بواسطة حاتم الصكر - ناقد عراقي | مايو 1, 2020 | مقالات
لماذا القراءة الاستعادية؟
سؤال يواجه محاولة العودة إلى متون أو نصوص ومدونات كان لها في زمن إنتاجها من المزايا ما أكسبها البقاء في الذاكرة وخزين القراءة من جهة، وديمومة أو تواصل حضورها في حياة نصوص لاحقة لها وممارسة تأثيرها في المشهد المعاصر.
قد تبدو القراءة الاستعادية لبعض المهتمين والقراء ضربًا من النكوص إلى الماضي -حتى القريب منه- أو هروبًا من مستلزمات التثاقف العصري ومواكبة التحولات عبر أبنيتها القائمة ودوافعها وملامحها النصية. لكن ذلك لا يقدم فهمًا للإنجازات الروحية والثقافية التي تملك ما يجعلها ماثلة لأن يكرَّ عليها الدارسون بالتحليل وتبين ما يظل منها في لاحقاتها من النصوص، أو في الأقل التعرف إلى ما جعل منها في تلك الأهمية. وتعتمد القراءة الاستعادية لإنجاز مهمتها على مدوّنات لها تأثير في سياقها وامتداد خارج عصرها حيث يتواصل أثرها أو تلقيها عبر معاودة القراءة أو تلمس مظاهر -أو جوانب تأثيرها- في أفراد النوع الذي كتبت فيه وفي خصائصه ومزاياه الذاتية.
إن القراءة الاستعادية للثنائيات التي هيمنت على حياة جبران خليل جبران الفكرية تتيح، التعرف إلى المشغّلات الأيديولوجية أو الاعتقادية، والقناعات الذاتية لجبران وسط الضخ الثقافي في عصره، وأمكنة نشأته ونمو وعيه من جهة، وملاحظة انعكاساتها أو تجسداتها الشعرية والنثرية في أدبه المنشور من جهة أخرى.
وليس أكثر وضوحًا في تعقب ذلك كتابه «النبي» لكونه عمله الرئيس ومحفل انشغالاته الفكرية ومحورها. لقد مضى قرن من الزمن منذ شرع جبران خليل جبران في كتابة مؤلَّفه الذي سيصبح من أكثر كتب القرن أهمية. فقد بدأ عام 1919م بكتابته وانتهى منه بعد أربعة أعوام؛ ليظهر منشورًا في أيلول- سبتمبر من عام 1923م. كتاب سيُنقَل إلى قرابة خمسين لغة. ويحظى بمكانة خاصة في الأدب المكتوب بالإنجليزية، ويكون مادة للدراسة في المدارس الأميركية مدة طويلة.
كونية الكتاب
كتابٌ حلم جبران بكتابته ليكون عمله الرئيس. قال مرة عنه: «حلمتُ بكتابة «النبي» طيلة ألف عام». مكنّيًا بذلك عن كونية الكتاب ودلالة أفكاره على وجود الإنسان ومصيره، وانشغاله بتأمل علاقات البشر وارتباطاتهم ومواقفهم؛ لذا أخذت الموضوعات المنفصلة جانبًا كبيرًا منه، بل كانت ضمن تبويب الكتاب وخطته، فجاءت فصوله موزعة في موضوعات توحي بروحانية عالية، فيما يضمر دنيوية تهفو إلى الحرية الشخصية؛ لكونها اللبنة الأولى في بناء الحرية الإنسانية العامة.
وتأكيدًا لكونية الخطة أو البرنامج التأليفي لجبران في «النبي»، عمد إلى تقسيمه في أبواب صغرى يخص كل منها موضوعًا محددًا، لاجئًا لإنجاز ذلك إلى محاورة الجمهور للمصطفى -شخصية الكتاب الرئيسة- وسؤالهم له عن مغزى الأمور التي يريدون رأيه فيها. وأسند جبران السؤال في كل فصل إلى شخصية غير مسماة بل موصوفة فحسب، لها صلة بموضوع السؤال… وقد حرص جبران على الإتيان ببناء نصي محكم لكتابه، يطّرد في فصوله ويتعمق من خلالها خطابه الذي ينبني على عناصر تمثل هيمنة الثنائيات على فكره، احتكامًا إلى قناعة تقف خلف كتاباته عمومًا، ومؤداها وجود الشيء ونقيضه معًا في الحياة، وعلينا أن نرى ذلك وندركه، ولا نرهن رؤيتنا في جانب واحد.
جبران خليل جبران
سنمثل برأيه في العلاقة الزوجية المبثوث بطريقة كتاب «النبي؟» من حيث التعالي اللغوي على المفردات العادية، وجدّة الأفكار وجرأتها، والأسلوب النثري القريب من الشعر في تركيزه وصوره وتمثيلاته، والخطاب الفوقي الذي ينتظمها لتتحقق صفة الكتاب الغيبية وطابعه الحِكَمي والنصحي، فضلًا عن سلسلة التأملات القريبة من الفلسفة في الكتاب.
