العلمانية مع وضدّ الدين الإسلاميّ
لنعلنها من دون مواربة منذ البداية: باتت العلمانية خيارًا ملحًّا لوضع حد للصراعات الطائفية والمذهبية التي يشهدها العالمان العربي والإسلاميّ. وإنّنا بهذه المصارحة سنقف في مواجهة خطرة لمخاوف ومغالطات من قبيل: من يدعُ إلى تطبيق العلمانية فهو ملحد، العلمانية اعتداء على الدين الإسلاميّ، الإسلام دين ودولة، والعلمانية إذ تفصل الدين عن الدولة فهي تعتدي على حدوده.. كلّها تُهم جاهزة يقذفها بعضٌ في وجه كلّ من يرى في العلمانية الحلّ لإخماد نيران الحروب الطائفية والدينية التي يشهدها الوطن العربي.
إنّ هذه المخاوف غذتها تجربة العلمانية في الساحة العربية التي كانت أيديولوجية حسب برهان غليون، أي وقفت في عداء دائم للدين فتحولت إلى عقيدة ثابتة، أو لنقل: تحوّلت إلى دين في الاتجاه المعاكس لاحقًا. ولما كان التيار الإسلاميّ الأقرب إلى عامة الناس في المجتمعات العربية؛ فإنّ الصورة المخيفة حول العلمانية قد ترسّخت في اللاوعي الجمعي، فأنتجت سلوكًا نابذًا لمجرد مناقشة الطرح العلمانيّ. إذن وضعية العلمانية في الوطن العربيّ هي صورة مشوّهة، وكليشيهات جاهزة، ومغالطات فكرية، أنتجها التطرف في التفكير من كلا الطرفين، العلمانيّ والإسلاميّ، وهو ما يفسّر عنونة مقالنا بـ« العلمانية مع وضدّ الدين الإسلاميّ». فمع تدلّ على الممكن المشترك بين العلمانية والدين الإسلاميّ. وضدّ تدلّ على سلب الممكن، وإرساء جدار المعارضة: الدين الإسلاميّ/ العلمانية.
إنّ أفضل طريقة لتبديد المخاوف، هي مواجهتها، بأن نلقي عقولنا في يمّ المخاوف التي ترسخت في عقول عموم الشعوب العربية، بل حتى في أوساط المثقفين المحسوبين على التيار الإسلاميّ حول: تعارض العلمانية مع الدين الإسلاميّ، بل خطورة العلمانية على الإسلام والمسلمين. فما صحة هذه المخاوف؟ وإذا كانت العلمانية تنبني على مبدأ حرية المعتقد وحرية الفرد، فهل الإسلام يعارض هذا المبدأ الأساسيّ؟ تعدّ العلمانية من أهمّ المفاهيم التي أنتجتها الحداثة الغربية وحركة التنوير الغربيّ. وتعني في معناها المتداول فصل الدين عن الدولة. كما تعني أيضًا عدم إجبار الدولة أو الحكومة لأيّ أحد على معتقد معيّن، دينيّ أو غير دينيّ. فالفرد حر في اعتناق أيّ دين. أما الدولة فلا دين لها. لكنّها تحمي في الوقت نفسه حرية كلّ معتقد ديني أو فلسفيّ أو لا دينيّ. حلّت إذن التشريعات القانونية الوضعية محلّ صكوك الغفران الكنسية. فأصبحت الشرعية دنيوية في هذا الشكل الجديد من الاجتماع البشريّ، بدل الشرعية السماوية السابقة. فانبثقت العلمانية أو الدنيوية كمقابل للدينيّ أو اللاهوتيّ. وقد لمّح فيورباخ إلى هذا المعنى في قوله: «علينا أن نوزّع الكنوز السماوية في الأرض». وقد ارتبطت العلمانية وظيفيًّا بشبكة مفاهيم، انبثقت من شكل الاجتماع الجديد للغرب الحداثيّ التنويريّ العلمانيّ؛ ألا وهي: الديمقراطية، والمجتمع المدني، والمساواة بين الجنسين، والتداول السلميّ للسلطة… إلخ. وتعبّر هذه الشبكة المفهومية عن انتقال الغرب من وضعية الدول الدينية إلى وضعية دول مواطنيها. ومع أنّ الدول الغربية علمانية؛ إلا أنّها أكثر الدول التي تنشط فيها الجمعيات الدينية في مجال العمل الخيريّ، وبخاصة المسيحية. فالدول الغربية لا دينية داخل مؤسسات الدولة وأجهزتها المختلفة؛ لكنها تفتح مساحات واسعة لحرية ممارسة الشعائر الدينية والمعتقدات.
