع هذا السؤال واكتشافه، وإنما على طرحه المتكرر، وكثرة النظر فيه؛ لأنه ليس من نمط الأسئلة البسيطة أو السهلة أو العادية، بل هو سؤال الأسئلة في الثقافة، وسؤالها الحيوي، ويفترض أن يمثل محور النقاشات فيها. متى ما غاب هذا السؤال، غابت معه تجليات الثقافة، وتجليات الفعل والحضور، وكيف للثقافة أن تتطور من دون سؤال ثقافي يحدد لها عنصر الفعل والحركة، ويحدد لها أيضًا، عنصر الدور والوظيفة، ويربطها بقضية تتصل بها وتتفاعل معها. يضاف إلى ذلك أن السؤال الثقافي، هو الذي يشكل طبيعة العلاقة بين الثقافة والمجتمع، فكل مجتمع يفرض سؤاله الثقافي بحسب طبيعة مكوناته، وكيف ينظر هو إلى ذاته، وكيف يفكر في مستقبله، وحاجته للتطور والتقدم. من هنا يختلف السؤال الثقافي من مجتمع إلى آخر، فالسؤال الثقافي في مصر مثلًا، يختلف بطبيعة الحال عن السؤال الثقافي في لبنان، وكذا عن السؤال الثقافي في السودان، وهكذا الحال عن السؤال الثقافي في مجتمعنا. كما أن هذا السؤال الثقافي، يتغير ويتجدد في داخل المجتمع الواحد بحسب المراحل والأطوار التاريخية والفكرية التي يمر بها كل مجتمع. لكن هذا التغير والتجدد في السؤال الثقافي لا يكون سريعًا أو فوريًّا، ولا يكون عفويًّا أو طارئًا، وإنما يحصل بقصد ووعي، ويحدث نتيجة محصلة تراكم الوعي، وتطور التجربة والخبرة الفكرية والتاريخية. فما سؤالنا الثقافي في حاضرنا الراهن؟
ثالثًا- ماذا عن واقع البحث الأدبي والفكري؟
يصلح هذا السؤال أن يكون مدخلًا لتكوين نظرة نقدية وتقويمية لعموم البحث الأدبي والفكري عندنا، ومعرفة طبيعة حركته ومسلكياته، والكشف فيما إذا كان هذا الحقل، مواكبًا لمثيله في العالم العربي؟ أم متأخرًا عنه؟ أم متقدمًا عليه؟ وما هي العلل والأسباب في جميع هذه الحالات؟ وإذا أردنا أن نقرر رؤية محددة، يمكن القول: إن هناك تقدمًا في البحث الأدبي والفكري على مستوى الأشخاص، وتأخرًا على مستوى المؤسسات، فليست عندنا جامعة بنشاط جامعة محمد الخامس في المغرب الفاعلة بقوة في إنماء وتطوير ونهضة الحياة الأدبية والفكرية والفلسفية هناك، وليس عندنا مؤسسة بنشاط المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، وليس عندنا برنامج كبرنامج «القراءة للجميع» و«مكتبة الأسرة» في مصر، أو مشروع كالمشروع القومي للترجمة في مصر. هذه بعض اللمحات التي أردت منها أن تفتح نقاشات لا أن تقدم إجابات حول مستقبل الثقافة في مجالنا السعودي.
بواسطة زكي الميلاد - كاتب سعودي | أغسطس 31, 2017 | كتاب الفيصل, مقالات
العالم العربي ليس خاليًا من الأطروحات الجادة والمهمة على أقسامها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية وغيرها، لكن المشكلة مع هذه الأطروحات تكمن في واحدة من ثلاثة أمور تتصل وتنفصل، منها أننا لا نحسن طريقة التعبير عن هذه الأطروحات، فنقدمها بشكل باهت لا يلفت الانتباه لها. ومنها أننا لا نظهر هذه الأطروحات بثقة عالية، ولا نتعامل معها بهذه الثقة العالية، متمسكين بهذا الوصف، وصف الأطروحة وجازمين به، ومنها أننا لا نتنبه لهذه الأطروحات حين تظهر، فتمر من دون أن تعرف بالقدر الكافي، وتمضي وتنكمش من دون أن تحدث دهشة أو تأثيرًا.
