التنمية والثقافة: مظاهر التداخل وحدود التأثير
تتخذ العلاقة بين التنمية والثقافة أشكالًا متعددة، وتتسم بخصائص غاية في التعقيد؛ لكن ما يبدو للعيان من أواصر تلك العلاقة هي مظاهر التداخل، وحدود التأثير لكل منهما في الآخر. قد تتشكل بعض مظاهرها في النواحي الشكلية للباس والمظهر أو التعاملات بين الأفراد والجماعات (في إطار الإيتيكيت)، وقد يكون لها أبعاد عميقة، وتنبني عليها التطورات الحياتية، وفهم التنمية المرغوب الحصول عليها. ولكون اللغة أقوى عناصر الثقافة، وأكثرها شمولية على المستوى العام للمجتمع، والمستوى البيولوجي للفرد (في وظائف دماغه لتخزين العناصر، وتكوين عقله للتفكير في الأشياء وتصنيفها وتحديد علاقاتها به وبالكون)؛ فإن إطراء تلك المظاهر الشكلية بعناصر لغوية مؤثرة يزيد من الاعتزاز بها، وإدراجها في مراحل تنمية المجتمع بوصفها مكونات ثقافية. كما أن إدراج مصطلحات خاصة ببعض القيم، التي تعودت الجماعة على الإعلاء من شأنها، يجعل أفرادها ومستخدمي لغتها ينظرون إليها بوصفها مرجعيات أخلاقية في كل مفاصل الحياة. وهنا تبدأ التشكلات للحدود الثقافية، والتاريخ العرقي أو الديني أو حتى أدبيات بعض المهن وعدد من الفنون.
وفيما يمكن أن نطلق عليه التأثيرات المتبادلة، تبدأ تلك الخلفيات بالتأثير أيضًا في اللغة؛ فتُسهم تلك الرموز اللغوية، التي تحمل القيم المثالية في التأثير في مكانة النظام بكامله. والواقع أن قيم الفكر تستمد قوتها –بصورة مطلقة– من تكامل النظام اللغوي (شبكة العلامات الدالة)، الذي يصبح قابلًا للضعف كلما زاد عدد المضامين غير الواقعية فيه، مقارنة بالأنظمة اللغوية الواقعية المجاورة، المتداخلة معه في تنافس حضاري.
ويلاحظ أن القيم الناتجة عن الطباع السلوكية للفرد ترتبط بدوافع عملية تحكمها العلاقات أو المصالح المادية أو المعنوية. بينما ينساق المرء إلى القيم الموروثة بوصفها الطريق القويم للحياة السوية، وفي المقابل يرى أن ما خالف ذلك من قيم أو مناهج حياة أو سلوك ما هي إلا انحرافات غير جديرة بالاحترام. وعند التعامل مع تلك العناصر يلاحظ أن المرء لا يحتاج فيها إلى إبداء الأسباب لما يصنعه أو لما يتوقعه من الآخرين؛ لأن تصرفاته وفق منظومة القيم تكاد تكون بديهية، كأنها من طبائع الأشياء ونواميس الطبيعة. من أجل ذلك لا يستطيع من نشأ في بيئة معينة، عاش فيها طوال حياته، أن يحكم بموضوعية على القيم الموروثة، أو يقارنها بقيم بيئات أخرى؛ لأنه أولًا تشبّع بها بوصفها السبيل الوحيد لرؤية العالم من حوله على ما فيه، ثم الحكم عليه. وثانيًا لأن لغته قد تكوّنت وفق صيغ معينة ابتعدت فيها أنظمة العلامات من البؤرة، وصارت تلك العلامات أشبه ما تكون بالمنشورات الضوئية التي تتكسر عليها أشعة الضوء، فتُغير مساراتها.
وتختلف المجتمعات في تكوين موروثها تبعًا لاختلاف النماذج التي تحكم أطر العلاقات بين أفرادها؛ وهي نماذج تحدد مكانة العقل في تلك العلاقات، وتبرز من خلالها قيمة الفرد في بناء المجتمع وفي تكوين ثقافته. ويمكن القول مبدئيًّا على سبيل التقريب: إن الإطار العام في المجتمعات الغربية اقترن بنموذج الحداثة؛ مما أسهم في بروز قيم من مثل: الإعلاء من مكانة الفرد، وارتفاع مستوى العقلانية، ووضوح أطر المرجعيات بصورة دقيقة، بينما غابت تلك الأسس أو بعضها عن النماذج المستوردة في المجتمعات العربية، مما جعلها تمثل بناء طارئًا أو مؤقتًا. وإذا أُضيف إلى ذلك طبيعة المجتمعات المحافظة في شبه الجزيرة العربية، فإن أصل المشكلة في تلك المجتمعات يصبح ممثلًا في الضدية بين أنساق التحديث وأنساق التراث.
