بواسطة محمد جازم - كاتب يمني | مايو 1, 2019 | كتب
إذا كانت النصوص تحتاج دائمًا إلى مفاهيم نظرية، فإن كل النصوص والمفاهيم بالمجمل هي في حقيقة الأمر معطى قابل للتأويل وسبر الغور، وإذا كانت النصوص في المقام الأول تحمل دلالات فارقة فإن الرؤى هي أيضًا غواية ومناصة تأليفية حافرة. وجميعنا يعرف أن التشظي النصي يقابله تشظٍّ موازٍ. من هنا ظهر النص الموازي الذي ينشغل بالدوران حول النص المركزي، وقد استطاعت رواية «جاهلية» لليلى الجهني- صادرة عن دار الآداب عام 2007م- الدخول إلى قلب المداميك المخبرية في العمل النصي الأكاديمي؛ إذ سُلِّط الضوء عليها في إطار عمل بحثي عميق عبر كتاب: «النص والنص الموازي – قراءة في رواية جاهلية ليلى الجهني» للدكتور حسن حجاب الحازمي، وهو كتاب علمي محكَّم أُصدِر ضمن مشروع أدبي يهتم برعايته كرسي الأدب السعودي في جامعة الملك سعود.
يقع الكتاب في 304 صفحات، ويتحرك في فضاء محدد بفصلين؛ الأول يتعرض للنص الموازي الداخلي في رواية جاهلية، والثاني يتحدث عن النص الموازي الخارجي للرواية، ويمكننا مقاربة الكتاب عبر الاستشهاد برأي المؤلف حول سبب اختياره للرواية؛ فقد ذهب إلى أن الجودة الفنية للرواية مثلت السبب الرئيس في تناولها؛ لأنها اجتذبت عددًا غير قليل من كبار النقاد، أما السبب الثاني؛ فقد كان موضوعها الذي عالَج قضية العنصرية، وجاء تنوع النص الموازي داخل الرواية ليشكل السبب الثالث في تناولها. إن أهم ما يمكن التركيز عليه هو استجابة النص العميقة البليغة للمفهوم المعياري النظري في النص الموازي، الذي عرفه جينيت في كتابه «الأطراس palimpsestes» بأنه نمط ثانٍ من التعالي النصي ويتكون من علاقة هي عمومًا أقل وضوحًا وأكثر اتساعًا، ويقيمها النص في الكل الذي يشكله العمل الأدبي مع ما يمكن أن نسميه بالنص الموازي؛ أو الملحقات النصية «les paratextes» على أن السيميائية تقول: إن النص الموازي هو مجموعة من العلامات الدالة المؤثرة في النص، ولكن علينا أن نعرف أن النص المركزي هو المقابل للنص الموازي، ولجيرار جينيت كتاب اسمه «العتبات» وهو ما يعني ضلوعه ورياديته في الاشتغال على النص الموازي الممنهج.
ليلى الجهني
النص المركزي هو المتن الإبداعي الذي ينبني على الثيمة الرئيسة في رواية جاهلية، وهي الثيمة التي تتخذ من معالجة موضوع العنصرية منطلقًا لها؛ إذ تنشأ قصة حب بين مالك الأسود ولين البيضاء التي يرفض والدها مبدأ تزويجها بمالك مستحضرًا ردة فعل المجتمع إن قبل ويتساءل: ما الذي سيفعله الناس ببنته إن قال لمالك: نعم؟ ما الذي سيقوله له شيوخ الحكمة؟ أف يابو هاشم ما لقيت إلا ها العبد تزوجه ابنتك؟ ولعلنا سنلاحظ أن «أبو هاشم» رد بالرفض على مضض مستحضرًا رأي المجتمع، فالمجتمع ينظر للرجل الأسود على أنه عبد، ولا يحق له الزواج من بنت السيد الأبيض، وتبلغ العنصرية الجاهلية هنا ذروتها البشعة في ردة فعل أخ لين هاشم الذي استغل عدائية المجتمع للأسود، فاستعان بأحد أصدقائه لضرب مالك.
المثول العميق للعنوان
أما النص الموازي فيحضر في المثول العميق للعنوان في كل أجزاء الرواية وانتقالاتها، وفي دخوله عبر النص الفوقي المقدس، حين انبنى على قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية» وذلك عندما وصف أحد مواليه بابن السوداء، وبالتالي فإن ما يجدر الإشارة إليه هو أن النسق السياقي يستدعي تغذية الانتباه إلى العنوان في إطار الالتباس الذي تراه الروائية بين ما هو عقائدي معلن، وما هو وعي اجتماعي مخفي، وذلك وفق مرجعية أن العنوان هو العتبة الرئيسة وأهم عناصر النص الموازي. ثم ها هو العنوان يكسر التواطؤ بين الحقيقة والخوف من التفكير بمثل هذه القضايا التي يرفضها الدين متوافقًا مع العقل والمنطق، ولعل الاستدعاء العميق الذي يفرضه العنوان هو كشف شذوذ العقل الجمعي وتعمد الإشاحة عن النصوص القويمة التي ترفض الجاهلية، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾؛ فالجاهلية هي منظومة حياة؛ فقد أدى التعصب الأعمى ضد مالك إلى قتله ماديًّا بعد أن قتله والد لين معنويًّا، حين قال له: «جبر الخواطر على الله وكل ثوب وله لباس» وبهذا تتعمق دلالة العنوان في الإجادة، والاستخدام المكثف للعنوان؛ إذ كان الجاهلي قبل الإسلام يدفن ابنته حيةً خوفًا من العار المفترض. إن ما يمكن أن نعرفه إجمالًا أن الناقد وقف في الكتاب هنا عند المفاهيم والتصورات التالية: الغلاف- العنوان الرئيس- العناوين الداخلية- العناوين الداخلية الرئيسة-العناوين الداخلية الفرعية- العتبات الزمنية- العناوين الداخلية فرعية الفرعية- المقتبسات السياسية الإخبارية- المقتبسات التراثية. ومن أكثر جماليات الرواية التي لفتت انتباه الناقد سعي الرواية من خلال بنائها إلى نقد العنصرية بأشكالها كافة، ولكن التركيز الأكثر إدهاشًا كان على اللون. أما اختيار المدينة المنورة لتكون مكان الحدث فقد مثّل مركز التجربة، القائمة أيضًا على الثنائية: ذكر/ أنثى. أسود/ أبيض. معرفة/ جهل. تنهض الدراسة في حقيقة الأمر على مساحة كبيرة معدة من جانب الكاتبة سلفًا في نص جاهلية؛ حيث تختلط وظيفة الإطار بوظائف المتن الروائي بإحكام مدروس، ويعد غلاف الرواية بعناصره اللغوية والبصرية مثلًا أول عناصر النص الموازي. أما عنوان الرواية فهو عتبة كبرى بما يحمله من إيحاءات ودلالات، ثم تأتي بعد ذلك عناوين الفصول؛ لأنها مفاتيح مكثفة تحلّ الكثير من الدلالات العميقة، ثم المقتبسات والتواريخ… والتحديدات الزمنية نحو قولها: الساعة الثالة فجرًا، وغير ذلك.