تحصل هذه الحال، في الوقت الذي يتساءل فيه بعض: هل توجد أطروحات جادة في المجال العربي؟ وبطريقة أخرى من التساؤل المزدوج: لماذا لا توجد أطروحات جادة في المجال العربي؟ ولماذا تأتي الأطروحات الجادة من الخارج ولا تأتي من الداخل العربي؟ وفي إدراك بعض أننا بحاجة إلى أطروحات جادة تفتح لنا أفقًا، وتحرك ساكنًا، وتنشط نقاشًا، وتثير دهشة، لكن من دون الالتفات إلى الأطروحات التي تظهر أو حين تظهر عندنا وفي مجالنا. ومن الأطروحات المهمة التي بحاجة إلى التفات، أطروحة المؤرخ اللبناني الدكتور خالد زيادة التي حددها بقوله: «لم يعد لأوربا ما تقدمه للعرب»، وجاءت عنوانًا لكتابه الصادر في طبعته الأولى سنة 2013م، وفي طبعته الثانية سنة 2015م، وأراد منها في المنظور الكلي تغيير النظرة إلى أوربا من جهة، وتغيير النظرة لأنفسنا من جهة أخرى.
وعند النظر في هذه الأطروحة فحصًا وتأملًا، يمكن القول: إنها ترتكز على أمرين أساسين: الأول له علاقة بأوربا، والثاني له علاقة بالعرب، بشأن الأمر الأول، يرى الدكتور زيادة أن أوربا قدمت ما عندها من الأفكار الكبرى التي أثارت دهشة العالم، كالحداثة والديمقراطية والعقلانية والقومية والاشتراكية والليبرالية وحقوق الإنسان، ولم تعد أوربا كما كانت بالأمس مصدر إشعاع وإلهام وتأثير.
وبشأن الأمر الثاني، يرى الدكتور زيادة أن العرب قد ربطتهم علاقات طويلة بأوربا، واعتمدوا عليها، وأخذوا منها كثيرًا، وحان الوقت الذي يغيرون فيه المسلك والمسار، والاتجاه نحو الاعتماد على أنفسهم، والنظر إلى ذاتهم بعيدًا من سحر أوربا والارتهان والتبعية لها، وبات على العرب أن ينشئوا أفكارهم وألا يعتمدوا على أوربا.
خالد زيادة وأوربا
وما هو جدير بالإشارة أن هذه الأطروحة قد اتصلت عند الدكتور زيادة بسياق من البحث الفكري والتاريخي الممتد لعقود عدة، تطورت فيه وتراكمت المعرفة والخبرة، ومثل له حقل دراسة واختصاص علمي وأكاديمي، يرجع إلى سنة 1980م حين ناقش الدكتور زيادة رسالته للدكتوراه في جامعة السوربون الفرنسية، وكانت بعنوان: «المؤثرات الفرنسية على العثمانيين في القرن الثامن عشر»، وصدرت لاحقًا في كتاب سنة 1981م بعنوان: «اكتشاف التقدم الأوربي»، وفي سنة 2010م صدر الكتاب في القاهرة بعنوان آخر هو: «المسلمون والحداثة الأوربية»، وفي سنة 1983م أصدر الدكتور زيادة كتابًا له طابع الرصد والتتبع والتوثيق، حمل عنوان: «تطور النظرة الإسلامية إلى أوربا»، وتواصل عنده هذا الاهتمام ولم ينقطع، وتجدد مع هذه الأطروحة.
وأظن أن هذه الأطروحة لو جاءت من أحد الغربيين لكان لها شأن آخر، ولجرى التعامل معها بطريقة مختلفة، ولأخذت حيزًا أكبر من الالتفات، ولبالغنا في الاهتمام بها والانشغال كتابة ونقاشًا، ونقدًا وسجالًا، ولوجدنا فيها ما يثير الدهشة، هكذا جرَتِ الحال عندنا في العادة، فما يثير اهتمام الغربيين يحرك الاهتمام عندنا في الغالب، ولعًا بتأثير الغالب على المغلوب حسب المقولة الخلدونية القديمة.
وكنت قد ناقشت هذه الأطروحة من قبل، وتواصلت في هذا النقاش مع الدكتور زيادة، وأعطيت هذه الأطروحة آنذاك صفة المقولة، لكني وجدت أنها تستحق صفة الأطروحة كذلك، وذلك لطبيعة السياق الفكري والتاريخي الذي اتصلت به.
