بواسطة خالد البكر - باحث سعودي | يوليو 1, 2018 | تراث
يزهو كثيرٌ من المثقفين المسلمين بمنجزات الحضارة الإسلامية وإشراقاتها على الفكر البشري؛ إذ قدّمت نماذج ورؤى مبتكرة في مختلف نواحي الحياة (من عقيدة وفقه، وطب وصيدلة وعقاقير، وفلك، وحساب، وجبر، وأدب وشعر، وتاريخ، وجغرافيا)، فساهمت في دعم مسيرة الحضارة الإنسانية وفي تشكيل شخصيتها. بل اتصفت ببُعدها التواصلي وانحيازها إلى مخالطة الأمم والشعوب وتقنين التعامل معها، وارتياد المجاهل والدروب ووصف مسالكها وبلدانها. ولقد تجلّت الأشكال التواصلية التي امتازت بها الحضارة الإسلامية في مظاهر شتى جسدتها رحلات الحج، ثم كُتُب البلدانيات، فأدب الرحلة بصفة عامة. غير أن الفعل الحضاري في ذهنية المُبدعين يأبى إلا أن يخرج عن السياق ويُفكر خارج الصندوق، إذ لم يقنع المسلمون بما نالوه من ظفر في البر والبحر، بل اتجهت أفكارهم وتمددت مخيلتهم إلى ما وراء ذلك (أو ما فوقه). إلى الفضاء الفسيح الذي ضربه القرآن الكريم لهم مثلًا وحُجّة للتدبر في صُنع العزيز الحكيم، وحيث تصفُّ الطير وتقبض في أجوائه ما يُمسكهن إلا العزيز العليم.
تلك كانت على ما يظهر من مُسبّبات التفكير في الطيران، وأخرى نجدها في معراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العُلى، إذ احتلت هذه الحادثة الجليلة مكانة كبرى في نفوس المسلمين، ولعلها أوقدت في النفوس جذوة علمية للتفكير في الطيران. وثالثةٌ نقرأ ملامحها فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن الصحابي الكريم جعفر بن أبي طالب له في الجنة جناحان يطير بهما. ثم حين يقرأ المسلم قوله تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) االأنعام: 125ب لا بد وأن تترك في ذهنه تصورًا على نحو من الأنحاء في كيفية وجوده في طبقات الجو.
تلك المعطيات التي أوجزناها فيما تقدم؛ تدعو إلى القول بأن جذور فكرة الطيران ذات عناصر إسلامية خالصة؛ فلحضارة الإسلام قصَب السبْق في زرع الفكرة في التراث الإنساني المشترك، حيث استقر في الذهن أن أول محاولة للطيران قام بها رجلٌ من أبناء الحضارة الإسلامية، وذلكم هو اعباس بن فرناسب ت 274 هـ، الذي عاش في الأندلس خلال القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وكان رجلًا مشتملًا على صنوف متنوعة من ألوان المعرفة الشائعة في عصره حتى قيل عنه: إنه دائرة معارف جامعة متنقلة(1)؛ إذ أجاد الفلك فابتكر آلة لمعرفة الوقت أطلق عليها اسم االمنقانةب وأهداها إلى أمير الأندلس الأموي محمد بن عبدالرحمن (238 – 273 هـ) ونقش فيها أبياتًا من إنشائه، جاء فيها(2):
ألا إنني للدين خيرُ أداة
إذا غاب عنكم وقتُ كل صلاة
ولم تُر شمسٌ بالنهار ولم تُنر
كواكبُ ليلٍ حالكِ الظلمات
بيُمن أمير المسلمين محمدٍ
تجلت عن الأوقات كل صلاة
وبرع في الكيمياء حتى رُمي بالشَّعْبَذة، وتفنن في نظم الشعر فكان يغشى مجالس أمراء الأندلس الأمويين منشدًا ومتكسبًا من ممدوحاته لهم، وحذق الموسيقا فكان يُحسن الضرب على العود ويضع ألحانًا مبتكرة(3)، ثم اكتسب شهرته العريضة من محاولته للطيران، حيث قيل: إنه كسا نفسه بالريش وصعد بعض الأسطح المجاورة وبدأ التحليق لكنه سقط، وصارت قصته تلك مجالًا لتندر معاصريه ومنافسيه من الشعراء، حيث تعرض له الشاعر مؤمن بن سعيد في قصيدة له، وجاء فيها قوله(4):
يَطُمُّ على العنقاء في طيرَانها
إذا ما كسا جُثمانَه ريشَ قَشْعَم
وقد أفرد له (إلياس تيريس سادابا Elias Teres Sadaba) بحثًا في مجلة الأندلس:
Elias Teres Sadaba: Abbas ibn Firnas, en Al-Andalus, vol xxv, ano 1960, pp. 239-249
ويبدو أنه ساد اعتقاد أن صنيع عباس بن فرناس في الطيران هو محاولة يتيمة في التراث الإسلامي لم تعقبها محاولات مماثلة، ربما بسبب إخفاق التجربة الفرناسية.
