أوديب، هل هو قاتلُ أبيه فعلًا؟ من عقدة أوديب إلى عقدة جوكاست
صدر للمحلِّل النفسي والناقد الأدبي المعاصر بيير بيار كتابٌ جديدٌ في نوفمبر 2021م، بعنوان: «أوديب لم يكن مُجرِمًا» (Pierre Bayard : 0edipe n’est pas coupable, Les éditions de Minuit, Paris, 2021). ويتصدَّر الكتاب تنبيهٌ: هذا الكتاب روايةٌ بوليسيةٌ، ولا ننصح بتصفّح الصفحات الأخيرة التي تحتوي على حلٍّ للغز… وبهذا التنبيه ينتمي هذا الكتاب إلى سلسلة الكتب التي أصدرها بيير بيار في السنوات الأخيرة، وهي كلها حول الروايات والمحكيات البوليسية، وتتميّز بما يأتي: أولًا، يأتي الكتابٌ النقديُّ بوصفه شيئًا وسطًا بين التخييل والتنظير، فالمتكلم داخل الكتاب النقدي هو ساردٌ لا يمثِّل الكاتبَ بالضرورة. ثانيًا، يؤدي السارد دور محقِّقٍ جديدٍ يعيد التحقيق من جديد في قضيةٍ أسالت كثيرًا من المداد، ويثير السؤال من جديد: هل المجرم في ذلك المحكي هو فعلًا هذا الذي سلَّمنا به منذ سنين أو منذ قرون؟ وهو بهذا السؤال، يعيد كتابة المحكي من جديد، وكأنه يكتب محكيًّا جديدًا (رواية جديدة كما في تنبيه هذا الكتاب). ثالثًا، وهو بهذا كلّه يؤسِّس نقدًا جديدًا يسمّيه: نقدًا تدخّليًّا: نقدٌ لا يبحث عن منح النصِّ معنًى، بل إنّه يتدخّل من أجل تصحيح معلومةٍ بحثًا عن الحقيقة.
في استهلال الكتاب، يسجّل بيير بيار أن مقتل لايوس على يد ابنه أوديب في مكان يتقاطع فيه طريقان لم يكن مجرد حلقةٍ من حلقات الأدب الإغريقي، ولن نبالغ إذا اعتبرناه أساسًا من أسس الثقافة الغربية. وفوق ذلك، فإن مقتل لايوس لم يكن وراء ميلاد أشهر عقدةٍ في التحليل النفسي على يد سيغموند فرويد فحسب، بل كان وراء ظهور أحد أكبر المفاتيح القادرة على تفسير السلوكات النفسية والإنتاجات الثقافية. لكننا إذا أعدنا قراءة نصّ سوفوكل -يقول بيار- بالقليل من الانتباه، وفي ضوء العلوم الحديثة والنظريات النقدية المعاصرة، فإننا سنخلص إلى شيئين: الشكّ في قدرة أوديب على ارتكاب هذه الجريمة، وضرورة فتح تحقيقٍ جديد.