مفاهيم حية
إنّ المفاهيم الفكرية مثلها مثل الكائنات الحية كما يقول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز. فقد ترتحل من مكان إلى آخر. وقد تنمو في الأماكن الجديدة التي ترتحل إليها، أو تموت؛ وفقًا لتوافر الشروط الموضوعية لنموها وتكاثرها أو عدم توافرها. ومن بين المفاهيم التي ارتحلت إلى الفكر العربيّ العلمانية، كتنظير وممارسة سياسية. أما التنظير فنجد كثيرًا من المفكرين العرب منذ العصر الحديث، كتبوا عن العلمانية، وعدّوها الشكل السياسيّ الأنسب للدول العربية للدخول في طور الحداثة الفكرية والسياسية.
أما على مستوى الممارسة السياسية، فقد ارتبط معظم العلمانيين العرب بالسلطة السياسية. ومن ثم حرصوا على مصالحهم أكثر من حرصهم على تثقيف الشعوب العربية وزيادة وعيها والدفاع عن الحريات. وأبان هؤلاء عداوة للتيار الإسلاميّ، وكثيرًا ما يبطن موقفهم عداوة للدين. وعلى الطرف النقيض اشتغل التيار الإسلاميّ لعقود على مستوى الطبقات الفقيرة في المجتمع العربي، مثلما كان الأمر بالنّسبة للتيار الإسلاميّ في مصر الذي قدّم المساعدات الغذائية والصحية للفقراء. فاستطاع كسب التعاطف الشعبيّ. وقدّم نفسه كحلّ سياسيّ وإلهيّ في الوقت نفسه، لكلّ أزمات مصر. وهي الإستراتيجية ذاتها التي اتّبعتها التيارات الإسلامية في كلّ البلدان العربية. والنتيجة: فوز التيار الإسلاميّ في الانتخابات العربية بعد موجة ما يسمى الربيع العربيّ. وعلى الطرف النقيض نشأت هوة كبيرة بين العلمانيين وعامة الناس في المجتمعات العربية. فالأغلبية الساحقة من الشعوب العربية ترفض العلمانية، وتعدها اعتداءً على حرمة الدين الإسلاميّ. ويفسّر الدكتور برهان غليون سبب نشوء الهوة بين العلمانيين العرب والشعوب العربية، أنّ العلمانيين العرب لم ينشغلوا بتحديث الشعوب العربية وتطويرها. واكتفوا بمعاداة الإسلام السياسيّ؛ بل الدين أيضًا. وقد تحوّلت العلمانية حسبه بثبات هؤلاء على آرائهم المتصلبة إزاء الدين، إلى أيديولوجيا وعقيدة ثابتة. وقد حرص هؤلاء على الدفاع عن مصالحهم المرتبطة بالسلطة السياسية. فصادروا واجب التحديث والتحرير للشعوب في مقابل الحفاظ على امتيازاتهم ومصالحهم الفئوية. ويصدق ما قاله برهان غليون على التيار العلماني الجزائريّ الذي رحّب بتوقيف مسار الانتخابات في تسعينيات القرن الماضي بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ. كما يصدق أيضًا على معظم العلمانيين المصريين الذين وقفوا في صفّ المطالبين بتنحية الرئيس محمد مرسي.
إنّ معظم الكليشيهات السلبية عن العلمانية، ناجمة عن مواقف هؤلاء أمام الأحداث السياسية المهمة التي مرّ بها العالم العربيّ. وإنّ هذه الممارسات ناجمة أوّلًا عن استيراد مفهوم العلمانية مجتزأً ومشوَّهًا عما هو عليه عند الغرب. كما أنّه ناجم عن تغليبهم للمصلحة الفئوية على حساب المشروع المجتمعيّ التوعويّ. فبدل أن يتبنوا مشروع حرية الأديان والأفراد والمجتمعات كما هي العلمانية في نسختها الأصلية لدى الغرب؛ فإن العلمانية في نسختها العربية المشوّهة اختزلت إلى علمانية ملحدة في كثير من الأحيان. وهذا التشويه اللاحق بها هو جزء من تشويه شامل لكلّ ما نستورده من منظومات مفهومية من الغرب. ويحتاج الأمر إلى دراسات وافية عن أشكال التشويه والاختزال التي تلحق المفاهيم التي نستوردها من الغرب.