يقول في مسألة الزواج مثلًا مخاطبًا قُرّاءه كـأنه يعطيهم موعظة روحية: «أحبّوا بعضكم بعضًا، ولكن لا تقيّدوا المحبة بالقيود.. قفوا معًا، ولكن لا يقرب أحدكم من الآخر كثيرًا: لأن عمودَيِ الهيكل يقفان منفصلَيْن، والسنديانة والسروة لا تنمو الواحدة منهما في ظل رفيقته».لقد بدأ بطلب المحبة ونصح بالوقوف معًا رجالًا ونساء، ثم استدرك في الجملتين، فجاء التحذير بعد الاقتراب كثيرًا، وعدم تحديد المحبة بقيود، في تلميح واضح إلى الزواج كنظام اجتماعي سائد، أو خلية أساسية في تكوين الأسرة. وفي موضع آخر يواصل استدراكاته مسوِّغًا ذلك بملمح جمالي قوامه استمرار النبض الإنساني في تلك الفسحات بين الأفراد، كما في أمثولة القيثارة التي تتباعد أوتارها لتنجز نشيدها، والشجر المتباعد عن بعضه ليتيح فسحة الحياة والجمال، «ولكن فليتخلل التئامكما فسحات/ حتى تتيحا لرياح السموات أن ترقص بينكما». وإذ أتاح للزوجين أن يشربا ويأكلا معًا أوصاهما مستدركًا «بألا يشربا من كأس واحدة/ ولا يجتمعا على رغيف واحد/ وألا يجعلا الحب قيدا»، ممثلًا للانفراد واستقلال الذات بالقيثارة «فإن أوتار القيثارة مشدودة على افتراق/ وإن خفقت جميعًا بقلب واحد.. ولتنهضا متكافلين/ لكن دون أن تتلاصقا / فإن أعمدة المعبد على انفصال تقوم/ والسنديان والسَّرو لا ينمو بعضها في ظل بعض» وقد كشف جبران في كثير من مذكراته ورسائله عن تخوفه من الرابطة الزوجية رغم روحانيته. وقد يرجع ذلك في أحد التأويلات الممكنة إلى تمثله لشخصية المسيح التي عدَّها نموذجًا في التضحية والبحث عن الحرية والعدل والتفرد.
الثنائيات الضدية
تهمنا في هذه اللحظة من دراستنا أن ننوه إلى تحكم الثنائيات الضديَّة في فكر جبران. فقد قرن شخصيتين في نموذجه الأعلى الذي لا يكف عن ترديد مقولاته. وهما المسيح ونيتشه. وقد لاحظ الشاعر خليل حاوي في دراسته عن شخصية جبران وإطاره الحضاري أنه «رسم صورًا ليسوع محاكاة لما يرغب هو أن يكون عليه… صورًا توافق عقيدته الخاصة»، إنه انصياع لتأثره بفكرة الإنسان السوبرمان -المتفوق- لدى نيتشه يقول: «ما عاش يسوع مسكينًا خائفًا… لم يمت شاكيًا ، بل كان عاصفة هوجاء، ثائرًا وصلبًا متمردًا، ومات جبارًا».
وفي الحب تسللت الثنائيات إلى مواقفه. فهو يرافق ماري هاسكل التي أحبها ورفضت الزواج منه وظلت صديقة ترعاه، لكنه عشق جسد ميشلين، وتمنى لو كانت لها روح ماري. وقد كانت تلك التجربة امتحانًا لروحانيته وتطهره الظاهري. ولعل عزوفه عن الاقتران بامرأة من بعد هو الحل الذي استراحت له نفسه؛ خلاصًا من ثقل تلك الثنائية التي لم يكن من سبيل لتهريبها أو دمجها نظريًًّا، كما فعل في ثنائية يسوع وإنسان نيتشه القوي.
إن وجود تأثرات واضحة في «النبي» بكتاب نيتشه «هكذا تكلم زرادشت» وتشابه شخصية المصطفى بزارا كسارد لدى نيتشه، جعل بعض دارسيه يؤشرون إلى تناقض آخر؛ لأن جبران أعلن مرارًا تأثره وإعجابه بوليم بليك وقصائده الروحية القريبة من التصوف. وفي الموقف من حضارة الغرب نجد معاناة أخرى لجبران ضمن ثنائية الشرق والغرب؛ إذ استطاع عبر المدن التي عاش فيها غريبًا، والبشر الذين رآهم هناك أن يتوصل إلى رفض تلك الحضارة الغربية. وتحول من منتقد لشعبه في الشرق وكسلهم عن النهوض والتقدم، إلى مسكون بحنين جارف لأجواء نشأته في الشرق وحياته في كنفه. لقد خاب ظنه بالغرب الذي حلم به وتمناه، ووجد في مدنه وحضارته وحشيةً جعلته يحن بشدة إلى روحه الوادع وسلامه الفطري، وتمنى لو يقترنا معًًا في مكانٍ ما غربًا أو شرقًا.