سودير هازاريسنج
والجديد الذي أود لفت الانتباه إليه، هو أنني وجدت تأكيدات مهمة على هذه الأطروحة من الأوربيين أنفسهم، وهم يتحدثون عن حالهم الفكري والفلسفي والسياسي والحضاري، بشكل يشير إلى أن أوربا قد تغيرت صورتها في الداخل، ولم تعد بذلك الإشعاع الذي كانت عليه من قبل، بل لم يعد لها ما تقدِّمه لغيرها من الأمم والمجتمعات الأخرى، وهذا ما لم يشِر إليه الدكتور زيادة، ومثل نقصًا واضحًا في بنية أطروحته.
ومن أوضح هذه التأكيدات الفكرية والفلسفية وأبلغها، ما ذكره عضو الأكاديمية البريطانية الدكتور سودير هازاريسنج في مقالته المهمة المنشورة باللغة الإنجليزية في يونيو 2015م، وفي ترجمتها العربية في مجلة الثقافة العالمية الكويتية يناير- فبراير 2016م، بعنوان: «ما تبقى من الفكر المزدهر.. إلى أين انتهى الفلاسفة الفرنسيون العظام؟».
في هذه المقالة التي فاقت عشر صفحات حسب ترجمتها العربية، حاول الدكتور سودير الكشف عن حالة التراجع الفكري لفرنسا بصورة خاصة، وتأثير ذلك في أوربا بصورة عامة، وحسب قوله: «يعاني الفكر الفرنسي المعاصر الركود الشديد فعلًا، فالفلسفة الفرنسية التي قدمت تيارات فلسفية ومذاهب جسورة، اجتاحت العالم من قبيل: العقلانية، والنزعة الجمهورية، والفلسفة النسوية، والمذهب الوضعي، والفلسفة الوجودية، والبنيوية، لم يعد لديها إلا أقل القليل لتقدمه في العقود الأخيرة». وتعزيزًا لهذا الموقف، يرى الدكتور سودير أن الفكر الفرنسي لم يعد يمثل مرجعية مركزية للتقدميين حول العالم، فالثورات الاجتماعية التي أدت إلى سقوط الأنظمة الشيوعية في شرق أوربا، وتحدي الأنظمة السلطوية في العالم العربي، لم تستلهم التقاليد الفكرية الفرنسية، وهو ما يمثل فراغًا فكريًّا… وقد قرعت مجلة الأدب Magazine litteraire أجراس الخطر بعنوان مفزع هو: «هل لا تزال فرنسا تفكر؟».
صورة فرنسا
وبالانتقال إلى أوربا، يرى سودير أن هذا التراجع الفكري لا يقتصر على فرنسا بمفردها؛ إذ على الرغم من نجاح الحركات الراديكالية الشعبية في الانتخابات مثل حركة سيرنيرا اليونانية وبوديموس، فإن تأثير حركات آفاق الإصلاحيين والتقدميين تضاءل عبر أوربا كلها منذ نهايات القرن العشرين، غير أن هذه الظاهرة تجلت بصورة حادة في فرنسا؛ لأن صورة فرنسا ارتبطت وجوديًّا مع التفوق الفكري، ومع الفرض القائل: إن الأفكار الفرنسية تحظى بجاذبية عالمية… ولكون الكيان الثقافي الأهم لفرنسا يمثل حالة فريدة في الثقافة الأوربية. وليس بعيدًا من هذا السياق كتاب السياسي الفرنسي جان شوفنمان الذي اختار له عنوانًا مثيرًا ولافتًا هو: «هل تخرج أوربا من التاريخ؟».
ويتصل بهذا السياق كذلك، صعود جماعات اليمين المتطرف في أوربا الذي قلب صورة أوربا في العالم، وكشف كيف أن أوربا تتغير من الداخل، وليس بعيدًا من ذلك إطلاق وصف العجوز على أوربا، هذه بعض الدلائل المهمة، ولا شك أن ما يعرفه الأوربيون عن أنفسهم أكثر بكثير، وهناك دلائل أخرى ستتكشف مع توالي الأيام، تجعل من الممكن القول: إن أوربا لم يعد لها ما تقدمه للعرب.