نصوص تضيء النص المركزي
وفيما يخص الفصل الثاني من الكتاب فإنه يتحدث عن النص الموازي الخارجي، وهو ما تعودنا الحديثَ عنه في النص النقدي القرائي من أنه الامتداد والبعد والنص الإضافي؛ أو في أحسن الحالات: النص الموازي، الذي يشمل كل ما يتعلق بالنص المركزي؛ ولكنه لا يأتي مصاحبًا في إطار الكتاب الذي يحويه، إنما يكون بينه وبين الكتاب بُعدانِ؛ مكاني وزماني، ويندرج تحت لوائه: الاستجوابات والحوارات واللقاءات الصحافية، والإذاعية وغير ذلك من النصوص التي تضيء النص وتفتح مغاليقه، وكمائنه، وتضم حوارات أُجريت مع الكاتبة الجهني، إضافة إلى التركيز على كتاب لليلى الجهني عنوانه «40 معنى أن أكبر» وهو الكتاب الذي تركته الروائية مفتوحًا فاقدًا لهويته الأجناسية.
يمكننا أن نقول هنا: إن من أهم مزايا البحوث الأكاديمية ليس الغرق في العمل البحثي؛ ولكن مدى التشارك الذي يحدثه الباحث مع الفاعلين والمهتمين، وهذا الحديث يتوافق مع أهم قواعد النص الموازي؛ إذ قدم المؤلف في الجزء الثالث والأخير من الفصل الثاني رصدًا تفصيليًّا للأبحاث والقراءات التي تناولت رواية جاهلية وهو عمل استباقي مدهش أشار فيه الباحث إلى أن هناك قراءات ودراسات منهجية استوعبتها صحف ومجلات محكمة؛ أوردها الباحث في جدول متتبعًا تاريخ نشرها، ومن ذلك قراءات لأحمد زين، وميّ خالد، ومعجب الزهراني، وسعد البازعي، ولمياء باعشن، ومفيد نجم، وصبري حافظ وغيرهم.
إن القارئ المتفحص لهذا البحث، ولا سيما المتخصص سيكتشف أن الدراسة تناولت جميع عناصر النص الموازي؛ الداخلية والخارجية، وأبانت نجاح استخدام النص الموازي كمدخل نقدي لقراءة الأعمال الإبداعية، كما أن الدراسة أوضحت الأهمية النموذجية لرواية جاهلية التي اشتغلت على التجريب فاستحقت أن يشار إليها ببنان النقد الذي رأى فيها مادة خصبة للتطبيق كنص مفتوح بالإمكان تناوله من زوايا عدة، وتجدر الإشارة إلى أن الرواية فتحت بابًا لتسليط الضوء على الأدب السعودي الجدير بالقراءة.
بواسطة محمد جازم - كاتب يمني | مارس 1, 2018 | كتب
لم تهز العالم أزمة أيديولوجية بقدر ما فعلت الماركسية حين ارتبكت في عقر دارها عندما تداعت المنظومة الاشتراكية فيما كان يسمى بالمعسكر الشرقي الذي يمثل الدول المنضوية تحت نطاق الاتحاد السوفييتي سابقًا، وبسبب ذلك اندفع سيل التحليلات والمراجعات والأبحاث التي نقدت وعارضت وحلّلت؛ فظهر المتشفون في أزمتها، والمدافعون عنها باستماتة؛ لكن الشيء الذي لا يستطيع الجميع تجاهله أن الماركسية باقية في جميع أنحاء العالم إذ إن بقاءها تمثل في الأحزاب والتيارات السياسية التي تشارك في كثير من الدول ضمن الأنساق التي تشكل النظم الديمقراطية وغيرها؛ ولعل أهم ما يطرحه كتاب مستقبل الماركسية لـ«أندرو ليفن» ترجمة زين العابدين سيد محمد وإصدار دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر؛ أهم ما يطرحه الكتاب التساؤل التالي: هل هذا الاقتناع لدى المناصرين للماركسية في النهاية سيبعث فيها الحياة؟ فمستقبل الماركسية يعتمد على الظروف السياسية المحيطة التي توجد في سياقها وأن السمات التاريخية للماركسية هي التي حملت في فرضياتها المستقبل.
يتوزع الكتاب في جزأين وستة فصول هي: بعد مقدمة الجزء الأول «بعد الثورة»، و«اليسار الأخير»، و«ألتوسير»؛ ثم مقدمة الجزء الثاني التي خُصصت للماركسية التاريخية؛ ثم الفصل الرابع الذي جاء بعنوان: التحول، ثم الفصل الخامس تحت عنوان: التحول التحليلي، وأخيرًا فصل الميراث. ينصب الهم البحثي في الكتاب على كثير من المعطيات والفرضيات التي منها التساؤل التالي: أين موقع الماركسية اليوم من التغيرات العالمية؟ ثم إلى أين يسير بنا الطريق؟ وما مصير الحركات العقائدية التي آمنت بالماركسية ومنهج الماركسية؟ ويلقي الباحث الضوء على تيارين سياسيين واضحين في الماركسية المعاصرة، ثم على اثنين من الاتجاهات المعاصرة: اتجاه اعتمد على عمل (لويس ألتوسير) ورفاقه والاتجاه الآخر هو الماركسية التحليلية، وقد عدّ الباحث ماركسية ألتوسير بمثابة نواة لإنعاش الفكر الماركسي.
استعرض الكاتب في مقدمة الجزء الأول الانعكاسات الطبيعية والتفسيرات البيئية والسياسية لها، ورسم في الجزء الثاني رؤية السياسة والفكر التي ظهرت بعد الثورة الفرنسية، ومن هنا أراد تحديد الرؤى الواسعة وأراد من خلال ذلك –أيضًا- تحديد المكان الذي تقف عليه الاشتراكية في هذه الرؤية الواسعة وطرح للمناقشة ما يميز الماركسية من الاتجاهات الأخرى للفكر الاشتراكي، وعلى وجه التحديد الزعم بأنها اشتراكية علمية (على أساس أنها ضد فكرة اليوتوبيا) أحيانًا في رأي البعض ويبدو هذا الجدل جليًّا في الجزء الثاني من الكتاب، ولا سيما في الفصول الخاصة بالماركسية التحليلية؛ إذ عُرضت بعض الأفكار التي ناقشت فكر اليسار الجديد الذي ازدهر في منتصف الستينيات.