يقول جبران في رسالة إلى ميخائيل نعيمة: «إنه وجد في مدن الغرب ناسًا بنفوس متحجرة وأفكار عتيقة بالية…»، ويصف مدينتهم بأنها مدينة التقاليد.. ويقابل ذلك حنينه إلى وطنه. يكتب إلى مي زيادة عام 1925م قائلًا: «سوف يجيء يوم أهرب فيه إلى الشرق. إن شوقي إلى وطني يكاد يذيبني»، وكان نعيمة قد شارَكه في هجاء مدن الغرب الجديدة، فقال عن نيويورك: إن قباب مبانيها دمامل الأرض، ونهرها من الكهرباء على ضفتيه جبال من الرخام، وغابات من الحديد هو جمال تلك المدن !!
وقد جسّد ذلك في سرده لأحداث «النبي» حيث يرمّز تعارضات قسوته على بلده وحبه له. كان المصطفى يهم بمغادرة أورفاليس المدينة التي عاش فيها وحدته وعزلته اثني عشر عامًا هي مثل أربعة فصول متغيرة المناخ متنوعة الأحداث، ولكن كواحد من أبناء المدينة التي منحته أمنها وخرج أهلها من حقولهم ومعاصرهم وبيوتهم متوسلين أن يبقى بينهم، فيما هو ينتظر السفينة التي تحمله إلى وطنه؛ فيلبث بينهم فترة يجيب عن أسئلتهم منحة منه ووفاء لما قدموه له، ويكون التناص الآخر هنا مكانيًّا بين وطنه المرتقب ومهجره الذي سيهجره، وكأنه يتمثل حياته بين أميركا حيث سكنه ولبنان حيث وطنه. وهذه إحدى تمثيلات الفكر الثنائي لدى جبران الذي يستحق دراسة كاشفة عن تناقضات شخصيته التي أورثته عذاب السؤال والبحث عن الخلاص من خلاله. لقد انعكس ذلك الصراع في لغته وخطابه، فهو موزع بين النثر والشعر بلا حد فاصل؛ فلا نكاد نجزم بالهوية الإجناسية للكتاب الذي ينشره. كما يتضح في عرضه لأفكاره ومشاعره صراع بين التفلسف من جهة والشاعرية من جهة أخرى. كما بين لغته الأم التي يعود للكتابة بها شعرًا ونثرًا، والإنجليزية التي اتخذها وسيلة تعبير في أهم كتبه.
ويمكن العثور على وجه آخر لتلك الثنائيات في مرجعيات الكتابة لدى جبران والمؤثرات التي خضع لها. وهي ممثلة في أسلوبه بدرجة شديدة الوضوح حيث اشتبكت مصادره الممتدة بتعرج والتواءات وزوايا حادة بين نيتشه والمسيح والتصوف الإسلامي، والشعر والفلسفة المجردة.
لقد كان جبران يعيش حياة متخيلة تسللت من الأدب والكتابة والفكر إلى المعايشة والسلوك والممارسة اليومية. إنه يصف نفسه بنبأ كاذب أو ضباب.. ضباب يغمر الأشياء ولكن لا يتحد وإياه. أنا ضباب –يقول لمي زياده– وفي الضباب وحدتي وفيه انفرادي، ووحشتي وجوعي وعطشي. وتلك محنة جبران الذي ردد مرة: انكساري .. يا انكساري.. يا سيفي البراق ودرعي المصقول. فالانكسار الذي أحسه في حساته لم يعد ضعفًا، لكنه تحول بحسب انتظام خطابه الموسوم بالثنائيات وتناقضاتها إلى درع يقيه الضعف.. كما هو سيفه الذي يجابه به الأخطار.
وهكذا صار الشرق عدوًّا وتابعًا، والغرب قاتلًا وملاذًا، والنبي وحيدًا وقائدًا، والمجنون حرًّاوحكيمًا، والضباب عدمًا وولادة، والموت مأساة وانتصارًا. ولديه حل أو إجابة لتلك التناقضات الثنائية التي واجهته طلبًا لاختيار أو نداء لم يطلقه. الحل لإشكالاته مع الوجود هو افتراض تعايش المتناقضات تحت مسمى صوفي هو وحدة الوجود: حيث لكل شيء وجوده المتنامي المنحدر من أصل يلجأ إليه في عَوْد أبدي، كما تعود نقطة الماء إلى بحرها.
