سارقة الذكريات

سارقة الذكريات

عدتُ من الجامعة أحمل معي غداءً جاهزًا، تخشبتُ حين رأيتُ باب شقتي مواربًا، لم يحدث مطلقًا أنني سهوت عن إغلاق قفله مرتين، أما أن أتركه مُفرجًا هكذا فلستُ عجوزًا خرفًا.

تبادر إلى ذهني أنني نُهِبتُ، داهم اللصوص منزلي في غيابي، خفتُ واقشعر بدني حين تخيّلتهم في الداخل يفتشون في أغراضي. مكثتُ في موضعي أتنصتُ، فلم يصلني سوى دوي الريح، ثمة شيء غير صحيح؛ لأنني أوصد النوافذ بإحكام قبل خروجي ما يعني أن اللص قد فتح إحدى النوافذ. تساءلتُ أيّ لص أحمق سيفعل ذلك معرضًا نفسه لأن يُكتشف من الجيران؟ هل يكون مقتحم الشقة من معارفي؟ أيكون ابني البكر محسن؟ إنه الوحيد الذي يمكن أن يتجرأ ويدلف إلى الشقة في غيابي، لكنه لا يملك نسخة من المفتاح! نظرتُ إلى أكرة الباب بتمعن فلم ألحظ أثرًا للكسر. خطر ببالي أخي خطاب المقيم في الخليج، لكن لو كان هو لاتصل بي واستأذنني. ألح عليّ البول، ربما مرت خمس دقائق وأنا متبلد غير قادر على التصرف، ثم تشجعتُ ودفعتُ الباب وخطوتُ إلى الداخل.

فتشت الحجرات والمطبخ وتأكدتُ من خلو المنزل، طرحتُ أغراضي على منضدة الطعام وأسرعتُ إلى الحمام. رمقتُ النافذة المفتوحة فخمنتُ أن اللص هو الذي فتحها عندما نادته الطبيعة ليأتي إلى هنا.

لم أجد أيّ أثر له على المغسلة أو البلاط، قضيتُ حاجتي وهرولتُ إلى حجرة مكتبي، تفقدتُ الدرج الذي أحتفظ فيه بمالي فألفيته لم يُمسّ. لا شيء سُرق من ممتلكاتي. إنما بصورة قاطعة هناك من استباح شقتي وخلف وراءه رائحة زكية لا يزال أريجها يعبق في الأنحاء.. أنا لا أتعطر البتة، تصيبني الروائح المصنَّعة بالصداع. رجعتُ إلى المطبخ لأتناول غدائي، انتبهتُ إلى قصاصة مثبتة على باب الثلاجة، ارتعدتُ؛ لأنه منذ عشر سنوات لم تُعلق ملاحظة هناك منذ وفاة زوجتي: «مساء الخير حياتي، استعرتُ دفتر ذكرياتك، سأترنم بحروفك ثم أعيده إلى مكانه، قبلاتي على خدك».

نسيتُ جوعي وقصدتُ مكتبي، فتحتُ الدرج الذي أحتفظ فيه بمجلد يومياتي فإذا هو مفقود!

فورًا فهمتُ أنه مقلب سخيف، بالطبع هناك زلات دونتها بأريحية، فهذا الذي يمزح لا يفقه أنه ينتهك خصوصيتي ويطَّلع على أسراري، وهذه جريمة يعاقب عليها القانون.

بسرعة تدحرج تفكيري إلى أن السارق قد يكون أحد طلابي الذين رسبوا في مادتي، لعله أراد أن ينتقم مني بهذه الطريقة الدنيئة. اشتعل غضبي وتصاعد، وارتجفت من شدة الانفعالات التي تكويني، ذرعتُ الردهة خارج شقتي ذهابًا وإيابًا لبرهة، ثم حزمتُ أمري وقدتُ سيارتي إلى قسم الشرطة وقدمتُ بلاغًا عن تعرضي للسرقة. لم تجد الشرطة أيّ بصمة غريبة في شقتي. قبلتُ اقتراحهم وركَّبتُ كاميرا مراقبة في مدخل الشقة. أُحرجتُ من قول الحقيقة، فزعمتُ أن المجلد المسروق فيه كشوفات بدرجات طلابي. ولكن هذه الكذبة جعلتهم يهتمون، فأخذوا القصاصة المكتوبة بخط اليد وطابقوها بخطوط طلابي في أوراق الإجابات التي بحوزتي، وانتظرتُ على أعصابي أسبوعًا، ثم أتاني منهم تعقيب نزل عليّ كبرقٍ ضرب صلعتي: «لم نجد أيّ تطابق. خبير الخطوط يُرجح أنه لأنثى».

لم أخبر أبنائي بحادثة السرقة، ما جدوى إقلاقهم؟! شيئًا فشيئًا خف الغم وغمرني النسيان بنعمته.

