بواسطة أحمد الملا - شاعر سعودي | يناير 1, 2020 | نصوص
وُلِدتُ قُربَ الجملةِ الأخيرة من فصل الخوف، بمجرّد وقوعِها على الأرض، نشفَ الكلام في فمِ الشيوخ الخاشعين في المعاجم، قرعَ النحس نبوءاته، وتخلّى الضحك عن الصغار عنوةً، وأخذوا يرطنون بصفيرٍ مريب.
لم ينبّه الأشجارَ خلوُّ الأعشاش، ولا نباح الكلاب وسُعار جرائها.
سرعان ما انزوى الكبار وتساقطوا، سمّمتْهم الخيبة واحدًا تلوَ الآخر.
رأيتهم يتلثّمون بالحزن، ويعتزلون النخيل.
المجانين آخِرُ مَن فقدنا.
في الأسواق تتسوّل لغةٌ طارئة، لم تجد حُماة يدلّلونها بتصغيرِ أسمائنا، ولا أغانٍ ترقِّق من مشقّة العمل. انتفخَت كلماتُها وتشقّقَت، تطايرت الأوراق مصروعةً تنزّ أشداقها وترغي. لغةٌ هوجاء حشدت رغاءها دون رُعاةٍ عطوفين، ولا نحاة ينحنون ويحنُّون أو يحزنون.
في غفلة من الأمهات، نبَتَ أشباهٌ قساةٌ بين عتباتنا، لا يميّزهم مكان ولا وضعوا الوقت في بيوته، توحّشَت عيونهم وصمّت آذانَهم الصيحةُ حين نبشوا بمخالبهم بطون الكتب.
قساة، شبّهنا بهم أخطاء آبائنا، أرعبهم مغزى القصص، سَلَحوا على رواتها، نهبوهم النهايات قبل حينها وأجبروا قرّاءها على النسيان.
ها هم يطعنون الكلمات الفارّة بنصالٍ معقوفة، يبقرونها وينثرون حروفها للهوام.
لم يعد من الحكمة أن تقول، ليس من الحكمة أن تردّدها، فالحرس يحكمون الطرقات، يحتكرون المعابر ويسدُّون الدروب.
ابلعْ لسانك
وتريّثْ قبل جريرة التأويل
عليك تنقية القواميس من كلِّ شكٍّ ورائحة.
ليس لك أن تقلّب الفكرة، كي تتخيّر ما تريد؛ عجّلْ بدفنها ولا تتردّد.
مفرداتٌ لا تأمن في الخروج على عفّتها، أغلقنا الأبوابَ دونها، أوصدنا عليها النوافذ، وحين ضاقت بنا، وأطلقنا مُكرَهين سراحَها في الفضاء، ترصّدَها قنّاصةٌ من أعلى المآذن، تناثر الريش ولطّخَتِ الغيمَ حُمرةٌ سالت من الأسطحِ والمزاريب.
هربتُ إلى خلاء الصمت، موصومًا بالغدر، طريدًا وملعونًا بالأضداد.
خلفي مدينةٌ ترجم المجاز، تدقّ المسامير في كفيه مصلوبًا على الأبواب، مدينةٌ تفتّش ثياب الحروف؛ خشية تهريب المعنى، كنت أنزعه واحدًا واحدًا من فوق الأرفف، ألفّ جنبيه بخرقة، أخبّئه في النهار عن أعين المارة، وفي الليل أغطّيه بحيلة النوم.
لو نطقتُ بما لا يُفهم،
لو أفلَتَ عقال الغامض،
لتعقّبته كلابُ الصيد،
يُقاد من رقابه، عاريًا بلا قناع،
يُطاف به الأسواق، عِبْرةً، ويُعلّق رأسه على الأسوار.
تضاءل الكلام، حتى ضَمُرت العبارة،
لا النطقُ بها يجدي ولا صوتٌ يعلو فوقَ عقيدةِ القتل.
شحُبَتْ الكلمات وشيّعناها بالأعين ورششنا نعوشها بـ«المحو».
لجأتُ إلى الصمت، لُذْتُ بظلِّه بعيدًا عن حراب البنادق، حديدِها أرهقني برنينٍ رتيب يحكُّ الجدران، حطّابو الإشارات أحرقوها ولم تنجُ منها علامة.
