«مروة» للسعودي حزام بن راشد… رواية تسائل الموروث وتفكك اعتقادات راسخة

«مروة» للسعودي حزام بن راشد… رواية تسائل الموروث وتفكك اعتقادات راسخة

يجد الماضي دائمًا طريقه للتأثير في واقع الشعوب وحاضرها، عبر أشكال عديدة من الموروث الثقافي؛ تتناقلها الأجيال، وتحرص على صمودها رغم تدفق الزمن، وتغير ملامح المجتمعات. غير أن هذا الحضور القوي للموروث، ولا سيما الديني والشعبي، كان نافذة تسلل عبرها بعض المدلسين والمحتالين، الذين استطاعوا التلاعب بالعقول، لتحقيق منافعهم المادية الخاصة، على حساب استقرار المجتمعات، وأمنها، وسلامها… في فلك هذه القضية تدور أحداث رواية «مروة- صراعات البلدة القديمة بين قداسة التمرة وخرافة الطبلة»، للكاتب السعودي حزام بن راشد، والصادرة عن دار نوفا بلس- الكويت.

يحيل عنوان النص وعتبته الأولى إلى القضية الرئيسة للبناء الروائي، التي تتصل بقوة تأثير الموروث، حتى ذلك الذي يجاوز المنطق، ويصطبغ بالخرافة. منح الكاتب دور البطولة لشخصية نسائية «مروة»، ليُعبِّر عن رغبته في إضاءة ما تتعرض له المرأة في المجتمعات العربية من غبن وتهميش، وهي غاية برزت في العديد من أعماله، ومنها روايتيه «سارة»، و«اختفاء سحر». هكذا قرر الكاتب طرق قضايا المرأة، وفي الوقت ذاته تفكيك ممارسات اجتماعية خاطئة، تقود المجتمعات -تحت سطوة اليقين وقوة الاعتقاد بالموروث- للوقوع في براثن التخلف، والسقوط في فخاخ المحتالين.

سلك الكاتب بناءً شبه دائري؛ إذ شرع رحلته السردية بحادثة القبض على بطلته «مروة»، والزج بها في السجن، وعبر أسلوب السرد الذاتي «بضمير المتكلم» على لسان شخصيته المحورية، وعبر تقنيات الاسترجاع والتذكر؛ عاد بالزمن إلى الماضي، إلى جيل أبي البطلة وأمها، اللذين تمردا على قواعد مجتمعهما، وتزوجا على غير رغبة الأهل، وأنجباها. وعبر توالي الأحداث يتكشف ما لحق بالبطلة وأودى بها خلف القضبان. ومع وصول الكاتب إلى النقطة التي شرع بها رحلته السردية، يستمر السرد في التدفق، ولكن في نسق أفقي تتدافع أحداثه بشكل طبيعي إلى الأمام.

وعلى الرغم مما استهل به «ابن راشد» سرده من توطئة، أكد عبرها أن الأحداث ليست حقيقية، وإنما هي من وحي الخيال، فإن الواقع الممتد في أنحاء وربوع الوطن العربي كافة، يخبر عن قصص مشابهة.

كسر التنميط

عمد الكاتب باستخدامه أسلوب السرد الذاتي، إلى إضفاء مزيد من الصدقية والحميمية على السرد، الذي كسر عبره الصورة النمطية للعائلة، بتحويلها من ملاذٍ من سوء العالم وقسوته، لتصبح هي مصدر كل الشرور! فلم يمنح الأب «عبيد» الصورة التقليدية للآباء، بما تحيل إليه من الرعاية، والمسؤولية، والحب، والالتزام، وإنما ألصق به صفات الشهوانية، والرعونة، والانحطاط، واللامبالاة، أما الأم «جواهر» فمنحها الصورة غير النمطية ذاتها، فلم تكن تحمل حبًّا أو حنانًا لابنتها، بل عنَّفتها، واستمرت في معاقبتها -بغير ذنب- على ما اقترفه أبوها، فوجهت سهام انتقامها من زوجها باتجاه ابنتهما، بل استخدمتها وأبوها لتحقيق مصالحهما الشخصية، وإشباع أنانيتهما الفجة، دون الاكتراث بحجم معاناة الابنة، أو عذابها.

