مقالات   |   دراسات   |   قضايا   |   سيرة ذاتية   |   إعلامتحقيقات   |   ثقافات   | تراث   |   تاريخ   |   بورتريه   |   فضاءات   |   فنون   |   كاريكاتير   |   كتب   |   نصوص   |   مدن   |   رسائل

«الدكتور نازل» لطالب الرفاعي خطاب مجتمعي يمزج بين الفانتازيا والسخرية!

«الدكتور نازل» لطالب الرفاعي

خطاب مجتمعي يمزج بين الفانتازيا والسخرية!

المتتالية السردية، لماذا؟

استطاع السرد العربي أن يتخذ لنفسه طريقًا خاصًّا للتعبير عن ثقافة متميزة وإبداع متطور، وكانت للرواية والقصة العربية شكلهما الخاص، عبر قرن كامل من الزمان ارتبط فيه التعبير السردي العربي بالتطورات التاريخية والاجتماعية العربية، من حيث ارتباط القصة القصيرة بأزمات المجتمع وارتباط الرواية بالتعبير عن طموحاته، غير أنه في الربع الأخير من القرن العشرين وبعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، ظهرت مقولات تركز على زمن الرواية والانفجار الروائي الكبير، وعلى الرغم من قابلية ازدهار القصة القصيرة فقد ظهر جيل من كتاب القصة والشعر، والنقد، قد تحولوا إلى كتابة الرواية جريًا على مسايرة هذا الانفجار الروائي.

من هنا انطلق نوع المتتالية السردية التي تقع بين الرواية والقصة القصيرة، فهي قادرة على استكناه الداخل من ناحية، كما أنها متسعة لتعبّر عن حركة المجتمع من ناحية أخرى. وربما كان هذا هو السبب الأول لاختيار الأديب الكويتي طالب الرفاعي لهذا الشكل، عبر إصداره الجديد «الدكتور نارل»، عن دار ذات السلاسل في الكويت، ودار الشروق في مصر، وذلك بعد أن كتب النوعين على مدار رحلته الإبداعية الطويلة، معتمدًا الشكل المركب لمجموعة متتاليات من النصوص القصصية بأربعة وعشرين نصًّا، يعتمد النقد الاجتماعي انطلاقًا من مركزية الشخصية.

شخصية الدكتور نازل وأنواع السارد

«الدكتور نازل» واحدة من الشخصيات التي تنتشر في المجتمع بكل فئاته، شخصية انتهازية متسلقة وقد اختارها الكاتب لتكون العنصر الرابط بين قصص المتتالية، ويكون التركيز الفني على عنصر الأزمة الأهم كما يراه الكاتب الذي يستخدم الحيل الفنية بالتكرار لكي يركز على الجوانب المختلفة للشخصية. وكذا ما يمكن اعتباره أزمة اجتماعية لتقع كل تلك الشخصيات المسماة بـ«الدكتور نازل» تحت عدسته، ويقوم مقام الرمز الذي يبني نفسه وعناصره داخل السرد، الذي يختط لنفسه مجموعة من المستويات المتعددة التي تجعل من النص القصصي على مدار المتتالية فنًّا مراوغًا بين الإيهام بالواقع بصورته التقليدية، وبين كسر الإيهام ليناقش الكاتب/ السارد مع القارئ/ المتلقي جوانب هذه الأزمة قصة بعد قصة.

إن تعدد مستويات السرد في متتالية «الدكتور نازل» لم يكن مجرد حيلة سردية ذكية يقوم عليها اللعب في النصوص المنفصلة/ المتصلة لكنه كان كذلك وسيلة لإشراك المتلقي في تأمل أبعاد الشخصيات وأفعالها، على الرغم من تنوع الموضوعات وتعدد الحبكات التي تعالجها القصص داخل المتتالية.

في متتالية «الدكتور نازل» يتخذ السارد مكانة مهمة ليس فقط بوصفه الصوت الذي يقوم بفعل السرد داخل النص، لكن الكاتب يمنحه في هذا الشكل دورًا له عمق أكبر، وهو الربط بين متناقضات السرد، إضافة إلى كونه يمنح هذه النصوص حياتها الخاصة ضمن نسق سردي، لا يتماس فحسب مع الواقع، لكنه يتقاطع معه ضمن عناصر خطاب مجتمعي يمزج بين الفانتازيا والسخرية؛ لذا فإن التضافر بين وظيفة صوت السارد والشخصيات المركزية التي تظهر في كل نصوص المتتالية بالاسم ذاته، هذا التضافر هو ما يصنع تلك الحالة التي تظهر في النصوص عبر مجموعة من المستويات.

مستوى الكاتب والحكاية الواقعية/ الحقائق

وهو المستوى الذي يعمد إلى الإيهام بواقعية الأحداث بل بوقوعها الفعلي، من خلال تأكيدات مضمرة للكاتب/ المؤلف؛ لأنه كان شاهدًا أو طرفًا للحكاية المضمنة في القصة. وهو الأمر الذي يظهر في كثير من النصوص، وبخاصة في نهايتها عبر الخط المثخن الذي تكتشف أنه ذلك التعليق الختامي الذي يورده الكاتب، وليس السارد، على الحكاية الأصلية كأن يقول في نهاية النص الأول: «تكرر هذا الإعلان أمامي في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، واتصل بي أحد الكتاب الشباب راجيا: «أستاذ طالب، في أول يوم حجزت جميع الأماكن، أرجوك ساعدني للتسجيل في الدورة، مؤكد أنك تعرف الدكتور نازل».