ما الذي ترتابه أعين الحراس؟ تفتّش الغايات وتفسِّر ما بين السطور.
حملتُ الصمت بين أضلاعي وفررت،
ها قد خلَتْ من بعده الصفحات، صُفّت الجنائز تباعًا وتراصَّت القبور.
ها هم يطلقون الرصاص من كل صوب، وكلما نُكِّلَ بجثّة نصبوا خيالها في الحقول وارتجلوا عدوًّا يحشون جيوبه بالقشِّ وأكمامَه بالوهم، ساوَت الأرض بدُخَانِها بين قاتلٍ وقتيلٍ، كلٌّ يخطُّ بصراخه الأجش، الفصلَ الأخير من فهرس الخراب.
بواسطة أحمد الملا - شاعر سعودي | نوفمبر 1, 2017 | بورتريه
ليس بقرينه الشعر، ولا عبر مقالته المستمرة منذ عقود، ولا برواية أصدرها متأخرًا؛ يمكن أن تتعرف عليه. من لم يعرف الأستاذ حسن السبع عن قرب، عليه أن يجد أكثر من بديل ليواسيه في هذه الحياة.. إذ يندر امتزاج تلك الفرادات الشخصية في كائن شفاف.. شيخ بين الشيوخ، يفضحه قلب طفل، مفعم بحماسة الشغوف بالحياة وهو يراها مقبلة.
لن تعدم أن تجد فيمن حولك، المطبوع شعرًا ورقة، ولربما تجد الصديق المازح بتقدير والبشوش عند كل لقاء.. وربما تعثر على متأمل في اللحظة الراهنة بوعي معرفي، التراثي في استشهاداته الملتقطة من بطون الكتب العتيقة.. وستجد من له خَصلة العطف والحنان على عثرات الأصدقاء. العاذر عند السهو، المتعفف عن مزاحمة اللاهثين، المشفق على الآخرين والساخر بضحكة يستر انفجارها بيد خجولة.. نعم ستجد من يتمتع منعمًا بخَصلة مما سبق، لكن حسن السبع يوفر عليك مجلسًا مكتظًّا بكل وجوهه السمحة، ويأتيك بكله لا راجيًا ولا ثقيلًا.
تعرفت عليه في رواق المبنى الخلفي لمقر جريدة اليوم نهاية الثمانينيات، وكان القسم الثقافي في عهد إدارة المرحوم شاكر الشيخ.. بين زملاء أعزاء -لم ينجُ أي منا من سهامه بالطبع- منهم الصحافي الفذ عبدالرؤوف الغزال، وسمير الفيل، وأحمد سماحة، وعبدالرحمن السليمان، وعبدالعزيز السماعيل، ومبارك الحمود وآخرون.. أذكر أنه كلما وُزِّعت المهام علينا تخاطفنا قبله ما يلمع، وكعادته يأخذ حصته الخفيفة الضوء والعميقة تأثيرًا، لتكون صفحة كتابات القراء التي تقدم الواعدين إبداعيًّا نصيبه الأول، إلى جانب تناوبه على كتابة افتتاحية الملحق الثقافي، يحرز البريد القادم من شتى الأرجاء ويحرر الصفحة ويعكف عليها في منزله على مهل العارف والحنون على المستقبل.. بخطه الأنيق والمنقوش، الذي اعتدنا أنه المادة الوحيدة التي يدللها قسم التصحيح بين سائر مواد المحررين.
لم أسمع يومًا أن أبا نزار ذكر دوره الأبوي لاسم واحد من الأسماء الأدبية التي اكتشفها ورعاها بالعناية والتوجيه. كان ينشغل بدلًا عن ذاك بالمشاكسات الطريفة واللذيذة التي تخفف من جهامة العمل وضغطه، وتشعّ بالبهجة في تلك الصالة القصية من مبنى التحرير الفقير في بادية الدمام.
