أعباء الذاكرة ومسؤولية الكتابة
ما الحدود الفاصلة بين الذاكرة والنسيان؟ كيف يمكن للكتابة أن تكون سلاحًا في مواجهة محاولات المحو والتهميش؟ هل تستطيع الذاكرة الجمعية مقاومة سطوة النسيان المفروضة من قبل الجناة؟ وما دور الأدب في منح صوتٍ للضحايا الذين لا يستطيعون الهروب من ذكرياتهم المؤلمة؟ هل يمكن للكتابة أن تكون وسيلة للتحرر من أعباء الذكريات؟ وكيف تساهم الذاكرة في تكيف الإنسان مع ظروف الحياة القاسية؟ ما المسؤولية التي يتحملها الأدباء في حفظ ذاكرة الأجيال الماضية وضمان أن تبقى معاناتهم جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الإنسانية؟ وكيف يمكن للأدب أن يكون له دور في تحدي النسيان؟ هل يمكن أن تكون الكتابة ضد النسيان، دعوة للشهادة على الأحداث المؤلمة وتوثيقها، لتحقيق التحرر والتجدد؟
تظل هذه الأسئلة محور تأمل في دور الأدب في حفظ الذاكرة ومقاومة النسيان، وتدفع للبحث عن كيفية استخدام القدرات الإبداعية والأدبية لضمان أن تبقى أصوات الضحايا حية ومؤثرة، وأن تكون الكتابة وسيلة للتضامن والبحث عن العدالة.
دور الكتابة في تحدي النسيان
الذاكرة والنسيان، على الرغم من تداخلهما، لكنهما يحملان جوانب متمايزة لها أدوار حيوية في تشكيل التجربة الإنسانية. يناقش المفكر بول ريكور في كتابه «الذاكرة، التاريخ، النسيان» كيف أن الذاكرة هي عملية استحضار أحداث وتجارب الماضي، أما النسيان فهو فقدان أو إهمال تلك الذكريات. ومع ذلك، فإن ريكور يرى أن الذاكرة والنسيان ليسا متناقضين تمامًا بل يمكن أن يكونا متكاملين؛ حيث يساعد النسيان في تخفيف حدة الذكريات المؤلمة، ما يسمح للفرد بالمضي قدمًا.
تحمل الكتابة قوة فريدة في توثيق الأحداث والتجارب، بحيث تبقى أداة فعالة في مقاومة محاولات محو التاريخ. ومن المؤكد أنها تساهم في تخليد تجربة الضحايا من خلال توثيقها بشكل إبداعي. من خلال الكتابة يمكن للأدباء تقديم سرديات تتحدى الروايات الرسمية وتساهم في نشر الوعي بالظلم والمعاناة، ويمكن لهم أداء دور حاسم في تحدي النسيان.
يوضح إدوارد سعيد في «الاستشراق» كيف يمكن للكتابة أن تكشف عن الروايات المخفية وتسلط الضوء على التجارب التي تُتَجَاهَلُ أو تُقمَع. من خلال توثيق التجارب والمآسي، تمنع الكتابة فقدان تلك الأحداث في طيات النسيان، وتحفظ الذاكرة الجمعية.
يشير عالم النفس سيغموند فرويد في تحليله النفسي إلى أن الكتابة عن التجارب المؤلمة يمكن أن تكون عملية تحريرية، حيث يتيح التعبير عن الألم للضحايا فرصة للشفاء والتعافي والتجدد. وتختزل الأديبة النمساوية إلفريده يلينك، الحائزة على جائزة نوبل للآداب عام 2004م في مقولتها التالية: «بسبب مصير عائلتي، أشعر بأني ملزمة بالكتابة ضد النسيان. لقد ألزمتني عائلتي بذلك. لم يستطع الضحايا النسيان، أما الجناة فقد سُهِّل الأمر عليهم للغاية»، فكرة جوهرية تتعلق بدور الأدب في حفظ الذاكرة ومقاومة النسيان؛ إذ تلقي الضوء على التناقض الحاد بين الضحايا الذين لا يستطيعون الهروب من ذكريات الألم والمعاناة، والجناة الذين يجدون السبل لنسيان أفعالهم وتبريرها، ما يُظهر فجوة عميقة في الذاكرة الجمعية والتاريخية.