لقد ظل جبران بانتظار ما لا يأتي مرددًا: «أنا دائمًا بانتظار ما لا أعرفه، ويخيل إليّ في بعض الأحايين أنني أصرف حياتي مترقبًا حدوث ما لم يحدث بعد».
وتلك ذروة ثنائيات جبران حيث يعيش حياته فنًّا وشعرًا وكتابة، ثم يشعر بأنه لا يزال غير قابض على حلمه، مترقبًًا ما لم يحدث بعد…
بواسطة حاتم الصكر - ناقد عراقي | مايو 1, 2019 | مقالات
كثيرًا ما أشار المعنيون بنظرية الأدب إلى أن الأجناس الأدبية والأنواع تعمل -عبر تاريخها وما يتراكم من مفردات نصية تحت لافتتها- على تكريس نمط محدد دفاعًا عن وجودها وهويتها. قد يتغير هذا النمط أو يتطور أو يتراجع أحيانًا، لكنه يميل إلى تثبيت ما يتشكل من صفات تميزه، وتحفظه مستقلًا بجانب سواه. يتهيأ القارئ ليكون مستودَعًا لتبدلات النص ومكمنَ تغيّرات النوع الذي ينتمي إليه، فيتسلم ما يصل إليه ليستشف منه تلك المزايا ويقوم بتثبيتها، فيكون لها هيئات محددة يقيس إليها ويحيل عليها (كلَّ (ما سيتسلمه وعيه وإدراكه للنصوص التالية المنضوية تحت ذلك النوع . وهنا يتخذ مهمة الحارس الذي يذبّ عن شعرية النوع وأنظمته ومزاياه؛ فلا يتقبل أي انزياح عنه أو انحراف. والخطورة التي ينبه إليها تودوروف في دراسته عن الشعرية تكمن في أن الأنماط الأدبية المعروفة جيدًا لدى الجمهور سوف يعتمدها أي الجمهور مفاتيح لتأويل الأعمال، فيصبح الجنس الأدبي أفق الانتظار بالنسبة للقارئ، والأخطر هو أن يجهد الكاتب كي يستبطن هذا الانتظار ويلبيه مفرغًا عمله في نموذج كتابي له أبعاده ومميزاته.
تلك السلطة التي تمنحها القراءة للقارئ يعضدها استخلاص المزايا وإحاطتها بما يشبه المقدس الذي لا يمس. وهذا عين ما واجه القصيدة العربية في مرحلتي التجديد والتحديث. وهو ما تؤكده القراءة التاريخية لمحاولات التجديد الأسلوبية والموضوعية حتى في عصور ازدهار الشعر وحيويته التي تمثلت في العصر العباسي. فقد واجه الشعراء المجددون ومدرسة البديع في مقدمتهم رفضًا وانتقادات من النقاد وشراح الدواوين ورواة الشعر وقرائه. لم يسلم من ذلك أبو تمام مثلًا ولا المتنبي لاحقًا. وكان النمط المكرَّس هو المحك الذي قيست به أشعارهم، وجرى تسخيفها أو الاعتراض على توجهها الأسلوبي والموضوعي وبناء الجملة الشعرية وآليات الصورة والخيال والفصل بين الذات والموضوع؛ ليظل النمط متسيدًا، وليكون النص تكرارًا لما يراد أن يثبت من وصف للشعر لا يمكن أن تخالفه القصيدة أو تخرج عن إطاره. وهكذا ظل الشعر كجنس أدبي يعمل كتلويًّا بتراكم نصوصه على تثبيت مزاياه، فيما تحاول القصائد بكونها أفراد النصوص أن تزيح عن تلك المزايا جمودها وابتذالها بالتكرار.
وكمثال على نمطية التنظير للنص الأدبي اتفاق النقاد العرب القدامى على وجود (القصد) شرطًا لاعتبار العمل شعرًا. فهم يقرون بوجود أعمال حازت صفة الشعر وحققت في القارئ والمستمع (الأثر) نفسه الذي يُحدثه الشعر المنظوم قصدًا. لكنهم يُخرجونه من صفة الشعر، فيما تحدث الغربيون مبكرًا عن أهمية الأثر. فشعرية أرسطو تقوم على (ما يجعل الأثر الشعري جميلًا). ولذا اعترض على من يقرن الأثر الشعري بالوزن. فعدَّ من ينظم شعرًا في الطبيعيات طبيعيًّا أكثر منه شاعرًا فيما عَدَّ ناظم الرابسودية شاعرًا رغم أنها مؤلفة من أوزان شتى وعناصر شعرية مختلفة. وهذا ما لاحظه ابن رشد وهو ينقل كتاب أرسطو «فن الشعر» إلى العربية فذكر أن الأقاويل المخيَّلة التي تكون من أوزان مختلطة غير موجود عندنا.