ما قبل الحكاية: الجريمة والعقاب
من أجل تحقيقٍ جديدٍ، لا بدّ –في نظر هذا المحقِّق الجديد- من العودة إلى ما قبل الحكاية التي يحكيها سوفوكل، أي لا بدّ من استحضار حكاية آباء أوديب وأجداده. وأهمّ شيءٍ في تلك الحكاية هذا الجزء الذي أهمله النقاد والمفسّرون والمهتمّون: كان لايوس شابًّا عندما اختفى أبوه لابداكوس، وعُهِد بالوصاية إلى جدّه، لكنّ المتمرّدين استولوا على مملكة طيبة، فكان لزامًا على لايوس أن يفرَّ هاربًا، طالبًا اللجوء من بيلوبس، ملك بيزا، هذا الذي استضافه وكرَّمه، بل كلَّفه بمَهمَّة خاصّة: تربية أحد أبنائه: كريسيب.. وما ننتظره من لايوس الهارب طالب اللجوء، الذي استضافه بيلوبس وكرَّمه، هو أن يردَّ الجميل، وأن يؤدي مَهمَّة التربية على أحسن وجه؛ إلا أنّ ما وقع لم يكن في الحسبان: اغتصب لايوس الفتى ابن الملك بعد أن وقع في حبّه، فانتحر الفتى شنقًا، خوفًا من العار!… وكان بيلوبس يلعن لايوس، ولأنه قريبٌ من الآلهة، فقد طلب من أبولون أن ينتقم له من لايوس، فكان العقاب هو ما يأتي: إذا أنجبَ لايوس ابنًا في يومٍ من الأيام، فإن هذا الابن هو الذي سيقتله وسيتزوج أمَّه: وهكذا، فمأساةُ أوديب كانت قد بدأت قبل حتى أن يولَد! والسؤال هو: كيف اختفت جريمةُ لايوس، ولم يعد يستحضرها أحد؟ ولماذا ترسّخ مقتل لايوس على يد ابنه أوديب في الذاكرة الجماعية؟ وهل يمكن أن نفهم تراجيدية أوديب دون استحضار هذا السياق العام؟
ما يصعُبُ تفسيره هو أن لايوس قد قرّر الزواج من جوكاست، ابنة مينوس، بل أنجب منها ابنًا، على الرغم من تنبيه- عقاب الآلهة الذين لا يمزحون! لكن أمام هذا التهديد، قرَّرَا، ربَّما، التخلُّص من هذا الوليد، تجنُّبًا للعقاب.
وهكذا، قاما بتقييد كاحليه، وطلبا من أحد الخدم، الراعي، أن يحمله بعيدًا، وأن يربطه بجذع شجرة حتى تفترسه الوحوش.. وعندما عاد الراعي من دون الابن الملعون، اعتقد لايوس وجوكاست أنهما قد تخلَّصا نهائيًّا من لعنة الآلهة؛ لكن الواقع أن الراعي قد صادف في الجبل راعيًا ينتمي إلى قصر كورنت، ففضّل أن يعطيه الطفل على أن يقتله.. وأوديب، من جهته، قد نشأ في قصر كورنت، ولم يكن هناك من داعٍ ليضعَ أصلَه ونسبَه موضع سؤال، فهو وريث المُلك في هذه المملكة، ولم يكن على علمٍ بلعنة الآلهة.. فنحن لا نعرف شيئًا عن طفولة أوديب، لكن حَدَثَ أن قال رجلٌ مخمورٌ للطفل، على مائدة الطعام: إنه ابن «أبٍ مجهول»، والتفت الطفل إلى أبويه اللذين تبنّياه، لكنهما لم يكذّباه، وإنْ كانا قد أظهرَا غضبهما.. وبعد ذلك، سينشغل أوديب بالسؤال عن أصوله، وسيسافر طلبًا للجواب عن أسئلته، وسيعرف أن الآلهة قد حكمتْ بأنْ يقتل أباه ويتزوج أمّه؛ ولأنه كان يعتقد أنّ مَنْ في قصر كورنت هما أبواه، فقد قرّر الابتعاد والتوجّه إلى مكانٍ آخر: وفي الطريق إلى طيبة، شاءت الأقدار أن يلتقي أوديب ولايوس في اليوم نفسه والطريق نفسه!
كان أوديب وحده، وكان لايوس محاطًا برجالٍ آخرين، وما صدّقناه على مدى قرون أن أوديب قد قضى عليهم جميعًا، وكأنَّ الجزء الأول من عقاب أبولون قد جرى تنفيذه! وعلى أبواب طيبة، وجد وحشًا كان يفترس كلَّ مَن عجز عن حلِّ ألغازه؛ ولأن أوديب قد نجح في حلِّ اللغز الذي طرحه عليه هذا الوحش، فقد حقّق بذلك أشياء عدّة: كان نجاحه في الجواب سببًا في موت الوحش، وفي تخلّص أهل طيبة من وحش يهدّد حياتهم منذ مدّة؛ ومن أجل مكافأته، وبخاصّة بعدما علموا بموت ملكهم لايوس، فقد جعلوه ملكًا عليهم وزوّجوه من الملكة جوكاست.. ويبدو الآن كأنّ عقاب أبولون قد تمَّ وتحقّق كاملًا!