بعد نحو عام، تلقيتُ اتصالًا الساعة السادسة مساءً، كنت في شقتي أراجع مسودة كتابي الجديد، أجبت المتصل وأنا منزعج من مقاطعتي:

ألو.

مساء العسل.

أهلًا من معي؟

حبيبتك!

أغلقتُ الخط في وجهها وحظرت الرقم، واستأنفتُ العمل الذي بين يديّ. بعد دقائق وصلت رسالة إلى هاتفي. دعاني الفضول ففتحتُ الرسالة: «آسفة على الإزعاج، كنتُ أريد أن أعيد إليك ذكرياتك». وقفتُ وكأن أحدهم ركلني في منفرجي. قرأت الرسالة عدة مرات غير مصدق، اتصلت بالرقم الذي وصلتني منه الرسالة:

–  مرحبًا يا دكتور.

–  أنتِ السارقة؟

–  أنا هي.

–  لماذا سرقتِ يومياتي؟

–  توقعت أن تكتب عني كثيرًا،

–  ولكنك لم تكتب عني حرفًا!

–  من أنتِ؟ هل أعرفك؟

–  لو عرفتني لكتبت عني، لكنك مع الأسف ضللتَ الطريق ولم تصل إليّ.

–  ماذا تريدين؟

–  السؤال موجه لك، ماذا تريد أنت؟ إن الخلاصة التي توصلتُ إليها من قراءتي لذكرياتك أن طبول شيخوختك تُقْرَعُ وما زلتَ لا تعرفُ ماذا تريد.

–  أهاه! أنتِ من طالباتي أليس كذلك؟

–  أنا طالبتك المخلصة لك في كل وقت

–  ولكنك لا تشعر بي.

–  كفي عن التلاعب بي، كم تريدين؟

–  كل شيء.

–  كما خمنتُ، أنتِ جشعة، تسعين إلى ابتزازي، لا فائدة من الكلام معك.

هممتُ أن أغلق الخط، صاحت وكأنها أدركتْ ما أنوي:

–  انتظر، الثمن الذي أريده مقابل أن أعيد إليك يومياتك هو أن تحبني.

انشطر فمي عن ابتسامة لوقاء أسخر بها من نفسي، فلو رأتني كما ولدتني أمي لولت هاربة!

–  عيب عليكِ يا بنتي أن تسخري مني وأنا في مقام والدك.

سمعتها تنهنه، كانت تبكي بحرقة، فتغيّر موقفي وتعاطفتُ معها، ولم أعرف كيف أواسيها، وجدت نفسي في أغرب موقف مررت به في حياتي.

–  أنتِ.. هل تسمعينني؟

–  أنا منذ رأيتك لا أسمع ولا أبصر أحدًا سواك.

دبت قشعريرة باردة في جسمي، حيرتني كلماتها، شعرتُ من تهدج صوتها أنها صادقة إلى أقصى حد.. كنت أتكلم معها بلهجة مخاتلة متعالية، ولكن صوتها مختلف، نبرة نقية وشفافة، كل كلمة نطقتها تعني حقًّا معناها، وتخلو من أي تظاهر أو تزلف أو خداع.

فهمتُ أنها صادقة تمامًا، ترنحتُ وكدتُ أفقد وعيي! رحتُ أستمع إلى نشيجها وكفي التي تمسك بالهاتف ترتجف والعرق يرشح من جبيني.

فجأة تكلمت:

– اخرج إلى الشارع العام، أنا أنتظرك، ستجدني جالسة على مقعد أقرأ ذكرياتك.

– طيب، عشر دقائق أُبدّل ملابسي وأكون عندكِ، مع السلامة. لم ترد، أنهيتُ المكالمة، ونضوت ملابسي البيتية، وارتديتُ بدلة سوداء رسمية وربطة عنق، وخرجت من الشقة.

في مدخل العمارة شممتُ تلك الرائحة الزكية.. أتراها وصلت إلى هنا ثم غيّرت رأيها وقررت أن تنتظرني في مكان عام؟ حسنًا فعلتْ! ليس من اللائق أن تدخل امرأة غريبة إلى مسكني، ماذا سيقول سكان العمارة؟! عبرتُ حثيث الخطى إلى الشارع العام، قلبي يدق بقوة، الشمس أمامي بلون كرة السلة، شذى الرائحة الزكية فاح بقوة في الهواء، اتجهتُ إلى مقعد انتظار الحافلات، ولأول مرة منذ سكنت هنا قبل ثلاثين عامًا أنتبه أن الشارع ليس مستويًا، يرتفع منسوبه تدريجيًّا كلما اتجهنا غربًا، بصري لم يلتقط أبدًا هذه الطَّلْعَة، لكن قلبي هو الذي نبهني.

سمعتُ صوت صافرة.. ماذا يعني هذا؟ جثوتُ على ركبتيّ، الضوء يهتز، سقطتُ على وجهي، يدٌ لا أعلمُ لمنْ أنهضتني وسارت بي باتجاه الأمس.