هذا التوصيف لشعرية النص جعلت الغربيين أكثر تسامحًا وقبولًا لتوليد الأنواع الأدبية من النقد العربي، فظلت حدود الأنواع لا يمكن تجاوزها. واستقر تعريف الشعر مقترنًا بالوزن والقافية والنظم المقصود لأداء المعاني. يجري الحديث عن الشعر في تراثنا النقدي -وهو يتمحور حول الشعر في مجمله- بكونه نمطًا لكتابة مخصوصة، ولم يجرِ الحديث عن الشعر صفةً للكلام أو القول بحيث لا يمثل النمط المخصوص إلا إمكانيةً من إمكانات تحقق القوانين الإنشائية، إلى جانب إمكانات وكيفيات أخرى، كما يلاحظ حمادي صمود في دراسة له عن الشعر وصفة الشعر في التراث. ولم تفلح المقترحات الوصفية الخارجة عن النمط في خلق رأي نقدي مغاير، كتقييد السجلماسي الشعر بالتخييل والاستفزاز، وحديث حازم القرطاجني عن الاستغراب والتعجب، ونظريات عبدالقاهر الجرجاني في النظم والغموض ومعنى المعنى.. وسواها.
لقد امتلك الغربيون القدرة على قبول الأنواع المولّدة، ولهذا لم يختلفوا كثيرًا حول قصيدة النثر كما حصل في نقدنا العربي الحديث. ولم تسعفنا ملاحظات ابن رشد وحازم مثلًا عن القول الشعري الذي لا يندرج في التنميط العام للشعر، كما أُغفِلتْ شعريات مقترحة خارج النمط، كالمواقف والمخاطبات، للنفري وطوق الحمامة لابن حزم وأدبيات الصوفية والرسائل والتوقيعات.
يُلحِق التنميط النوعي أضرارًا كبيرة في مفاهيم الأدب. في الشعر مثلًا يمكن أن تخفي قصيدة رديئة البناء ضعفها وهشاشتها بالتزام اشتراطات النمط النوعي الشائع كمهيمنة لتمييز الشعر. وللأسف فقد ساهمت بعض أطروحات التجديد والحداثة في تكريس ذلك التساهل الفني بإلغائها المطلق لأحكام القيمة، ونفورها التام من أي تقويم للنصوص، ومن جهة أخرى أعطت شهادة ولادة أو هوية نوعية لنصوص متواضعة وضعيفة البناء بانتمائها لتيار حداثي في الأسلوب. وهذا ما نسجله من خلال متابعتنا لنماذج مما يحسب على قصيدة النثر، التي تنطلق من وهم شائع مؤداه أن التنازل عن الإيقاع التقليدي المتحصل من الموسيقا الخارجية (الوزن والقافية)، والاحتكام إلى نثرية الشعر تكفيان لإعطاء وصف أو عينة دم وصنف نوعي لذلك النص المتهافت تزكي انتسابه لقصيدة النثر.
وكرد فعل على التيارات التقليدية والمناهج الخارجية التي ترى النص (وثيقة) تنعكس فيها بشكل آليٍّ عناصر الواقع والحياة الشخصية، ركّزت مدرسة النقد الجديد على النص أولًا، ودعت إلى النظر في النصوص بمستوى واحد من دون مراعاة قيمتها الفنية. وغدا النص (تحفة) يُنظر لها كقيمة منعزلة عن سياقها، فأصبحت النصوص كلها صالحة للعمل النقدي واحتمالية القراءة الجمالية. ثم ساهمت البنيوية المدرسية في موجاتها الأولى في تكريس ذلك؛ لأنها تعد النص (نسيجًا) يشبه نسيج العنكبوت تنفك الذات وسطه وتضيع في شبكته كما يقرر رولان بارت في «لذة النص». وغدا النص محفلًا لغويًّا وبنيةً مغلقة . وسيأتي التأويليون ليجعلوه (بيّنة) أو دليلًا على احتمالات تنتجها القراءة الافتراضية، أو تقويل النصوص وتحميلها ما لا تتسع له عناصرها. ولعل جاك ديريدا قد اختصر نقد تلك الموجات النصية حين حذّر من الانحباس في النص من دون التنبه لما ينتجه مبناه من قيم فنية وإغفال لسياقاته.
