لا تحرر الحرية

لا تحرر الحرية

التحرر «هو حقي في أن يكون لي رأيي الخاص، ووعيي الخاص». يمكن لكثيرين العيش بشكل مثالي دون تحرر، كما يمكن أن يكون التحرر في تحمُّل المسؤوليات مُفزِعًا في بعض الأحيان. التحرر هو قيمتنا الأولى، ومع ذلك ليس الجميع في حاجة إليها». (ليودميلا أوليتسكايا، «مقابلة في سفوبودا»، 2023م).

أنا لا أشعر بأنني حرة. لم أعترف بهذا الشعور لأحد من قبل، خوفًا من أن يُنظر إليَّ على أنني مأساوية أو مدلَّلة. ففي النهاية، أنا أنتمي إلى الاتحاد الأوربي: فهل يحق لي أن أشتكي من انعدام التحرر؟ لكن، عندما سألتني أستاذتي للغة الروسية عما إذا كنت أشعر بالحرية، لم أستطع الكذب. لقد قرأنا للتَّو فقرة مؤثرة للروائية الروسية ليودميلا أوليتسكايا تصف فيها الحرية بأنها «حق المرء في التمسك بوعيه». لم أستطع إقناع نفسي، هذه المرة، بالكذب حيال هذا الأمر. وها أنا الآن، بعد سنوات من الاختباء الحذر، أصرح لروسيَّةٍ بأني لا أشعر بأنني حرة.

أريانا ماركيتي

وكما كان متوقعًا، فقد قُوبِل تصريحي بمزيج من المفاجأة والازدراء الخفي. لقد بدا أن تعابير وجه الروسية تقول: «ما الذي تعنينه بقولك: إنك لا تشعرين بأنك حرة؟ فهنا يمكنكِ حقًّا فعلُ أي شيء تريدينه!».

وانطلاقًا من وجهة نظرها، أستطيع أن أرى لماذا قد يُنظَرُ إلى تصريحي وكأنه تذمُّرُ إنسانٍ غربيٍّ جاحدٍ بعيد من الواقع. وعلى أي حال، فأنا أتمتع بقدر أكبر من التحرر في بلدي (إيطاليا)، أكثر مما يتمتع به الناس في بلدان عديدة، حيث يواجه المواطنون السجن أو الموت بسبب التعبير عن آرائهم، أو لمجرد أنهم يعيشون بكيفية تعتبرها الحكومة الحاكمة لا أخلاقية. يمكنني المشاركة في الاحتجاجات؛ وارتداء الملابس بالطريقة التي تروقني؛ كما أستطيع أن أتزوج من أريد؛ وأن أقوم بأشياء أخرى كثيرة لا ألحظها حتى من خلال وجهة نظري المفضلة. وعلى الرغم من ذلك، فأنا لا أشعر بأنني حرة.

أحسست لمدة طويلة من الزمن بأنني لا أملك الحق في تأكيد هذا الشعور. لكن هذه المرة خطرت لي فكرةٌ مفاجِئَة جعلتني أعيد النظر في موقفي: «لماذا يكون من الخطأ دائمًا البحث عن تحرر أكبر؟ لماذا يجب أن نضع حدودًا لطموحنا في أن نكون أحرارًا؟ ومن له الحق في فرض تلك الحدود؟».

من التحرر إلى الحرية

«يُحرَمُ الفرد بشكل مطَّرد من القرارات الأخلاقية المتعلقة بالكيفية التي يجب عليه أن يحيا حياته الخاصة وَفقها، وبدلًا من ذلك فهو يُحْكَمُ، ويُطْعَمُ، ويُكْتَسَى، ويُلَقَّن، كوحدةٍ اجتماعية متضمَّنة في وحدةِ إيواء ملائمة، ويَتمتَّع بالتوافق مع المعايير التي تُحقِّقُ المتعة والإشباع للجماهير». (كارل يونغ، «الحضارة في مرحلة التحول»، المجلد العاشر، 1964م).