بواسطة زكي الميلاد - كاتب سعودي | نوفمبر 6, 2016 | كتاب الفيصل, مقالات
في صيف 1997م نشرت مقالة موسعة في مجلة الكلمة بعنوان: «تعارف الحضارات»، وكان هذا أول إعلان عن هذه الفكرة بهذا النحت البياني، وبهذا الصك الاصطلاحي، وجاء انبثاق هذه الفكرة من حصيلة تأملات مستفيضة من جهة، ومن جهة أخرى من حصيلة متابعات متصلة ومتجددة لحقل الدراسات الحضارية.
واستندت في تكوين هذه الفكرة إلى أصل من القرآن الكريم، الذي هو الأصل الأول وأصل الأصول حسب قول علماء الأصول، وتحدد ذلك في الآية الكريمة التي سميتها آية التعارف الواردة في سورة الحجرات في قوله تعالى: }يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا{ [الحجرات: 13].
وبعد الفحص والنظر في هذه الآية، وجدت أنها تضمنت الإشارة إلى مبادئ كلية وأبعاد إنسانية عامة، تضعنا أمام الأفق الإنساني الكلي الذي يتوجه فيه الخطاب إلى الناس كافة، والتعارف هو المفهوم الذي حاولت هذه الآية تحديده وتأكيده والنص عليه، من خلال سياق وخطاب يبرز قيمته بوصفه مفهومًا إنسانيًّا عامًّا يتصل بالناس كافة. وبمنطق التحليل، يمكن الكشف عن هذه المبادئ الإنسانية الكلية والعامة في الآية المذكورة على هذا النحو:
أولًا: خطاب إلى الناس كافة «يا أيها الناس»، سورة الحجرات هي من السور المدنية، الخطاب فيها متوجه من البداية إلى النهاية للمؤمنين بلسان «يا أيها الذين آمنوا»، لكنه تغير في هذه الآية وتحول الخطاب إلى الناس بلسان «يا أيها الناس»، وهذا تحول من الخاص إلى العام في مورد يقتضي تقديم العام على الخاص، بما يوحي إلى أن الآية بصدد الإشارة لمبادئ إنسانية كلية وعامة. ولو اتصل الخطاب في هذه الآية، واتجه حصرًا وتحديدًا إلى المؤمنين، لتغير سياق الآية وموردها، ولكان لها مورد غير المورد الذي نتحدث عنه، ونعني به مورد تعارف الحضارات.
وعند التوقف تجاه كلمة الناس لغةً وبلاغةً، نجد أن هذه الكلمة فيها عموم استغراقي لجنس الإنسان بغض النظر عن جميع صفاته العارضة، وهي من الكلمات التي لا تقبل التجزئة ولا التقابل ولا الإضافة ولا الحصر النوعي، فمن جهة التجزئة فإن كلمة الناس لا تتجزأ إلى مفرد وتثنية، بخلاف الحال مثلًا مع كلمة الشعب التي تقبل التجزئة، فيقال: شعب للمفرد، وشعبان للتثنية، وشعوب للجمع. ومن جهة التقابل، فكلمة الناس من الكلمات التي لا تقابل لها، بخلاف الحال مثلًا مع كلمة الجماهير التي تقابلها كلمة النخبة. ومن جهة الإضافة، فكلمة الناس كذلك لا تقبل الإضافة، بخلاف الحال مثلًا مع كلمة الأمة التي تقبل الإضافة، فيقال: الأمة العربية، والأمة الإسلامية، والأمة المصرية، والأمة الفرنسية، وهكذا.
ومن جهة الحصر النوعي، فكلمة الناس لا تنصرف إلى جانب الذكورة فحسب، ولا إلى جانب الأنوثة فحسب، فهي لا تتحدد بنوع معين. الأمر الذي يعني أن خطاب «يا أيها الناس»، هو خطاب متوجه إلى الناس كافة مستغرقًا عموم جنس الإنسان، ناظرًا لهم على تعدد وتنوع أعراقهم وألوانهم، لغاتهم وألسنتهم، دياناتهم ومذاهبهم، ذكورهم وإناثهم، إلى غير ذلك من تمايزات أخرى.