إن هذه التقنية التي يخترق بها الكاتب باسمه الحقيقي جدار الحكاية ليصبح جزءًا منها، ويؤكد في الوقت نفسه وقوعها أو على الأقل وقوع ما يشبهها من أحداث في محيطه الحيوي. وهو الأمر الذي يكرره الكاتب في معظم القصص، بل إنه يتعداها أحيانًا لشرح بعض أسباب تعامله بصورة خاصة مع الوقائع التي يحكيها. ففي الوقت الذي يبرر فيه الكاتب في القصة الختامية للمتتالية السبب الذي جعله يوحّد كل الشخصيات تحت اسم واحد هو «الدكتور نازل» لكي يخفي الأسماء الحقيقية للشخصيات التي توجد حقيقة في الواقع، فهو في الوقت ذاته يستخدم اسمه الحقيقي واسم ناشره الحقيقي، في تأكيد ختامي على أن اللعبة التي نتفق على قواعدها (الكاتب والقارئ) هي التي تمثل داخل النص عماده الرئيسي، بل إنها هي التي تقوم بخلق تلك الجدلية بين الحقيقة كما نظهر في الواقع، والحقيقة كما تظهر داخل النص. يقول: «حين انتهيت من كتابة مجموعتي «الدكتور نازل» اتصلت بالصديق سعود المنصور صاحب دار نشر ذات السلاسل فرحب بي. وبعد أيام اتصل بي صديقي سعود قائلًا: «أبو فرح، الجماعة في الرقابة رفضوا المجموعة».

ومع ملاحظة أن هذه القصة الختامية لم تكتب بالخط المثخن مثل التعليقات الختامية في كل قصة، وأنها الوحيدة التي لم يظهر فيها «الدكتور نازل» بطلًا للأحداث، وأن الكاتب والناشر يظهران يناقشان السؤال الذي يمثل أولى عتبات الخطاب داخل المجموعة، وأن الأسماء حقيقية وتلك الشخصيات موجودة فعليًّا، يقابلها الكاتب/ المؤلف، ويلحظ فعلها داخل المجتمع.

غير أن الكاتب قد يلعب بأسلوبه على الخط الفاصل بين العالمين، وبخاصة في افتتاحيات القصص حين يمهّد لها بخبر في جريدة مثلًا، كما في قصة «أموال» التي تبدأ بخبر من جريدة «القبس» يورده موثّقًا بتاريخه، غير أنه يبقى جزءًا من متن القصة، وإن خرج عنها حتى مع وروده بالخط العادي نفسه، وهي لعبة التمهيد التي تعمل على الربط العضوي بين داخل القصة وخارجها.

مستوى القصة والبطل

إذا كان ظهور الكاتب/ المؤلف عبر حواشي القصص يخلق لها مجالًا من التلقي بوصفها أحداثًا تدور في الواقع، فإن المستوى التالي سيبدو متأثرًا جدًّا بهذا الإطار ليبدو الأثر الإيهامي في المتتالية ذا وجود متنامٍ، غير أن هذا التأثير سينسحب أمام متون القصص نفسها التي تؤدي بمضامينها رسالتها الاجتماعية الواضحة؛ لتبين انتشار نماذج من مدعي العلم ونيل الشهادات الجامعية الأجنبية بطرق مزيّفة وكاذبة، ومثل رجل الأعمال البارع في المكسب واستغلال كل الطرق لتحقيق أرباحه، والمتفرنج الباحث عن العلاقات النسائية في كل صورها الممكنة، وحكاية داخل حكاية والمدير الدكتاتور، والمدير الكاذب ومنتحل أعمال الآخرين وإبداعاتهم.

إن مستوى القصة، وإنْ بدَا في أغلب أحواله واقعيًّا، يسرد مجموعة من الحكايات التي تستهدف عرض المشكلات المجتمعية عن طريق رصد الظواهر التي يراها قد استشرت في المجتمع، بما قد يؤثر في تركيبته لكن أهم ما يراه فيها هو أن المجتمع قد اعتاد عليها، لدرجة أنه يراها طبيعية مثلما حدث في قصة «دلل» التي تدفع الأم فيها ابنها إلى عرض أخته للزواج من صديقه «نازل» على الرغم من معرفتهم بعلاقاته المتعددة، وهو الأمر الذي يرى الكاتب وجوب مجابهته بالسخرية المرّة والخفيفة الشفيفة، التي يمكنها فضح تلك النماذج من دون حرجها أو جرحها. وهو الأمر الذي يمكن التعامل معه باعتبار أن الخطاب المجتمعي قد صار غاية فنية في المتتالية التي بين أيدينا، والتي يعتبر الكاتب فيها أن عمله الاجتماعي هذا جزء من نجاحه الفني وأن وصول الرسالة بصورتها الفنية المبتكرة هي واحدة من وظائفها مع الحفاظ على مساحة الابتكار في قالبها.

غير أن مستوى الحكاية داخل الحكاية الذي يختبره الكاتب في بعض قصص المجموعة سيبقى واحدًا من الأشكال الأثيرة لدى كاتب يهتم بالعلاقة التي يبنيها بين كتابته والعالم، لتبقى النظرة الفنية إلى مشكلات المجتمع وظواهره هي الزاوية التي تحكم تلك العلاقة بين عالم طالب الرفاعي والعالم الذي يحيط به، الذي يحاول أن يعكسه في نصوصه، وبخاصة مع تصريحه الدائم بأنه يهتم بأن يكون موجودًا بشخصه وسيرته الحقيقية داخل أعماله، في نوع من التأكيد للتماسّ بين الكاتب وما يحدث في العالم، وعدم الانفصال عنه. وهو الأمر الذي يمكن مناقشته بوصفه إحدى زوايا النظر المهمة في أعمال طالب الرفاعي السردية.