تُنطَقُ كلمة «التحرر» اليوم بثقة، حتى بلا مبالاة، كشيء لا يحتاج إلى تعريف ولا إلى توصيف. فالأزمنة التي كان فيها الفلاسفة يتساءلون حول المعنى الحقيقي للتحرر ويحاولون القبض على طبيعته المنفلتة، طواها النسيان. لدى الرجل الغربي الحديث القليل من الحقائق في حياته؛ إحدى هذه الحقائق أنه يعرف ما الذي يعنيه أن يكون رجلًا حرًّا. لكن، حينما يتكلم الرجل الغربي البسيط عن التحرر فهو يتكلم عادة، وفي الواقع، عن الحرية.

ليودميلا أوليتسكايا

كانت حنة أرندت (1906- 1975م) أول فيلسوفة تشير بوضوح إلى أهمية التمييز المفاهيمي بين التحرر والحرية. لقد اعتبرت أرندت هذا التمييز حاسمًا لفهم الحياة السياسية في الأزمنة الحديثة. ومنذ عهد قريب، تحدثت المنظِّرة السياسية حنة فينيشل بيكتين عن الفرصة الفريدة التي تتيح للمتحدثين باللغة الإنجليزية الاختيار بين كلمتي التحرر والحرية، وتضمن لهم القدرة على تسمية مفهومين مختلفين تمامًا. (السياسة، العدالة، العمل، 2016م). وكما لحظت بيكتين، الحرية نظام من القواعد يملك الفرد داخله القدرة على اتخاذ القرار. أما التحرر، في المقابل، فهو حالة أوسع وأعمق وأكثر خطورة، تفترض الإعفاء من نُظُم القواعد بصفة كلية. بيد أننا قد نفهم الحرية بنحو أفضل حين ننظر إليها باعتبارها إمكانية لتجاوز ما هو موجود بالفعل نحو إبداع شيء جديد، أو كما تقول أرندت، غير المتوقع.

إذن، فبينما يبدو الحديث عن «الحرية» حديثًا ذا معنى داخل إطار سياسي من مثل إطار الدولة، حيث يتم تزويد الأفراد بمُخطَّطٍ يُوجِّه أفعالهم، غالبًا ما يكون الحديث عن التحرر حديثًا مُضَلِّلًا، إن لم يكن حديثًا لا معنى له إطلاقًا في مثل هذا السياق. إن التحرر مفهوم على أنه إمكانية لإبداع شيء جديد وغير متوقع -شيء يعكس بحق الوعي الفريد للفرد- يثير الامتعاض في معظم الأنظمة السياسية التي تعتبره انحرافًا عن البنية، ولذلك فهو محدود جدًّا، إن لم يكن مقموعًا.

ويمكن القول: إن أي نوع من التنظيم الاجتماعي يتطلب منا التضحية بدرجة معينة من تحررنا الفردي لتيسير التدفق السلس للحياة الاجتماعية. ولكن إذا كان الهدف من وراء هذا المطلب المتمثل في «التقييد الإرادي للذات» هو اكتساب الشرعية داخل مجتمع يُثمِّنُ التحرر والاستقلال الذاتي؛ عندها ينبغي الاعتراف بأن نتائج التسوية جديرة بالتضحية، بما أن الغرض من القواعد، في النهاية، هو تيسير حياة الأفراد، وليس إملاء إيقاعاتِ وأهدافِ الحياة. وعلى الرغم من ذلك، يصبح التمييز بين الحرية والتحرر حاسمًا في المجتمعات التي تحكمها بنيةٌ مركزية للسلطة. ففي مجتمعات كهذه، قد يكون من الخطير حقًّا الاقتصار فقط على التفكير بمعجم الحريات التي يمكننا الانتفاع بها داخل الإطار المسموح به. ولا ينبغي لنا أبدًا أن ننسى أن الإطار السياسي لا يحظى بالشرعية إلا بقدر ما يستطيع توفير فوائد كبيرة بما يكفي لتسويغ تقليص أشكال التحرر الفردي التي ترافق السلطة المركزية دائمًا. وفي نهاية المطاف، فإن النظر إلى التحرر باعتباره واحدًا من أسمى قيم الحياة الإنسانية يجب أن يُلهِمَنَا لبناء نُظُمٍ اجتماعية واقتصادية تسمح للناس بلعب دور فاعل ومركزي في تحديد حياتهم، بدلا من اختزالهم إلى موارد يلزم تنظيمها وإدارتها، أو إلى وحدات يتعيَّن توفيرها.