لهذا كله يمكن اعتبار كلمة الناس، من المصطلحات القرآنية التي وردت وتواترت وتكررت في 53 سورة مكية ومدنية، طويلة وقصيرة، وتسمّت بها آخر سورة، وجاءت في موضع آخر كلمة في القرآن «من الجنة والناس»، حتى قيل: إن القرآن يبدأ بـ: بسم الله، وينتهي بكلمة الناس.
ثانيًا: تذكير بوحدة الأصل الإنساني «إنا خلقناكم من ذكر وأنثى»، أراد القرآن بهذا القول أن يقرر أعظم حقيقة في مجال الاجتماع الإنساني، هي حقيقة وحدة الأصل الإنساني، وتعني أن الناس مهما تعددت وتنوعت أعراقهم وأجناسهم، لغاتهم وألسنتهم، ألوانهم وأشكالهم، بيئاتهم وأمكنتهم إلى غير ذلك من اختلافات أخرى، مع ذلك فإنهم يرجعون إلى أصل إنساني واحد.
والقصد من هذا الأمر، ضرورة أن يدرك الناس هذه الحقيقة، ويتعاملوا معها كقاعدة إنسانية وأخلاقية في نظرتهم لأنفسهم، وفي نظرة كل أمة وحضارة إلى غيرها، كما لو أنهم ينتمون إلى أسرة إنسانية واحدة ممتدة على مساحة هذه الأرض، ويمثل هذا الأمر أقوى سبيل أخلاقي للتخلص من نزعات التعالي والعنصرية والطبقية والكراهية والتراتب بين البشر.
ماضي السلالات البشرية
وطالما شغلت قضية وحدة الأصل الإنساني اهتمامات العلماء قديمًا وحديثًا، واختلفوا حولها، وتعددت آراؤهم ونظرياتهم وتباينت، وذهبوا يفتشون عنها ويتحققون بدراسة تاريخ الأجناس والأعراق، وماضي السلالات البشرية، ووجدوا فرصتهم للتحقق منها بالعودة إلى ما عرف في أدبياتهم بالمجتمعات البدائية.
مع ذلك ظلت هذه القضية موضع جدل وشك في ساحة الفكر الإنساني، يصعب التسليم بها عند البعض، وهذا ما كشف عنه بوضوح كبير عالم الأنثربولوجيا الفرنسي كلود ليفي شترواس (1908-2009م) في كتابه الوجيز «العرق والتاريخ» الصادر سنة 1952م، بقوله: «نحن نعلم أن فكرة الإنسانية التي تشمل دون تمييز في العرق أو الحضارة كل أشكال النوع البشري، لم تظهر سوى متأخرة جدًّا، ولم تعرف إلا انتشارًا محدودًا، وحيث إنها وصلت إلى أعلى درجات تطورها، ليس مؤكدًا على الإطلاق والتاريخ القريب يثبت ذلك، أنها ترسخت بمنأى عن الالتباس والتقهقر، ولكن كان يبدو بالنسبة لقطاعات واسعة من الجنس البشري وطوال عشرات الألوف من السنين، أن هذه الفكرة كانت غائبة غيابًا كليًّا».
لهذا فإن ما قرره القرآن الكريم، يمثل شيئًا كبيرًا بالنسبة إلى علماء الأجناس والأعراق والسلالات البشرية وعلماء الاجتماع والتاريخ والأنثربولوجيا، وهؤلاء هم الأقدر من غيرهم على تقدير حقيقة وحدة الأصل الإنساني بين الناس كافة.
ثالثًا: إقرار بالتنوع الإنساني «وجعلناكم شعوبًا وقبائل»، بعد التأكيد على وحدة الأصل الإنساني، جاء الإقرار بمبدأ التنوع الإنساني، بمعنى أن وحدة الأصل الإنساني لا تقتضي أن يجتمع الناس كافة ويعيشوا في مجتمع واحد ومكان واحد، وحينما توزعوا شعوبًا وقبائلَ، وتعددت وتنوعت أجناسهم وأعراقهم ولغاتهم وألوانهم فهذا لا يعني أبدًا أن لا رابط بينهم، فوحدة الأصل الإنساني لا تنفي حقيقة التنوع الإنساني، كما أن التنوع الإنساني لا ينفي حقيقة وحدة الأصل الإنساني.