في فصل ما بعد الثورة، تكاد تكون الثورة الفرنسية هي المحور الرئيس فإذا كانت الأيديولوجيات الثلاثة في القرنيين الماضيين: الاتجاه المحافظ والاشتراكية والليبرالية تمثل السمة الرئيسة فإن ذلك لم يكن ليتطور وبخاصة الاشتراكية لولا هذا الحدث الثوري ويقصد المؤلف الثورة الفرنسية. أما الفصل الثاني المخصص لليسار الأخير فيلقي الضوء على اليسار الجديد الذي بدأ مع نهاية خمسينيات القرن العشرين ونضج مع دخول عام 1968م؛ إذ ظهر فيه أناس على قدر من الحكمة والتعقل ويرون أن المستقبل القريب يحمل في طياته احتمالًا بأن يصبح شعار «السلطة للشعب» حقيقة واقعية، وهناك اليوم من يعد اليسار الجديد هو بداية لتحقيق المستقبل.. أما الفصل الثالث «ألتوسير والفلسفة»؛ فرصد تأثير فلسفة ألتوسير في المشهد السياسي والفكري في فرنسا وخارجها. وكان كتاب ليفن «دفاعًا عن الماركسية» الأكثر شهرة بين كتبه؛ إضافة إلى كتاب «قراءة رأس المال». ومما لا شك فيه أن ألتوسير عُرف بالفكر المادي في الفلسفة ولذلك ادعى أن الثورة المعرفية (التحول الإبستمولوجي) أظهرت الديالكتيك المادي الذي قصد من خلاله طريقة جديدة للفهم.
في الجزء الثاني من الكتاب يضع المؤلف مقدمة يتحدث فيها عن معارضته للمصادر الهيغلية وكذلك المصادر الماركسية نفسها؛ فالماركسية التي اعتنقها الماركسيون على حد تعبيره كانت نتاجًا لفكر هيغل، ومن دون شك أن لها جذورًا قبل هيغل، فاللاهوتيون البروتستانتيون الذين سعوا إلى تأسيس شرعية إيمانهم يقولون: إن كنيستهم على مدار التاريخ الكهنوتي سبقت الفكرة الماركسية للتاريخ. أما الفصل الرابع الذي تحدث عن التحول فإنه يستند إلى ألتوسير الذي حدد التحول بنظامين مختلفين: علم الاجتماع الماركسي (المادية التاريخية) ونظرية هذه النظرية (المادية الجدلية) Dialectical ومن ثم يقسم التحول الإبستمولوجي فكر «ماركس» إلى حقبتين طويلتين أساسيتين: الحقبة الأيديولوجية قبل التحول والحقبة العلمية بعدها في عام 1845م. وفي الفصل الخامس الذي عُنون بالتحول التحليلي أكد المؤلف فيه أن الماركسية التحليلية في واقع الأمر ظاهرة أكاديمية؛ لكنها لم تكن التيار السائد المسيطر على الماركسيين الأكاديميين المعروفين، إنما يمكن وصف المتحدثين بها بأنهم خلفاء ألتوسير. الفصل السادس والأخير هو فصل الميراث ويقدم فيه ليفن تفسيرات عامة عن الموضوعات السابقة ويتساءل –كما هي عادته في الكتاب- هل سيسير اليسار القادم تحت لواء الماركسية؟ منتقدًا التجربة السوفييتية التي رأى فيها وصمة عار؛ لكنه شدد على ألا تطوي يد التجاهل فكر ماركس بحيث لا يُدرَس، كأنه نتاج تاريخي فقط.
ولعل ما قد يلاحظه القارئ هو اتخاذ النموذج اليساري في أميركا مثالًا للتفسير، وفي أغلب الأحوال تفنيد التوعك السياسي الذي ظهر في النظرية، وما رافقه من خوف من اليوتوبيا فهو يقول: إن ثمة سببًا معقولًا للخوف من التفكير اليوتوبي في بعض جوانبه، وقد يكون في أغلب الأحوال، ولكن ليس في كل النواحي الفكر اليوتوبي هو العلاج، وقد يكون هو العلاج الوحيد المتاح بسبب حال الإعياء التي يمر بها الفكر السياسي في وقتنا هذا، فإذا كان لليسار مشروع موحد فإنه من باب أولى يجب التركيز على الماركسية فقط؛ لأنها الحال الأكثر أهمية والأكثر تأثيرًا لأنها تفترض دائمًا وجود رابطة متكاملة، لتنظيم الشؤون الإنسانية وتفسيرها لكيفية الخروج من الوضع الحالي.
بواسطة محمد جازم - كاتب يمني | أغسطس 31, 2017 | حوار
يجمع جلال أمين في شخصه أستاذًا للاقتصاد وباحثًا متأملًا في حراك المجتمع، ومفكرًا مشغولًا بقراءة الخطابات في تنوعها وتشابكها مع أسئلة الراهن، آراؤه وكتاباته تعدت المدرسية والأكاديمية وذهبت لتلتحم بهموم الجماهير العريضة ومعاشهم، الجماهير بكل فئاتها وأعمارها وفروقها الفردية، وكل ذلك سمات ليست في متناول اليد دائمًا. يتبنى جلال أمين عددًا من القضايا التي يمكن وصفها بشديدة الحساسية، وألف كُتُبًا متنوعة في اهتماماتها، لكنها تتوحد عند سؤال الإنسان والمجتمع والذات في مواجهة مصايرها. من كتبه: «فلسفة علم الاقتصاد» و«التنوير الزائف» و«خرافة التقدم والتخلف» و«ماذا حدث للمصريين؟» و«ماذا علمتني الحياة» و«عصر الجماهير الغفيرة» و«عولمة القهر» و«المكتوب على الجبين» و«مصر والمصريون في عهد مبارك» وغير ذلك من الإصدارات التي حركت جمود المجتمع في مصر والعالم العربي.
في حواره مع «الفيصل» وفي كل ما يطرحه من آراء وتعليقات كان يتحرى دقة المعلومة وجمالية الحرف، ويرفق الأحداث والوقائع بالتواريخ التي يربط بينها بإتقان. في هذا الحوار عبّر عن درجة من التفاؤل بالمستقبل، وثقة أكثر بالعقل العربي. وقال: إن مشروع النهوض في أي بلد في حاجة إلى جهود ذاتية، وإلى وجود زعيم قادر على التصميم والمثابرة في انتشال بلده. وأكد أن ما يحدث في مصر من إرهاب وراءه قوى خارجية، موضحًا أن الكلام عن الإرهاب صار أكثر من اللازم. في الحوار، الذي شارك فيه الروائي والشاعر صبحي موسى، تحدث أيضًا عن نفسه كابن للمفكر الراحل أحمد أمين، وعد نفسه الوريث الوحيد له، مشيرًا إلى أن تفضيله «الأيام» لطه حسين على «حياتي» لوالده، كان حماقة. ويلفت إلى أن الغرب لم يعد في حاجة إلى الاستشراق؛ لأنه كسب المعركة، ولأن العرب استغربوا.