وعلى الرغم من التسليم بريادة عباس بن فرناس في هذا المجال؛ فإن محاولته للطيران لم تكن وحيدة في تراثنا الإسلامي؛ فقد جرت بعدها بنحو مئة عام أو أقل محاولة ثانية، لكن في المشرق الإسلامي هذه المرة، كان بطلها علمٌ من أعلام اللغة والأدب في الفكر الإسلامي، وذلكم هو الجوهري صاحب الصِّحاح! واسمه اأبو نصر إسماعيل بن حمادب ويصفه ياقوت بأنه من أعاجيب الزمان، ذكاءً وفطنة وعلمًا. واللافت هنا هو سر العلاقة بين اللغة والأدب وبين الطيران! إذ مرّ بنا من قبل أن عباس بن فرناس كان شاعرًا مجيدًا. فهل للرحلة بين الكلمات واشتقاقاتها والرحلة في طلبها من مظانها دورٌ في ذلك؟ أم أن خيال الشاعر يرتفع إلى آفاق عالية فيطير من فضاء الشعر إلى السماوات العُلى؟
أيًّا ما كان الأمر؛ فقد عُرف عن الجوهري ولعه الشديد بالأسفار والتنقل، اوكان يؤثر السفر على الحضر، ويطوف الآفاق، واستوطن الغربة على الساق، فزار العراق، والحجاز، وخراسان، والدامغان، ونزل نيسابور وفيها جرت محاولته للطيران. حيث روى الرواة في ذلك أنه عرضت له وسوسة فانتقل إلى الجامع القديم بنيسابور، فصعد سطحه، فقال: اأيها الناس، إني قد عملت في الدنيا شيئًا لم أسبق إليه -ربما كان يعني هنا تأليفه كتاب الصِّحاح- فسأعمل للآخرة أمرًا لم أسبق إليهب، وضم إلى جنبيه مصراعي باب، وتأبطهما بحبل وصعد مكانًا، وزعم أنه يطير، فوقع فمات.. كان ذلك في سنة 393 هـ، وقيل 400 هـ(5).