إن التخلص من الهيمنة الأسلوبية أو البنائية سيتيح تدريجيًّا تقارب الفنون الأدبية واقتراضها مزايا ما يجاورها في الجنس. وهذا توسيع فني لصفة النص، وتمدد نوعي على المستوى الجمالي- أعني التقبل والقراءة. وسيكشف البحث عن أثر الفنون المجاورة ووجودها في عملية (تناص نوعي) أنواعًا من الانفصال عن التصنيفات الوصفية التقليدية؛ أي تلك التي تَنسب للنوع تقاليدَ لا يصح اختراقها. وربما يمهد ذلك لظهور (النص) كجنس ثالث مستقل بجوار الشعر والنثر. وسيظهر أثر ذلك في الشعر المتخلص من مهيمنة الإيقاع والمعنى، وفي القصة المتخففة من السرد الخطّي الرتيب، لصالح استضافة أنواع مقاربة فيستوعب فضاء القص ما يُجلب له من حوار مسرحي أو مشهدية سينمائية، حتى الإيقاع المقترَض من الشعر والمنجَز بطريق التكرار مثلًا، والتصمم المسبَق في بناء المقاطع السردية وتوزيعها بالهيئة البصرية المخصوصة، والعناية بتقنيات استهلالها وخواتمها.
وإذا كانت الدراسات المرافقة للحداثة قد وضعت للنص أوصافًا تتلخص في كلّيته ووحدته وتركيب عناصره، وتجانس بنيته واتساقها ضمن نظام توزيعي، فإن النص بالتشكل الجديد له، والمستقل عن التوصيفات السابقة سيتميز بقدرته على خلخلة التصنيفات القديمة، وتمدده عبر شبكة من التركيب والانتظام، ولا نهائيته وتعدديته أي تحقيقه للمعنى المتعدد، ورمزيته المطلقة، ومتعته التي لا تنفصم. وتلك صفات مستخلصة من مقترحات رولان بارت في (درس السيميولوجيا) قد لا تلزم نصًّا عربيًّا بالضرورة لكنها تقترح له طرقًا ربما يسلكها كحلول لأزمته وسط الفوضى المصطلحية والمفاهيمية.. وصعود سلطة القراءة المتعجلة والمبتسرة ولكن المؤثرة في خلق قارئ غير مختص لكن له سلطة تحل محل الناقد المتخصص، وذلك كله بفضل وسائل الاتصال ووسائطه والتدوين الإلكتروني المتيسر للجميع.
في النص لا نرغب في أن نحشر أعمالًا هربت من شِباك نوعها الذي لا حياة لها خارجه.. فالنصوص ليست أسماكًا ميتة بعيدًا من مياهها، وسياقاتها التي انتزعت منها، بل هي مثل كائن حي له أرضه وماؤه وفضاؤه…
كخلاصة: لا بد لي أن أشير إلى أنني استخدمت مصطلح النص هنا في مناسبتين: بمعناه العام الذي يحيل إلى المتن الأدبي، وبمعناه المجترَح حديثًا- بمعنى ما يخرج على الاندراج في النثر أو الشعر، وتكون له سمات مجتمعة من مصادر نوعية متعددة ويستعصي لذلك على التجنيس النمطي. كما استخدمت مصطلح التجديد إشارة إلى المقترحات التي بدأت الخروج على النمط ولكن بشكل مخفف وبمطالب تعديلية لا تغييرية. فيما استخدمت مصطلح التحديث للإشارة للمقترحات الجذرية التي قدمت مقترحات تمس البنية والهيئة والشكل العام وتعد خروجًا جذريًّا على النمط.
بواسطة حاتم الصكر - ناقد عراقي | أغسطس 31, 2017 | كتاب الفيصل, مقالات
يتزايد في الغرب تيار انفتاح أبواب الفنون والآداب للكتابة دون شروط أو قواعد أو مؤهلات محددة، ما يتيح لأفراد يتخذون قرارًا أو يرغبون -بحسب كليشهات الدعاية- في أن يصبحوا كتابًا، أن ينتظموا في دورات أو معاهد أشبه بمصانع لتفريخ الأدباء وفق نصائح وتطبيقات ساذجة، كالوصفات السريعة لتعلم اللغات في سبعة أيام من دون معلم.
يتزامن ذلك مع صعود موجات ما بعد الحداثة أو بسببها في الأحرى، وبتأثير النزعة الشعبوية التي تستهدف تسطيح الفن والثقافة عمومًا، بدعوى جعلها جماهيرية وانتزاعها من نخبويتها وانغلاقها، والاعتقاد بإمكان توليد المهارات والمواهب من دون استعداد نفسي سابق أو تهيئة ذاتية؛ لذا انتشرت في الغرب مدارس ومواقع لتعليم الشعر والفن خارج الأهداف أو البرامج البيداغوجية التي تعتمد تعليمًا منظمًا، يساعد في تمكين الموهوبين وتقوية قدراتهم بدراسات منظمة شاملة، وتزويدهم بعدة الفن والأدب التي لا تعني بالضرورة أن يكونوا أدباء أو فنانين.