● سيرتك الذاتية التي تضمنها كتاب «ماذا علمتني الحياة؟» وكتاب «المكتوب على الجبين» وما تلقيه هنا وهناك داخل مؤلفاتك المتنوعة، بالتأكيد جذبت كثيرًا من القراء… في تقديرك ماذا ميز هذه المذكرات مما سبقها مثل «الأيام» لطه حسين و«حياتي» لأبيك أحمد أمين وسواهما من المذكرات؟
■ هذا تفضل منك أن تقارن عملي بعمل الكتاب الكبار. أنا لست من عشاق طه حسين، أنا طبعًا أُجِلُّه كشخصية وأجل دوره في الحياة الثقافية المصرية إنما لست من عشاق أدبه، وهو كان يلقب بعميد الأدب العربي في حقبة كان اللفظ فيها أهم من المعنى، ومع مرور الوقت انعكست الآية. أنا أحب كتاب «حياتي» لأحمد أمين أكثر منه، كنت أراجع فيه قريبًا وزعمت لنفسي أنني ورثت أحمد أمين في الكتابة وقد أكون مخطئًا، لكن هذا لا يتأتى من التأثير البيئي وأرى أنه وراثة. نحن ثمانية إخوة، ومن ورث الاتجاه الأدبي شخصان فقط: حسين أحمد أمين وأنا.. أنا ورثت طريقة التعبير أكثر من حسين.
● لكنك أشرت في مذكراتك إلى أنك أفصحت لوالدك ذات مرة، بأفضلية «أيام» طه حسين على سيرته الذاتية؟
■ نعم، كانت حماقة مني. أنا قلتها الآن أيضًا لكن بشكل مختلف، كنت شابًّا ولم تكن لديّ الخبرة الكافية لأحكم.
● نعرف أن المذكرات تختلف عن السير، وقد بدأت أنت كتابة المذكرات في الثانية عشرة من عمرك، ما يعني أنك اتكأت في كتابة سيرتك على مذكراتك وربما مذكرات أشقائك، أيهما يحتاج الجرأة والمناخ المتحرر لكتابته ولاستقباله أيضًا، المذكرات أم السيرة الذاتية؟
■ لا، لا، ما كتبته أنا في مذكراتي كان عبارة عن يوميات سجّلت فيها ما كان يحدث بشكل يومي، كنت أكتب عن أحداث عامة وأحداث عائلية ولم أستفد منها؛ لأنها كانت كلامًا ركيكًا جدًّا لا يرقى إلى أي مستوى من مستويات الكتابة إطلاقًا. فعندما رجعت لأقرأ ما كتبته لم أستطع الاستمرار في القراءة؛ من فرط سخافته كنت لا أزال صغيرًا وبدا الأمر كما لو أنني كنت ألعب؛ فمثلًا ذهبت إلى القول: وقد حدث في هذا اليوم أن ألقى النقراشي باشا كلمة في الأمم المتحدة… وما يشبه ذلك، مع العلم أنني لم أكن أفهم في السياسة شيئًا يومها وكان يبدو كثيرًا أنني أكتب من دون خبرة.
● تنوع مشروعك الفكري ما بين الأدب والاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع، فهل جلال أمين خبير اقتصادي أم مفكر ليبرالي في عصر ما بعد الحداثة؟
■ لا أحب أن يطلق عليّ مفكر، ولا أملك الحق في أن أقول عن نفسي ذلك. نحن جميعًا مفكرون لأننا نفكر طوال الوقت، عندما تقول لفلان: إنه مفكر أو يقول عن نفسه ذلك دعه يشرح ذلك. أنا لا أستطيع أن أصف نفسي بذلك، وفي الحقيقة لا أحب أيضًا مفردة «ليبرالي»؛ لأنها في أحد معانيها تعني ترك الأمور تجري بلا تدخل من الدولة. وكذلك لدي رأي يتفق وكاتب أميركي مشهور هو نعوم تشومسكي الذي يقول: «95 في المئة من الذي يقوله هؤلاء الحداثيون أنا لا أفهمه، وما أفهمه لست موافقًا عليه. لا أدري ما الذي يريده كُتاب ما بعد الحداثة، وماذا يقصدون بما يذهبون إليه؟».
مشاكل مصر وراءها عوامل سياسية
● تخصصك في علم الاقتصاد، إلى أي حد جعلك قريبًا من قضايا المجتمع والتحديات التي تواجهه. ما الذي أضافه هذا التخصص إلى رؤيتك للواقع والعالم من حولك؟
■ معظم الاقتصاديين المصريين الذين أعرفهم، اهتماماتهم الاقتصادية قليلة؛ فالمسألة لا علاقة لها بالاقتصاد يمكن أن تكون العلاقة بالعكس، فبسبب اهتماماتي السياسية كنت أظن أن دراسة الاقتصاد ستوضح لي بعض الأمور، وقلت يومها الاقتصاد يدرس إما في الحقوق أو في التجارة، ففضلت الحقوق لأن سمعتها كانت أفضل يومها، وفي أول محاضرة وجدتهم يتحدثون عن قانون الغلّة المتناقصة في القانون، تناقص المنفعة الحدّية، أمور لم يكن لها علاقة بما أريد أن أعرفه، ومنذ ذلك الوقت لم أجد في كتب الاقتصاد ما يساعدني على فهم الحياة. وفي شكل عام، الاقتصادي لا يحصل له هذا، وأنا في الحقيقة لم أكن أحب علم الاقتصاد. ودخلته بسبب صلته بالعوامل الأخرى، قلت يمكن أن أعرف ما يدور في المجتمع لو درست اقتصادًا ومعه أشياء أخرى، وبالفعل الاقتصاد مهم لكنه وحده لا يكفي.
● الاقتصاد المصري يعاني الآن حالة تضخم هائل، فما الحلول الأساسية للخروج منها؟
■ هناك تضخم لكن التضخم في كثير من البلدان يكون أكثر بكثير من هذا؛ أعني أن مصر حقًّا تعاني التضخم أيضًا، والسبب أن موارد أساسية كانت تجذب عملة صعبة لمصر انخفضت بشدة منذ ثورة 11 فبراير وأقصد السياحة والاستثمارات الأجنبية الخاصة، وتحويلات المصريين العاملين في الخارج، هذه هي المصادر الأساسية لدعم العملة في مصر، وقد انخفضت بشدة لأسباب سياسية كما ترى، إضافة إلى الشعور بعدم الاستقرار، الأمر الذي لم يعد يشجع لا السائحين ولا المستثمرين ولا تحويلات المغتربين.