لقد ظن الجوهري أنه سبق إلى التفكير بالطيران، ولم يكن الأمر كذلك -كما هو معلوم- فلعله لم يسمع بمحاولة ابن فرناس من قبله في بلاد الأندلس، أو أنه أراد أن يقول بأنه أول من تبنى هذه الفكرة في المشرق الإسلامي. وفي هذا ما يفتح مجالًا لإثارة تساؤلات حول عدم رواج مثل هذه الأفكار الجديدة في أنحاء العالم الإسلامي، رغم أنهم ضربوا أمثلة رائعة في التواصل العلمي والثقافي عبر الرواية وأسانيدها والكتاب وإجازاته؟
والوجه الآخر من التساؤل؛ هو حول عدم استكمال مثل هذه المحاولات ومُراكمتها وتعميق تجربتها والبناء عليها حتى تستوي مشروعًا إبداعيًّا ناجزًا، رغم أن الأوساط العلمية كانت تُدرك أهمية استكمال المشروعات العلمية والمناهج الجديدة في البحث النظري أو في العمل الإبداعي، مثلما فعلوا في كتب معاجم الرجال التي أكمل اللاحق فيها عمل السابق وذيّل عليه ووصله، أو مثلما فعلوا في كتب تواريخ المدن أو أدب الرحلات، أو حتى في مشاريع المياه وهندسة الري، أو أعمال الزخرفة والبناء؟
فعباس بن فرناس لم يفكر أحدٌ من أبناء بلده بمتابعة تجربته وتطوير فكرته، بل إنه هو نفسه لم يكرر هذه المحاولة مرة أخرى، رغم أنه نجا من الموت واكتشف سبب وقوعه على الأرض! ومردُّ ذلك في تقديري هو أن هذه المحاولات لم يلتفت إليها الناس واعتبروها ضربًا من الجنون، بل صارت ميدانًا للتندر والتشنيع بصاحبها، كالذي فعله الشاعر مؤمن بن سعيد بغريمه عباس بن فرناس. وحسبُك أن تقرأ في المصادر أن ما قام به الجوهري في محاولته الطيران، إنما هو إثر إصابته بـ الوسوسة!
بواسطة خالد البكر - باحث سعودي | نوفمبر 1, 2017 | تراث
لبلاد الحرمين الشريفين أهمية خاصة في نفوس المسلمين قاطبة، على تعاقب أزمانهم وتباين أماكنهم، فهي قاعدة للتواصل الحضاري بين أطراف العالم الإسلامي ووسطه؛ إذ كان موسم الحج يُعد ملتقًى سنويًّا تتعارف فيه المجتمعات الإسلامية بعضها على بعض، علاوة على كونه مناسبة ثقافية واجتماعية واقتصادية تتجسد فيها مشاعر الأمة الواحدة، وتتبلور قيمها وأفكارها، وتمثل الرحلات المتعددة التي انطلقت من مختلف بقاع المسلمين، مستهدفةً أداء فريضة الحج، وملاقاة أهل العلم، لونًا من ألوان التواصل الحضاري بين مشرق العالم الإسلامي ومغربه، وشاهدًا على الدور الريادي لبلاد الحرمين الشريفين عبر العصور، ولما كان أولئك المرتحلون قد بذلوا عنايتهم في وصف طرق الحج؛ فإن اهتمامهم بوصف المكان واستقصاء أحوال السكان في الحجاز كان مضاعفًا، فقدّموا صورًا مكتوبة لمعالم المنطقة وما طرأ على أحوال الحياة العامة فيها من مدّ وجزر، وإقبال وإدبار عبر مسيرتها التاريخية العظيمة.
وتُعد رحلة ابن رُشيْد الفهري وثيقة تاريخية لموسم الحج سنة 684هـ، فماذا جاء فيها؟ يَجدُر بنا ابتداءً أن نُلمّ بشخصية صاحب الرحلة؛ فهو محمد بن عمر بن رُشيد الفهري السبتي، نسبة إلى سَـبتة الواقعة على مضيق جبل طارق شمال المغرب الأقصى، حيث ولد فيها في رمضان سنة 658هـ، نشأ محبًّا للعلم، فاتجه منذ بداية تكوينه العلمي لدراسة الأدب واللغة، ثم أكبّ على تحصيل علم الحديث وضبط أسانيده ورجاله حتى وُصف بأنه من خُدام الكتاب والسُّنـة، لم يكتفِ ابن رشيد بمحصوله العلمي هذا؛ بل نظر في التفسير واعتنى بالأخبار والتواريخ، وصار ذا حظوة عند مختلف شرائح المجتمع لما يُحْسنه من علوم ومعارف، وعند بلوغه الخامسة والعشرين من العُمر؛ قرّر الخروج إلى المشرق لأداء فريضة الحج وملاقاة علماء العصر ومجالستهم والحصول على إجازات علمية منهم؛ إذ كانت الرحلة إلى المشرق مما يُعزز المكانة العلمية لطالب العلم في الغرب الإسلامي، بدأ ابن رُشيد رحلته إلى الحجاز في سنة 683هـ، وصحبه فيها الكاتب الأديب أبو عبدالله محمد بن الحكيم الرُّندي، وقد دوّن مشاهداته ومسموعاته وملحوظاته في أثناء رحلته هذه في كتابٍ أسماه: «مِلءُ العَيْبَة بما جُمع بطول الغيْبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة»، اشتمل كتاب الرحلة على تراجم واسعة لشيوخه في الحواضر الإسلامية التي نزل بها، كما تضمَّن عددًا من عناوين الكتب المقروءة والمسموعة، إضافة إلى وصف طريق الحج.