فمن السمات العامة للعقل العربي العودة دائمًا إلى نقطة انطلاق تتحدد بنص أو بشخصية تاريخية، مما يُخرج التفكير أو الحوار عن الموضوعية، ويُبعد المتلقي من فهم الموضوع ومتابعته. ولهذا فإن البنية التقليدية للشخصية العربية تتسم بسمات يسود فيها الافتخار بالذات، وعدم تقبل النقد الموجه إلى المجموعة، ورفض الإقرار بالأخطاء. يضاف إلى ذلك أن خوف الشخصية من النقد، وإحساسها العالي بالكرامة يجعلانها تمارس درجات متطرفة من المجاملة؛ بسبب الخوف من فقدان المكانة. ولهذا نجد هذه الشخصية تلجأ إلى الكلام المتصنّع، وتُحجم عن إعطاء معلومات غير سارّة. كل ذلك يجعل توجّه أفراد المجتمع نحو التقنية بما فيها من واقعية ودقة في المعلومات أمرًا في غاية الصعوبة. (بولس الخوري: التراث والحداثة: مراجع لدراسة الفكر العربي المعاصر، (بيروت: معهد الإنماء العربي، 1983م)، 249؛ 251). وتسمو في عمق الثقافة العربية صفة لها طبيعة الاستمرارية في مراحل الثقافة، وهي إعطاء قائل الكلمة أو العبارة أو المثل أو من تُنسب إليه أي منها دورًا في تقبّل مضمونها من دون معرفة خصال ذلك القائل، أو سمات الشخص المنسوبة إليه تلك العناصر. وقد تكون هذه الصفة أحد أسباب الاهتمام بقائلي أبيات الشعر المشهورة، أو محاولة التعرف على قصة المثل أو معرفة تفاصيل أحداث الحكاية الشعبية، لكي تصبح تلك الصفة موئلًا لنسبة العناصر اللاحقة التي تتلاءم مع مضمونها إلى ذلك القائل أو البطل الأسطوري.
كما تتطلع المجتمعات الحية إلى ترسيخ مكونات الثقافة في سبيل إعلاء مستوى التنمية، وهو أمر معروف ومشهود في تاريخ البشرية؛ لكن هل التطلع أو الرغبة يكونان كافيين لحدوث ذلك بطريقة فاعلة، وبأقصر الطرق وأسرعها وأكثرها نجاعة وأقل التكاليف؟ أم إنه لا بد من أن تتحقق شروط واقعية لتهيئة الظروف لذلك التوظيف الناجع، والمناسب لكل من الثقافة القائمة والتنمية المرغوبة؟ في إجابة تعتمد على التحليل المنطقي، ستكون المحصلة أن الشطر الثاني من السؤال هو الذي ستكون الإجابة عنه بالإيجاب. فكل المجتمعات لا بد أن تبحث عن مصادر القوة في الثقافة، من أجل توظيفها في رفع عوامل التنمية. ولنا في تميز ثقافة الإغريق القدامى مثل على ارتباط التنمية الناجحة بتوظيف الثقافة السائدة؛ فقد اعتادوا في عصرهم الكلاسيكي القديم من القرن السادس حتى الثالث قبل الميلاد على أن يسافروا مدة طويلة على الرغم من قسوة الظروف رغبة منهم في مشاهدة مسرحيات أو الاستماع إلى قصائد من الشعر في إبيداوروس ابتداءً من الفجر حتى الغسق لأيام طويلة وهم جالسون في صفوف محيطة بالمسرح.
وفي الحقيقة إن الإغريق ووارثي ثقافتهم في العالم الغربي الحالي يتمتعون بحس قوي بالفاعلية الشخصية (الإحساس بأنهم مسؤولون عن حياتهم، وأحرار في العمل حسب اختيارهم)، ونجد أن أحد تعريفات السعادة عند الإغريق هو أنها تتألف من قدرة المرء على ممارسة إمكاناته وقدراته، لتحقيق التميز والكمال في صورة حياة لا تعرف الضغوط والقيود. واقترن الحس الإغريقي بالفاعلية الشخصية بحس قوي بالذاتية الفردية؛ فرأوا أنفسهم أفرادًا متميزين لهم صفاتهم وأهدافهم المتباينة. (ريتشارد إي نيسبت: جغرافية الفكر – كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف… ولماذا؟ ترجمة: شوقي جلال. عالم المعرفة 312 (فبراير 2005م). الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ص ص 25 – 26.). ومن هنا كانت النماذج التنموية المعتمدة على قوى الفرد الذاتية هي الأكثر نجاحًا في اليونان القديمة، وفي الغرب الحديث.
فماذا عن مصادر القوة في الثقافة العربية؟ المتتبع لمكونات تلك الثقافة، التي استحوذت على مقومات تفكير العرب في أغلب حقبهم، يجد أن العنصر المشترك في المراحل المختلفة هو مبدأ «تقدير الزعيم» (أو القائد أو رئيس العشيرة ومن يتولى وظيفة مهنية أو روحية مهمة). لذلك كانت نجاحات بعض التجارب التنموية أو السياسية والعسكرية العربية مرتبطة بالبناء على تلك الخاصية عند الجماعة، التي التفّت حول شخصية قيادية متميزة في دورها، وكانت لها من سمات الكاريزما ما يؤهلها لأن تكون النموذج المطلوب للتقدير والطاعة.
مثلما أن طبيعة التعبير عن ذلك الإعجاب والتمثّل يكون لغويًّا، وبخاصة أن العرب يرددون بعض أقوالهم المأثورة وأشعارهم وأمثالهم وحكاياتهم بوصفها حقائق جازمة وحِكَمًا ثابتة. وهذا يقودنا إلى ما سبق ذكره من عناصر اندماج الثقافة في مكونات التنمية؛ من أن جزءًا كبيرًا من تلك العوامل لغوية الطابع. حيث إن عددًا كبيرًا من عوائق التنمية له جذور لغوية، أي أن أساس المشكلة يكمن في اللغة، لأن اللغة علاقة وجود وعلاقة حياة بأكملها؛ حياة الأمم والأفراد، وقد غدت التنمية اللغوية أساسًا للتنمية الثقافية، وضمانة نجاح للتنمية الشاملة والمستقلة. ومن أقوى المعوقات التي تتسم بها الثقافة العربية هي وضع الأشياء في غير موضعها؛ وعندما تستقر هذه الظاهرة من خلال مقولات شعبية يرددها الناس في كثير من أحوالهم، فإنها تصبح ثابتة الأثر في صنع معوقات في سبيل التنمية.