● وهذا يقودنا إلى سؤال: ما الوصفة التي يمكن إعطاؤها لوضعٍ مثل هذا؟
طه حسين
■ الوصفة سياسية وليست اقتصادية. المسألة في كيف نشجع الاستقرار، وكيف نقنع المستثمرين بالاستثمار في مصر؟
● بصفتك الأدبية والعلمية والأكاديمية، هل لديك منظومة للانضباط، كأن تطرح على المعنيين خطة سير مثلًا؟
■ هذا صعب جدًّا، لكن سأقول لك جملة بسيطة جدًّا قالها عالم سويدي مشهور، حاصل على جائزة نوبل، يقول: «ليس هناك مشكلة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية… هناك فقط مشاكل وهي معقدة»، يقصد أنه لا يوجد مشكلة تستطيع أن تقول أنها اقتصادية فقط، حتى التضخم تجد أن علم النفس داخل في الموضوع؛ لأن الإقبال على الإنفاق مقارنة بالسلع الموجودة وراءه عوامل نفسية، وليس فقط عوامل اقتصادية، وهكذا أعود لسؤالك، أنا في عمري كله لم أفكر في مشكلة بوصفها اقتصادية. عندي مشكلة كيف أفسرها؟ أنظر فأرى توالي التفسيرات والعوامل السياسية والاقتصادية، كل شيء مرتبط بعضه ببعض. كما قلت لك: إن مشاكل مصر التي تبدو اقتصادية اليوم وراءها أسباب سياسية.
● ما رأيك فيما تقوله الحكومة المصرية عن الإصلاح الاقتصادي والبنك الدولي وكمية الديون، هل يمكن لمصر أن تتحول إلى دولة على غرار دول النمور الآسيوية؟
■ لم يحدث للمعونات الخارجية أن نقلت دولة من دولة راكدة الاقتصاد إلى دولة سريعة النمو، المعونات ممكن أن تساعدك في تخطي أزمة مؤقتة كما حصل لتايلند وماليزيا، لكن النهضة الاقتصادية الحقيقية تأتي بجهود ذاتية ووجود زعيم، لا بد من وجود زعيم قادر على التصميم والمثابرة في انتشال بلده.. زعيم له رؤية يقف على تنفيذها.
● لو كتَبت الآن جزءًا ثانيًا من كتابك: «ما الذي حدث للمصريين؟» فما أبرز عناوينه الداخلية؟
■ أنا كنت أعلق على أكبر قدر مما سميته «الحراك الاجتماعي»، الحقبة التي عالجتها كان فيها الحراك الاجتماعي عاليًا جدًّا؛ إذ امتد من الخمسينيات إلى نهاية القرن، بمعنى: النصف الثاني من القرن العشرين. الحراك الاجتماعي في السنوات الـ17 من القرن الحادي والعشرين أقل بكثير مما كان؛ أقصد أقل سرعة مما كان في الحقبة التي كتبت فيها كتابي.
● على الرغم من الثورة التي قام بها الشعب؟
■ ثورة 2011م لم تُغيِّر شيئًا، أما ثورة يوليو فقد غيَّرت: هناك الإصلاح الزراعي ومجانية التعليم والصحة، لكن 2011م الذين قاموا بها لم يستلموا الحكم أصلًا، ولم تتغير أشياء كثيرة في عمق المجتمع، لم تؤثِّر على الحراك الاجتماعي. أنا لا أقول: إن الحراك الاجتماعي توقف لكن لم يعد سريعًا كما كان، وكثير من شرائح الطبقة المتوسطة بدأت تضعف وتنحدر بسبب المصاعب الاقتصادية، وهذا على العكس من الحراك الاجتماعي الأول الذي تحدثتُ عنه في كتابي. هذا حراك اجتماعي سلبي بمعنى أنك تنزل ولا تصعد. كتابي ظهر إلى النور سنة 2000م يعني مع نهاية القرن. الذي يمكن أن أقوله الآن: إن ظاهرة الحراك الاجتماعي ضعفت بشدة. كلمة الإحباط تبدو مناسبة هنا وبخاصة لدى الشرائح الدنيا والطبقة المتوسطة، هناك حالة من الإحباط الشديد وهو الأمر الذي سبَّب ثورة 2011، ولا يزال الإحباط مستمرًّا والآمال محبطة، يعني في المرحلة السابقة من النصف الثاني من القرن الماضي لم يكن الأمر كذلك، وأحب هنا أن أضرب مثالًا: العائلة التي يعولها صنايعي وهي أسرة غير متعلمة تذهب إلى تدريس ابنها ثم تُدخله الجامعة ولديها أمل في أنه سيحصل على وظيفة جيدة في الحكومة، هذه العائلة يتحقق حلمها بالفعل. هذا لم يعد موجودًا اليوم، لهذا أرى أن مفردة الإحباط مهمة الآن.
الإرهاب أخذ أكثر من اللازم
أحمد أمين
● لننتقل إلى موضوع آخر، الخطاب الديني المتطرف الذي يؤمن بالظاهراتية في النص، ويفسر النصوص على هذا المنوال، ومنها النصوص التي تدعو إلى تقديس القتال، كيف ترى هذا الخطاب والعقل الذي ينتجه؟
■ أنا ثقتي بالعقل الإنساني العربي قوية، ومن يقول: إن الخطابات هي من تسبب هذه الاعتداءات ثقته بالعقل الإنساني ضعيفة. لا أظن أن الناس حين يسمعون هذه الموعظة يتأثرون بهذه السهولة أو إلى هذه الدرجة، أنا أجد صعوبة في تصور ذلك. والكلام عن الإرهاب أخذ أكثر من اللازم، وأكثر من الحقيقة. ليتنا نقلل من الكلام عن الإرهاب، وليتنا أيضًا ننجح في القضاء عليه بالفعل.
● هل رفضك لمصطلح تجديد الخطاب الديني نابع من الإيمان بأن الخطابات الدينية لا تجدد، أم من كون البنية الاقتصادية والفكرية لمجتمعاتنا لن تسمح بهذا التجديد؟
■ لا هذا ولا ذاك. المتكلمون حول تجديد الفكر الديني لديهم تعالٍ وغرور أكثر مما يلزم. لا أحد يجدد في الخطاب الديني أو غير الديني، لا أحد. أنت إذا كنت لا تحبذ طبيعة الفكر السائد انظر إلى الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أنتجت هذا الفكر وغيرت فيه أو حاولت تغييره؛ ناهيك عما يسمى بـ«إرهاب الإرهاب» فهو صناعة خارجية.
