مقالات   |   دراسات   |   قضايا   |   سيرة ذاتية   |   إعلامتحقيقات   |   ثقافات   | تراث   |   تاريخ   |   بورتريه   |   فضاءات   |   فنون   |   كاريكاتير   |   كتب   |   نصوص   |   مدن   |   رسائل

التربية شأنًا فلسفيًّا أو في مشروعية فلسفة التربية

التربية شأنًا فلسفيًّا

أو في مشروعية فلسفة التربية

نشأت فلسفة التربية بصفتها غرضًا مخصوصًا في حقل البحوث الفلسفية الذي يهتم بدراسة مسألة التربية دراسة نسقية، في النصف الثاني من القرن العشرين، وليس أدلّ على ذلك من ظهور المجاميع والحوليات والإصدارات المختصة التي تعنى بهذا النوع من الدراسات(1). ولكن مع ذلك لم يحسم الموقف بشأن قضايا عديدة ذات صلة بوضعية فلسفة التربية: هل هي جزء من نظرية عامة في التربية يمكن أن تشمل علوم التربية؟ هل ينبغي النظر إليها بوصفها امتدادًا لمبحث الإيتيقا والفلسفة العملية؟ هل هي شكل من الفلسفة التطبيقية؟

تكشف هذه الأسئلة في الآن ذاته عن الوضع الملتبس لفلسفة التربية، وعن متانة العلاقة بين مباحث الفلسفة المختلفة وبخاصة العملية ومبحث التربية. فتاريخيًّا يمكن القول: إن كل الأنساق الفلسفية الكبرى طرحت مسألة التربية ومشكلاتها وإن لم تفرد لها، في الأغلب، متونًا خاصة.

تحديدات دلالية

يعود مصدر كلمة التربية في اللسان العربي إلى الجذر ربا أي زاد ونما، وتحيل أيضًا إلى معاني النشأة والتغذية، ويمكن أن تقابلها في الفرنسية والإنجليزية كلمة education المشتقّة من اللاتينية educatio وهي كلمة تحتمل معاني التوجيه والعناية والتعهد بالتغذية، والكلمتان الألمانيتان: Erziehung عندما يتعلق الأمر بالتعلم المدرسي، وهي تعني في الأصل سحبَ أو جلبَ (جلب النشأ إلى المعرفة) و Bildung عندما يتعلق الأمر بمسائل التكوين والتثقيف، وهو ما تشير إليه على نحو ما أيضًا الكلمة الإغريقية «بايديا» (παιδεία).

وهكذا فإن الحقل الدلالي لهذه الكلمة يتسع في سياقات ثقافية عديدة إلى معاني تَعهُّد النشء بالعناية جسديًّا، عبر التغذية، وفكريًّا عبر التثقيف والتوجيه ونقل المعرفة والقيم. فالتربية هي بمعنى ما مسار إنتاج الإنسان وتأهيله وتنمية قدراته الجسدية والفكرية. وهذا المسار لا يتيح فقط نقل المعارف بحيث تصبح التربية ضمانًا للتواصل التاريخي للمعرفة ولكل المخزون الرمزي للثقافة، ولكن أيضًا هو ضمان «للتواصل الاجتماعي للحياة» ومقاومة لإمكانية الارتداد نحو البربرية والتوحش(2)؛ لذلك تؤكد مختلف فلسفات التربية على اعتبارها فنَّ تكوين الإنسان وقيادته حتى يتحقق باعتباره إنسانًا.

ليست التربية إذن مسألة تقنية أو منهجية ولا هي مجرد تدبير مدرسي. إنها بالأحرى وسيلة المجتمع في حفظ بقائه وذاكرته وفي تقدمه وتنمية تجاربه. وهي ليست خيارًا اجتماعيًّا بقدر ما هي ضرورة تمليها طبيعة الإنسان وحاجيات المجتمع. هاهنا تتدخل الفلسفة بوصفها فكرًا مفتوحًا لم ينفك عن ادعاء الاشتغال بسؤال الإنسان: من يكون وكيف يعرف وكيف يتدبّر معاشه ورزقه وكيف يتواصل مع الآخرين. إن استدعاء التربية إلى حقل الفلسفة إنما هو من حيثيات سؤالها الأنثروبولوجي المركزي.