تُعبّر يلينك عن شعورها العميق بالالتزام بالكتابة لحفظ ذاكرة عائلتها، وهي ذاكرة مثقلة بالمعاناة والظلم. يعكس هذا الشعور ضرورة الحفاظ على تاريخ الضحايا والمهمشين، وعدم السماح بأن يُنسى أو يُشوَّه. الكتابة تصبح هنا فعلًا مقاومًا، وسلاحًا ضد قوى النسيان والتهميش التي تعمل على محو آثار الجرائم والمآسي.
تسلّط يلينك الضوء على الفجوة بين الضحايا والجناة فيما يتعلق بالذاكرة. الضحايا مجبرون على العيش مع ذكرياتهم المؤلمة، بينما يستطيع الجناة، بفضل الظروف والسلطات التي يحظون بها، الهروب من تذكيرهم بأفعالهم أو حتى نسيانها تمامًا. هذه المفارقة تعزز من الشعور بالظلم وتدعو الكُتّاب والمبدعين إلى تحدي هذا الوضع من خلال أعمالهم الإبداعية.
ذاكرة النسيان
يمتلك الأدب قدرة كبيرة على إعطاء صوت للضحايا الذين لا يستطيعون الهروب من ذكرياتهم المؤلمة. الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في كتابه «ذاكرة للنسيان» يجسد هذه الفكرة من خلال توثيق معاناة الشعب الفلسطيني وتجربته الشخصية، ويؤكد أن الأدب يمكن أن يكون وسيلة لتخليد تجربة الضحايا وتحقيق العدالة التاريخية، حيث يعبر عن مشاعرهم وآلامهم ويجعل معاناتهم مرئية للعالم.
عندما نقرأ عنوان «ذاكرة للنسيان» لمحمود درويش، نجد أنفسنا أمام ما قد يبدو أنه تناقض ظاهري يتحدى الفهم البديهي للذاكرة والنسيان؛ ذلك أنه عادة ما تُعتبر الذاكرة أداة لحفظ الأحداث والتجارب، بينما يشير النسيان إلى فقدان تلك الذاكرة. لكن درويش، بشاعريته الاستثنائية، يدمج هذين المفهومين معًا، ليفتح الباب أمام تأويلات عميقة حول طبيعة الذاكرة وأدوارها.
يقدّم درويش من خلال هذا العنوان جدلية مثيرة حول العلاقة بين الذاكرة والنسيان. هذه العلاقة ليست تناقضية بالضرورة، بل يمكن أن تكون تكاملية. فالذاكرة تسجل الأحداث والتجارب، بينما النسيان ينتقي منها ما يجب أن يُحتفظ به وما يجب تجاوزه. هذه العملية الانتقائية تعكس قدرة الإنسان على التكيّف مع الظروف وتساعده على المضي قدمًا. وقد يكون ذلك إشارة إلى أن تذكر الأحداث المؤلمة والتجارب الصعبة يمكن أن يكون وسيلة للتحرر منها. وفي هذا السياق، يعبر درويش عن أن تدوين الأحداث وتذكرها بدقة يمكن أن يساعد في توثيقها وتجاوزها والنظر إلى المستقبل بأمل وتجدد.
وعلى الرغم من أن الكتابة نفسها توصف بأنها عملية تدوين للذاكرة، فإنها تحمل في طياتها أيضًا فعل النسيان، حيث يمكن للقارئ أن يختار ما يستحضره من النص وما يتجاوزه، وهي ليست مجرد تسجيل للأحداث، بل هي عملية ديناميكية تساهم في تشكيل هويتنا وقدرتنا على التكيف مع العالم من حولنا.
تتجلى الكتابة في محاولات لإعادة بناء الذاكرة الجمعية وتحدي النسيان. والأدب يحمل مسؤولية خاصة في توثيق التجارب الإنسانية، ونقلها للأجيال القادمة، وتأمين مكان لها في الوعي العام. والكتابة ضد النسيان لا تنحصر في إطار نشاط إبداعي فقط، بل هي دعوة للتضامن مع الضحايا وتأكيد أن معاناتهم لن تُنسى أو تُهمل، كما أنها دعوة للتفكير في كيفية استخدام القدرات الإبداعية والأدبية لحفظ الذاكرة والتاريخ، ولضمان أن تبقى أصوات الضحايا حية ومؤثرة. ومن هنا فإن كتابات الأدباء تظل تذكيرًا متجددًا بأهمية فعل الكتابة لمقاومة النسيان وتأريخ الذاكرات والذكريات معًا.