العلمانية أسُسها في القرآن وجذورها في التراث القديم
انتقل إلينا هذا الموضوع «الدين والعلمانية» من الثقافة الغربية بعد انتشارها في الثقافة العربية وكمصدر ثانٍ للفكر الإسلامي المعاصر. فالموضوع غربي. نشأ في سياق الثقافة الغربية الحديثة، نشأة وتطورًا. فقد تسلطت الكنيسة على الفكر الغربي. واضطهدت المفكرين الأحرار منذ مارتن لوثر وحركة الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر حتى إسبينوزا وفولتير في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وكان الدين كما تعرضه الكنيسة دينًا عقائديًّا. يصعب فهمه بالعقل الصريح الذي اعتمد عليه الغرب في بداية عصوره الحديثة منذ ديكارت في القرن السابع عشر.
فماذا يعنى التثليث والتجسد، وابن الله، وأم الإله؟ وهل يجوز صلب الأنبياء في التوراة والإنجيل؟ وماذا تعني الطقوس الكنسية السبعة من أول طقس العماد حتى طقس الزواج؟ ولماذا سلطة الكنيسة والمعبد وهما مؤسستان تاريخيتان من صنع البشر بحثا عن السلطة الدينية في مقابل السلطة السياسية، سلطة الأباطرة والملوك، وكلاهما يتسلط على رقاب الناس، ويتحكم في عقولهم، ويدخل في قلوبهم لتحديد من المؤمن ومن الكافر وكأنهما قد شقّا قلوب الناس؟ وهي معصومة من الخطأ. وهو الدين الغيبي الأسطوري، دين الخطيئة والخلاص، وحصار الإنسان العاقل الحر بين ذنب لم يرتكبه؛ خطيئة آدم، وخلاص لم يسع إليه، والإيمان بالمسيح أو بشعب الله المختار. فاليهود هم أبناء الله وأحباؤه، والعودة إلى أرض الميعاد.
حركة المفكرين الأحرار
فكان من الطبيعي أن تنشأ حركة المفكرين الأحرار في كل مكان في فرنسا وألمانيا وإنجلترا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا وأميركا دفاعًا عن العقل والبرهان وعن مركزية الإنسان في الكون. فنشأ الصراع بين الدين والعلمانية. وتعني العلمانية، الاتجاه نحو العالم Mundus وليس الاتجاه إلى خارج العالم في الغيبيات والأساطير والخرافات التي مثّلتها المسيحية واليهودية في العصور الوسطى الكنسية. هذا هو السياق التاريخي الغربي الذي نشأت فيه العلمانية في صراعها ضد الدين. ثم أسقط المتغربون، أنصار الثقافة الغربية، هذا السياق على التاريخ الإسلامي وقرؤوه من منظور السياق الغربي. فأخفقوا مرتين: الأولى، إخراج الموضوع من سياقه الغربي. والثانية، إسقاط السياق الغربي على السياق الإسلامي المختلف تمامًا عن السياق الغربي.
أما الإسلام فإنه منذ البداية وكما عبّر عن ذلك القرآن الكريم مرات عدة فإنه دين العقل الذي دافعت عنه العلمانية ضد الخرافة والجهل. وهو ما عبّر عنه القرآن صراحة في مئات من الآيات مثل: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾. وهو ما ظهر في التراث الإسلامي وبخاصة عند المعتزلة وبعض الفقهاء في صيغة العقل أساس النقل. ومن قدح في العقل فقد قدح في النقل. وهو ما ظهر أيضًا عند الفقهاء، وبخاصة عند ابن تيمية في «موافقة صريح المنقول لصريح المعقول»، ووضع مبادئ للمنطق الإسلامي الذي يعتمد على العقل والبرهان مثل «ما لا دليل عليه يجب نفيه». والدليل العقلي هو الذي يجعل الإيمان راسخًا في القلوب كما سأل الله تعالى إبراهيم عليه السلام: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾. بل إن الفلاسفة أطلقوا على الله اسم «العقل والعاقل والمعقول». والاجتهاد وهو المصدر الرابع من مصادر التشريع يقوم على العقل الذي يقوم باستنباط العِلّة من الأصل قبل أن يجدها في الفرع. والعقل هو مناط التكليف. فالمجنون لا يُكلف.