قد لا تكون العودة إلى المناقشات حول ماهية الفلسفة ضرورية هنا؛ إذ ليس لها من أفق سوى تأكيد أن الفلسفة لا وجود لها، وأن ما نَعُدّه فلسفة إنما يتحقق من خلال فعل التفلسف بما هو تفكير شخصي يضطلع بمهام المساءلة والنقد والقدرة على التأسيس. فمن شروط التفلسف القدرة على تجاوز مستوى المعرفة بالأنساق نحو الممارسة الفعلية للتفكير عبر النقد والمساءلة والبحث المستمر عن الحقيقة. على أن ما يعطي هذا التفكيرَ قيمةً هو انشغاله بما هو إنساني. ولا تندّ فلسفة التربية عن هذا التحديد: فانتماؤها إلى الفلسفة يجعلها على سبيل الضرورة منهج مساءلة ونقد منشغل بقضايا الإنسان.

تجد فلسفة التربية إذن مشروعيّتها في مستويين اثنين. الأول هو المستوى الإبستمولوجي، حيث إن فلسفة التربية كما عرفها ربول «ليست مجموعة من المعارف وإنما مساءلة لكل ما نعرفه أو نعتقد أننا نعرفه حول التربية»(3)، وهي بالتالي تنفتح على مختلف علوم التربية وتحاورها طارحة على سبيل المثال مشكل: ما القيمة المعيارية والفعلية للنتائج التي توصّلت لها العلوم ذات الصلة بالتربية؟ وكيف يمكن أن نؤلف بين مخرجات هذه العلوم؟ أما المستوى الثاني فهو مستوى النقد والفهم؛ إذ إن كل ممارسة عملية أو منظومة نظرية للتربية تستند عفويًّا أو قصديًّا إلى تصوّر ما للإنسان ولمنزلته في العالم، أي إلى خلفية أنثروبولوجية وأنطولوجية لا يمكن إنكار بعدها الفلسفي، وعلى أساسها تتحدد، لا غايات التربية ونموذج الإنسان الذي تعمل على إنتاجه فقط، وإنما أيضًا طبيعة العلاقة بين التربية من جهة وبين كل المعجم الذي يشكل مجال الممارسة الإنسانية. فإذا كان من أهداف التربية مثلًا تنشئة مواطن يدرك معنى الاستقلالية أو الفضيلة، فإن الفلسفة هي التي تبادر إلى سؤال: من المواطن؟ وما الفضيلة؟

وبالفعل، عندما كان كانط يدعو إلى تأسيس نظرية عامة في التربية وإلى التحول من التربية إلى علم التربية عبر وضع مخططات للممارسة التربوية، كان المبدأ الذي يوجهه هو أن معيار الممارسة التربوية ليس ما هو سائد، فهذا جدير بالنقد والتجاوز، وإنما «فكرة الإنسانية وغايتها الكاملة»(4). وهي فكرة ذات مضمون فلسفي- معياري. ومن وجهة النظر هذه، تكون فلسفة التربية نظرية عامة في التربية تفكر في غاياتها ووسائلها وتخضع مفاهيمها وما تفترضه من علاقات إلى التفكيك والمساءلة.

ولكن تبدو فلسفة التربية في هذا السياق كما لو كانت خطابًا حول التربية من خارجها، وقد تتحول أحيانًا، ونتيجة لذلك، إلى ضرب من تصنيف القواعد العامة في التربية. وهذا المنظور قد يحجب عنا خاصية هي من جوهر التفلسف، وهي أنه هو في حد ذاته تربية. لقد كان سقراط بمنهجه الحواري-التوليدي مربيًا ومعلمًا من حيث كان فيلسوفًا، وكان فيلسوفًا من حيث كان مربيًا. أليس منهج توليد الأفكار منهج توجيه للعقل في نطاق الحرية؟ وكذلك كان الأمر مع الغزالي أو ديكارت في شكّهم ذي الوظيفة البيداغوجية، ومع ابن رشد في عقلانيته، ومع كانط في نزعته النقدية والتنويرية.