فهل يقودنا هذا التشويه إلى حتمية التخلّي عن الطرح العلمانيّ بوصفه حلًّا للحروب الدينية والطائفية في العالم العربيّ؟ إنّ التشويه اللاحق بالعلمانية في نسختها العربية، يجعل بناء الأحكام حول علاقة العلمانية بالدين نوعًا من التشويه المضاعف. فما هو واقع لا يعني دومًا ما هو حقيقيّ.
إكراه المسلم
إنّ إكراه المسلم على أداء العبادات يؤدي إلى نتيجتين: أولاهما يخلق الإكراه شخصًا منافقًا في كثير من الأحيان. فقد يؤدي كلّ الشعائر للتظاهر أمام الآخرين، ولإبعاد عبء النبذ الاجتماعي؛ لكن الشخص نفسه قد يسرق ويكذب ويحقد وينمّ، ويقذف المحصنات، ويهدر الوقت، ولا يتقن العمل. مع أن الله عز وجلّ فرض الشعائر الدينية كوسيلة لا غاية في حدّ ذاتها. ثانيتهما: يخلق الإكراه ما يسمى بوصاية المسلم على باقي البشر، فما يمارس عليه من إكراه دينيّ، يعيد إنتاجه مع الآخر المسلم أو غير المسلم. وما تفعله داعش في العراق وسوريا مثال للإكراه الذي يعتقد بعضٌ خطأً أنّه جوهر الدين الإسلاميّ. فما الحلّ لكلّ هذه المعضلات التي أغرقت المجتمعات العربية في النفاق الدينيّ والعنف الطائفيّ؟
يقول المفكر محمد شحرور: إن الإيمان مسألة غيبية، لا تستطيع الدولة بكلّ أجهزتها قياسها أو إثباتها أو نقضها. ومن ثم يقترح رفع رقابة أجهزة الدولة عن المسلم. فتكون العلمانية حسب المفكر محمد شحرور حلًّا للأوضاع العربية. ويرى أنّ المقصد الأساسيّ للإسلام هو تحقيق القيم الإنسانية. وهي قيم عليا لا تخلو منها دساتير حتى الدول العلمانية: فلا نجد حسبه دولة علمانية تجيز شهادة الزور، أو السرقة، أو الاعتداء على الغير. فهذه الأفعال محرّمة دينيًّا وأخلاقيًّا وقانونيًّا. ومن ثم تلتقي العلمانية الممجدة لقيم الأمانة والعدالة والاحترام المتبادل مع قيم الإسلام وكلّ الأديان. ويؤكّد الداعية والمفكر الإسلاميّ عدنان إبراهيم أنّ العلمانية هي الحلّ الأنسب لمعضلات العالم العربيّ، وبخاصة إخماد فتيل الحرب الطائفية في الشرق الأوسط؛ لكنّه في الوقت نفسه يعارض العلمانية الملحدة التي تتحوّل إلى فلسفة ورؤية إلحادية للوجود.
نتوصل مما سبق أنّ العلمانية في نسختها الأصلية غير المشوّهة، لا تتنافى مع جوهر الدين الإسلاميّ كما ورد في القرآن الكريم. وأنّها تتقاطع مع كثير من المبادئ الإسلامية الواردة في القرآن الكريم، من حرية الفرد، وحرية المعتقد، وحرية ممارسة الشعائر الدينية، وحقّ الوجود لكلّ الأديان والمعتقدات. وإنّ هذا الأفق الإنسانيّ المشترك يقودنا إلى عدّ العلمانية هي أنجع الحلول لعلاج المعضلات الدينية في العالم العربيّ، شريطة أن تكون حامية للأديان وراعية للقيم الإنسانية. أو لنقل: تكون علمانية ضدّ الإكراه الدينيّ ومع القيم الدينية الإنسانية.