والإسلام دين العلم. يقوم على النظر والمشاهدة والتجربة؛ لذلك تتكرر آيات النظر في الأرض مثل: ﴿فَانْظُرُوا﴾، ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ﴾. ولما طلب إبراهيم عليه السلام الدليل على قدرة الله أعطاه الله دليلًا تجريبيًّا وهو قطع الطير أربع قطع. ونثر كل قطعة في اتجاه ثم يأتينه ويعدن طيرًا بإذن الله. ولما أراد أن يعطي إبراهيم عليه السلام قومه دليلًا على أن الأصنام ليست آلهة قام بتكسيرها، وعلق الفأس في رقبة كبير الأصنام. ولما سأله قومه ﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ. قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُون﴾. يعتمد الإسلام على النظر في ظواهر الطبيعة مثل: الشمس والقمر والنجوم والكواكب بل يُقسم بها. ولا يعتمد على المعجزات بمعنى خرق قوانين الطبيعة مثل قلب العصا ثعبانًا أو إنزال مائدة من السماء كما طلبت بنو إسرائيل من عيسى. فالمعجزة للإبهار والدهشة.
والإسلام دين العقل والتجربة ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ﴾. ويعتمد المصدر الرابع في أصول الفقه على التعليل. وهو وجود العلة من الأصل في الفرع، ومعرفة علة الفرع بالتجربة. فالخمر مسكر في الأصل. ومعرفة هذا الشراب مسكر أم لا يتم بالتجربة. فإذا ثبتت علة السكر في الفرع أخذت حكم الأصل. وعندما ادعت امرأة أن رجلًا ضاجعها بدليل وجود منيه على ثوبها فركه علي بن أبي طالب رضي الله عنه بيديه واكتشف أنه زلال بيض. لذلك ازدهر العلم التجريبي في التراث القديم مثل: الطب والصيدلة والنبات والحيوان، والرياضيّ مثل: الهندسة والجبر، والموسيقا والفلك. فإذا كانت العلمانية تقوم على العلم كما قامت على العقل فإن الإسلام كذلك. والعلماء ورثة الأنبياء.
مركز الإنسان في الكون
وإذا كانت العلمانية تعني مركزية الإنسان في الكون والدفاع عن حرية إرادته، وتأسيس المجتمع الديمقراطي الاشتراكي الحر، فإن هذه الأهداف تنبع من الإسلام. فالإنسان هو خليفة الله في الأرض ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾. وقد ذُكر الإنسان خمسًا وستين مرة في القرآن الكريم مما يدل على أهميته. كما يركز القرآن على مجتمع المساواة والعدالة ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين﴾، ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾. وفي الحديث «ليس منا من بات شبعان وجاره طاوٍ». وهذه هي دلالة الصيام والزكاة، الإحساس بالآخر.
وقد نادى الصحابي أبو ذر الغفاري بمجتمع المساواة عندما رأى البون الشاسع بدأ يظهر بين الأغنياء والفقراء. وعند الأصوليين لقد وضعت الشريعة ابتداءً حفاظًا على الحياة ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾٭، ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ والحفاظ على العقل بالرغم من النسبة العالية للأمية في بلادنا، والحفاظ على الدين أي الحقيقة المطلقة ضد الحقائق النسبية والأهواء البشرية والمصالح الشخصية، والحفاظ على العرض أي على الشرف والكرامة والحياء، والحفاظ على المال ضد تبديد الثروات وبخاصة تلك التي في باطن الأرض في مظاهر الاستهلاك الذي لا يفيد، وليس في بناء المستشفيات والمدارس. والمجتمع الإسلامي مجتمع ديمقراطي حر. الأمر شورى بين المسلمين ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾، ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾. وهو مجتمع حر يقبل المعارضة والرقابة على الحكام طبقًا لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المبدأ الخامس من مبادئ التوحيد عند المعتزلة مثل العدل، والاستحقاق، والحسن والقبح العقليين. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من فوق المنبر: «رحم الله من أرشدني إلى عيوبي»، فأجاب أحد المصلين: «والله لو رأينا فيك عيبًا لقومناه بسيوفنا». ونذكر ذلك دائمًا والمعارضة ضعيفة عندنا، في السجون والمعتقلات أو هاربة إلى الخارج.
لذلك لما كان الإسلام آخر الأديان فقد احتوى كل القيم العلمانية فيه: العقل، والعلم، وحقوق الإنسان، وديمقراطية الحكم. المصلحة مصدر للتشريع طبقًا لمبدأ «لا ضرر ولا ضرار»، «وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن». والكافر العادل خير عند الله من المسلم الظالم. والإنسان بعمله. هكذا نادى الفقهاء القدماء والمصلحون المحدثون. فأي إيهام بتعارض الدين والعلمانية هو نسيان لجذور العلمانية في التراث القديم وأسسها في القرآن الكريم أو التبعية للثقافة الغربية وإخراجها من سياقها، وإسقاطها على سياق آخر طبقًا لعقلية التعارض بين الصوري والمادي، العقلي والتجريبي، الأنا والآخر، الدنيا والآخرة، من دون الجمع بين الحسنيين.