أنا مكان.. إنها تمطر فوق سانتياغو
«لاغونا ميسكانتي» هي أهمُّ البحيرات في أعالي جبال الأنديز، وأكثرها بَداعة. وهي تقع على ارتفاع ٤٣٠٠ متر فوق سطح البحر. وكل ما يخطر لك وأنتَ تراها عن كثب، أنها بحيرة هائلة مثل صحن خرافي محمول بأركان الجبال البركانية التي تفَجَّرَتْ عنها، ذات يوم. تسطع الشمس فوقها بهدوء، كأنها لا تريد أن تؤذيَها. الصمت المُلْتَبس الذي يُخَيِّم فوقها، يملأ سُفوح الهضاب المحيطة بها بهالة مسالمة. لكأنه، هو الآخر، يريد أن يؤكد لها أن الفَوَران الجَبَليّ ليس مطروحًا، الآن. وأن التفجّر الذي أنجزها، في سحيق الزمان، صار في طوايا التاريخ الجيولوجي. لكن لا شيء يحول دون حدوثه مرة أخرى. يحذِّرُها.
مشهد لا مثيل له على سطح الكوكب الأرضي: مشهد هذه البحيرة المحمولة فوق أكتاف الجبال. الماء الأزرق الهادئ، والضوء اللازوردي المتماسك، والسراب الخفيف الذي له لون الحليب المشَرَّب بالورد، ونسيم الصحراء العليل المُحَمَّل بأريج الشجر اليابس، وأبهة الأنديز المستقرة في أعلى الكون، وأشياء أخرى كثيرة لا أريد حتى أن أذكرها، ومنها ما لا أستطيع؛ لأن العَيْن لا تَـتَّسِع. وأجدني أردد في قلبي المفعم بهذا كله: ليكن الله في عوني إزاء كل هذا الجَمال.
أجلس وحيدًا في صمت الجبل المهيب. أملأ عينيَّ من زُرقَة الماء الراكد كالزمرد في الحضيض. السماء، من هنا تبدو، أكثر زُرقة. والريح التي تجيء إلينا سالكة فجاج الجبال تصلنا محمَّلة برطوبة الثلوج في الأعالي. ولأن الروعة الكونية تأخذني، لا أعود أرى فوهات البراكين، حولي، وهي تنفث دخانها بهدوء آسر. براكين الأنديز التي لا تُحصى، وتحرس هذا الكوزموس اللامتناهي، كما يقول الهنود. الهنود الحكماء الذين، هم، وحدهم، عرفوا قَدْر هذا الكون، وأدركوا كيف يتعاملون مع ظواهره، قبل أن يدمرهم غُزاة أوربا الجهلاء.
نصعد، وننحدر جنوبًا، وقليلًا نحو الشرق، حتى نصل بالقرب من الحدود مع الأرجنتين، حيث مَمَالِح « ثالار» العملاقة الراقدة في أحضان الأنديز. ممالح فضية اللون، واسعة المساحة، تنام هانئة في مَهْدها الأزليّ. الريح تهبُّ عليها بنعومة مالحة، كأنها تريد أن تزيدها مِـلْحًا. ريح طَيِّعة، وسائبة، مثل نور خفيّ، كأنها تخشى أن تخدش وجه القاع. «لا شيء أعظم من فنون الطبيعة»، أفكِّر، وبخاصة عندما تأخذ الوقت اللازم والكافي لإنجاز ما تفعله. لماذا لا نعمم ذلك على الكائنات؟ روعة عملاقة لا حدود لها، ولا مثيل، لما أراه الآن. فليحفظني الرب حتى أرى ما هو أكثر روعة منها.