والتنوع الإنساني الذي قررته هذه الآية، هو ما ظهر إلى الوجود وتجلى في تاريخ الاجتماع الإنساني بمختلف مراحله وأطواره، وثبت كحقيقة اجتماعية وتاريخية لا خلاف عليها ولا نزاع في جميع حقول الدراسات الاجتماعية والتاريخية والحضارية والأنثربولوجية وغيرها.
رابعًا: خطاب إلى الناس كافة، وتذكير بوحدة الأصل الإنساني، وإقرار بالتنوع بين الإنساني، فما هو شكل العلاقة بين الناس؟ من بين كل المفاهيم المحتملة في هذا الشأن، يتقدم مفهوم التعارف «لتعارفوا». الأمر الذي يعني أن تنوع الناس إلى شعوب وقبائل وتكاثرهم وتوزعهم في أرجاء الأرض، لا يعني أن يتفرقوا، وتتقطع بهم السبل، ويعيش كل شعب وأمة وحضارة في عزلة وانقطاع. كما لا يعني هذا التنوع أن يتصادم الناس، ويتنازعوا فيما بينهم من أجل الثروة والقوة والسيادة، إنما ليتعارفوا.
ولا يكفي أن يدرك الناس أنهم من أصل إنساني واحد فلا يحتاجون إلى التعارف، أو أن يتوزعوا إلى شعوب وقبائل ويتفرقوا في الأرض فلا يحتاجون إلى التعارف. ولأن التعارف بين شعوب وقبائل؛ أي بين مجتمعات وجماعات، وليس بين أفراد، فهو يصدق على جميع أشكال الجماعات الصغيرة والكبيرة، ومنها الشعوب والمجتمعات والأمم حتى الحضارات؛ لذلك جاز لنا استعماله في مجال الحضارات، الاستعمال الذي نتوصل منه إلى مفهوم واصطلاح «تعارف الحضارات».
خامسًا: إذا انطلقنا من زاوية التفاضل والمقارنة، لنتساءل: لماذا لم تستخدم الآية كلمة لتحاوروا، أو لتوحدوا، أو لتعاونوا، إلى غير ذلك من كلمات ترتبط بهذا النسق، ويأتي التفضيل لكلمة «لتعارفوا»؟ وهذا هو مصدر القيمة والفاعلية في مفهوم التعارف، فهو المفهوم الذي يؤسس لتلك المفاهيم المذكورة (الحوار، الوحدة، التعاون)، ويحدد لها شكلها ودرجتها وصورتها، وهو الذي يحافظ على فاعليتها وتطورها واستمرارها، هذا من جهة الإيجاب. أما من جهة السلب فإن التعارف هو الذي يزيل مسببات النزاع والصدام والصراع.
وحينما توصلت لهذا المفهوم وجدت أنه أكثر دقة وضبطًا وإحكامًا من مفهوم حوار الحضارات، وهذا ما وجده كذلك بعض الذين تعرفوا لاحقًا على هذا المفهوم، وعبروا عن ذلك في كتابات نشروها، فهل الحضارات تتحاور؟ وبأية صورة تتحاور؟
وتأكد عندي هذا الأمر، حينما عدت إلى بعض أهل الاختصاص في مجال الحضارات، فوجدت أنهم في دراساتهم حول الحضارة والحضارات، قد تحدثوا عن مفاهيم أخرى عند الحديث عن العلاقات بين الحضارات، ولم يتحدثوا عن مفهوم حوار الحضارات، فبعضهم تحدث عن تعاون الثقافات مثل: كلود ليفي شترواس في كتابه «العرق والتاريخ»، وبعضهم تحدث عن تفاعل الحضارات مثل: قسطنطين زريق (1909-2000م) في كتابه «في معركة الحضارة»، وبعضهم تحدث عن تباين الحضارات مثل: رولان بريتون في كتابه «جغرافيا الحضارات»، وبعضهم تحدث عن صراع الحضارات مثل: حسين مؤنس (1911-1996م) في كتابه «الحضارة»، وهكذا غيرهم.