يمكن أن نفترض أن أوديب قد عاش سنواتٍ سعيدةً في طيبة، وأنجبَ من جوكاست أربعة أبناء، لكن ذلك لم يدم طويلًا، فقد أصاب الوباء المدينة، وهناك مَن طلب من أوديب أن ينقذ المدينة مرّةً ثانية! فأرسل أوديب أخا جوكاست، كريون، ليسأل ممثِّل الآلهة ما العمل لإنقاذ المدينة.. وكانت إشارة أبولون إلى مقتل لايوس الذي لم يتوضّح بعد، فقرّر أوديب أن يفتحَ تحقيقًا جديدًا.. وأشار إليه أحدهم بأن يسأل العرّاف الأعمى، تيرسياس؛ هذا الذي واجه أوديب متَّهِمًا إيّاه بأنه هو المجرم، مع التلميح إلى علاقته المحرَّمة مع جوكاست.. وفي هذا الوقت، وصل شيخٌ من مملكة كورنت يحمل خبرًا أسعدَ أوديب: لقد مات الملك بوليب الذي كان يعتقد أوديب أنه أبوه الحقيقي، وتعود سعادته إلى أنه يعتقد الآن أنه لم يقتل أباه الذي مات موتة عادية.. لكن الشيخ الرسول أكّد له عدم وجود أيّ قرابة بينه وبين ملك كورنت، وأنه طفلٌ متبنًّى، وأنه هو نفسه ذلك الراعي من كورنت الذي تسلّم الطفل من راعي طيبة وحمله إلى الملك بوليب.. وهكذا، لم يكن أمام أوديب إلا أن يستدعي راعي/ خادم الملك لايوس الذي كان قد أعطى الطفل إلى راعي كورنت.. وقبل أن يستمع أوديب إلى هذا الراعي، جاء مَن يخبره بأن جوكاست قد انتحرت شنقًا، فقام أوديب بلوم الراعي الذي أنقذه من الموت، وقام بفقء عينيه، قبل أن يطلب من كريون، أخي جوكاست، أن يتولى الملك مؤقتًا، وأن يتولى العناية بأبنائه!
ملحوظات حول الجريمة الأصلية
يسجل بيير بيار أن شيئين أساسين لا يؤخذان بعين الاعتبار عندما يتعلق الأمر بمأساة أوديب: ما قبل أوديب كما وضحنا آنفًا، ثم ما بعد انتحار جوكاست وعمى أوديب، وما حصل لأبنائه بعد ذلك: لقد كرَّس سوفوكل مسرحياتٍ أخرى للمراحل اللاحقة لِمَا بعد ذهاب أوديب، وقد وصلتنا مسرحيتان مهمّتان: لقد ذهب أوديب رفقة ابنته أنتيغون إلى كولون، وأصبح شيخًا.. وابنته الأخرى، إسمين، لم تكن معه، لكنها ظلت في علاقةٍ معه، متورّطة في الصراع الدائر حول المُلك بين أخويها، إيتيوكل وبولينيس.. وإذا أخذنا بعين الاعتبار، هذا الاقتتال بين الأخوين حول العرش، وما حدث لأنتيغون، وما حدث للمدينة، فلا بد أن نستخلص أن لعنة الآلهة على مدينة طيبة وأهلها لا تزال قائمة، على الرغم من موت جوكاست وعمى أوديب وموت ثلاثة من أبنائه ووفاة زوجة كريون.. ويجري كلُّ شيءٍ كأنَّ الجريمة الأصلية، اغتصاب لايوس لِفتًى سينتحر بعد ذلك، لا تزال تمارس تأثيراتها الخطيرة في أهل طيبة..! وهنا لا بدّ من تحقيقٍ جديدٍ حول مقتل لايوس.