والمفارقة الكبرى تكمن في اختلاط تلك المقترحات الشعبوية مع الدعوة النظرية لمناهج ما بعد الحداثة لإعلاء الهوامش والمهمشين: سواء أكانت فنونًا كتابية أو صنفًا من الكتّاب – النساء مثلًا كجنس، والسيرة الذاتية كنوع أدبي- وإذ نقرّ بضرورة نبذ التهميش ونشارك في الاهتمام المستحق لأدب الهوامش المقصاة اجتماعيًّا بسبب الهيمنة التقليدية، ونؤمن بتنشيط الفنون المقصاة لأسباب معروفة كالكتابة السيرية، فنحن لا نقرّ بأن يغدو ذلك مبررًا لإلغاء شرط الموهبة الفردية، أو التقليل من شأنها في الكتابة الإبداعية والفنون عامة. ولا تقنعنا بجدوى تلك المصانع التي يراد لها أن تفرخ الكتاب والفنانين بإخضاعهم لبرنامج زمني، وعبر مواد يتصور واضعوها أنها كافية للخلق والإبداع، فيصفون قوالب وأطرًا معينة توقع مقلديها في البساطة والهشاشة، ويصبحون مستنسخين للنماذج المتصورة، يذكروننا بكتب الرسائل الجاهزة للمناسبات، التي يقتدي بها المراهقون وأنصاف الأميين للتعبير عن مشاعرهم من خلال تلك الوسائط الجاهزة. والأخطر هو ما تبع ذلك من ازدراء الموهبة، والحديث عنها كما لو كانت تهمة أو نقصًا في المبدع، أو كأنها المقابل العدائي للثقافة.
جابر عصفور والترويج لبضائع متنافرة
أذكر استطرادًا أن الدكتور جابر عصفور كان يناديني بالناقد الموهوب كلما جمعنا لقاء. وكتب ذلك بخطه وهو يهديني أحد كتبه. كنت أعلم أن ذلك الوصف- في المسكوت عنه من خطاب الدكتور عصفور- هو أنني لا أعبأ بالجانب النظري مثله وبعض الزملاء الآخرين. وذلك يعني أنه يربط جهدي النقدي بدافع واحد هو الموهبة التي تقف من وجهة نظره بمقابل أو بمعاداة النظرية التي يضمر تقسيمه هذا انتماءه إليها. والحق أن صلة الدكتور عصفور بالنظرية هو دور تعريفي. أي أنه يقدم خلاصاتها للقراء ويعرّف بروادها وكتبهم وما تقوم عليه نظرياتهم من منطلقات فكرية وممارسات نقدية في لغاتهم وبأدب بلدانهم نموذجًا للتطبيق أو الإجراء؛ لذا لم ينعكس ذلك في دراساته ومقالاته التي تقوم على حرية منهجية كافية لتقديم مقاربة للموضوع أو النص قيد الدرس أو النقد. أما كتبه ذات الحمولة النظرية وأكثرها ترجمة فهي والقليل المؤلف في التنظير ليست إلا انحباسًا تامًّا فيما تقوله تلك النظريات دون حوار ندّي معها، يرفض ويقبل أو يقوم بتكييفها لتلائم مادة الدرس النقدي العربي. وهذا جانب تشكو منه بعض كتابات الزملاء المعرَّفين بالنظرية دون إسقاطها على النصوص أو الموضوعات والظواهر؛ لتجربتها عبر إجراءات منهجية تفضي إلى تحليل مدروس وتأويل مقنع. كنت أجد لهؤلاء شبهًا بمن يصف عمل آلة كهربائية أو أجزاءها بدقة، استنادًا إلى تعليماتها المصاحبة لها. ثم يتركها دون تشغيل؛ لذا نجد في كتبهم تناقضات منهجية كأنهم مروِّجو بضائع متنافرة، فيكتبون عن البنيوية والواقعية والأسلوبية في كتب متتالية من تأليفهم. وهذا الهوس النظري يرادف النظر للنقد والشعر بكونهما حرفة تُعَلَّم، أو (صنعة) بتعبير المصطلح النقدي العربي القديم الذي وضع وصايا وقواعد لصناعة الشعر وكتابته مثلًا، لكنها تنتج نظّامين في الواقع يسبكون أشعارهم بطرائق تقليدية متشابهة، حين لا يمتلكون موهبة تمييز المفردة وتركيب العبارة، ولا يمتلكون الخيال المطلوب والمؤثر الشعوري لقول الشعر.
