معرض وجوه

معرض وجوه

لن تتخيلوا كيف جننتُ وشاط بصري بمجرد أن وصلت الخادمة الجديدة إلى منزلنا، رحتُ أقلب يديها وأنظر في وجهها وقدميها، درتُ حولها دورة كاملة لأتفحصها، الْتَحم البنيّ الغني ببشرتها التحامًا فاتنًا نقيًّا ومميزًا، كنتُ كلما نظرتُ إليها شعرتُ وكأنها تمثال من كاكاو وقهوة أصيلة، أما هي فقد صارت تتلبسها حالة من الاستغراب ممزوجة بريبة، كلما رأتني أتقدم نحوها وألتقطُ لها صورًا عشوائية.

حتى دخلت عليّ غرفتي ذات يوم، ورأت نفسها وقد رسمتها على لوحٍ خشبي، كنتُ أمهر اللوحة بتوقيعي بعد أشهر من العمل المهووس، حينها وقفتْ تنظر مذهولة، كانت في منتصف اللوحة، يلفُّ جسدَها ثوبٌ يمثل تراثها، وعلى رأسها قماش مخطط بالأصفر والأبيض والأحمر والأسود، احتضن شعرها في ثنياتٍ حلزونية على طريقتها اللافتة الارتفاع، شفتاها الجافتان بدتا تحت صنع الفرشاة بحيوية أخّاذة، لم يزد اللون الوردي على امتلائهما إلا اشتهاءً، نحرها وعنقها المنحنيان بكسل، كانا مكشوفين بثقة بدرجات من البني الفاتن.

سُرَّتْ أيما سرور، ورفعتْ هاتفها، والْتقطتْ صورًا عديدة بجانب نفسها، وفي حماسة اللحظة كنتُ قد اتخذتُ قراري.. راسلتُ إعلان المعرض الذي احتفظتُ به مؤخرًا، «أفولابي ضالتي الفنية، ستفتح بوابة العرض لأعمالي»، هكذا قلت لنفسي.

كان معرضًا مخصصًا للوجوه، منظمًا في أحد المقاهي، حضرتُ الافتتاح في يومٍ شتوي، احتشد بالألوان التي صرخت على لوحات وبردت على أخرى، الحوائط شعّتْ بعروض لمدارس فنية تحاكي الحداثة، مشيتُ طويلًا أتأمل الوجوه المرسومة، كنتُ ولا زلتُ أبحث عن لوحتي المشاركة، حتى استوقفتُ أحد المنسقين.

– أين أفولابي؟

نعم!

– لي لوحة مشاركة هنا، تحمل ملامح فتاة إفريقية لا أجدها.

  تفضلي سيدتي هناك امتداد للعرض…، وأشار إلى منعطف يفضي إلى دهليز متصل بالمعرض، ذهبتُ حتى وصلتُ إلى لوحتي، كانت معلقة في زاوية يتيمة بالقرب من باب دورات المياه، تلمع وحدها تحت ضوء (سبوت لايت)، وكأن «أفولابي» للتو قد فرغت من العمل بعد نهارٍ طويل، وقفتُ إلى جانب لوحتي متجاهلة الرائحة، خطوات الداخلين والخارجين، سجائر المدخنين، هدير مياه المغاسل، كنتُ مبتهجةً بالعرض الشحيح، ومكتفيةً باللحظة وبالخيط الموسيقي المتقطع الذي يصلني عبر الدهليز، حتى وصل موكب التعريف باللوحات والحديث عنها، أشرتُ إلى لوحتي، وقلت: «أفولابي» اسم لفتاة إفريقية، ألوان زيتية على لوح خشبي… تأمل أحدهم اللوحة، قال لي:

– كم استغرقت من الوقت؟

– أيامًا طويلة في أوقات متقطعة…

– لماذا اخترتِ رسم هذه الملامح بالذات!

تحدثتُ بحماسة عن ثقافات الشعوب، وزهوة الألوان التراثية والملابس الشعبية، أردتُ أن أعرج على ذكر خادمتنا فقاطعني آخر انتهى من التحديق في البطاقة التعريفية التي حوت اسمي وسعر اللوحة، وهو يسند نظارته على أنفه قال: العمل الواقعي يخنق الخيال، التقنية اليوم تنافسنا لا بد أن نتقدم عليها، جدي بصمتك الخاصة…  مضى، ومضوا من خلفه وبقيتُ واقفة، لم يأتِ أحد… ولم أنتظر أحد سوى يوم انتهاء العرض.

مضت الأيام ثقيلة، كنتُ أنتظر استعادة لوحتي، وبينما كنتُ أرتب مرسمي وأتخيرُ مكانًا لها، رن هاتفي برسالة…

سيدتي لوحتكِ طُلبت للاقتناء! أرجو الحضور للتنسيق مع المشتري…

اضطربت، قطعتُ الطريق على عجل، وأنا أحدث نفسي، يبدو أنه مخطئ، من سيشتري لوحة بالطراز الكلاسيكي!، من سيعلق وجه خادمة في منزله مثلًا…  لو عرف ذلك!

التقيتُ المنسق:

في الحقيقة اللوحة ليست للبيع!

قال لي بابتسامة بالغة التهذيب:

– هل لاحظتِ السعر الجديد على اللوحة؟ ربما يكون لكِ رأي آخر…

بقيت مشدوهة، أتذكرُ أني وضعت سعرًا زهيدًا!، وضعته تماشيًا مع تنسيق العرض ليس إلّا…

قال: يبدو أنك لا تعرفين لولو الحلوة؟

– من لولو الحلوة؟

التقط هاتفه وفتح صفحة أحد برامج التواصل الاجتماعي… كان مقطعًا لفتاة تتجول في المعرض، تتوقف عند كل لوحة بغنج، وتتنقل بفاصل من فرقعة لبانها وطقطقة كعبها، كانت تقرأ أسماء اللوحات وأسعارها، في آخر المقطع يبدو قد أخذتها الحاجة إلى دورات المياه، فتوقفت الكاميرا عند «أفولابي»، أعجبتها اللوحة والتقطتْ لها صورة إلى جانبها مسندةً ظهرها على البطاقة التعريفية، فنطقت السعر على منوال أسعار اللوحات المعروضة من فئة مئات الألوف، قفز السعر أضعافًا دون أن تنتبه، فجحظت عيناي نحو الرقم!

قال المنسق: لولو الحلوة يتابعها رقم من الملايين… إذا اتخذتِ قراركِ أخبري النادل، أنا سأكون في الداخل بانتظارك.

ما زلتُ جالسة في مقعدٍ في الزاوية، مشغولة بالتقاط صورٍ كثيرة، بزوايا مختلفة تخص لولو الحلوة، أتأمل تقاسيمها وأحفظ ملامحها جيدًا.

ياااه.. النادل يتقدم نحوي… يبدو أنه قد فاض به الانتظار…

سيدتي، المنسق يسألكِ: هل ستبيعين لوحتك؟

أتكئُ على زاوية وجهي وأنظر إليه بوداعة:

–     هلّا أمهلتني قليلًا… لا أزال أفكر.