«أبناء الطين» لأحمد عبدالكافي الحمادة… البنية الدِّلالية وتجلِّياتها
تتكوَّن البنى الدِّلالية في النَّصِّ الأدبيِّ من مجموعِ العلاقاتِ التي تؤدِّي إلى عدِّ وجود المعنى مشروطًا بوجود التَّعبير، فيقوم وصف بنية اللغة على المستويين: الصَّوتيِّ والتَّركيبيّ، أي الكيفيَّة أو الأسلوب الذي يؤدِّي الكاتبُ به المعنى.
وإذا ما تتبعنا البنية الدلالية لرواية «أبناء الطين» للكاتب أحمد عبدالكافي الحمادة، ألفينا الكاتب يعتمد لغة شفيفة معبِّرة من خلال استخدام الإيحاءات والإسقاطات والرُّموز في مواضعَ عديدةٍ، بدا فيها الكثير من ملامح لغة تعبيرية جديدة أقرب إلى اللغة الشاعرة من جهة، وإلى تهويمات النفس وبوحها من جهة أخرى مع عدم إغفال ما تختزنه هذه اللغة، من إمكانات تحيل قارئ العمل الأدبي إلى معانٍ أعمق وأشمل عليه التنقيب عنها، أو الغوص في أعماقه للوصول إلى دررها.
غاية اللغة الشاعرة
لجأ الكاتب إلى تقنياتٍ تعبيريةً متميزة ومتمايزة في أسلوبه السَّرديِّ، للوصول إلى لغةٍ دقيقةِ الوصف والإيحاء؛ فاللغة الشعرية ليست مختلفة على صعيد المفردات فحسب، بل كذلك على مستوى العلاقات الدلالية والنحوية التي تربط ما بين هذه المفردات، وكذلك، على صعيد الأسلوب؛ فهي لغة تعتمد التكثيف والتوهج والإيحاء؛ فهي كما تراها سوزان برنار: «لغة موجزة بما فيه الكفاية، موحدة مضغوطة تحتوي على مبدأ فوضوي وهدام؛ لأنها تمردت على قوانين العروض، بل قوانين اللغة المعتادة؛ فهي تذهب إلى ما وراء اللغة بتحطيمها أشكالًا وخلقها أشكالًا أخرى، بما تحمله من تناقض داخلي وتباين جوهري…».( سوزان برنار: جمالية قصيدة النثر، قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، ترجمة: زهير مغامسي، مطبعة الفنون، بغداد، 1993م، ص 16) وهذا ما نجده مرارًا في لغة الرواية فليس خافيًا علينا ذلك التناقض الذي تحمله عبارة: «سأكتب كل شيء وإذا عجزت أن أقول شيئًا، سأفرغ روحي على الورق». فالسارد سيكتب كل شيء، لكنه قد يكون عاجزًا عن أن يقول شيئًا، ثم تأتي العبارة التالية لتزيد التناقض، بل التوهج «سأفرغ روحي على الورق»؛ فهل روحه هي كل شيء أم العجز عن أن تكون شيئًا؟ هذا التساؤل هو غاية اللغة الشاعرة، وهو مطلب السارد/ الكاتب؛ ففي هذه القطعة، لا يريد النص ولا ينوي أن يبوح لنا بالإجابة؛ إذ يتركنا نهبًا لفوضى التخمينات والتأويلات التي يرغب في أن يثيرها فينا كمتلقين.
وكذلك حين يصف لنا اندثار معالم القرية المعجون طينها بطينتهم على حساب المدنية؛ إذ يقول: «كأن ريح أهلي ما زالت تنبعث من بين أزقتها، أكاد أشمها تحت كل حجر أتعثر به، وما بقي من عظام أهلي ورفاتهم الذين قتلوا في تلك الواقعة تعاند الريح، وتحصي علينا صمتنا المخزي».
التناقض أبرز سمات الشعرية -في رأي سوزان برنار- ويبدو واضحًا في التعبير عن ذكرى الأهل؛ رائحتهم أو ريحهم، ومعاندة الريح (الذكرى) لريح (الزمن)، ورفات الأهل تحصي صمت الأحياء المخزي. التناقض بدا في اتخاذه الدال نفسه على مدلولين مختلفين «كأن ريح أهلي ما زالت تنبعث من بين أزقتها، أكاد أشمها تحت كل حجر أتعثر به، وما بقي من عظام أهلي ورفاتهم الذين قتلوا في تلك الواقعة تعاند الريح».
أما التكثيف فيتجلى في المكان الذي تنبعث فيه الريح (ريح أهلي)؛ فهي تنبعث بين أزقتها، والضمير هنا يفترض أنه عائد إلى القرية؛ لأنها هي التي تضم ريح أهل السارد، ولأن تلك الريح/ الرائحة كامنة تحت كل حجر يتعثر به، ولأن فيها عظام أهله ورفاتهم قبل أن يكاد المحراث يدخل بين القبور لفسح مجال للمدنية التي فضّت بكارة الأرض والطين.
إذًا، فالضمير هنا عائد على القرية بيد أنه لم يذكر القرية في الفقرة كلها، بل استبدل بها الضمير مكتفيًا بما أوحاه في ذهن المتلقي من معانٍ تشير إليها، معتمدًا على ذكرها من قبلُ، في موازنة بين قرية الشلال وحي الخالدية، بينما يُفترض في اللغة لو لم تكن شعرية أن تشير إلى القرية صراحة قبل أن تسترسل في أوصافها الإشارية والإيحائية للمكان.
لكن اللغة الشعرية التي تختزن الانفعالات والإيقاع أحالت النص إلى نص سابق عليه، فاحتوت القطعة ضميرًا لا يعود إلى اسم في الفقرة نفسها، بل يعود إلى فقرة سابقة، لكن ذلك، شعريًّا، لا يعد قَطْعًا أو فجوة، بل يعد وصلًا ما بين نصين مشحونين بالألم والحسرة نفسها.
تكثيف العبارة
من أدقِّ ما تضمَّنته الرواية من تكثيف العبارة قوله: «وجود الماء بقربتين كبيرتين لم يكن كفيلًا بسد ثغاء البطون»، فقد اختلق للعطش صوتًا، واستعار له صوت الثغاء، في إشارة إلى دمج مصير البشر بالحيوانات في تلك اللحظة، وهو ما صرح به في موضع آخر: «هذه الحيوانات ستكون سبب نجاتنا بحول الله… لأن مصيرنا واحد نحن وهذه المواشي».
وأخيرًا يمكننا القول: إن هذه الرواية، على الرغم من كونها العمل الأول لكاتبها، فإنها تبدو أشبه بنهر تجري في سيمائه المياه العذبة؛ فلغتها العميقة وشفافيتها توضح أنه لم يكن حديث عهد بصنعة الأدب، فلقد تمكن من أدواته التعبيرية أيَّما تمكن، فهيأها كما يشتهي، وكما تروم الحبكة الروائية، ونَحَتَها على قدْر الحدث وهيئته بحرفية عالية ولغة معبِّرة وموحية، كصائغ ماهر يجتهد في الظلام قبل أن يعرض، على العلن،
بضاعته القيِّمة.