يمكن إذن تأسيس مشروعية فلسفة التربية على نحو مزدوج: مشروعيتها بوصفها خطابا حول التربية ومشروعيتها بوصفها فعلًا هو من صميم التربية. بهذا المعنى أو ذاك، التربية هي حتمًا شأن فلسفي، إلا أن هذين الضربين من التأسيس لا يمكن لهما أن يحجبا تعدد المقاربات الفلسفية للتربية وتنوعها. وتمامًا مثلما أن الفلسفة «لا وجود لها وإنما توجد فلسفات»، فإن فلسفة التربية أيضًا لا وجود لها بل توجد فلسفات في التربية. ويمكن لقارئ تاريخ الفلسفة أن يخلص إلى تصنيفات عديدة لهذه الفلسفات بإرجاعها مثلًا إلى المدارس الفلسفية الكبرى (المثالية، المادية، الوجودية، التحليلية، الطبيعية…) أو إلى شكل من التحقيب التاريخي (قديمة، حديثة، معاصرة) أو غير ذلك من التصنيفات.

تاريخ فلسفة التربية: مقاربات نظرية وأبعاد تطبيقية

لعل أول النصوص الفلسفية في التربية كانت تلك التي ضمنها أفلاطون في محاوراته، وبخاصة محاورة «الجمهورية» ثم «القوانين»، بما يدل على تصور لعلاقة وطيدة بين التربية والتدبير السياسي للمدينة وشرائعها. تعكس كتابات أفلاطون تمييزًا بين نموذجين للتربية يقفان وجهًا لوجه: تربية ذات رهانات نفعية مباشرة تمكّن الشاب من الكفاءات الضرورية للفعل السياسي المؤثِّر بمعزل عن مبادئه وغاياته، فتتحدد غايتها القصوى في مكسب النجاح الفردي، وتربية ذات أصول أخلاقية تمكّن الفرد من شروط بلوغ كمالات الإنسان، وتمثل ضمانًا لعدالة الشرائع ولسياسة مدنية موافقة لمقتضيات الفضيلة والخير.

يمكن أن نعرّف التربية بالاستناد إلى أفلاطون بأنها فن تكوين الإنسان والمواطن مميزين في ذلك بين تعليم «سافل» لأنه يهدف إلى إنماء الثروة أو القوة الجسمانية أو إلى الحذق بمعزل عن العدالة، وبين التعليم بالمعنى الصحيح؛ أي ذاك الذي يجعل الناس أخيارً(5). أن تكون التربية فنًّا فهذا يعني أنها تستدعي تملّك مهارات مخصوصة. وأن يكون هذا الفن هو ما به يكون الإنسان إنسانًا فهذا يجعله أخطر الفنون. فهذا المدني بطبعه يحتاج إلى التربية حتى يوافق فعلُه طبعَه هذا. ولذلك يميّز أفلاطون في كتاب «الجمهورية» بين ثلاثة أنواع من التربية توافق مراتب الناس المختلفة في المدينة بحيث تنمّي لدى كل فئة مهارة ملائمة لوظيفتها، ولكن قيمة التربية لديه تظهر خاصة في جعل سعادة المدينة مرتبطة بشرط التربية أكثر من ارتباطها بشرط التشريع.

تعد رؤية أفلاطون للتربية إذًا استتباعًا لتصوره للنفس ومراتبها وللمعرفة وشرائطها وللمدينة وطرق تدبيرها وللفضيلة ومقوّماتها. يستعيد أرسطو، وبخاصة في كتاب «السياسة»، هذا الترابط بين التشريع والتربية والسياسية. فتظهر فلسفة التربية ضمن هذا المؤلف كما لو كانت الفضاء الخلفي لنظرية القانون والسياسة حيث يَفترض المعلمُ الأول أن التنشئة الأخلاقية للمشرع بواسطة التربية هي الأساس الأمتن لنظام قانوني ملائم للمدينة؛ ولذلك، فإن التربية -عند أرسطو وعند أفلاطون- إنما هي على وجه التحقق التنشئة على الفضيلة.

