هل يمكن أن تحب الفن وتكره الفنان؟
في عام 1979م، كانت الكاتبة والناشطة النسوية بيرل كليج في الثلاثين من عمرها، مطلقة حديثًا، وكانت قد تعرفت متأخرة إلى ألبوم مايلز ديفيس الشهير «أزرق نوعًا ما»، تقول كليج: كنت «في حاجة إلى تصوّر معاصر حول مَن أنا وما أنا ولماذا». وكتبت في مقال حمل عنوان مجموعتها لعام 1990م، «حانقة على مايلز»، أن موسيقا ديفيس تَشي بأن مَن تستمع إليها هي «امرأة يُرجَّح أنها ذات ماضٍ مثير، ويرجَّح أنها ذات مستقبل مثير». ساعد ألبوم «أزرق نوعًا ما» كليج في إعادة تعريف نفسها. وتقول: إنها أمضت «خلال هذه المرحلة المحمومة كثيرًا من الأمسيات التي لا تُنسى تبث لواعجها الشخصية من خلال الارتجالات المتداخلة لـ«أزرق نوعًا ما». أصبحت موسيقا ديفيس «جزءًا دائمًا من طقوس الإغواء»، وبَنَتْ كليج ذاتًا جديدة على أساس موسيقاه.
بعد عشر سنوات، في عام 1989م، نشر ديفيس سيرة ذاتية اعترف فيها علانية بتعامله العنيف مع أكثر من امرأة. وهذا الكشف عن إساءة معاملة ديفيس للنساء جعل كليج ترغب في «كسر ألبوماته وحرق أشرطة تسجيلاته وتهشيم أقراصه المدمجة». لكن ذات كليج القديمة كانت جزءًا لا يتجزأ من مقطوعات هذا الألبوم، تلك الذات التي تشكلت عبر ليالٍ حميمة، ذكَّرتها فيها أُغنيات «أزرق نوعًا ما» بنوع المرأة التي أرادت أن تكون عليه. تقول كليج عن الحقائق المزعجة في كتاب ديفيس: «حاولت أن أنسى الأمر فحسب، لكني لم أفلح!» وقادها الصراع الداخلي إلى صنع فنِّها الخاص في محاولة للتعبير عن غضبها وحزنها من خلال الكتابة. وهي تسأل في «حانقة على مايلز»: هل يمكن أن نحب أنغام مايلز حين يكون قد أمضى صباح اليوم الذي سجل فيه الموسيقا وهو يصفع إحدى أخواتنا؟ هل يمكن أن نواصل تمجيد العبقري على الرغم من الوحش؟».
فن الرجال الشنيعين
تتناول كلير ديديرر سؤال كليج في كتابها الثالث الرائع: «الوحوش: معضلة المعجبين». وديديرر هي كاتبة مذكرات، ومؤلفة كتاب «متخذ الوضعيات: حياتي في ثلاث وعشرين وضعية يوغا» 2010م، وكتاب «الحب والمتاعب: حسابات منتصف العمر» 2017م، وهو سرد مُشوِّق عن صحوتها الجسدية في الأربعينيات من عمرها. كان دافعها لكتابة «الوحوش» هو المواجهة مع الوحش المندس في معتمدها الفني المكرس، المخرج السينمائي الشنيع، رومان بولانسكي، الذي عبدت أفلامه. فحين كانت ديديرر ناقدةً سينمائيةً شابةً في تسعينيات القرن العشرين، كان من المستحيل أن تتجنب تأثيره، وعدّته عبقريًّا. وبعد سنوات، في عام 2014م، علمت ديديرر بالحوادث التي وقعت في 10 مارس 1977م، وأدت إلى توجيه ست تهم جنائية إلى بولانسكي. اعترف بولانسكي بأنه مذنب في تهمة واحدة فقط، وهي اغتصاب القاصر، لكنه فرَّ من البلاد قبل صدور الحكم. كانت ديديرر على معرفة هامشية بهذه التفاصيل، ولم تسمح لفداحة جريمة بولانسكي بالتغلغل إلى وعيها. وحين قرأت عن الاغتصاب بالتفصيل، أرعبتها «وحشيته الهائلة؛ الخطيرة والشبيهة بالخواء ويصعب استيعابها مثل غراند كانيون».
بدأت ديديرر في إعادة مشاهدة أعمال بولانسكي بعد القراءة عن الاغتصاب. وما أثار انزعاجها أنها ظلَّت تجد أفلامه جميلة. أدركت أنه «لم يكن من المفترض أن تحب هذه الأعمال، أو هذا الرجل»، لكن حبها للأفلام لم ينبع من أي غفران للجريمة. وإنما أحبتها؛ لأنها ساهمت في تكوينها ناقدةً ومشاهدة. ولن يُمحى هذا الحب بسهولة.