نتابع الطريق. محطتنا الأخيرة، هذا اليوم، هي بحيرة أُخرى في الأعالي: «لاغونا تايائِنْتو»، في أعالي جبال الأنديز، وليس بعيدًا من الأرجنتين، أيضًا. ألوان! ألوان! أقصد أضواء عملاقة مشبعة بألوان متمازجة كالحرير. صخور! صخور لا مهرب منها عندما تضع أقدامك على سطح هذا الكوكب الفريد. صخور تكاد تتكلّم. أيكون الهنود القدماء علَّموها فَنَّ الكلام الصامت؟ حَواف البحيرة بِيض كالملح. وحواشيها سُمْر مثل أخاديد الأنديز الهابطة من أعالي الغيم نحو القاع. هبوطُها مُسْـتَـتِر وبه حياء. فهي تَـتَخافى بين سلاسل الجبال حتى لا يراها المتطفِّل كلها دفعة واحدة. مَنْ عَلَّمها هذا؟ والقمم التي تحيط بها حُمْر آجُـرّية، كأن الشمس لم تكفّ عن شَيِّها، منذ الأزل. وحده، البصر المـُتلَهِّف جدير بمثل هذه الروعة.
أجلس فوق حجر صغير. أحسُّني أقرب إليه، وأكثر شَبَهًا به من أي شيء آخر. لا أدري، لماذا. ولا يهم حتى إنْ درَيتُ. أجلس لأكتب بعض الأحاسيس التي تنتابني بعنف من جرّاء احتدام المَـشاهد في الطبيعة، وتداخلها في العين، وانغماسها في القلب. أحاسيسي العابرة التي بدأت تبدو لي كأنها أبدية، وكل ذلك من قسوة الروعة. أحاسيس كائن كان محرومًا قبل اليوم مِمّا هو شبيه بما يراه، الآن. فليس الحِرْمان قِلَّة الإدراك، فحسب، لكنه، أحيانًا، «العدم». أو هو، بمعنى آخر: «التشابه» المخيف الذي لا يترك للعين مهمة الاختيار، ولا للعقل طاقة التفكير. أجلس طويلًا في خُمول العصر الصغير، حيث الضوء الباهر يُـمْتَصُّ، الآن، بسهولة، وبلا مشقة، من قبل العناصر. في الأُفُق البعيد تلوح الهضاب مثل أجمات بلا سُكْنى، وهي مع ذلك، أَليفَة، وقريبة من القلب. لعناصر الطبيعة، هنا، بُعْد خرافيّ ناجز، لا يحتاج إلى برهان. وهي التي تُفْرِز هذا الإحساس بعفوية نادرة. وأكاد أفهم العقل الهندي المفعم بالطيبة والامتنان لآلهة الأنديز، حتى وهي في أقسى حالاتها عنفًا. وأروح اقتَرِب على مهل، من البحيرة البيضاء، مثل كائن تخلْخَلَ توازنه العاطفيّ، وأنا أُردد: «القبح محدود، أما الجَمال فبلا حدود».
أرض النـــار
هذا الصباح، سنسافر إلى الصحراء التشيلية، ذات العجائب الكثيرة: صحراء «آتاكاما» التي تُطاوِل سلاسل جبال «الأنْديز» منذ بداياتها إلى نهاياتها في القطب الجنوبي للكوكب الأرضي. تعد «آتاكاما»، الصحراء التشيلية الآسرة، من أقسى صحارى «الكوكب الأرضي». وكما أوضح علماء البيئة والجيولوجيا، حديثًا، يستحسن استعمال عبارة: «الكوكب الأرضي»، على التسميات القديمة، مثل الأرض، واليابسة (تذكيرًا بالطوفان)، والقاع (تذكيرًا بالسماء)، والكرة الأرضية، وغيرها؛ لأن الاكتشافات الحديثة بيَّنَتْ كم هو شديد الوسع واللامحدودية هذا «الكوزموس»، أو هذا «الكون». وليست الأرض، أقصد «الكوكب الأرضي» إلا ذرة في رماله. ويقولون: إننا لا نستطيع حتى مقارنتها بذرة رمل إذا ما أخذنا في حسباننا بعض ما يحتويه مركب الكوزموس اللامتناهي من كواكب وضَخامات. لنعُدْ إلى الأرض.
