الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا نوسباوم، وستانلي كافيل وبول ريكور. أما الطريقة الثانية فترتكز على العلاقة بين الفلسفة والشعر والتصوف؛ لأنه بقدر ما يكون الشعر فلسفيًّا، بقدر ما يصبح قادرًا على السماح من الاقتراب من التجربة الصوفية، وفي المقابل يمكن أن تتأثر الفلسفة بالشعر على نحو صحيح.

هذا يجعلنا نفكر في جميع الفلاسفة الذين يتعاملون مع الشعر بطريقة تفكيرهم. لكن يجب أن نعود بعد ذلك إلى أفلاطون، الذي تسبب في صدمة دائمة للجمهور المثقف بطرده الشعراء من المدينة الفاضلة، ومع ذلك، فإن هذه الإدانة الفاضحة للشعر من جانب أفلاطون لا تأتي من التحليل الجوهري للشعر على أنه فن، بل تأتي من الدور الضارّ الذي لعبه الشعراء حسب رأيه، حيث كانوا ضد الشعب؛ لأنهم ساهموا في إثارة حماس هذا الشعب بدلًا من جعله يفكر، وذلك من أجل التأثير في الرأي العام، وجعل غير المتعلمين يعتقدون أنهم يمتلكون المعرفة. إذن الشعر يُفهَم على أنه عدو للتفكير حسب أفلاطون دائمًا.

ومن هنا فقد أُحْيِيَتْ هذه الصدمة التي سببتها إدانة الشعراء من خلال حقيقة أن الأدب قد استسلم، على الأقل في فرنسا، ولكن ليس في ألمانيا أو بريطانيا العظمى… وقد تحدَّث جان فرانسوا ماركيه حديثًا مؤثرًا عن «الفيلسوف الذي قُتِلَ في الكاتب» ويضيف قائلًا: إن «كل كاتب عظيم يحمل بداخله (لحسن الحظ) فيلسوفًا فاشلًا، على دراية كاملة بالحقائق». ومع ذلك، فإن الفلسفة الفرنسية، من مونتين إلى سارتر، هي أدبية للغاية، وقد أراد بول فاليري أن يكون فيلسوفًا وليس شاعرًا، والروائي والكاتب المسرحي سارتر أقوى بلا شك وأكثر تأثيرًا من سارتر الفيلسوف.

وعليه، فإن الشعراء الذين يميلون إلى الفلسفة هم مجموعة كبيرة، منهم بارمينيدس ولوكريتيوس، ولكن يمكننا أيضًا أن نضيف لهم دانتي، وميلتون، وجون دون، وهولدرلين، وغوته، وريلكه، ومن فرنسا، ألفريد دي فيني، وفيكتور هوغو، ومالارميه، وبول فاليري، وبول كلوديل، وبيير إيمانويل، وإيف بونيفوي. وإذا أردنا جمع مختارات الشعراء الفلاسفة، فلا يمكننا استبعاد فيرجيل أو بودلير. وإذا تحدثنا عن الروائيين، فمن الواضح أن بلزاك وهنري جيمس ومارسيل بروست وتوماس مان هم فلاسفة روائيون، وأيضًا السيدة دي ستايل وبنيامين كونستانت يكتبان أدبًا فكريًّا، كما يتفوق شاتوبريان في جميع المجالات، كالسرد الشعري وقصائد النثر والتأملات الفلسفية. أما علاقة الفلاسفة بالشعر، فمن الضروري التمييز بين انجذاب الفلاسفة للشعر والأدب عامة، وتأثُّر بعض الفلاسفة بالشعر وأنماط تعبيره.

قضية مارثا نوسباوم

تقدم مارثا نوسباوم، وهي فيلسوفة أميركية، رؤية فلسفية للأدب، ولا سيما المُتعلِّق ببعض الروائيين المتميزين، مثل: هنري جيمس ومارسيل بروست. وبصفتها متخصصة في الفلسفة اليونانية، فقد درست أفلاطون، وكذلك التراجيديون القدماء، عادّةً إياهم فلاسفة الوجود والأخلاق… وعلى الرغم من أن منظور مارثا نوسباوم مقصور على الفلسفة الأخلاقية، فإن لديها فهمًا للإنسان بوصفه كائنًا واعيًا، واهتمامًا بإعادة تقويم المشاعر واليقين العاطفي، وهو ما يوسع منظور الأخلاق ليشمل «علم النفس الأخلاقي» للشعراء والروائيين. إلى جانب التفكير الأخلاقي، تُظهر مارثا نوسباوم انعكاسًا جماليًّا عميقًا، ومن ثَمّ، فإنها تؤكد فكرةَ الأسلوب كرأس مال، ويمكن لهذه الفكرة أن تنطبق على المؤلف الأدبي وكذلك على الفيلسوف؛ لذلك يمكن عَدّ ريكور فيلسوفًا رائدًا في الأدب.