ينطلق بيير بيار من أنّ النصَّ الإغريقيَّ يسمح بقراءاتٍ أخرى غير التأويل المهيمن؛ ومن أجل قراءةٍ مغايرةٍ، لا بدّ من تسجيل ملحوظاتٍ: تتعلق الملحوظة الأولى بالعقاب: هناك حكمٌ من الآلهة بأن يقتل أوديب أباه لايوس، لكن إذا كان الابن قد قتلَ أباه فعلًا، فلماذا تحكم الآلهة من جديد بالوباء على المدينة وأهلها، ألا يعني ذلك أن هناك حلقة مفقودة هي التي تفسّر هذا الحكم المزدوج الذي يبدو من دون معنًى؟ لماذا سيغضب أبولون على المدينة وأهلها وينشر فيهم وباءً قاتلًا إذا كان عقابه قد تحقّق: مقتل لايوس؟.. لكن لا بد أن نعود إلى قراءة العقاب جيّدًا وحرفيًّا: أنْ يَقتلَ الابن، أوديب، أباه، لايوس! وهذا الأخير هو مقتولٌ فعلًا، لكن يبقى السؤال: هل أوديب، الابن، هو مَن قَتلَ أباه فعلًا؟ أهناك مَن تولّى مَهمّة القتل ظانًّا أنّ مقتل لايوس كافٍ لإسكات غضب الآلهة؟ تكشف هذه الأسئلة السرَّ الخطير الذي تأسَّس عليه تاريخُ الحضارة الغربية.
وتتعلق الملحوظة الثانية بحدثٍ جرى حكيه بطريقةٍ مزدوجةٍ: اللقاء بين لايوس وأوديب: حكاه أوديب نفسه الذي ظنّ أنه عاش ذلك اللقاء؛ وحكته جوكاست كما سمعتْ عنه من خادمها. ويبدو في الظاهر أن المحكيين يقولان الشيء نفسه: رجلٌ بمفرده يلتقى رجلًا آخر راكبًا عربته ومحاطًا برجاله، وكان الطريق ضيقًا، ونشب صراعٌ حول أسبقية المرور استطاع من خلاله الرجل المفرد القضاء على السائق ومن معه.. لكن الملحوظ أن ساعة وقوع الحدث غير دقيقة والمكان غير مضبوط أيضًا؛ وفوق ذلك فإن عدد الأشخاص ليس متشابهًا في المحكيين؛ قال أوديب: إنه قتلهم جميعًا، في حين تقول جوكاست: إن هناك واحدًا فرَّ هاربًا هو الشاهد على ما وقع! كما يمكن أن نتساءل: أرجلٌ واحدٌ هو مَن قتلَ لايوس أم إن لصوصًا -كما تقول جوكاست- هم من هاجموا لايوس؟ أمن الممكن أن يقع حدثان متشابهان في اليوم نفسه، وهو ما جعل أوديب يعتقد أنه قاتل لايوس؟ لكن لماذا طلب الخادم من جوكاست أن تبتعد وأن تختفي؟
وتتعلق الملحوظة الثالثة بأوديب نفسه، باسمه خاصّة؛ اسمه مرتبطٌ بالعلامات التي يحملها على رجليه منذ قيّده الأبوان، وهو وليد، حتى لا يتمكّن من المقاومة.. وأوديب الشخصية المنتفخة الأرجل مذكورة في المسرحية ثلاث مرّات بطريقةٍ لا تطابق فيها بين نوعية الجرح.. لكن في الأحوال كلّها، يبقى السؤال مطروحًا: هل بإمكان رجلٍ معوقٍ يشكو من عيبٍ في رجليه أن يتمكّن من قتل ملكٍ ورجاله؟ والسؤال الأخطر: كيف يمكن أن نفسِّر أنّ جوكاست لم تتعرَّف إلى ابنها، الذي يحمل علامةً خاصّةً جدًّا، عندما حضر إلى قصر طيبة؟ هناك أكثر من دليلٍ على أنّ جوكاست كانت تعرف منذ البداية مَن هو هذا الغريبُ الذي تزوجها وصار يحكم طيبة. والسؤال الأساسُ هنا: لماذا التزمت جوكاست الصمتَ؟
أصابع الاتهام وحل العقدة
هناك شخصيات يمكن أن توضع موضع اتهام: الأولى هي تريسياس، العرّاف الذي اتّهم أوديب بقتل لايوس؛ لكن هل يملك تريسياس وسائل من أجل قتل لايوس؟ أليس قريبًا من الآلهة، ويملك وسائل فوق طبيعية؟ المشكلة أنه لا يكره لايوس، بل يحقد على أوديب الذي استطاع النجاح فيما فشل فيه هو: حلّ لغز الوحش على أبواب المدينة! وماذا عن كريون، ألم يتّهمه أوديب بتآمره مع العرّاف من أجل الاستيلاء على عرشه؟ أليس البحث عن السلطة هو سبب الجرائم كلها؟ لكن كريون جلس على العرش أكثر من مرّة (بعد موت لايوس، بعد مغادرة أوديب إلى منفاه، بعد اقتتال الأخوين..)، ولم يكن قط شديد التعلّق بالسلطة والحكم.