وما إن عرف مفهوم تعارف الحضارات، حتى أخذ طريقه سريعًا إلى المجال التداولي، ونال شهرة واسعة، واكتسب اهتمامًا كبيرًا، وتطورًا متراكمًا، وما زال محافظًا على هذه الوتيرة الصاعدة، وقد تجاوز مرحلة بناء المفهوم، وبات معروفًا ومتحركًا في حقل الدراسات الحضارية.
مفهوم تعارف الحضارات
ومن جهة التطور، فقد شهد مفهوم تعارف الحضارات تطورات مهمة وعلى أكثر من صعيد، فعلى صعيد التأليف هناك حتى هذه اللحظة –حسب ما رصدت- خمسة عشر كتابًا تحدث عن هذا المفهوم وتطرق له بصور متعددة، تارة بصورة الحديث الكامل عن المفهوم، مثل الكتابين اللذين قمت بإعدادهما وتحريرهما، وهما: كتاب «تعارف الحضارات»، الصادر عن دار الفكر بدمشق سنة 2006م، وكتاب «تعارف الحضارات.. رؤية جديدة لمستقبل العلاقات بين الحضارات» الذي حررته بالاشتراك مع الدكتور صلاح الدين الجوهري، الصادر عن مكتبة الإسكندرية سنة 2014م.
وتارة بتخصيص فصل كامل، كما في كتاب الباحث العراقي الدكتور علي عبود المحمداوي «الإسلام والغرب من صراع الحضارات إلى تعارفها» الصادر في بغداد سنة 2010م، الذي احتوى على فصل بعنوان: «تعارف الحضارات».
وتارة بتخصيص مقالة كاملة، كما في كتاب الباحث المصري أسامة الألفي «عوامل قيام الحضارات وانهيارها في القرآن الكريم» الصادر في القاهرة 2006م، الذي احتوى على مقالة بعنوان: «تعارف الحضارات لا تصادمها»، وكذا في كتاب الباحث العراقي الدكتور رسول محمد رسول «نقد العقل التعارفي.. جدل التواصل في عالم متغير» الصادر في بيروت سنة 2005م، الذي احتوى على مقالة بعنوان: «التعارف الحضاري في ضوء متغيرات العالم الجديد».
إلى جانب الحديث النقدي حول المفهوم، كما في كتاب الباحث الجزائري الدكتور محمد بوالروايح «نظريات حوار وصدام الحضارات» الصادر في قسنطينة سنة 2010م، الذي خصص قسمًا حمل عنوان: «أفكار زكي الميلاد على محك النقد». وهذه المؤلفات الخمسة عشر التي توصلت إليها، صدرت في السعودية ومصر ولبنان وسوريا والعراق والأردن وقطر والجزائر. وعلى صعيد المقالات، فقد وجدت بعد الرصد والمتابعة أن هناك ما يزيد على خمسين مقالة حملت في عناوينها تسمية تعارف الحضارات، نشرت في صحف ومجلات ودوريات يومية وأسبوعية وشهرية وفصلية، وبعضها نُشر في مجلات جامعية محكمة، صدرت هذه المقالات في معظم الدول العربية تقريبًا.
وعلى صعيد الرسائل الجامعية، فقد نوقشت هذه الفكرة في عدد من الرسائل الجامعية، بعض هذه الرسائل حمل في عناوينه تسمية تعارف الحضارات، وهذه الرسائل هي: «تعارف الحضارات.. الأطروحة البديل في التعامل مع الآخر»، رسالة ماجستير في الفلسفة من إعداد الباحث العراقي علي المحمداوي، كلية الآداب، جامعة بغداد، إشراف: الدكتور نبيل رشاد سعيد، نوقشت بتاريخ 7 أكتوبر 2007م.
و«البعد الإنساني لفكرة تعارف الحضارات عند زكي الميلاد»، رسالة ماجستير في فلسفة الحضارة، من إعداد الطالبتين الجزائريتين: سمية غريب وحنان بن صغير، إشراف: الدكتور قويدري الأخضر، جامعة عمار ثليجي، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، مدينة الأغواط جنوب الجزائر، نوقشت بتاريخ الأربعاء 18 شعبان 1436هـ/3 يونيو 2015م. و«الخلفية الدينية لنظرية تعارف الحضارات عند زكي الميلاد»، رسالة تخرج في الفلسفة، من إعداد الطالبتين: صحراوي نادية وطاهري الزهرة، إشراف الدكتور قويدري الأخضر، المدرسة العليا للأساتذة، قسم الفلسفة، الأغواط – الجزائر، نوقشت بتاريخ الأحد 15 شعبان 1437هـ الموافق 22 مايو 2016م.