جبال الأنديز هي العمود الفقري للقارة. وهي صلة الوصل لكل بلدان الجزء الجنوبي من القارة الأميركية. عَبْرها تصعد الدروب حتى «آلاسكا» في القطب الشمالي للكوكب. تبدأ من أقصى الشمال فوق «بوليفيا»، وتنحدر مطاولة ماء المحيط حتى «أرض النار» في الجنوب. تبدأ عالية، شامخة، ومليئة ببؤر البراكين الحيَّة والميتة، أو «المقتولة» حسب المعتقدات الهندية؛ (لأن بركانًا «فَحْلًا» يمكن أن يقطع رأس بركان آخر أقلَّ فُحولة منه، أي أقل عنجهية وارتفاعًا، وبخاصة إذا كان مجاورًا له). وهي، في بداياتها، تبدو متعددة الأنواء والمشاهد والقمم، ولها صفحات أرضية عجيبة تكاد تَقْرأ عليها تاريخ الكوزموس. وشيئًا فشيئًا، تتَطامَن كلما انْحَدَرَتْ نحو الجنوب حتى تتحَوَّل، عند «كابْ دو هورْنْ»، إلى فُتاتٍ جبلية متناثرة. وأحيانًا تُرى في هيئة هضاب متفرقة لا هيبة لها وإن كانت مملوءة بالجَمال، أو في هيئة جُزُر صغيرة محدودة، قبل أن تغرق في ماء المحيط. أريد أن أقول «المحيطات»؛ لأن التقاء الماء بالماء لا حدود له، وإن كان البحّارة الشياطين أعطوا لكل بقعة من الماء فوق سطح الكوكب الأرضي اسمًا.
كان« ماجِلّانْ،» البحار البرتغالي العنيد، الذي يعمل في خدمة الإمبراطورية الإسبانية، أول مَنْ لاحظ أرض التشيلي العجيبة، وقرر اكتشافها، وسَبْرها من أجل تجارة التوابل التي كانت مطلوبة جدًّا في ذلك الوقت. وقد كان هو نفسه يبحث عن مَعْبَر، أو قناة اتصال، أو منْفَذ، أو ممرّ بحري يسمح له بعبور القارة الجديدة من دون أن يكون مضطرًّا للدَّوَران حول الأرض. وعندما وجد مصادفةً مضيقًا جنوبيًّا سَلَكَه. وهذا المضيق قاده من «بحر الظُّلمات» الذي أرعب البحارة العرب عندما رأوه، إلى بحر آخر جديد أكثر هدوءًا وأقل اضطرابًا، سَمّاه: «المحيط المسالم»، أو المحيط الهادئ. وسُمِّيَ المضيق الذي اتخذه طريقًا بـ«مضيق ماجلّان».
على طول الطريق المضيقيّ الذي سلكه في رحلته، كان الهنود يشعلون النيران فوق الأكمات، وكان ثَمّة، أيضًا، نيران محبوسة في باطن الأرض تنبثق تحت ضغط الاحتكاكات اللاهبة لصفائح القاع العميقة، وكانت تلك اللُّهابات المتناثرة تنعكس على صفحات الماء فتبدو الأرض كأنها تشتعل نارًا، فسمّاها: «أرض النار». وما هي، في الحقيقة، إلا النَّثَرات الأخيرة الباقية من جبال الأنديز قبل أن يبتلعها ماء المحيط في أقصى نقطة من جنوب الكوكب الأرضيّ.
هكذا نرى أن تاريخ المعرفة الإنسانية القديم، أو تاريخ الاكتشافات الأولى، يكاد يتلخَّص بأمرين: التجارة، والغزو (إذا عددنا، ولو عن غير حق، أن الغزو، يمكن أن يكون، أحيانًا، ذا بُعْد «معرفي»، من دون أن ننزع عنه روحه العدائية، إن لم تكن الهمجية!).