جاء كتاب «الوحوش» انطلاقًا من مقال ذائع الصيت بعنوان: «ماذا نفعل بفن الرجال الشنيعين؟» نشرته ديديرر في مجلة «باريس ريفيو» في أواخر عام 2017م، عندما كانت حركة «أنا أيضًا» (#MeToo) في أوجها. لكن ديديرر كانت أقل اهتمامًا بوصف تلك الاعتبارات الوطنية من متابعة الاعتبارات الشخصية مع الفنانين الذين أحبّت أعمالهم. اعترفت في مستهل الكتاب، بأنها تخيلت حل مسألة: ما إذا كان يجب استهلاك عمل فنان شنيع، عن طريق استخدام آلة حاسبة على الإنترنت، وما إذا يمكنها تقييم فظاعة الجريمة مقابل عظمة الفن وإصدار الحكم: يمكنك استهلاك عمل هذا الفنان أو لا يمكنك. تعترف ديديرر بأن هذا الخيال «مثير للضحك ولا يمكن تصوره». وتظن أن «هذا التوازن يختلف من شخص لآخر»، وهو ما يجعل كل محاولة فردية لتحقيقه «لغزًا فريدًا من المتعة والمسؤولية». لتقرر في النهاية أن السؤال الحقيقي ليس ما «نحن» فاعلون مع الرجال الشنيعين. «السؤال الحقيقي هو: هل يمكنني أن أحبَّ الفنَّ وأكره الفنان؟».
يتنقل «الوحوش» في ثلاثة عشر فصلًا عبر قائمة من الأسماء المألوفة، المرتبطة بكل من العبقرية والوحشية. يظهر المشتبه بهم المعتادون- بولانسكي، وودي آلن، وبيل كوسبي، إضافة إلى آخرين، مصنفين في فئات مثل «الصامتون والساكتون». هناك وحوش ممن أظهروا التعصب الأعمى (فاغنر)، ووحوش جسدوا المثل الأعلى الحداثي للفنان البطولي وجعلوا النساء موضوعاتهم «الفيتشية» (بيكاسو، همنغواي). وفي فصل بعنوان: «نقيض الوحش»، تتساءل ديديرر عما إذا كان نابوكوف يستحق أن يُدرج في هذه القائمة لكتابته «لوليتا»، لكنها تبرئه، وفي الوقت نفسه تشيد بالعمل وتميّز صانعه عن بطل الرواية.
فصل الفن عن الفنان
تسأل ديديرر: «كيف نفصل الصانع عن المصنوع؟» ورغم اعترافها بحجج النقاد الجدد، لكنها لا تثق في محاولاتهم لفصل الفنان عن الفن فصلًا تامًّا. وتعتقد أن الإنترنت جعل تحقيق هذا النوع من الفصل عن حياة الفنان أمرًا مستحيلًا. تكتب ديديرر: «كانت السيرة الذاتية شيئًا نبحث عنه، ونتوق إليه، ونتابعه بجَد، وبتنا اليوم نتعثر به طوال الوقت». وتواصل تأكيد أن قصص حياة الفنانين ليست السِّيَر الوحيدة التي تؤثر في كيفية تلقي أعمالهم؛ إذ ترى ديديرر أن كل لقاء مع عمل فني هو صدام محتمل بين سِيرتيْنِ: «سيرة الفنان التي قد تشوش رؤية الفن»، و «سيرة المُشاهد التي قد تصوغ رؤية الفن». فعلى سبيل المثال، قد يكون المُشاهد الذي تأثرت ذائقته بفنان معين أو بشكل من أشكال الفن أكثر ميلًا للتغاضي عن آثام هذا الفنان الشخصية، تمامًا مثلما قد يكون الناجون من الاعتداء الجنسي أقل تسامحًا مع «لوليتا».
يشكل الرجال أغلبية الشخصيات في مجموعة المشهورين الشنيعين التي تتناولها ديديرر. وتكتب: «إن عنف الفنانين الذكور له قصة، والقصة هي كما يأتي: يخضع الفنان لقوى أكبر منه، قوى خارجة عن إرادته، وفي بعض الأحيان تخرج هذه القوى عن السيطرة، فيخطئ ويرتكب جريمة. هذا مؤسف، لكننا ندرك أن هذه القوى هي نفسها التي تجعل فنه عظيمًا». جاءت ديديرر على ذكر معاداة السامية العَرَضية عند فيرجينيا وولف وعنصرية ويلّا كاثر، لكن الفئة الوحيدة من الفنانات الشنيعات التي تضم ما يكفي من المرشحين لتبرير وجود فصل كامل في كتاب «الوحوش» هي «الأمهات المتخلِّيات»، وتشتمل على دوريس ليسينغ وموريل سبارك وجوني ميتشل وآن سكستون. تجد ديديرر أنه من السهل نسبيًّا مسامحة خطيئة التخلِّي عن الأطفال لدى الفنانات. ويأتي تسامحها جزئيًّا، كما تظن، من تجربة أمومتها. فعلى عكس المخرج السينمائي-الرجل، يمكنها فهم الفنانات الأمهات الهاربات؛ فهم الوثاق الذي يدفعهن إلى الفرار. تكتب ديديرر: «الحقيقة هي أن صناعة الفن والأمومة تعملان بفاعلية عالية كمثبطين بعضهما لبعض، والأشخاص الذين يقولون خلاف ذلك هم إما مخدوعون، أو ليس لديهم أطفال، أو رجال».