أما الفلاسفة العرب، فإن الاهتمام بالتربية لديهم بدأ يأخذ حيّزًا متزايدًا بإفراد رسائل ومؤلفات تعنى بالطفولة وبالتربية وبصناعة التعليم. وبرزت في هذا السياق خاصة الرسائل التربوية مثل رسالة «أيها الولد» للغزالي أو رسالة مِسْكَوَيْهِ لطالب الحكمة، والمؤلفات المتعلقة بتهذيب الأخلاق (مسكويه) وبسياسة الصبيان (ابن الجزار)، فضلًا عن إدراجها ضمن فلسفة اجتماعية عامة على النحو الذي نجده في مقدمة بن خلدون. وكما كان عليه الأمر لدى المدرسة السقراطية، يمثل الرهان الأخلاقي عند هؤلاء الفلاسفة البعد الجوهري للتربية إلا أن المشترك بينهم، الذي يميزهم مِن أفلاطون خاصة، هو أنهم ردوا هذا الرهان الأخلاقي إلى أرضية دينية منطلقين من نموذج يقوم على المساواة بين البشر لا على تفاضلية المراتب ضمن المدينة.

ستحافظ فلسفة التربية الحديثة إجمالًا على فكرة المساواة، وبخاصة عبر مفهوم الطبيعة البشرية، إلا أنها ستُخرج التربية من براديغم الفضيلة إلى براديغم الحرية وهو جوهر ما ذهب إليه لوك وروسو وكانط في مجال التربية. إذ لما كانت الحرية والتقدم والعقلانية عُملةَ الأنوار المميِّزة، أعني قيمها الأساسية، فإن هؤلاء الفلاسفة عملوا على تغيير منظومة القيم التي تعمل التربية من أجلها. فهم يدركون جيدًا أن انتشار قيم الأنوار هذه لن يكون ممكنًا إلا بالتربية.

ابتداءً من القرن التاسع عشر بات على فلسفة التربية أن تتفاعل مع بعض العلوم الإنسانية الناشئة التي سعت إلى إدماج التربية ضمن مباحثها، وبخاصةٍ علمُ الاجتماع وعلمُ النفس التربويان. فلم تكن مسألة التربية في نظرية دوركهايم أو بياجي مسألة ثانوية أو عارضة، بل كانت من صميم فكريهما الاجتماعي والنفسي. ترسخ، بعد كانط، شيء من التقارب بين فلسفة التربية والبيداغوجيا من جهة وشكل من التداخل بين الفلسفة وبين النظرية الاجتماعية والنفسية في مجال التربية والتعلّم والنمو من جهة ثانية؛ إذ لا يخلو علم اجتماع التربية أو علم نفس النمو عند بياجي أو عند كوهلبرغ أو سواهما من خلفية ومن استعمالات فلسفية في الآن ذاته. ولعل هذا التفاعل بين حقول معرفية مختلفة تتقاسم الموضوع نفسه هو ما أسهم في تكون المجاميع الفلسفية والحوليات المختصة في مجال التربية.

إذا كان من ميزة لفلسفة التربية عبر تاريخها فهي التداخل المستمر بين مشروعين فكريين: مشروع تربوي يجتذب الفلسفة إلى حقل المعرفة التطبيقية ومشروع فلسفي يجتذب التربية إلى حقل النقد الفلسفي والمراجعة المستمرة للمفهوم. لا يمكن لفلسفة التربية إلا أن تكون فلسفة تطبيقية، ونعني بذلك أن تصوغ أفكارها في علاقة بالسياق القائم، وأن تجعلها باستمرار تحت رقابة المتحقق والقابل للتحقق؛ إذ يتعلّق الأمر في التربية «بفنّ» قبل أن يتعلّق بأية معرفة نظرية. ولكن أيضًا، تستجلب الفلسفةُ التربيةَ إلى مجالها، الذي هو مجال المفهمة والمساءلة والنقد. لقد كان تعريف التربية تحديدًا أحد الإجراءات الأساسية لكل فلسفة في التربية، سواء باستدعاء غايتها أو مكوناتها أو تمايزها من مصطلحات قريبة منها مثل التعليم والتكوين. ولعل الفلسفة التحليلية خاصةً، وبمقتضى رؤيتها لوظيفة الفلسفة، اهتمت بهذه التمييزات المفهومية. لكن الاهتمام بالمفهوم ليس في ذاته غاية فلسفة التربية. إنما يساعدها هذا الاهتمام، أولًا، على رسم حدود اختلافها عن سائر المعارف المتعلّقة بالتربية ورسم حدودها الذاتية بوصفها فلسفة، كما أنه يساعدها، ثانيًا، على تطوير مساءلاتها النقدية للنظريات والممارسات التربوية على حد سواء.