حدود الحرية في الديمقراطيات الليبرالية

«افتح أي كتاب تريد في علم الاجتماع، أو أصول التشريع، وستجد دائمًا أن الحكومة، وتنظيمَها، وأفعالها، تشغل مكانة رفيعة داخله، حتى إننا نُعوِّد أنفسنا على الاعتقاد بأنه لا يوجد شيء آخر غير الحكومة ورجال الدولة… ومع ذلك، فإنك بمجرد أن تنتقل من المادة المكتوبة إلى الحياة ذاتها، وتُلقيَ نظرة خاطفة على المجتمع، حتى يُذهِلك الدور المتناهي الصغر الذي تلعبه الحكومة هناك». (بيتر كروبوتكين، «الاستيلاء على الخبز»، 1892م).

كارل غوستاف يونغ

إن ما يجعلني أشعر بانعدام الحرية حتى في ظل ديمقراطية ليبرالية هو واقع أنني أفتقر إلى القدرة على التعبير عن وعيي بطريقة مُرضية بالفعل. ليست لدي القدرة على رؤية مُثُلِي تنعكس بشكل ملحوظ وملموس على صفحة العالم من حولي. أستطيع التعبير عن هذه المُثُل بأكثر الطرق سطحية. وأستطيع أن أكتب عن آرائي، وأن أشاركها مع الآخرين، حتى نشْر أفكاري في المجلات… ولكنني ممنوعة من أخذ المبادرة لجعل قِيَمي بمثابة واقع سياسي.

أجل، يمكنني دائمًا التصويت لممثل سياسي؛ ولكن ما الذي سيضمن لي أن آرائي ستُمَثَّل (ناهيك عن تنفيذها) بالشكل الصحيح؟ حتى لو حصل أن وُجِدَ مرشَّح أُومِن حقًّا بأنه سيضع آرائي في الحكومة، فلا شيء يضمن أنه سينتهي إلى القيام بما صوتت عليه من أجل القيام به. الجميع يعرف هذا، ولهذا السبب سئم الناس أكثر فأكثر من السياسة. وعلاوة على ذلك، فإن التصويت لصالح السياسيين ليس له أي تأثير يُذكَر في حياة الناس الذين ينشغلون أساسًا بالعثور على وظيفة، وتغطية نفقاتهم، والعيش في بيئة صحية. إن السياسة بعيدة كل البعد من التجربة الملموسة لمعظم الناس، إنها تفشل في إلهام أي ثقة أو أمل في التغيير عند كثيرين. ولكن، حتى لو افترضنا حُسْنَ نيات ممثلينا، فكيف يمكن لقلة قليلة من السياسيين امتلاك المعرفة والخبرة لاتخاذ القرارات بشأن الأشياء التي لا يعرفون عنها إلا القليل، أو ربما لا يعرفون عنها أي شيء؟ كيف يمكن لوزير الزراعة الذي لم يزرع هكتارًا واحدًا من الأرض في بلده أن يتخذ القرارات الصائبة للمزارعين في أنحاء البلاد ذات المناخات والتضاريس المتنوعة؟ لماذا لا يكون الأشخاص الذين لديهم تجارب مباشرة مع التحديات التي يواجهونها هم من يتخذ القرارات السياسية والمباشرة؟