● «إرهاب الإرهاب»، ماذا تقصد من هذه التسمية؟
■ أقصد أنه من المستحيل أن تنتج شخصًا إرهابيًّا يذهب إلى قتل مسيحيين مسالمين هكذا من أجل القتل، هذا ليس شخصًا إنما وحش. من الصعب أن تحول الإنسان إلى وحش. الشيء الذي بالإمكان حدوثه هو أن يعطيك أحدهم المال ويقول لك: اذهب لقتل فلان. هذا سمعنا به وقد يحدث؛ لأن القاتل يقع تحت تأثير إغراء المال، هذا ممكن. أما أن يذهب إنسان من ذاته وبإرادته الخاصة لقتل شخص ما من دين آخر؛ ما الذي سيكسبه؟ ولماذا؟ وبالطبع أنت لن تغير دينهم إن كان هذا هو دافعك، فهل كانوا يضايقونك من خلال طريقة حياتهم إلى هذه الدرجة، مثل هذا لا أستطيع استيعابه، وهو ما يقودني إلى القول: إن هناك إرهابًا للإرهاب.
● مع بدء اقتناع العالم بعدالة الموقف المصري في مواجهة الإرهاب المسلط على البلد، حدث تحول نوعي تمثل في الضغط على المسيحيين وليس الجيش أو الشعب؛ لماذا؟
■ ما حصل -وطبقًا لتفكيري- أن هؤلاء يريدون أن يشعلوا البلد نارًا، يريدون إحداث توتر داخل مصر، وأنا أستبعد أن تكون العقول المدبِّرة مصرية، أستبعد ذلك بشدة؛ لأن الذي لديه غرض في إحداث ذلك ليس مصريًّا، فابحث إذًا عن المستفيد، المستفيد من قلقلة المجتمع المصري ومنعه من التقدم.
● من تعتقد في قائمة المستفيدين؟
■ إسرائيل في الدرجة الأولى، أقول في الدرجة الأولى والأخيرة أيضًا، فأميركا لا أظن أن لها دورًا مثلما كانت في السابق.
● لكن هناك من يرى أن إسرائيل شبه مختفية عما يحدث، فهي لا تمارس دورًا واضحًا وظاهرًا؟
■ طبعًا، وهذا ما يجعلنا نشك أكثر، أنت لا تسمع صوتها بتاتًا؛ لأن المجرم الحقيقي دائمًا يختفي… يختفي بشدة.
● هل أنت مع فكرة أن المؤامرة خارجية؟
■ أنا في البداية لا أحب هذا التوصيف: نظرية المؤامرة، وذلك لأن سمعة هذه الكلمة سيئة، المؤامرة لها ملامح معينة، أعتقد أنها خطة خبيثة لا يعلن صاحبها عن نفسه.
● تقصد خطة لإعادة تقسيم المنطقة كلها؟
■ لا، ليس التقسيم بالضبط. أقصد زعزعة أمن البلد واستقلاله، وخلق مشاكل تجعل التقدم صعبًا ومستحيلًا.
مزاعم داعش المضحكة
● داعش الآن تسيطر على مناطق في الشرق والغرب؛ كيف ترى مستقبلها؟ وكيف ترى اقتصادياتها؟
■ إن أحد مزاعمهم مضحك، كيف يمكن أن نتصور أناسًا يريدون إعادة الخلافة الإسلامية؛ هل الخلافة الإسلامية يمكن إعادتها؟ لا أدري!! لعلهم يرغبون أن يضحكوا علينا، وأرجح أنهم في الحقيقة يضحكون على أنفسهم. أنا أرجح أنهم يضحكون على أنفسهم حقًّا؛ لأننا نعرف جيدًا كيف يفكرون؟
● لكن ما يشغل كثيرين هو اقتصادياتهم، كيف تأتي الأموال إليهم؟
■ نعم، وهذا جزء من غموضها، لا نعرف من أين يأتون بالأموال؟ وعلى العكس من تصوراتهم فهذه الأموال الغفيرة تجعلك تشك بأن داعشًا لا تقول الحقيقة. هؤلاء أناس استلموا نقودًا ليقولوا أشياء لا يعنونها، وبالتالي ليقوموا بارتكاب جرائم. مثلًا، داعش استلم نقودًا من أجل تخريب سوريا، هل هذه خطة نحو إقامة الخلافة الإسلامية؟ تشريد السوريين على هذا النحو أمر لا يرضي أحدًا. لعلها عصابات دولية.
● أليست داعش خارجة من الخطاب الإخواني والخطاب السلفي؟
■ أنت تعلق آمالًا كبيرة على الخطاب. لا أدري ما هذا الخطاب الذي عمل على تخريب دولة وشرد سكانها من أجل رفعة الإسلام؟ من الذي سيقتنع بمثل هذه الأمور ويأخذ أموالًا في الوقت نفسه؛ هل هو مدفوع بالمال أم بالاقتناع؟ الأمر ليس واضحًا وأنا لست مقتنعًا. كلمة الإرهاب اختراع أميركي. قبل أيام توفي مسؤول أميركي اسمه «بريجنسكي» مستشار الأمن الأميركي في عهد كارتر، وقد كُتب عنه أنه صاحب ملف الإرهاب، وبمعنى أدق محرِّك ملف المجاهدين ضد الاتحاد السوفييتي، ما يعني أنه هو من حرك هذا الفئة -ابتداءً من أفغانستان- ضد الاتحاد السوفييتي، هذا الحدث بدأ في السبعينيات. وهنا أتذكر أن ما يسمى الإرهاب الإسلامي في هذه المرحلة بدأت صناعته، ثم إن الذين عادوا من أفغانستان، هم الذين دمّروا العراق. لاحظ أن هذه الكلمة: الإرهاب، انتشرت عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، وكانت قد نُمِّيتْ ضد الخطر الشيوعي كما يقولون.
● لماذا فشلت مشاريع التنوير العربي في مواجهة التيارات الراديكالية؟
■ لا أستطيع أن أقول: إن هذه الحركات فشلت تمامًا، هذا غير صحيح لأن هذه الحركات أحدثت تقدمًا. من دون شك هذا السؤال يطرح تحت ضغط التأثر بما حصل في الأربعين والخمسين سنة الماضية، وظهور ما يسمى بالحركات التكفيرية والظلامية والإرهابية، أو سَمِّها كما تريد. فمن يسأل هذا السؤال هو متأثر بما حدث في العقود الماضية كما أسلفت، يعني من أواخر الستينيات تحديدًا. أنا أعلق عادة على ما حدث للعالم العربي من النواحي كافة، انطلاقًا من هزيمة 67 مثلًا. كل المشاريع التقدمية وبمعنى أدق النهضوية أصيبت بخيبة أمل أو بنكسة أو بضربة، ولم نفق منها إلى الآن. الثقة بالنفس تضعضعت. استقلال الإرادة نفسه ضاع. التفاؤل بالمستقبل ضعف كثيرًا. وما نسميه الحركات النهضوية أصابتها ضربة قاصمة.