أفعال وحشية صغيرة
في فصل بعنوان: «هل أنا وحش؟» تستعرض ديديرر كفاحها لتحقيق التوازن بين واجبها نحو فنها والتزامات الأمومة. وتتساءل أليس كل الفنانين شنيعين بعض الشيء؟ ثم تضيف: «ربما، ككاتبة، أنت لا تقتلين نفسك، أو تتخلين عن أطفالك». «لكنك تتخلين عن شيء ما، عن جزء معطاء من نفسك… يجب أن يكون الفنان وحشًا بما يكفي ليس لبدء العمل فحسب، بل أيضًا لإكماله. ولارتكاب كل الأعمال الوحشية الصغيرة التي تقع بينهما». إن اعتراف ديديرر بأعمالها الوحشية الصغيرة، مثل: «ترك العائلة وراءها، لتقيم في مقصورة مستعارة أو في غرفة فندق رخيصة»، واستعدادها للوحشية، يعود بها إلى الرجال الذين تحب فنهم وتكره أفعالهم. لتتفهم بذلك، إن لم تغفر، دوافعهم لفعل ما فعلوه.
بصفتي كاتبة، أنا على دراية وثيقة بالأفعال الوحشية الصغيرة التي تصفها ديديرر، والتوتر الناجم ما بين التزام المرء بعمله والتزامه نحو الآخرين. وفن كتابة المذكرات الذي نمارسه أنا وديديرر له وحشيته الخاصة. تكتب ديديرر: «بصفتي كاتبة مذكرات، فإن عملي هو الإجابة عن سؤال: ما الذي أشعر به بالضبط؟» والإجابة عن هذا السؤال بصراحة تشبه ممارسة العنف مع الآخرين وغالبًا ما تتطلب تبيُّن الوحش في نفسي. فخلال حياتي، اتبعتُ أهوائي إلى أقصى الحدود، وإلى بعض الأماكن المؤلمة والخطيرة والشائنة. كتبت عن كل هذه الأشياء. وراودتني نفسي أحيانًا أن ألطِّف سلوكي في كتبي؛ لأحمي بذلك مَن أحبوني من أبشع التفاصيل وأتجنب استنكار جمهوري. لكن حذف أخطائي أو أخطاء الآخرين لا يمحوها أو يشفع لها، ولا يمحو سوى الرهانات الفعلية لقصصي. فما من شعور بالحرية في مثل هذا التلاعب السردي، ولا من استجلاء ومغفرة.
لم أعانِ حُبِّي لفن الوحوش الذكور؛ لأنني لم أتأثر بفنهم، ليس كما تأثرت بفن النساء؛ فالنساء أكثر تعقيدًا بالنسبة إليّ. لقد لوَّثت معاداة السامية لباتريشيا هايسميث وفيرجينيا وولف تجربتي مع عملهما بشكل لا يمحى. وعندما أعود إلى المقاطع المفضلة لدي، فإن عجبي من عبقريتهما يكون أحيانًا مشوبًا بخيبة الأمل حتى الاشمئزاز. وحسب بعض الروايات يمكن أن تكون أودري لورد فظيعة في علاقاتها الحميمة، وكذلك سوزان سونتاج. لكني لا أزال أحب أعمال جميع هؤلاء النساء، وأقرؤها (وفي بعض الحالات أعلِّمها) بانتظام. ولأكون صادقة تمامًا، تزيد معرفتي بصفات سونتاج السلبية من متعة قراءاتي.
أَحِبَّ الفنَّ ولا تغفرْ للفنان
في النهاية، إن السؤال: «هل يمكنني أن أحب الفن وأكره الفنان؟» هو موضع نقاش. والجواب الذي تتوصل إليه ديديرر هو: نعم، سواء أحب المرء ذلك أم لا. والسؤال الأفضل هو، ماذا بعد ذلك؟ ماذا نفعل بما يسميه الألمان «حبنا للفن»، عندما يستمر إلى ما بعد الكشف عن إساءات الفنان؟ ومهما ألحَّ علينا الشعور بأن «حسّنا الأخلاقي يجب أن يتوازن»، فإن هذا التوازن لا يمكن تحقيقه بشكل مثالي مع حبنا للعمل الفني. فما إنْ يوفر العمل الفني طريقة لفهم العالم واستكشافه، حتى يكون من غير الممكن دائمًا إزالة تأثيره، أو فصله عن الذات التي ساعدت في خلقه.
المصدر:
https://www.newyorker.com/books/under-review/can-you-love-the-art-and-hate-the-artist