عن قتل تشارلز ديكنز

عن قتل تشارلز ديكنز

عشت الثلاثين عامًا الأولى من حياتي ضمن نصف قطر بطول ميل واحدٍ من محطة ويلسدن غرين تيوب. صحيح أني ذهبت إلى الكلية -حتى إني انتقلت نحو شرق لندن لبعض الوقت- لكن مثل هذه الفترات الفاصلة كانت قصيرة. عدت سريعًا إلى ركني الصغير في شمال غرب لندن. ثم فجأة، على عجلٍ تمامًا لم أغادر المدينة فقط، بل إنجلترا ذاتها. أولًا إلى روما، فبوسطن، ثم نيويورك الحبيبة حيث أقمت عشر سنوات.

عندما كان الأصدقاء يسألون عن سبب مغادرتي البلاد كنت أجيب مازحة أحيانًا: لعدم رغبتي في كتابة رواية تاريخية. ربما كانت مزحة خاصة: لا يفهم ما قصدت بها حقًّا إلا روائيين إنجليزيين آخرين. وكان هناك أسباب أخرى أكثر وضوحًا. توفي والدي الإنجليزي. كانت أمي الجامايكية تعيش قصة حب في غانا. أنا نفسي كنت قد تزوجت من شاعر أيرلندي أحب السفر والمغامرة، وغادر جزيرة مولده في عمر الثامنة عشرة. بدا أن الأواصر التي تربطني مع إنجلترا تتلاشى. ما كنت لأقول إني متعبة كليًّا من لندن. لا، لم أكن بعد «متعبة من الحياة»، بحسب صياغة صموئيل جونسون الشهيرة. لكن كنت قطعًا ضجرةً من عالم لندن الأدبي المغلق، أو على الأقل من الدور الذي كان موكلًا إليّ: طفلة عبقرية (تكبر) متعددة الثقافات. فرحلت.

فكَّرنا في العودة مثل الكثير من المغتربين. الكثير من العوامل أبقتنا في الخارج، ليس أقلها صعوبة وجود طفلة والجذور التي تمدها سريعًا. مع ذلك، كنا نستسلم دوريًّا لنوبات النَّدم والنوستالجيا، كاتبان تقلقهما فكرة كونهما سافرا بعيدًا جدًّا من مصدر كتابتهما. في النهاية، قد يكون اقتلاع الكاتب من جذوره قاتلًا… أحيانًا؛ كي نمنح أنفسنا شعورًا أفضل، كنا نستحضر الحالة المعاكسة. كنا نقول لأنفسنا: خذ على سبيل المثال الكتاب الأيرلنديين- خذ بيكيت وجويس. انظر أيضًا: أدنا أوبرين. انظر أيضًا: كولوم وكولم (Colum and Colm). ألم يكتبوا جميعًا عن الوطن وهم يعيشون بعيدًا منه مسافات طويلة؟ ثم قد يزحف الشك ثانية. (لأن الأيرلندي يشكِّل دومًا حالة استثنائية). ماذا عن الكتَّاب الفرنسيين؟ الكاريبيين؟ الأفارقة؟ هنا بدت المعطيات أقل إقناعًا.

بقيت سحابة كل هذا الالتباس متشبثة بواحد من المعطيات الذي شعرت إزاءه باليقين: أي كاتبة تعيش في إنجلترا لأي مدة من الزمن سوف تجد نفسها عاجلًا أم آجلًا تكتب رواية تاريخية، سواء رغبت في ذلك أم لم ترغب. ما السبب؟ أحيانًا أفكر أن الأمر عائد لكون حلقة النوستالجيا خاصّتنا صغيرة جدًّا- محكمة جدًّا. هناك على سبيل المثال في إنجلترا الآن أشخاص يمكنهم حمل أنفسهم على ذرف دموع مدرارة، على ذكرى فرقة سبايس غيرلز أو الميني ديسك (أقراص مدمجة صغيرة) أو أكشاك الهواتف -لا يستغرق الكثيرَ من الوقت- وهذا لا بد أن يكون له أثر في ثقافتنا الأدبية.