الربيع العربي ليس عربيًّا
● كيف قيمت ثورات الربيع العربي؟
■ أنا لا أحب كلمة «الربيع العربي»؛ لأنه ليس ربيعًا، ويمكن أن أقول: إنه ليس عربيًّا.
● أنت من الجيل الذي عاصر التحولات الكبرى في الوطن العربي، في رأيك هل كان العرب يقتربون من التحول الجذري بعد ثورة سوريا ومصر والجزائر والعراق واليمن؟
■ نعم كانت آمالنا كبيرة جدًّا. وكلنا تصورنا حين قامت ثورة يوليو في مصر ثم ثورات العراق ولبنان واليمن وسوريا، أن التحول أصبح قريبًا. المهم آمالنا كانت كبيرة في الخمسينيات؛ لكنها ضعفت بشدة في الستينيات حينما تحول ما كنا نسميه بالثورات إلى انقلابات عسكرية أو حكم عسكر، أنا أتذكر تفاؤل المصريين بمحمد نجيب وعبدالناصر في الخمسينيات، ثم مع تأميم قناة السويس في 1956م، ووحدة سوريا ومصر. تفاؤلهم كان أكبر بكثير مما حدث في 1965م حتى قبل الهزيمة. لم تنجح هذه الثورات وتحولت إلى انقلابات، وهذه الآمال ظلت آمالًا.
● هل يتآمر الغرب على العرب حقًّا أم أن الخلل يكمن في عجز الفكر العربي الذي رافق تلك الثورات، نسألك هذا السؤال ونتذكر تجربتك الرفاقية مع ميشيل عفلق؟
■ من السهل عليَّ أن أقول: إنه حدث تضافر للعاملين الداخلي والخارجي، ولكن إذا قلت ذلك سأكون كأنني لم أقل شيئًا، ودائمًا أي شيء يأتي جيدًا يكون نتيجة تضافر داخلي وحدوث تطور مهمّ، لكن في بلدان مهمة ليس غريبًا أن يتضافر العاملان، إنما أنا أعطي أهمية للعامل الخارجي أكثر. هناك تصميم من القوى الخارجية، دعنا نقول: قوى خارجية، على عدم نهوض العرب وعدم اتحادهم، مع ذلك فإن عوامل التوحد كثيرة وما زالت كثيرة، لهذا كنا نحب ميشيل عفلق؛ لأنه كان يؤمن إيمانًا حقيقيًّا بالوحدة العربية، كان متفائلًا ولم يفقد تفاؤله حتى بعد انهيار المؤشرات. هناك ناس متفائلون بطبعهم، هو كان من هذا النوع. جمال عبدالناصر حاول أن يحتويه، وهو كان لديه ثقة بعبدالناصر أكثر مما يستحقها. وبعد ذلك صدام الذي لم يحاول احتواء ميشيل عفلق فقط إنما احتواه بالفعل، ويقال: إنه وضعه تحت الإقامة الجبرية. فالمفكر يمضي خلف أفكاره التي يؤمن بها وهذا ما يجعله متفائلًا؛ لأن إيمانه يقول له بأن هذا سيحدث بالفعل، بل لا بد أن يحدث، لكن الشر للأسف كان قويًّا. قوى الشر قوية جدًّا.
حكم العسكر
● بعد عودتك من إنجلترا لم تكن متحمسًا لتدريس الاشتراكية العربية في الجامعة؛ لماذا؟
■ لو كنت جئت إلى مصر في 1957م أو 1959م لَكان الأمر اختلف، لكني جئت في 1964م حكم العسكر فعل كثيرًا مما أفقدنا الثقة فيه: من تلك الدكتاتورية، واعتقال أناس كثيرين جدًّا، علماء كانوا يمثلون النخبة المصرية معظمهم دخل السجون من 1954م إلى 1964م. كنتَ ترى أعظم المفكرين المصريين في السجون، وحين وصلنا إلى 1964م كانت ثقتنا بالحكم العسكري قد تضعضعت؛ فكونهم يريدون تدريس الاشتراكية العربية يعني ذلك تدريس أفكارهم فقط، وليس ما نعتقده نحن ونؤمن به.
● الفقراء هم الشريحة التي ناضلتَ من أجلها، وقد ازداد الأمر سوءًا مع الحروب التي ظهرت أخيرًا، ما يشير إلى أن الأفق دائمًا مسدود أمام هذه الشريحة؛ ما الحل إذن؟
■ أولًا، ناضلت من أجلها هذه كلمة كبيرة ومجاملة لا أستحقها. أنا لم أعتقل في حياتي ولم يفكر أحد بذلك، لم أكن مهمًّا إلى هذه الدرجة. وإذا أتينا إلى سؤالك، لقلنا: إن الفقراء منسيون حقًّا، في كل العصور وفي كل المجتمعات ليس فقط عندنا، حتى في أميركا والاتحاد السوفييتي.
الذين كسبوا من الثورة الروسية هم زعماء الحزب الشيوعي، إنما عامة الناس عاشت حياة قاسية ما يزيد عن 50 أو 60 سنة. نعم الفقراء منسيون دائمًا حتى في الولايات المتحدة الأميركية، يمكن الدول الوحيدة المستثناة من ذلك هي إسكندنافية.
موقع العرب اليوم
● وأنت تقارن بين فتوة الأمم وشيخوختها، قلت: إن الأمر يتعلق بالجانب النفسي، إذًا، ممّ تشكو نفوس العرب؟
■ الذي كتب في هذا الموضوع جيدًا هو الأمير شكيب أرسلان في كتابه «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟». يردّ ذلك للعامل النفسي، أما سؤالك عن سبب العامل النفسي، فإنه لا يزال قائمًا، الذين قالوا: إن العرب يمرون بمرحلة تاريخية تتسم بالتدهور والانحطاط، لم يفسروا لماذا؟ وكانوا يعنون أننا لسنا في أهم مراحل تاريخنا، هذا صحيح لكن لا يزال سؤالك قائمًا أيضًا- أنا أقول: إن كل أمة لها جوانب قوة وجوانب ضعف، ثم تأتي ظروف تاريخية فتغلب شيئًا على شيء. في الخمسينيات والستينيات الظروف كانت جيدة ومواتية إلى درجة أنها ساعدت على ظهور الحالة الإيجابية في الحالة المصرية مثلًا والعربية وفي العالم الثالث كله. كان هناك نهرو في القارة الهندية، وكوامي نكروما في دولة غانا، وبن بلة في دولة الجزائر، وسوكارنو في إندونيسيا، الآن العالم لا يشجع على نهوض العالم الثالث؛ بسبب عوامل خارجية بالنسبة للعرب وللعالم الثالث أولًا. الشركات متعددة الجنسيات أيضًا لم تكن بهذه القوة في الخمسينيات والستينيات. بالنسبة للعرب العاملان الخارجيان: البترول وإسرائيل؛ البترول، أنا في تصوري كان نقمة على نهضة العرب؛ لأنه جعل الأنظار تتجه وتصمم على أن العرب لا ينهضون ولا يتحدون، وإلا سيضيع البترول منهم. وإسرائيل كان لها الرأي نفسه، فعوامل التدهور قويت، ولم يظهر زعماء مثلما في الخمسينيات والستينيات، أما عبدالناصر فمهما انتقدته لا تستطيع أن تنكر دوره.