وأعتقد أن هذه القضية- موهبة الناقد أو ثقافته- مُرحَّلة من الشعر خاصة، إذ ناقش النقاد العرب قديمًا وحديثًا مدى حاجة الشعراء للموهبة والثقافة. وكانوا معتدلين غالبًا في طلب توفر الأمرين. فالموهبة تتمثل في قدرة الناقد على التذوق والاختيار والفهم ثم الحكم على النصوص، فيما تعضد الثقافة عمل الموهبة ودورها، فتكون عدة الناقد لغوية وعروضية وبلاغية، وهي أمور تطلب استعدادًا خاصًّا وتعلمًا ودراية؛ لذا قرنوا ثقافة الناقد بالنصوص ذاتها التي ترتبط بدورها بشروط الصناعة التي استخدموها للتدليل على أهمية المعرفة العلمية في نظم الشعر، أي التوفر على عدة لغوية وبلاغية وعروضية بجانب المقدرة الخيالية والتصوير العاطفي.
وقد تنبه المنظّرون الحداثيون ومن تلاهم إلى ذلك؛ فأكدوا ضرورة التثقف والتزود بالمعرفة، بما يشبه صناعة الشعر العربية. ولكن إغفال دور الموهبة أو الملكة الأولية أضر كثيرًا في عافية الشعر والنقد معًا.
الشعر والموهبة
وقد قيل في السياب: إنه يتوفر على موهبة فحسب، دون ثقافة كافية، وإن مصادره الثقافية محدودة وقراءاته لا تشي بمؤثر معرفي. وهذا الرأي ومن أبرز دعاته الشاعر العراقي الستيني سامي مهدي تعرض لنقاش مطول وردود. من بينها ما فصل فيه الناقد والمترجم الدكتور عبدالواحد لؤلؤة إذ قال في معرض التنبيه على ما قدمه السياب في مجال الرمز والأسطورة مبكرًا: «يرتبط تطويع الإشارة الثقافية إلى صيغ محلية، لا يقوى عليه سوى صاحب موهبة كبرى». في إشارة لما أخذه السياب من إديث سِتويل في قصيدته «أنشودة المطر».
ومستندًا إلى مقالة إليوت ذات الشهرة والأهمية «التراث والموهبة الفردية» حيث تعرض لضرورة تجديد الموروث بقراءته وتحديثه، بالاستعانة بالموهبة الفردية للشاعر. حتى حين يدعو مسترسلًا إلى قراءة القصائد الخالدة منذ هوميروس حتى المعاصرين فإنه يشترط بجانب تلك الثقافة المتحصلة من القراءة أن تتوفر لدى الشاعر الموهبة. ويذكرنا الدكتور لؤلؤة بأن السياب «كانت موهبته الشعرية أكبر بكثير مما تعلمه من الشعر الإنجليزي» رغم ما قيل عن ثقافته بسبب دراسته في قسم اللغة الإنجليزية في دار المعلمين العالية ببغداد في الأربعينيات، تلك الموهبة هي التي رأى إليوت أن أمثالها قادرة على تجديد التراث وإعادته حيًّا معاصرًا. وكذلك فعل السياب إذ توفر على الرموز التراثية ولم يكتفِ بمراجعها العالمية، بل اتخذ من واقعه ومحيطه وثقافته العربية كثيرًا من رموز المنطقة وإشاراتها الثقافية. فالموهبة أعانته على التقاط تلك القيمة الشعرية للموروث شعبيًّا أو دينيًّا أو أسطوريًّا. موهبة ارتقت بشعره وأهَّلته لفتح كبير في الشعرية العربية.
وليكن! فالسياب موهوب في كيفية امتصاص المرجع الثقافي. كتاب واحد أعاره إياه جبرا إبراهيم جبرا هو «الغصن الذهبي» جعله ينصرف إلى الأساطير والرموز ويكيّف الفكرة عراقيًّا؛ ليعود بكنز من رموز العراق القديم بجانب ما أدخله في شعره من التراث العربي والعالمي؛ فارتبطت باسمه أسطورة تموز وعشتار. وكذلك رموزه الأثيرة كأيوب والمسيح وبروميثيوس وسيزيف وغيرها. وقريبًا من أمثولة التحديث والفعل الشعري تأثرًا بمصدر واحد مع استثمار الموهبة ما ذكره إليوت في مقالته تلك من أن (صاحب موهبة مثل شكسبير أفاد من كتاب واحد ترجمه نورث بعنوان: «مشاهير الإغريق والرومان» أكثر مما أفاد كثيرون من مكتبة المتحف البريطاني برمتها).
٭ ٭ ٭
ولا أحسب تلك المصانع الوهمية قادرة اليوم على أن تصنع موهبة تلتقط بحساسية ورهافة تلك المعارف الساندة لشعرية النص أو للخطاب النقدي اللصيق بالنصوص والمقبل عليها بدقة وحس، تعضدهما المعرفة اللازمة.