في الصباح الباكر، أتجوَّلُ وحيدًا، في القرية الهندية، في أقصى أعالي التشيلي، بالقرب من «بوليفيا»، ومن «البيرو»: قرية «سانْ بيدرو دي آتاكاما». وهي واحة صغيرة، بالكاد تكفي لعشرات الهنود، في صحراء «آتاكاما» الهائلة والمهيبة متعدِّدة الألوان والمرائي في تلك القرية المجرّدة من معطيات الحداثة، ومن تزييناتها، تحس الهنود لا يأبهون بأحد. ولا يكادون ينظرون إلى العابرين. يتحركون بانسيابية وبلا ضجيج كأنهم يمشون فوق ماء. وعندما تحدثهم يَـرُدّون بأقل الكلمات، وبلا حركات إضافية. لكنهم ينظرون إليكَ بعمق كأن البَصَر عندهم هو مصدر الفهم. وما حَرَكات الجسد الأخرى إلَّا عون إضافيّ لشرح ما يريد الهندي أن يعبِّر عنه، أو يوصِله، باقتضاب، إلى محدثه.
شيء من الرِّقَّة والحذر يغَلِّف وجود الهنود. لكأنهم أدركوا، للتَّوّ، مدى الخسارة الرهيبة التي تكبَّدوها. وصاروا مضطرين، بفعل الغزو الهمجيّ العنيف، والتدجين اللاإنساني، أن يعيشوا بشكل أكثر انغلاقًا، وارتدادًا إلى الأعماق، بعد أن كانوا يعيشون بتناغم وانسجام مع «باشا ماما» (الأرض الأم) التي كانت تأويهم بحنان.
يتصرف الهندي بهدوء وحَذَر، ولكن، لِـمَ يتكلَّم بعينيه؟ الكوندور واللاما والجبل والريح والشمس والثلج، عناصر الطبيعة، هذه، هي التي علَّمَتْه ذلك؟ فهو لا يحيا من دون أن تحيط به. أما هذه الرائحة، رائحة الشجر، أين شَمَـمْتُها؟ أَوَلَمْ يكن ذلك، ذات مساء في «دمشق»؟
في «سان بيدرو دي آتاكاما» أنت في عَصْر آخر. عصر مليء بالضوء والهدوء. بيوتها واطئة وعتيقة، مبنية من الطين والتِّبْن والقصب، تذكّرني ببيوت «الجزيرة السورية» القديمة التي كبرتُ في أعطافها. هنا، لا تَلَوُّث، لا زحمة سيْر، لا عجالَة فارغة، ولا تَسَرُّع في الحركة أو الكلام. كل شيء يسير وفق نظامه الخاص، ويهفو نحو مصيره البسيط، البَيّن، المحدود، الذي يبدو، مع ذلك، شديد الغموض. أي قَدَر ألقى بنا، نحن الآخرين، في معمعة الضوضاء والعجالَة؟ في فضاء التحدّي والعدائية والتسلّق والتوتر والنفور والاستياء… والموت أحيانًا؟
العودة إلى «أمهم الأرض»
مصيرنا البائس، الديني والمديني الذي يدمِّر غبطتنا المحتملة، لا يعني عند الهنود شيئًا؛ لأنهم لا يخشون، في مذهبهم، عقابًا، ولا ينتظرون ثوابًا. هم هنا الآن مع الـ«باشا ماما»، أرضهم الأم التي تعطيهم كل شيء. وعندما «يختفون» (بلغتنا يموتون) سيعودون إليها، من أجل أن تغدو أكثر غنًى بهم، بعد أن تحلِّلهم إلى عواملهم الأولية؛ لكي تطعم غيرهم بما خلَّفوه. « الموت» الذي يخيفنا نحن، ويملؤنا بالحزن والرهبة، لا يعني عندهم سوى العودة إلى «أمهم الأرض»، بلا ندم. لا وجود للحزن المرتبط بالموت عندنا، في عقائدهم أو تصرفاتهم أو سلوكهم.
الحياة، في تَصَوُّرهم، دورة طبيعية تبدأ وتنتهي، ببساطة، مثل دورة عناصر الطبيعة الأخرى. والإنسان، في اعتقادهم، ليس مركز الكون، كما هو في «الديانات التوحيدية الثلاث» التي نشأت في المشرق العربي، حصرًا، ومنه انتقلت إلى بقية أنحاء «المعمورة»، لكنه عنصر من عناصر هذا الكوزموس اللامتناهي. إنه، الإنسان، «ابن الكون، وليس سيّده». وعليه أن يتصرّف على هذا الأساس؛ أن يخضع لقوانين الطبيعة، لا أن يُخْضِع الطبيعة لنزواته، وأوهامه، ورغبته في السيطرة اللامحدودة على الآخرين، وعلى الطبيعة، وعلى نفسه، أيضًا.