المراحل والمناهل
لم يتوجه ابن رُشيد إلى الحجاز مباشرة، إنما قصد الشام أولًا وأمضى بها نحوًا من العام، ثم خرج من دمشق في ركاب الحجيج من أهلها، مستقبلًا وجهة بلاد الحرمين الشريفين «والوَجدُ مُحتدمٌ والشوقُ غير مُكتتم» كما قال، اجتمعت قوافل الحجيج في ميدان الحصى -جنوبي دمشق- وهو مكانٌ فسيح يُـتخذ مصلًّى للعيدين، وقد اختلط المسافرون مع ذويهم الذين جاؤوا للتوديع في صباح الإثنين الحادي عشر من شوال من سنة 684هـ، فسالت الدموع في أوساط تلك الجموع، وفي عصر ذلك اليوم تحركت القافلة فحطّت رِحالها بقيْسارية، ثم أكملت مسيرها في اليوم التالي إلى بُصرى، فوصلتها بعد صلاة الظهر من يوم الجمعة الخامس عشر من شوال، أي أن القافلة استغرقت أربعة أيام في اجتياز المسافة من دمشق إلى جنوب الشام، ومن بُصرى انطلقت القافلة إلى وادي الأزرق -دون تيماء- فأقاموا به يومين ريثما يلحق بهم من تأخر عنهم من أفراد القافلة أو من أبطأت به راحلته في المسير، ثم غادروا إلى (جُـفار) وهي منهل ماء يرده الوافدون من حجاج الشام، وكان الركب الشامي يتألف -وفقًا لتقدير ابن رشيد- من ستين ألف راحلة من دون الخيل والبغال والحمير.
ومع استهلال ذي القعدة سار الركب الشامي إلى تبوك، وقد استرعى انتباهه أن الناس تزيّنوا بأسلحتهم قبيل دخولهم تبوك، وتلك عادةٌ دَرَجوا عليها؛ إذ كانوا يعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها على تلك الهيئة، وفي تبوك شاهد ابن رشيد عددًا من البساتين والنخيل، فوصف عين تبوك بأنها عبارة عن صهريجٍ كبير مطوي بالحجر يجتمع فيها كثيرٌ من الماء العذب، غير أن الماء يقلّ فيما بين تبوك والعُلا -وهي المرحلة التالية في طريق الحج الشامي -حتى إن بعض الحجيج مات عطشًا في ذلك الطريق، وأشفى بعضهم على الهلاك إلى أن استنقذهم الله بهطول المطر، فسقى الناس ودبّ فيهم النشاط مع رائحة الشيح التي انبعثت في جوف الليل عقب نزول المطر. وثمة ملاحظة سجلها ابن رُشيد في أثناء إقامتهم في العُلا، وهي أن الحجاج الشاميين كانوا يتركون بعض أمتعتهم في العُلا بقصد التخفيف عن رواحلهم، فإذا فرغوا من الحج والزيارة عادوا إليها وأخذوها معهم. ومن العلا توجه الراحلون إلى وادي القرى وكان خرابًا حينذاك، وتعجلوا المسير منه «والأرواحُ تكاد تفارق الأجساد شوقًا إلى طيبة» فوصلوا موضع عيون حمزة -المَخيض- على مشارف المدينة عصر يوم السبت الثاني والعشرين من شوال، وأصابهم عند الغروب مطرٌ شديد أطفأ نيرانهم.