ما يمكن قوله: إن هناك العديد من الأسباب الفلسفية لإعطاء أهمية أخلاقية للأدب، إنها مسألة إصلاح الفلسفة بمساعدة الأدب كعلم للعواطف، وتحليل أساسي لحالات معينة، واحترام نظري لطبيعة الحياة الفوضوية. لقد أظهرت نوسباوم الأهمية الأخلاقية للخيال الأدبي، فترى أنه بفضل الأدب لم تَعُدِ الفلسفة ضعيفة، بل أصبحت «صحية»، كما ترى أنه عليك أن «تقرأ لتعيش»؛ لأن الأدب يساعد على العيش، من الناحية الأخلاقية والنفسية، والفلسفة الأخلاقية موجهة نحو هدف واحد، العيش الكريم. لكن هل عليك أن تقرأ لتعرف الحقيقة؟ في الواقع، لا يهدف الخيال الأدبي إلى الحقيقة النظرية في حد ذاتها؛ لأن الرغبة في الحقيقة ليست الهدف الأساسي للشاعر، وفي هذا يختلف عن الفيلسوف. ولكن عندما يتجاوز الخيال الأدبي النزعة الأنانية والسطحية الاجتماعية، فإنه يعلمنا شيئًا عن أنفسنا وعن العالم؛ لذلك فإن الحدث الخالص لا معنى له من دون القصة التي نرويها، يجتمع الأدب والفلسفة معًا، ليس على أساس مفهوم الحقيقة، ولكن على أساس شهادة الحقيقة عن طريق اللغة.

حالة ماريا زامبرانو

تركت الفيلسوفة والشاعرة الإسبانية ماريا زامبرانو (1904-1991م) عملًا بعنوان: «الفلسفة والشعر»، وقد تأملت فيه الإدانةَ الأفلاطونية للشعراء، فأكدت أنه ليس صحيحًا أن الشعر مجرد شعارات. فإذا أردنا أن ننصف كل الشعر الفلسفي في الشرق والغرب، يجب أن ندرك أن الفلسفة تستخدم المنطق، لكنها ليست بالضرورة عقلانية، بمعنى أنها ليست ملزمة بِعَدِّ العقل والفهم متطابقين؛ لأن الفلسفة تعرف منطقًا يتجاوز مَلَكة التفكير، وبهذا المعنى، فإن الشعر الفلسفي مصدره العقل وليس الفهم. ترى زامبرانو أن الفيلسوف هو الشخص الذي يبحث باستمرار، والشاعر هو الشخص الذي يَجِد دائمًا بالفعل. لكن هيغل تَغلَّب وسيطر على التناقض بين العقل والعاطفة…

كما أن إدانة الشعراء من طرف أفلاطون كانت مجرد مرحلة أولى أفسحت المجال للفلسفة. لكن الهدف من الفلسفة يحيل على إعادة دمج العاطفة والشعر بوساطة العقل نفسه. لكن هيغل يؤكد أن الشعر يخاطر بأن يكون «رُوحيًّا» فقط، بمعنى آخر أنه لم يَعُدْ له شكل خارجي، بقدر ما يمكنه التعامل مع الانطباعات والأحاسيس والأفكار، عادًّا إياها حقائق للوعي، والتحدي المتجلي في الشعر هو ارتفاع درجة التجلي الروحي أكثر من أي شيء آخر… وتتمثل الحرية الشعرية في استخدام اللغة بطريقة منزاحة عن العادي… ولكن تظل الكلمات كما هي بمعزل عن إرادة الشاعر، هذه العلاقة الخاصة باللغة هي التي تحدد الأسلوب، وهو مصطلح لا يمكن تحديده في حد ذاته، ولكنه ترجمة للجهد الإبداعي، وأسلوب الشاعر هو الطريقة التي تبرز من خلالها تناسب حساسيته التي هي نبع إبداعه مع لغته الإبداعية؛ وأسلوب الفيلسوف هو «روحانيته» وجو إبداعه ومجموعة موضوعاته المفضلة وأسلوبه وطريقته في الكتابة وتوصيل فكره. وقد أكد ذلك برجسون بقوله: «إن الفيلسوف قد لا يكون موسيقيًّا، لكنه على العموم يُعَدّ كاتبًا».

لمحة تاريخية

يمكننا رسم تاريخ العلاقة بين الأدب والفلسفة في القرنين التاسع عشر والعشرين. في القرن التاسع عشر، تبدى أن لبعض الشعراء الألمان دعوة فلسفية، ومنهم هولديرلين، الذي يُعَدّ فِكره شاعريًّا، وهذا الفكر قريب جدًّا من فكر الفيلسوف البحت، أما الشاعران الفيلسوفان الفرنسيان، هوغو وفيني، فيتحركان ضمن نطاق فلسفي ضيق. وعندما نشر فيكتور هوغو، سنة 1834م، «littérature et philosophie mêlées» (تشابك الأدب والفلسفة) لم يقم بتحديد مصطلح الفلسفة بطريقة صارمة. ما فعله، كما قال، أنه حاول البحث عن الحقيقة فقط في غضون خمسة عشر عامًا، جمعها في هذه المجموعة؛ وموضوعها هو العلاقة بين الفن والمجتمع. لكن كُشِفَ عن الشعر الفلسفي لفيكتور هوغو فقط في تأملات (1851م)… وفي أسطورة القرون الماضية، حيث تظهر فلسفة التاريخ بوضوح، كفلسفة تنوع الأرواح والشعوب والحضارات؛ لذلك فإن تشارلز رينوفير، لم يكن مخطئًا في عَدّ هوجو فيلسوفًا.