رهانات معاصرة لفلسفة التربية

لا يمكن أن ننفي عن التربية اليوم احتفاظها بجملة من الغايات التي تمثلتها المجتمعات السابقة، والتي رصدتها فلسفة التربية القديمة: الغايات المعرفية والوجدانية والخلقية والثقافية والاجتماعية والسياسية وغيرها. لكن ترتيب هذه الغايات والإطار الفكري المرجعي لمقاربتها والأدوات الكفيلة بتحقيقها، كل ذلك هو موضوع لتحولات مستمرة ولاختلافات عميقة لم تحسمها اليوم عولمة المعارف ولا الدور المتزايد للخبراء وعلماء التربية. وقد يعود الأمر في ذلك لكون هذه الغايات متجذرة في رؤى فلسفية مختلفة للعالم.

لقد دافع كانط منذ القرن الثامن عشر عن ضرورة أن يتخذ مخطط التربية اتجاهًا كونيًّا؛ إذ لا يليق بالتربية السليمة، وهي «الينبوع الذي ينبثق عنه كل خير في هذا العالم»(6) أن تستهدف تحقيق الخير لفئة مخصوصة. بل أكثر من ذلك، يجب ألّا يُربَّى الأطفال في نظره فقط بحسب حالة النوع البشري الراهنة، بل بحسب الحالة الممكنة التي تكون أفضل منها في المستقبل أي وفق فكرة الإنسانية وغايتها الكاملة(7). يبدو أن كانط شخّص بهذا التحديات الكبرى المطروحة على التربية في عصر الكوسموبوليتية الموعودة وما سينجر عنها من توترات مرتبطة بالهوية والانتماء وحدود الحرية، إلخ. إلا أن كانط يفهم الكونية هنا بوصفها فكرة ذات مضمون أخلاقي مرتبط بمطلب الخير، وبالإنسان بوصفه غاية، وهي حيثيات لا تبدو ذات وجاهة بالنسبة لمسار العولمة المعاصرة. ولعل عوز الوجاهة هذا يعود في جانب منه إلى أن المدرسة الحديثة والمعاصرة ما عاد لها أن ترسم غاياتها بعيدًا من مفاهيم التقدم والتنمية والسيادة الوطنية وحاجيات السوق، ويعود في جانب آخر إلى أن النزوع نحو الهيمنة العولمية في مجالات المعرفة والثقافة صاحبه نزوع مقابل نحو استحضار خطاب الخصوصية.

ولذلك، بدل التساؤل اللاتاريخي واللاسياقي عن غايات التربية، قد يكون من الأجدى التساؤل عن نموذج أو نماذج التربية الملائمة لواقعنا وتصورنا لوجودنا على الصعيدين الفردي والجماعي: نحن الذين نريد أن نباشر الممارسة التربوية، في عصر هو في الآن ذاته ما بعد كولونيالي دون أن يقطع نهائيًّا مع كل مظاهر الاستعمار، وعصر الدولة الوطنية التي لم تتجاوز نهائيًّا العصر الإمبراطوري، وعصر العولمة التي لم تقضِ على أشكال التعصب الهووي بقدر ما عملت على تغذيتها، وعصر الديمقراطية التي تقف عاجزةً أمام تفشي العنف والحروب والفقر، إلخ.


هوامش:

(1) Edward Graig (ed), Routledge Encyclopedia of Philosophy, Routledge, London & New York, p. 232.

(2) جون ديوي، «الديمقراطية والتربية»، مطبعة لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، 1946م، ص. 2-3.

(3) Olivier Reboul, La philosophie de l’éducation, PUF, Paris, 2016, p. 3.

(4) إيمانويل كانط، «تأملات في التربية»، ترجمة محمود بن جماعة، دار محمد علي الحامي، صفاقس، 2005م، ص. 19.

(5) انظر: أفلاطون، «القوانين»، الكتاب الأول، ص. 41، في المحاورات الكاملة، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1994م.

(6) كانط، المرجع نفسه، ص. 19.

(7) نفسه.