مستقبل العلاقة بين الحضارات
هناك رسائل ناقشت الفكرة باهتمام كبير وخصصت لها فصلًا واحدًا أو أكثر، وهذه الرسائل هي: «إشكالية مستقبل العلاقة بين الحضارات.. زكي الميلاد نموذجًا»، رسالة ماجستير في فلسفة الحضارة، من إعداد الباحثة الجزائرية: شبلي هجيرة، إشراف: الدكتور عمراني عبدالمجيد، جامعة الحاج لخضر، مدينة باتنة – الجزائر، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الإسلامية، قسم العلوم الإنسانية، شعبة الفلسفة، نوقشت بتاريخ 13 يونيو 2013م.
و«الحداثة والاجتهاد عند زكي الميلاد»، رسالة ماجستير في الفلسفة، من إعداد الطالبة: بزخامي زوليخة، إشراف: الدكتور براهيم أحمد، تخصص فكر عربي معاصر، جامعة عبدالحميد بن باديس، كلية العلوم الاجتماعية، مدينة مستغانم- الجزائر، نوقشت بتاريخ 10 ربيع الأول 1437هـ / 20 يناير 2016م. و«صدام الحضارات وموقف المفكرين منه زكي الميلاد أنموذجًا»، رسالة ماجستير في الفلسفة الإسلامية والحضارة المعاصرة، من إعداد الطالب: اسضاعي عيسى، إشراف: الدكتورة رشيدة صاري، جامعة وهران2 محمد بن أحمد، كلية العلوم الاجتماعية، وهران- الجزائر، نوقشت بتاريخ الأحد 29 شعبان 1437هـ / 5 يونيو 2016م.
وعلى صعيد الندوات والمؤتمرات، فهناك حتى هذه اللحظة ثلاث ندوات وطنية ودولية، عقدت حول هذه الفكرة، وبحسب تعاقبها الزمني هي: ندوة «تعارف الحضارات في ظل الأسرة الإنسانية الواحدة»، نظمها: معهد جمعية الفتح الإسلامي بدمشق بالتعاون مع جامعة هاتفورد سيمزي الأميركية، عقدت بدمشق في يناير 2008م. ومؤتمر «تعارف الحضارات»، نظمته: مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع مركز الحوار في الأزهر الشريف ومركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات بجامعة القاهرة، عقد بالإسكندرية في المدة 14 – 15 جمادى الآخرة 1432هـ الموافق 18 – 19 مايو 2011م. وندوة «الحضارات بين الحوار والتصادم والتعارف» نظمتها: جامعة وهران، وجاءت ضمن مشروع قيم السلم في الفلسفة المعاصرة، عقدت بوهران غرب الجزائر في 26 يونيو 2014م. وعلى صعيد مناهج التعليم، فقد أدرجت هذه الفكرة ضمن المقرر الدراسي لكتاب التاريخ للصف الحادي عشر في دولة الإمارات العربية المتحدة، المقرر الجديد والمطور الذي وضع سنة 1430هـ 2009م، وتدرس هذه الفكرة ضمن وحدة نظريات التفاعل الحضاري، وأشار الكتاب إلى أربع نظريات هي بحسب ترتيبها وبيانها في الكتاب: أولًا: نظرية صراع الحضارات من وجهة نظر صمويل هنتينغتون. ثانيًا: نظرية حوار الحضارات من وجهة نظر روجيه غارودي. ثالثًا: نظرية نهاية التاريخ من وجهة نظر فرانسيس فوكوياما. رابعًا: نظرية تعارف الحضارات من وجهة نظر زكي الميلاد.
هذه لمحة عن بعض التطورات المهمة، وما زالت هذه الفكرة تشق طريقها نحو التجدد والتطور. وما تحتاج إليه الحضارات في عالم اليوم هو التعارف الذي يرفع الجهل بصوره كافة، الجهل المسبب للصدام بين الحضارات، في المقابل أن التعارف هو الذي حافظ على تعاقب الحضارات في التاريخ الإنساني.