صور اجتماعية
أشار ابن رشيد إلى بعض العادات والتقاليد في الحجاز؛ فمنها ما اعتاده أهل المدينة من الخروج إلى ظاهر المدينة لتلقي قوافل الحجيج وتهنئتهم بالوصول إلى مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى ما كانوا يُتحِفون به القادمين من تمر المدينة، حتى إن بعضهم كان يستخدم عصيًّا في أطرافها ما يشبه الوعاء الصغير، فيضع التمر بداخله، ثم يرفعه إلى أهل القباب المُستترة فوق الرواحل، أما أهل مكة فكانوا يخرجون أيضًا -كبارًا وصغارًا- لتلقي الحجيج قبيل دخولهم مكة، فيتعلقون بهم عارضين خدماتهم لتعليم الحجيج المناسك، وقد تدرّب هؤلاء جيدًا على هذا العمل، وحفظوا من الأدعية والأذكار ما يُعينهم على حسن أدائه، ولعل هذه الملحوظة التي سجلها ابن رُشيد تُعد من الإشارات المبكرة إلى مهنة الطوافة، ولاحظ أيضًا أن أهل مكة اعتادوا على إعداد الأطعمة للحجيج والخروج بها إلى عرفة يوم التاسع من ذي الحجة، وهم يتفاوتون في ذلك كلٌّ حسب استطاعته، أما الأشربة فقد كان الحجيج يصطحبون معهم أواني صغيرة لحفظ الماء يسهل حملها ويواريها الحاج تحت ثيابه، وقد أسماها ابن رشيد: «زميزمية صغيرة جدًّا»، وتلك أيضًا إشارة مبكرة إلى تسمية الأواني الصغيرة المُخصصة لحفظ المشروبات باسم «زمزمية»، ولقد أبدى امتعاضه من ترك بعض الحجيج لسُّنة المَبِيت بمنى ليلة التاسع من ذي الحجة -ربما لأسباب أمنية- واجتماعهم تلك الليلة في عرفة وإيقادهم الشمع على جبل عرفات طوال الليل، وعبَّر عن ضِيقه بكثرة مُخلّفات الناس في عرفة حتى إنه لم يجد موضعًا نظيفًا للصلاة.
الأحوال الجوية والبيئية
اعتنى ابن رُشيد برصد الأحوال الجوية التي أظلته في طريق رحلته، فيستفاد مما أورده أن الحج في موسم سنة (684هـ) جاء في فصل الشتاء، حيث اشتد البرد وكثرت الأمطار، وعبر عن ذلك بقوله: «كان المطر ينزل أمامنا فما نقدُم منزلًا إلا ألفيناه قد مُطر بين أيدينا»، ففي موضع عيون حمزة على مشارف المدينة، أصابهم مطرٌ شديد حتى ساحَ الماء على وجه الأرض، فلما توقف المطر وأصْحَت السماء؛ أوقد الناس نيرانهم للتدفئة ولتنشيف ثيابهم، وفي الهزيع الأخير من الليل وأثناء استعدادهم لدخول المدينة، ارتفعت أصوات الحُداة، واهتاجت القلوب وخفقت، وهَمَعت الدموع وسالت، ولمَعت البروق من آفاق طيبة وتتابعت، فما لمع برقٌ إلا ضجّ الناس بالصلاة والسلام على النبي الكريم، وعندما غادروا ميقات ذي الحليفة متوجهين إلى مكة عصَفت بهم ريحٌ باردة شديدة، ملأت أجسامهم وثيابهم بما سفـّـت عليها من التراب، فاضطر صاحبنا إلى لف عمامته على بطنه، بينما لجأ آخرون من زملائه في القافلة إلى لبس المخيط من شدة البرد، ولقد لاحظ ابن رُشيد كثرة الغزلان والأرانب بالقرب من رابغ حتى إنها كانت تتخلل رواحلهم بحيث يستطيع المرء أن ينالها بيديه، وقد علت صيحاتٌ من القافلة: حرامٌ حرام، لتحذير المُحرمين من الصيد، وحين دخولهم مكة كانت الأمطار تنزل بغزارة، فميزاب الكعبة يصبُّ من ماء المطر والناس تطلبه التماسًا لبركته، فازدحموا في الحِجْر لأجل ذلك حتى غصّ بهم، ومن لم يستطع دخول الحِجر استعان ببعض الموجودين بداخله فيعصر له بَلَل ثوبه من ميزاب الكعبة، ووصل الماء إلى المسعى حتى كاد يمنع الساعين من الإسراع بين المِيلين الأخضرين، وأما ابن رُشيد فقد شرع في قراءة القرآن الكريم في طوافه أثناء نزول المطر مُستجيبًا لنصيحة رفيقه في الرحلة.