ويبقى أن القاتل هو آخر شخص رأى الضحية حيّةً قبل موتها: الراعي خادم قصر طيبة هو الوحيد الذي بقي حيًّا بعد أن مات لايوس ورجاله! والسؤال هو: لماذا لم يكن موضوع بحثٍ دقيقٍ والحالُ أنه الوحيد الذي بقي حيًّا؟ ولماذا لم تُوَجَّه إليه الأسئلة المُهمّة عندما حضر إلى القصر؟ والسؤال الأكثر أهميةً: هل يملك هذا الراعي الوسائل المادية من أجل قتل لايوس؟ يمكن أن نفترض أن الراعي قد استفاد من عنصر المفاجأة وهو ضروريٌّ في مثل هذه العمليات؛ فقد تعرّف إلى الأمكنة من قبل، واختار المكان المناسب، وقرّر أن يفاجئ الضحايا بطعنهم في ظهورهم؛ وفي إطار الاستعداد، كان من الممكن أن يستعين برجال آخرين حتى ينفذ المهمة على أحسن وجه.. لكن يبقى السؤال: ما الدافع الذي دفع الراعي إلى قتل ملكه؟ أيكون منفِّذًا لأوامر شخصٍ آخر؟
الملحوظُ أنّ جوكاست كانت لا تنفكّ تكذب طوال المسرحية، وبخاصّة في ثلاثة مواضع أساس: لقد كذبت حين زعمت أن لايوس هو من أمر بإبعاد الطفل أوديب وقتله، والواقع أنها وحدها من اتّخذت هذا القرار، وأعطت طفلها للجلاد من أجل قتله، على عكس ما اعتقدته القراءات اللاحقة للمسرحية! وكانت كذبتها الثانية بخصوص الجرح في رجلَيْ أوديب، فقد زعمت أنهما كانتا مربوطتين بطريقةٍ عادية، والواقع أنهما كانتا مصفّدتين بطريقةٍ سادية! والكذبة الثالثة أن جوكاست كانت تعرف دومًا أن الراعي الذي كُلِّفَ بإبعاد طفلها وقتله، وأن الشاهد على مقتل لايوس، ليسا في النهاية إلا شخصًا واحدًا! ولا بدَّ من إضافة كذبةٍ رابعة: كانت جوكاست تعرف أن هذا الذي صار ملكًا على طيبة بعد مقتل لايوس، هذا الذي تزوجها، لم يكن إلا ابنها! من الضروريّ أن نستحضر هذه العلاقات الخاصّة بين جوكاست وخادمها الراعي: فهو الذي كلَّفته بقتل طفلها، وهي الوحيدة التي تلقَّت شهادة الخادم بخصوص مقتل لايوس!
ولا بد من استحضار شيئين أساسين بخصوص جوكاست: أنها من سلالة كانت على العرش قبل أن يستولي آباء لايوس على طيبة وعرشها، وبلا شك، وربّما عن غير وعي، فهي تضمر، منذ صغرها، الكراهية لمن استولوا على عرش آبائها وأجدادها! والشيء الثاني أن هناك رغبة تستحوذ على شخصية جوكاست: تريد أن تحمي نفسها وأهلها وشعبها بأيّ ثمن؛ ولذلك كانت تتصرف وتتخذ القرارات التي تراها ضرورية: إبعاد طفلها الملعون وقتله من دون علم أبيه لايوس الذي تزوج وأنجب على الرغم من لعنة الآلهة وعقابها الذي ينتظره؛ وإنْ كنا لا نعرف متى علمت جوكاست بأن خادمها لم يقتل طفلها، لكن هذا الأمر نفسه هو الذي استغلّته ففرضت على هذا الخادم أن يقتل لايوس إذا ما أراد أن يكفّر عن ذنبه هو الذي كان قد عصى أوامر سيدته ولم يعمل على أن يموت الطفل.