كأني أراه الآن منتظم الحضور حد الساعة والدقيقة، بهندامه الناصع الأنيق وأوراقه المنظمة والمعادة كتابتها من دون كلمة واحدة معدّلة. لم أره غاضبًا إلا مرات قليلة، وكم تمنيت حينها أن يتكرر استفزاز الشخصية الساخرة فيه، تلك الشخصية التي تهجم مثل فارس نبيل، حاضر البديهة، لاذع الإشارة.. التي بقيت في ذاكرة الزملاء في القسم الثقافي منقوشة على الرغم من هجائيتها المتعففة عن البذاءة في تعليقات خلدناها وفي أبيات شعرية لو جمعت وحدها لكانت قراءة في مرحلة صعبة من الزاوية الأصعب، يمكن تسميتها: التهكم الثقافي.
هكذا عرفته
هكذا رافقته
هكذا أحبه وأراه
وهكذا ودعته إلى الأبدية.
بواسطة أحمد الملا - شاعر سعودي | مارس 17, 2016 | شعر, نصوص
شدّتني شجرة من كتفي؛ أخَّرتني لحظة عن دهسي بشاحنة متهوّرة.. طوال النهار تخيّلت دمي ذاهلًا على الشارع، صرخات تُبقّع الرصيف، ورأيتُ فزعًا يتنبّه قليلًا ويكمل غفلته.
لم أميّز بين همهمات المارَّة سوى صوتٍ استمرَّ عالقًا في الهواء مثل غبار يحجب العالم؛ زعقة مكابح أليمة، لمن ينزلق نحو حتفه.
بعد أن اختفيت عن مكان الحادث، انكشف الغبار عن جسدي فائضًا في مكانٍ آخر من الحياة، لم تعبر أمامي ملذَّات حياتي، كما توهّمت، بل انطبعت في خاطري صورةٌ واحدة لم تفارقني بعدها..
تلك الشجرة التي شدَّت كتفي وأنقذتني..
تلك الشجرة التي لم أقف عندها امتنانًا،
تلك الشجرة التي عدت إلى مكانها ولم أجدها،
تلك الشجرة التي فَدَتْني، وقفزت بديلًا عني؛ تركتْ حفرةً على مقاسي.
مرآة النائم
جاري لم آخذه على محمل الجدّ منذ طفولتي؛ لسبب وحيد كدتُ أنساه من فرط خفته.
حين أسرّ لي أول مرة عن جسده الذي ينقص ويَذْوِي كلما طالعَ في المرآة.. وقتها ضحكت ودمعتْ عينايَ، ورأيت في ملامحه كيف اتّخذ قرارًا سريعًا بعدما اكتشف مدى فداحة قوله، فلم يعد يذكر المرايا، وألغاها من كلامه، ولهذا نسينا هذا السرّ، أو هكذا ظننت.
وعلى الرغم من تجنّبه المرايا وتفادي المرور أمامها في كل مكان، وانقطاع حديثه عنها، فإنه أشار مرة بين أصدقاء مشتركين إلى معرفته طريقة فريدة في الانتحار دونما ألم، يخبّئها تحت سريره منذ سنين، ولم أربطها بالمرآة لولا غمزته الخاطفة لي.
كبرنا ونسينا ثانية، مثلما عاش وحيدًا بلا مرايا، يرعى أمه بعطف وحنان متبادلين، حتى عشق أختي الصغيرة أو أحبّها بجنون حسب قوله.
لم يبح بذلك لأحد غيري، وكلما قلتُ له: حدّثْ أمك لتفرح لك، )صفن) وقال: إنها تشعر بذلك، أراه مطبوعًا في وجهها وهي تتفادى أن أصرّح به.
هكذا بدأ حال أمه يسوء، وصحتها تذوب حين جاءني قائلًا: لا أستطيع أن أفقد أمي وأشهد تلاشيها أمامي، وليس باستطاعتي محو حبّي لأختك، على الرغم من محاولتي الشاقةِ التظاهرَ بالنسيان؛ لكن قلب الأم مرآة.
البارحة طرقتْ أمُّه باب بيتنا متأخرًا، وقالت مكسورة: ابحثْ عن صديقك، لم يخرج من غرفته منذ يومين. فتّشت عنه لم أجده.
عدت بها إلى غرفته. سريرُه مقلوب.
ورأيت ثياب نومه مكوّمة على الأرض أمام مرآة كبيرة لم تكن موجودة من قبلُ. وكأنما لمحته فيها؛ ضحكتُ في سرّي ودمعتْ عيناي.