● أين يقف العرب اليوم من الحضارات العالمية؟
■ يقف العرب من الحضارات العالمية، موقف الناقد والناقم والمقتبس، وليس موقف المساهم الذي يعطي.
● إلى أي حد أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في اقتراح واقع بديل عن الواقع الملموس والحقيقي؟
■ أنا في الحقيقة متفائل جدًّا بهذه الوسائل، وأثق كثيرًا في أنها تمتلك من المؤشرات ومن الثراء ما يجعلها نمطًا جديدًا في الحياة العلمية والثقافية، لكن أثرها الكبير لم يتضح بعد على الرغم من أنه كان لها دور طيب في ثورة 2011م؛ لكن مع مرور الوقت سيكون لها أثر طيب جدًّا.
● «صدام الحضارات»؛ ألا ترى أن الغرب لا يزال يشتغل على هذه النظرية؟
■ سأرد عليك بسؤال: ألا تلاحظ أن هذا الكتاب ظهر مع سقوط الاتحاد السوفييتي ومع ظهور مصطلح الإرهاب الذي أخذوا يخوفوننا منه؟ نعم ظهر في هذه الظروف والغرض منه سواء كان الأمر بوعي أو بغير ذلك، التحول العدائي من عدو إلى عدو. نعم ما داموا يشتغلون على الإرهاب فهذا هو التطور الذي ظهر مع صدام الحضارات، ثم ألا ترى أن مفردة الإرهاب بدأت تتشكل مع إرهاصات تلك الحقبة التي حرضت على الخطر الشيوعي، ثم خلقوا بعد ذلك هذه المفردة وصوَّروها كما لو أنها البُعبُع الذي سيفترس العالم؟ والأمر ليس كذلك، نصف الحديث في الصحف اليوم عن الإرهاب، وهذه نقطة مهمة أريد توضيحها، وأتمنى أن يفهم الناس أن ذلك ليس صحيحًا، فنصف الجرائد الآن يتحدث عن الإرهاب، والنصف الآخر لا يستحق القراءة. والحقيقة أن كل دولة كبيرة كانت لديها ميزانية ضخمة، فلكي تصرف هذه الأموال تذهب إلى تخويف الناس من خطر محيق، وهؤلاء كانوا يخوفوهم من الشيوعية، ولمّا زال الخطر الشيوعي اخترعوا فكرة الإرهاب. أتذكر مرة أن غورباتشوف قال في الأمم المتحدة ونقلتها اليونايتد: «أيها الناس نحن لا نأكل الأطفال». بمعنى كان هناك تهويل من الخطر الشيوعي، كما هو اليوم الإرهاب.
● الاستشراق الجديد؛ هل لديك تصور عنه؟
■ أنا قليل الاطلاع على الاستشراق الجديد؛ لأنه قلَّ كثيرًا عن الاستشراق القديم، والسبب أنهم كسبوا المعركة، ولم يعودوا في حاجة للاستشراق، ويمكنني أن أقول أيضًا: إنهم كسبوا المعركة؛ لأن العرب من جهة أخرى استغربوا.
في «بوكر» كنت أعرف ركاكة الرواية من الإهداء
● أخيرًا كانت لك تجربة في رئاسة تحكيم جائزة البوكر؛ فمن واقع هذه التجربة هل يمكن أن تقول لنا كيف تدار الجوائز الكبرى، ولمَ تشتمل لجان التحكيم على صحفيين ومحكمين ليس الأدب مهنتهم الأولى؟
■ أنا في الحقيقة كنت عملت في جائزة ساويرس للرواية، وكنت فيها عضوًا وليس رئيسًا مع مجموعة من النقاد، والسبب أنني كنت أكتب في النقد كثيرًا؛ هذا ما جعلهم يختاروني. وكونهم اختاروني رئيسًا في جائزة البوكر؛ فهذا شرف عظيم رحَّبت به، وكانت تجربة سررت بها. أعتقد أن هذا التوجه جيد؛ لأن النقاد عادة يكونون متخصصين أكثر من اللازم وكذلك كثيرًا ما يكون لديهم تحيزات، وربما أسوأ من تحيزات، تكتلات. يعني: اليساريون ينتصرون للكاتب اليساري، وغير ذلك بصرف النظر عن مدى الجودة. أنا أرى أن الاستعانة بغير النقاد إلى جانبهم -أي النقاد- يعد اتجاهًا جيدًا. أما كيف تُدار الجائزة أنا لا أعرف إلا تجربتي، وكنت أديرها برويَّة وسعادة، وبديمقراطية عالية، وتوافق في الآراء؛ إذ إنهم لم يشتكوا من أدائي، كما لم نختلف في إدارتها. تقدم كثيرون للجائزة، فعُرضت علينا من 130 إلى 150 روايةً تقريبًا، شعرت بمسؤولية كبيرة، وتساءلت كيف سأقرأ هذه الكمية الكبيرة من الروايات. كانت الروايات قد وُزِّعت على كل الأعضاء، وبدأنا نستبعد الروايات الضعيفة، كنا نستطيع أن نعرف ذلك من الصفحات الأولى للرواية. في الحقيقة المواهب نادرة؛ فمن السهل على الإنسان أن يحس أن لديه موهبة، لكن أن تكون لديه موهبة حقًّا فالأمر نادر. لم نواجه صعوبة في تخفيض عدد الروايات؛ لأنني كنت أحيانًا أعرف ركاكة الرواية من الإهداء، وكنت أتوغل في الرواية فأبذل مجهودًا، لكن حين لا يساعدني ضعف الرواية على الاستمرار أتركها لأخرى. أتذكر في تلك الدورة فاز روائي كويتي اسمه سعود السنوسي، بروايته «ساق البامبو»، فقد أجمع المحكِّمون جميعًا عليها، وهي رواية بديعة ما زلت إلى اليوم أعيد قراءتها.