ولم يكتفِ الكاتب بكسر الصورة النمطية لشخصيتي الأب والأم، وإنما حاول الغوص في أغوار النفس الإنسانية المعطوبة، والكشف عن أسباب ما لحق بها من عطب، فأضاء ممارسات اجتماعية وأخطاء تربوية، تقف وراء الخلل السيكولوجي للشخوص، فجعل السر في أنانية «عبيد» وانحطاطه الأخلاقي؛ تربية صارمة من والد كان يعنفه ويهينه أمام أقرانه. أما جواهر التي لم تمنح ابنتها حبًّا ولا أمومة، فهي في الأصل لم تحصل عليهما، ولم تَنَلْ حقها في اختيار زوجها، بل فُرض عليها زواج غير متكافئ، ثم تعرضت مرة أخرى للخذلان والامتهان من الرجل الذي ضحّت بكل شيء للزواج به. وعبر هذه الإضاءات؛ مرر الكاتب رؤى ضمنية تحيل إلى تناقض وتعقيد النفس الإنسانية، وتشي بأن كل جانٍ، ربما هو ضحية في قصة أخرى.

قضايا وصراع

طرق الكاتب العديد من القضايا الاجتماعية الشائكة، مثل الاحتيال باسم الدين، واستغلال آلام الناس ويأسهم. كما عرضت الرواية قضايا أخرى منها التفكك الأسري، والقبلية والتفاخر بالأنساب، وتصنيف الناس وفقًا لانتماءاتهم، والفساد، والغش، والاتجار بالمخدرات. زامن التعرض لتلك القضايا ارتفاع حدة الصراع في النص، حد الهيمنة على كل مفاصل السرد. ورَاوَحَ بين صراع خارجي اندلع بين الشخوص وبعضهم، ولا سيما بين منصور وعبيد، عبيد وزوجته جواهر، المطوع أبو لطيف والدجالة «بخيتة». وصراع آخر اندلع في العوالم الداخلية للشخوص، وتصاعدت حدته في دواخل جواهر، التي انقسمت بين مرارة الفرار من أهلها والزواج من «عبيد» على غير رغبتهم، ومرارة الرضوخ لرغبة أبيها والزواج من رجل في مثل عمره، لا تكنّ له إلا الكراهية والنفور. كما انقسمت البطلة «مروة» بين مشاعرها السلبية إزاء أمها، واحتياجها وحنينها العفوي لها؛ وبين فضولها لاكتشاف الحقائق وفضح الخداع، ومخاوفها حد الفزع من العواقب، ومن بطش المحتالين. واندلع الصراع أيضًا في العوالم الداخلية لمرزوق، الذي انقسم بين غضبه على ابنه الفاسد، ومشاعر الأبوة الفطرية التي تدفعه لحمايته.

وأبرز الصراع، بكل مستوياته، تناقضات النفس والعالم. وجسد ثنائيات كلاسيكية راوَحَتْ بين الخير والشر، وبين الحب والكراهية. كما أسهم في التنامي الدرامي، وتحريك الأحداث. وأضفى على النص صبغة تشويقية، عززها ما دفع به الكاتب من استباقات، أحكم عبرها قبضته على القارئ، مثل استباقه بحبس البطلة، وإرجائه الكشف عن ملابسات القبض عليها، وأسباب احتجازها لمرحلة متأخرة من السرد، وكذلك استباقه بقتل «سماهر»، وإرجاء الكشف عن هوية الجناة، ودوافعهم لقتلها.

تقنيات بصرية

اتسمت لغة السرد بالمشهدية. وبرز حضور التقنيات البصرية، التي عززتها خبرات الكاتب في كتابة السيناريو، فبرزت تقنية «عين الكاميرا»، استطاع عبرها نقل الأحداث إلى حيز الرؤية «لا أرى سوى جدران أسمنتية من جميع الجهات… ومن بين بعض الفتحات المستطيلة التي يرسم ويحدد محيطها أعمدة القضبان… كانت تتسلل من خلفها ملامح بعض الوجوه الشاحبة التي تنظر إليّ بكل بلادة… واصلنا المسير» ص 13.

وكما استعان الكاتب بتقنيات السينما، استدعى الحوار المسرحي بكثافة، فعزز عبره الإيهام بآنية الحدوث، كما استفاد منه في إتاحة مساحات لأصوات الشخوص الثانوية بالنص؛ كي تعبر عن ذواتها بحرية. كذلك استدعى بعض الفنون الأخرى مثل الغناء. ووظف ما استدعاه من أغنيات «راشد الماجد» في خدمة الأحداث. وعلى الرغم من تكشف الغموض الذي لف بعض الأحداث في الرواية، فإن ثمة ثغرة سردية بدت في ضبابية الشخصية التي قادت البطلة لمصير السجن، وفي التباس علاقة الأم بها، في حين وُفق الكاتب إلى حد بعيد فيما ساقه من نهاية غامضة، وظهور بخيتة الدجالة مرة أخرى؛ إذ منح القارئ، عبر هذا الغموض، فرصة المشاركة في لعبة السرد، كما مرر رؤية حول أزلية الشر، وديمومة الصراع.