بيتر كروبوتكين

ويُبَرَّرُ حرمان الناس هذا، في بعض الأحيان، بالادعاء أن هؤلاء إذا لم يخضعوا لحكم وتوجيه سلطة عليا، فإنهم لن يهتموا سوى بأنفسهم. ومع ذلك، بما أن الحكومة يُكوِّنها الشعب، فكيف يمكننا أن نثق في أن مصالح مجتمع لا يعرف عنه السياسيون شيئًا في الغالب، وأحيانًا قد لا يكونون قد سمعوا به أصلًا، ستؤخذ على محمل الجد؟ إن شخصًا لديه مصلحة في قضية معينة، وهو جزء من مجتمع ما، تكون لديه حوافز أعلى لاتخاذ قرار يسمح له بحفظ رأسماله الاجتماعي؛ لأنه إذا اتخذ قرارًا يؤدي إلى تدهور المجتمع الذي ينتمي إليه، فسيكون مرغمًا حينها على تركه. ولكن عندما يتخذ ممثل الشعب قرارًا خاطئًا، فمن نلوم؟ وكيف يُحاسَب؟ فقط حينما تكون لوسائل الإعلام أجندتها! إذا مُكِّنَ الشعب بصورة أفضل من تنفيذ تغييرات مباشرة على مصالحه المجتمعية.

إن العالم الذي نحيا فيه منظَّم نظامًا محكمًا إلى درجة أن ذريعة «الحفاظ على النظام» تقتل أي عمل جماعي عفوي يمكن أن ينبثق بشكل طبيعي بين الناس الذين يتشاركون البيئة والتحديات نفسها. ولكن من الذي سيسمح إذن لبعض الشركات بالقدوم إلى أراضي هذا الشعب وتلويث مياهها، كما حدث في فورموزا وتكساس وعدد من الأماكن الأخرى؟ إن الجواب بكل تأكيد هو: لا أحد في كامل قواه العقلية. وعلى الرغم من ذلك، يجادل بعضٌ بأن غير السياسيين لا يتفقون حينما تكون مصالحهم في خطر!

في الواقع، نحن نرى الشعب يتكتل بصورة طبيعية لحل القضايا التي تهمه. نحن نرى ذلك في شعب الشيران الذي ينظم أفرادُهُ أنفسهم ضد العنف، أو في شعب كابور الذي يأخذ الأمور بيده لمنع اجتثاث الغابات. ليست هذه حالات استثنائية؛ فالتنظيم الذاتي يحدث بنحو طبيعي عندما يُعنى الشعب بشيء ما، ويسمح لنفسه بالقيام بما يلزم للدفاع عن مصالحه الخاصة. وقد وثَّق كل من بيتر كروبوتكين وديفيد كرايبر وديفيد وينجراو في الآونة الأخيرة، توثيقًا جيدًا، ميلنا الطبيعي إلى التعاون والاتحاد الحر. (فجر كل شيء: تاريخ جديد للإنسانية، 2021م).

يميل البشر بطبعهم إلى التعاون الحر بدلًا من السلوك الفردي الخالص. لكن في مجتمع كمجتمعنا، حيث تُنَظِّمُ آلاف القوانين كل جانب من جوانب حياتنا، وحيث تعتني الهيئات الحكومية بكل شيء، كيف يمكن لتحرر وعينا أن يعبر عن ذاته بشكل عملي؟ ما الذي يعنيه فعلًا أن يكون المرء حرًّا في عالم يُنَظَّمُ فيه أسلوب المجتمع سياسيًّا لأجل المجالات الرئيسة التي تُشكِّل حياتنا، والتي تقع أساسًا خارج سيطرتنا؟

كانت هذه هي الأفكار التي عبَّرتُ عنها لأستاذتي الروسية الصبورة بأسلوب يفتقر إلى البلاغة، فما كان منها إلا أن أجابت: «جيد، ولكن في الواقع، ما حاجتنا إلى منظمات ضخمة؟ فأنا أثق بجارتي أكثر من ثقتي بأي رئيس».


المصدر: https://philosophynow.org/issues/163/The_Unfreedom_of_Liberty