بعد قليل سأترك «سان بيدرو دي آتاكاما»، واحة الصحراء الخاتلة تحت جبال «الأنديز». سأتركها وفي نفسي شيء منها. أحببت الهنود الصامتين مثل صخور الأنديز المقدسة. أحببت البراكين المتحَفِّزة للانفجار. أحببتُ الضوء والضياء. وماذا أيضًا؟ في طريق العودة نخترق الوديان والانهدامات. كُتَل حُمْر مشويّة بالشمس متروكة وحيدة في عراء الكون. مُسَنَّنات من الأعالي تهبط بقسوة نحو القاع. مَشْقوقات من البنية الجبلية. فجاج مثل فجاج جَسَد مَذْبوح. وسُهَيْلات صغيرة يُـلَـوِّثُها الذرار الأبيض المِلْحيّ الذي تَـذْروه رياح الشمال القادمة من «البيرو». وأشياء أخرى لا تحيط بها اللغة! لماذا تَخَلَّى الهنود عن هذه الكنوز الأرضية ذات الطبيعة القُرْمُزية؟
هذه الطبيعة العجائبية تملؤني بالرغبة في البكاء. ولكن كيف يمكن أن يفيض دمعي، والجفاف الكوني يشويني؟ يُحيلُني إلى كائن آخر مليء بالصمت والقلق. وأصير أتنَفَّس بهدوء، وبعمق، ساحِبًا بصري من أعالي الجبال لأصبّه على الهضبة التي أصبحتْ لصق عينيَّ. وأسمعها ترحب بي بحنان، مثلما كانت تفعل أمي: يا هلا بالقادمين! وأردّ التحية بأحسن منها، وبأعلى صوتي، دون الاهتمام بمن حولي من العابرين: سلامًا، أرض الهنود، سلامًا.
بعد ساعات من السفر في الصحراء، نصل إلى قرية «شيو شيو»: العندليب، في أقصى الشمال التشيلي. فيها نرتاح قليلًا قبل متابعة انحدارنا نحو سانتياغو في الوسط. في منتصف الطريق الصحراوي، تحت الشمس اللاهبة مثل شمس «الجزيرة السورية»، وفي مَعْمَعَة العَجاج الصاعد نحو الغيم، أقف. أقف وأكتب، متسائلًا: «إلى هنا وصل الغزاة؟» وأدرك أنه لا حَدَّ للتوسُّع عندما يبدأ. والتوسّع ليس جغرافيًّا فقط، قد يكون ثقافيًّا، أو علميًّا، أو سلوكيًّا، أو… لماذا لا نفهم، نحن العرب، ذلك؟ أكتبُ. أكتب وأنا أُلاحق الغبار. غُبار «شيو شيو» في أعالي الأنديز. غبار «العندليب» الذي اختفى من هذه الأنحاء، مع الهنود إلى الأبد.
بوكارا دي لاسانا
على طريق العودة نحو سانتياغو، نتوقّف عند خرائب «بوكارا دي لا سانا»: الحاضرة الهندية التي دمَّرها الإسبان عام ١٥٣٢م، عندما وصلوا إلى هذي القفار والوديان. كانت «بوكارا» عامرة ومزدهرة، كما يقولون. يدل على ذلك أبنيتها المتراصفة بنظام مدينيّ قويم، والمتراكب بعضها فوق بعض طبقات على نمط البناء «الحَضْرَموتيّ» في اليمن الذي «كان سعيدًا». أنشأها، أول مرة، الهنود «الأتاكامانَيزْ»، وهم السكان الأصليون لصحراء «آتاكاما». من بعدهم، حَصَّنَها الهنود «الأنْكا» الذين استولوا عليها بعد حروب ومعارك متكررة.