وفي الحالتين، كانت جوكاست تبحث عن إسكات غضب الإلهة: في البداية، كانت تظن أن إبعاد الطفل الملعون وقتله كافٍ لإرضاء الآلهة؛ وفي النهاية، كانت تعتقد أن قتلَ لايوس هو الحلُّ من أجل أن تتخلَّص المدينة من لعنة الآلهة وعقابها؛ لكن الآلهة لم تتردد في إنزال عقابٍ جماعي على المدينة بأكملها، على الرغم من مقتل لايوس.. وعندما فتح أوديب التحقيق من جديد في مقتل لايوس، كانت جوكاست تعرف كل شيء، فهي من دبّر العملية وأمرَ بها، لكن لم يكن من الممكن أن تتدخّل وأن تعترف علانيةً: الاعتراف بمحاولة قتل طفلها الصغير؛ الاعتراف بأنها هي من أمرتْ بقتل زوجها؛ الاعتراف بأنها كانت على علمٍ بأنّ الملك الجديد الذي تزوّجها هو ابنها! وبدلَ الاعتراف، اختارت الانتحار! وبموتها، لم يعد لوباء الطاعون من وجود في المدينة: فبعد موت جوكاست، لم تعد المسرحية الأولى، ولا الثانية ولا الثالثة، تتحدث عن الوباء! جوكاست هي التي كان من الضروري أن تؤدي الثمن، لأنها تدخلت بطريقةٍ تمنع من تحقق عقاب الآلهة كما ينبغي له أن يكون!
الجريمة الحقيقية
الخلاصة الأساسُ التي لا بدّ من تسجيلها: ما يوجد في قلب مسرحية «أوديب الملك» ليس هو جريمة قتل الأب، بل جريمة قتل الابن؛ ذلك لأن مسرحية سوفوكل غارقةٌ في هذا الاستيهام الخاصّ بجريمة قتل الابن: لأن لايوس قد كان سببًا في موت طفل ملكٍ آخر، فلذلك جرَّ على نفسه، وعلى شعبه، لعنة الآلهة وعقابها. وفي قلب المسرحية، هناك هذا الأمر الذي أصدرته جوكاست -بعلم لايوس أو بغير علمه- بأن يموت طفلها الذي أنجبته! وبهذا، فإن مسألة قتل الابن هي الجريمة المركزية، وتبقى مسألة قتل الأب ثانوية في المسرحية: هناك تلك الفكرة التي تقول: إن الطفل يمكنه قتل أبيه، لكن الفكرة الأكثر عنفًا التي لا تقبلها الذوات ولا المجتمعات هي: أنْ تَقتلَ الأمُّ طفلَها، أو أن يَقتلَ الأبُ طفلَه!
في الواقع، إن جريمة قتل الطفل هي المهيمنة في الميثولوجيا الإغريقية! لقد استطاع فرويد من خلال عقدة أوديب أن يبتكر مفهومًا مهمًّا جدًّا: التناقض الوجداني (ambivalence): لقد وضّح فرويد أن بإمكانك أن تحمل مشاعر متناقضة تجاه الآخرين، وركَّز على مشاعر الأطفال تجاه الأبوين، وبخاصة مشاعر الابن تجاه أبيه. لكن السؤال هو: ألا نجد الآباء بمشاعر متناقضة تجاه أبنائهم؟ ألا يكره الآباء أبناءهم؟ وفي الواقع، أيستحيل الحديث عن عداء الأمهات للأبناء؟ لا بد من توسيع نظرية فرويد، إذا كان الأطفال يحملون مشاعر متناقضة تجاه آبائهم، فإن الآباء يحملون، هم أيضًا، مشاعر متناقضة تجاه أبنائهم؛ وإذا كانت عند أولئك رغبةٌ في قتل آبائهم، فإن عند هؤلاء رغبةٌ في قتل أبنائهم أيضًا.. ولا بدَّ من إغناء الجهاز المفهومي عند فرويد بأن نضيف إلى عقدة أوديب مفهومًا تكميليًّا: عقدة جوكاست للدلالة على عدوانية الآباء، الواعية أو اللاواعية، تجاه أبنائهم: أي للدلالة على أن جزءًا مهمًّا من حياتنا اللاواعية يمكن أن يُوَجَّهَ ضد أقاربنا، وأطفالنا على وجهٍ خاصٍّ..!