ومن ثم، سيكون من المثير للاهتمام أن نرى كيف أن المزاج الشعري يعوق المزيد والمزيد من التفكير الفلسفي المستقل. إنها ليست مجرد مسألة تعبير، إنها مسألة أسلوب بالمعنى القوي، ومن المؤكد أن المزاج الشعري أقل درجة فكريًّا وأكثر حساسية من المزاج الفلسفي البحت؛ لأنه مع هوغو، تتمسك كل فكرة بتمثيل ملموس، فهو الشاعر الفيلسوف، وليس الفيلسوف أبدًا في أنقى تجلياته؛ لأن التجريد يعوقه باستمرار، فيستحضر الخيال اللفظي الملموس، كما يمتلك عبقرية الفعل قبل كل شيء، والكلمة طيعة عنده، فترفعه، وتأخذه بعيدًا. أما غوته فقد استحوذت عليه فكرة الأدب العالمي، وغالبًا ما تَحَدَّثَ عنها، ولم يكن الأمر يتعلق بالتخلي عن الآداب الوطنية، بل يتعلق بعلاقة جديدة بين الأمم التي من شأنها أن نتعلم منها دعم بعضنا الآخر على نحو متبادل. وفكرة الأدب العالمي هي فكرة فلسفية، وهي لغوته دليلٌ ضمنيٌّ، لكننا في حاجة إلى شرح معنى ذلك، فلكي يأخذ الجميع مكانهم في الأدب العالمي، يجب أن «ترفع عينيك عن الكتاب» (تعبير مثير للإعجاب لإيف بونفوي) وتتحمل عناء التفكير والتأمل قليلًا… يتطلب الأمر «النظر إلى الأعلى» أي ممارسة تمارين رُوحية للتمكن من التحدث عن «الأدب العالمي».

منذ غوته، يمكننا الاحتفاظ بفكرة أن رؤية فلسفية عظيمة حول العالم يمكن قراءتها في الأدب، فيدافع مارسيل بروست عن الفلسفة الجمالية والأخلاقية في «البحث عن الزمن الضائع»… وفي الواقع، منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، نشأ تعارُض بين فرنسا وألمانيا، ففي فرنسا، حمل الشعراء عبء العقل عبر لعب دور سادة الفكر، مع لامارتين، وفيكتور هوغو، وألفريد دي فيني.. وجميعهم مدينون بشيء من دافعهم الإبداعي لشاتوبريان الذي قال عنه إميل فاجيت: «شاتوبريان هو أعظم تاريخ في التاريخ الأدبي الفرنسي»؛ لأنه هو الذي وضع الأدب على رأس الحركة الفكرية في عصره، ولعب الدور نفسه الذي لعبه غوته في ألمانيا.

أما فيكتور كوزان فقد كانت له فكرة ضيقة عن الفلسفة برفضه مراعاة الجذور العميقة للفيلسوف في الحركة الفكرية في عصره، حيث كان يسود التحفظ تجاه الفلسفة في فرنسا في المدة التي كانت السيادة فيها لكبار الشعراء، ولم تسترد جمهورًا عريضًا حتى نالت الرواية لدى الجمهور هالة أعلى من هالة الشعر. وفي ألمانيا وفي المدة نفسها، كانت الفلسفة ذات شأن، وقد رفع شأنَها فلاسفةٌ كبار مثل: فيشت، وشيلينغ، وهيغل، فهم الذين توغلوا في العقلانية، وتبعهم الشعراء والكتاب، وأصبحوا هم
أنفسهم فلاسفة.

وما يمكن تأكيده، أنه يمكن للشاعر أن يصبح فعليًّا مترجمًا للأفكار الفلسفية من دون أن يصبح فيلسوفًا… وقد أردنا هنا أن نعطي مقارَبة لتنوع وخصوبة العلاقة بين الفلسفة والشعر؛ لأنه ليس من المؤكد أن الإفراط في التخصيص يكون مثمرًا للإبداع الفكري. عندما كتب بودلير، في ملاحظة عشوائية، أنه لا يوجد سوى ثلاث مهن جديرة بالاهتمام: الكاهن، والجندي، والشاعر، وجميعهم يواجهون المطلَق بأشكاله الثلاثة: الله والموت والجمال؛ لذلك دمج في الشعر انعكاسية الفكر، كما لو كانت كل الأفكار شعرية، لكن مبادئ الشاعر لا تختلف عن تلك التي لدى الفيلسوف.

إذن، لا يزال الغموض موجودًا في الشعر المعاصر ويعد من مميزاته المهمة، والمبادئ المشتركة بين الشعر والفلسفة، بعيدًا من إخفاء الاختلاف العميق بين الاثنين، هو الدليل على أن المجالين يكتسبان عمقًا عند إقامة حوار بينهما.


المصدر: Philosophique de la France et de l’étranger 2012/1 (Tome 137), pages 3 à 13