المشاهد والآثار
اشتملت رحلة ابن رُشيد على مادة تاريخية أثرية قيّمة، فمنها وصفه لمدائن صالح بأنها أرضٌ رملية متسعة، تحفُّ بها الجبال كأنها أسوار، ولها مدخلٌ ضيّق كأن جانبيه مصراعا باب مرتفع، أما بيوتها المنحوتة فهي بديعة الإتقان فارهة النقش، لم يتغير أكثرها كأنها قريبة العهد بالصنعة، وبعض تلك البيوت تشققت حجارتها بسبب الأمطار، وبعضها كان مملوءًا عظامًا، ويُعد البقيع من المشاهد البارزة في المدينة، فقد تعرّف ابن رشيد في أثناء زيارته لبقيع الغرقد على قبر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو في طرف البقيع، ووقف على قبر فاطمة بنت أسد -والدة علي بن أبي طالب- رضي الله عنهما، وقرأ نقشًا مكتوبًا على قبرها، وفيه: «ما ضمَّ قبرٌ أمّ أحد، كفاطمة بنت أسد»، وفي المسجد النبوي؛ شاهد خزانة كتب مقابلة للروضة الشريفة، حيث تجمع فيها الكتب الواردة بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مختلف الأقاليم الإسلامية، أما في مكة؛ فقد أشار إلى وجود حجرٍ في إحدى طرقاتها يتمسّح به الناس طلبًا للبركة، وهو حجرٌ بارز أمام دارٍ قيل: إنها دار أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وإن الحجر مرّ به النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو شائعٌ عند الناس إذ ذاك.
المساجد
تضمنت مشاهدات ابن رُشيد معلومات قيّمة عن عمارة الحرمين الشريفين، إضافة إلى ذكر أهم المساجد التاريخية بالحجاز وقتذاك، فقد وصف جوانب من المسجد النبوي، فأشار إلى أن محراب النبي عليه الصلاة والسلام يقع في وسط المسجد بين القبر والمنبر وهو مُسطح برخام مُجزع، وأما سائر أرض المسجد فهي مفروشة بالرمل الأحمر، في حين يقع المنبر في وسط المسجد، وفيما بين القبر والمنبر أرضٌ منخفضة انخفاض يسير عن بقية أرض المسجد فكأنها صهريج صغير، ومن المساجد التي صلى فيها ابن رُشيد بمكة؛ مسجد العقبة بمنى حيث بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أشار إلى مسجد إبراهيم (أو مسجد عُرنة) في آخر عرفات من جهة مكة، ولم يكن مسقوفًا في زمن ابن رشيد، ووصف مسجد الخيف بمنى، فذكر أنه مسجدٌ كبير لكن ليس له بابٌ يصونه ولا سقفٌ يكنه إلا في آخره من جهة القِبلة، ويوجد في وسطه موضع فيه تجصيص يقال: إنه مصلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذا كان الناس يتبركون بالصلاة فيه، وحين فرغ ابن رُشيد من أداء الفرض؛ غادر مكة في الخامس عشر من ذي الحجة متوجهًا إلى المدينة ثانية، فأقام بها قليلًا، ثم ودّعها في الثامن والعشرين من ذي الحجة عائدًا إلى بلده، وهو ينشد:
أودِّعُكم وأُودِعكم جَناني
|
|
وأنثرُ عَبْرتي نثرَ الجُمَان
|
وقلبي لا يريدُ لكم فِراقًا
|
|
ولكن هكذا حكم الزمـــان
|