كان «الأنكا» يتمتعون بطاقة عسكرية قوية، وبشبكة رَيّ تعد حديثة في تلك العصور. وقد جَلَبوا لهذه الحاضرة ولنواحيها الخصب والازدهار. وجعلوا من هذا الوادي المهيب، وادي «بوكارا» مركزًا ناميًا وحيويًّا، آنذاك. كان العداء شديدًا بين الأنكا، وجيرانهم الأتاكامانيز. وهذا العداء هو الذي سَهَّل احتلال الإسبان للمنطقة، من دون خسائر كبيرة. وقد عرف الإسبان كيف يغذّونه ويستغلّونه من أجل إخضاع هؤلاء وأولئك. استغلّوا العداء «البدائي» بين قبائل الهنود ليقيموا مراكزهم «المتحضّرة» في قلب عالَم لم يكونوا يحلمون بمثله (يذكرني هذا بحالنا في العالم العربي، اليوم. فنحن هنود العصر الحديث، بكل تأكيد).
في خرائب «بوكارا»، نرقى القلعة القديمة، التي لا يقلُّ علوها عن عُلو «برج بابل» الأسطوري. وقد أصبحت، اليوم، بعد التدمير الذي لَحِقها، خرائب، وكُسورات، وأكوامًا ترابية، وحُجَيْرات مُهشَّمة، وأساطير. صارتْ، مثل تِلال «الجزيرة» الحمراء، هضبة عالية، تحيط بها الوديان من جميع الجهات. على مقربة من هذه الرِّمَم، أُقيمَتِ القرية الحديثة. أما «القلعة المهَدَّمة» فقد أصبحت مقدسة، لا لسبب ميتافيزيقي، ولكن لأن «الرجال الطيبين»، أجدادهم الأوائل، دُفنوا فيها. وهو ما يعني، للهندي، الامتزاج الكامل بين الكائن والمكان. فوجب تقديسه.
بعد قليل، سنخلِّف هذا الضوء الأبيض على الأرض، ونترك السماء الزرقاء فوقنا، ونغادر هذا التراب الذهبيّ، تراب أرض التشيلي الخالدة. ونعود. لَكَمْ يبدو ذلك ثقيلًا على القلب: «العودة». العودة التي ستجعلك تَتَخَلّى عن الأمكنة التي أحببتها، كأنكَ ولدتَ فيها. وأجدني أتساءل: «ما سِرُّ هذا الارتباط المباشر والعفوي بيني وبين الأمكنة، حتى تلك التي لم أَرَها من قبل؟ ولِـمَ هذا التَعَلُّق الآسر بها»؟ وأحسُّني مدفوعًا بنَزْوَة عميقة لزيارة أخيرة لقصر «لا مونيدا»؛ القصر الذي «قُتِل» فيه «سلفادور ألينْدي» عام ١٩٧٣م.
في ساحة القصر أقف بصمت، مدة طويلة. أكاد أنسى موعد الرحيل. شَغَف عميق وجميل يملؤني بما لا أعرف كيف أصفه. المكان الذي هو الآن في وجهي يغدو هائلًا ومُريبًا. أحسه يتكلم. يكلّمني. يراني وأراه. يودّعني قبل أن أقوم أنا بتوديعه، وأرى في الأفق القريب مكتوبًا فوق السراب: «إنها تمطر فوق سانتياغو»، الجملة التي أسَرَتْني في صباي. اللعنة! مَنْ خَطَّها، الآن، في السماء؟ وعلى الحجر أسمع الكلام الأخير الذي تَلَفَّظَ به «أليندي» قبل أن تخترق الرصاصة رأسه: «إنني مؤمن بشعبي». ويُدَوّي الظلام.
أقف طويلًا في ساحة القصر بلا حراك، كَـمَـنْ أصابه شَلل مفاجئ. تملؤني نَـمْـنَمَـة وخَـدَر. أحس إلى أي حدّ يختلط قلبي بالمكان الذي أقف فيه، حتى أصير أشتهي أن آكله. أقف، وأنا أُردد :
«عدْتُ إلى «لا مونيدا» لأوَدّعه.
أحبُّ أن أُوَدِّع الأمكنة،
ولا أحب أن أُودِّع الناس.
أنــا مكــان».