سحر الأزرق

سحر الأزرق

في كل يوم، نرفع أعيننا إلى السماء فنجدها مغلفةً بلون أزرق صافٍ، لون يبدو للوهلة الأولى أبسط ما في الكون. إنه اللون الذي يغمرنا بهدوئه، يلفنا بصفائه، ويجعلنا ننسى قليلًا صخب الأرض وما يدور فيها. ومع ذلك، خلف هذا الصفاء الظاهري، يحمل الأزرق في داخله كثيرًا من التناقضات. إنه اللون الذي يثير في النفس إحساسًا بالسلام، لكنه في الوقت نفسه، مرتبط بالحزن والحنين، وكأنه يحمل في طياته سرًّا خفيًّا عن عمق الروح البشرية.

حين نتأمل الأزرق في حياتنا، نراه حولنا أينما نظرنا؛ في السماء التي تراقبنا بصمت، في البحر الذي يعكس امتداد الأفق، وفي المساحات التي تفتح لنا أبواب التأمل والتفكر. لكن، هل هو حقًّا مجرد لون؟ أم إنه مرآة لشيء أعمق في النفس، يعكس الحزن والفرح على حد سواء؟

لطالما ارتبط الأزرق بالصفاء، ربما لأنه لون السماء التي اعتدنا أن نرفع إليها أبصارنا طلبًا للراحة. لكن هذا اللون الذي بدا لي دومًا كرمز للسلام والهدوء، بدأت أرى فيه شيئًا آخر عندما قرأت جملة من رواية سعود السنعوسي «حمام الدار»؛ إذ يقول البطل: «كان معتمًا كسماء زرقاء». تساءلت كيف يمكن للون السماء الصافية أن يرتبط بالعتمة؟ هذا التساؤل جعلني أتعمق أكثر في فهم الأزرق.

وجدت أن في بعض الثقافات، ارتبط الأزرق بالخوف، بالعالم الآخر، بالعفاريت والأرواح التي تسكن في الظلال. كيف يمكن للون السماء البريء أن يتحول إلى رمز للرعب في أساطيرنا؟ يبدو أن الأزرق يحمل في داخله ذلك التناقض الذي يجعلنا نراه مرة كحاملٍ للسلام، وأخرى كمرآة لمخاوفنا العميقة. ففي الأساطير العربية القديمة، وُصِف الأزرق بأنه لون العفاريت، وكأن هذا اللون لا يقتصر على ما نراه بأعيننا، بل يمتد إلى ما نخشاه ولا نفهمه.

ومع ذلك، لم يقتصر الأزرق على ثقافات الخوف. في الغرب، أصبح هذا اللون رمزًا للحزن، كما نرى في العبارة الإنجليزية «I’m feeling blue» التي تعبر عن الاكتئاب والاغتراب. وكأن هذا اللون الذي يحيط بنا في كل مكان، بات مرتبطًا بالعزلة والفراغ الداخلي. هذا التباين في دلالات الأزرق يجعلني أفكر في كيف يمكن للونٍ واحد أن يحمل في داخله كل هذه المعاني المتناقضة.

الأزرق لم يكن مجرد لون في الطبيعة، بل كان دائمًا موجودًا في الفنون أيضًا. في الفترة الزرقاء للفنان بيكاسو، استخدم اللون الأزرق للتعبير عن حزنه بعد فقدان صديقه المقرب. كان الأزرق في لوحات بيكاسو لونًا ثقيلًا، يعكس الحزن العميق والعزلة التي شعر بها. وكأن اللون الأزرق بات وسيلته للتعبير عن الألم الذي لا يمكن للكلمات أن تصفه.

وفي الأدب، نرى الأزرق يتسلل إلى المشاعر. في قصائد محمود درويش، يتكرر الأزرق كأنه لون الغياب والفقدان. يقول درويش:

«مطر ناعم من خريف بعيد/ والعصافير زرقاء… زرقا».

هنا، الأزرق هو لون الغياب. إنه لون الحنين الذي يلامس القلوب.

إنه حالة شعورية تتسرب إلى دواخلنا، يعكس ما نشعر به دون أن نعي. إنه لون التأمل والسكينة، لكنه أيضًا لون الحزن الذي يغمرنا حين نواجه الفقد أو الوحدة. كلما تأملنا في هذا اللون، وجدنا فيه تناقضاتٍ تشبه تناقضات حياتنا نفسها. في لحظات الصفاء، يبدو لنا الأزرق كرمزٍ للسلام الداخلي، ولكنه في لحظات الحزن يصبح لونًا للعزلة والبرودة التي نشعر بها داخلنا.

إن هذا اللون الذي يرافقنا منذ بداية الخليقة، يظل رمزًا معقدًا لا يمكن حصره في دلالة واحدة. إنه لون السماء التي تمتد بلا نهاية، ولكنه أيضًا اللون الذي يعكس أعمق مشاعرنا وأكثرها خفاءً. إن الأزرق، في جوهره، هو لون الحياة بكل ما تحمله من تناقضات: السلام والحزن، الفرح والفقد، التأمل والاغتراب. وكلما نظرنا إليه، وجدنا أنفسنا نكتشف المزيد عن عوالمنا الداخلية، تلك التي تبقى غالبًا في الظل، تنتظر منا أن نلتفت إليها.

يبقى الأزرق حاضرًا في كل لحظة من حياتنا. نراه في السماء التي نرفع إليها رؤوسنا بحثًا عن أجوبة، وفي البحر الذي يحتضن أسرارًا لا نراها. هو لون يعكس حالة من التوازن الهش بين الحزن والفرح، بين الغياب والحضور. وكأن الأزرق يذكرنا دومًا بأن الحياة نفسها مليئة بالتناقضات: بين الصفاء الذي نبحث عنه، والحزن الذي لا مفر منه.