أن تكتب رواية تاريخية

يميل الفرنسيون لفهم مصطلح «رواية حديثة» حرفيًّا. في هذه الأثناء، يبدو لي الإنجليزي مفتونًا بالماضي بقوة شديدة. حتى «ميدل مارش» رواية تاريخية! وبرغم أني إنجليزية للغاية أنا بنفسي، احتفظت بتحيز ضد الشكل، منذ أيام الدراسة، عندما كنا ميالين للتفكير في الروايات التاريخية على أنها محافظة سياسيًّا وجماليًّا بالتعريف. إذا ما تناولت رواية ووجدت أنه من الممكن أن تكون قد كتبت في أي وقت خلال المئة سنة الأخيرة، حسنًا، إذن، تلك الرواية لا تؤدي تمامًا عملها الموصوف ذاتيًّا، أليس كذلك؟ لا بد أن موضوع حداثة الرواية يكمن في صلب تكوينها؟ لطالما فكرت بهذه الطريقة. لكن مع الوقت تعرض المنطق الخادع لهذه المحاججات الطلابية لبعض الضغط، ولا سيما بعد أن قرأت أمثلة مؤثرة من النوع الأدبي. «مذكرات هادريان»، لمارغريت يورسنار، ليست مكتوبة باللاتينية، و«قياس العالم»، لصديقي دانيل كيلمان، ليست بالألمانية القديمة. حتى لغة «ولف هول» لا تمت بِصِلة إلى نحو تودور الحقيقي إلا قليلًا: إنها لغة «مانتلية» بالكامل (نسبة إلى الكاتبة البريطانية هيلاري مانتل‏). تقدم الروايات الثلاث جميعًا أشياء جديدة.

مارغريت يورسنار

ليس كلُّ أدب تاريخي يتَّخذ من عصره حلَّة له، واستكشاف الماضي لا يحتاج أن يكون تقليدًا صاغرًا له. يمكنك أن تقارب الماضي من زاوية استفهامية، أو محو بارع، وبعض الأدب التاريخي سوف يغير منظورك جذريًّا، ليس فقط عن الماضي لكن عن الحاضر. بالطَّبع، هذه أفكار واضحة لمن يمتد إعجابهم بالأدب التاريخي على فترة طويلة من الزمن، لكنها كانت جديدة بالنسبة لي. وضَّحت رفضي الأيديولوجي، الذي كان محظوظًا -وذاتي الخدمة- لأني نحو عام 2012م تعثَّرت بقصَّة من القرن التاسع عشر، فعرفت في الحال أنها تلائم ذوقي واهتماماتي.  تناولت خصومة عام 1873م -من بين أطول الخصومات في التاريخ البريطاني- الذي ادعى فيها آرثر أورتون وهو جزار من وابينغ أنه السِّر روجر تيتشبورن، وارث عزبة تيتشبورن-داوتي المفقود منذ زمن طويل الذي يفترض أنه غرق. كانت ورطة المدعي تيتشبورن كما صار يعرف، قضية مشهورة في زمنها، ليس أقله لأن شاهد المدعي الرئيسي والمدافع الجريء تبين أنه عبد سابق جامايكي يدعى أندرو بوجل، الذي عمل لصالح تيتشبورن وأصر أنه تعرف إلى السر روجر. الآن، قد يخيل للمرء أن شهادة المحكمة من جانب رجل أسود فقير عام 1873م قد تكون قوبلت بتشكيك عام، لكن الجمهور البريطاني -مثل ابن عمه الجمهور الأميركي- مفعم بالمفاجآت، ولكونه قد رأى الكثير من المتهمين من الطبقة العاملة أسيئت معاملتهم من جانب هيئات المحلفين البرجوازية، ومحامين متخرجين من كلية إيتون المرموقة، وقضاة أرستقراطيين، كان الجمهور مستعدًّا إلى درجة كبيرة لدعم ادّعاء رجل فقير بأنه غني. ملأت حشود هائلة قاعة المحكمة توَّاقة لترى واحدًا من لدنهم يفوز ولو لمرة واحدة. (ربما عاطفة منحرفة لكنها عاطفة يمكن للمرء أن يميزها من محاكمة أو. جي). أصبح بوجل وجزاره بطلين قوميين.

صعقتني القصَّة الاستثنائية كما يمكن للقية فنية أن تفعل: مثالية لأغراضي. واحدة من منح الكون تلك التي يحصل عليها الكاتب لمرة واحدة في العمر. لكن مرَّت ثماني سنوات قبل جلوسي أخيرًا إلى مكتبي لفضِّها. في هذه الأثناء، فعلت كلَّ ما بوسعي لتجنب كتابة روايتي التاريخية. بقيت في أميركا بعيدة من المكتبات البريطانية ومن سجلات المحاكم. أنجبنا طفلًا آخر. ألَّفت أربعة كتب أخرى. لكن في أثناء هذا كله واصلت ترصُّد الموضوع بطريقة لا مبالية، كما تفعل امرأة متوترة على تطبيق المواعدة، فلا تنقر بشكل صحيح تمامًا مطلقًا. كنت أقرأ بعض الكتب التاريخية، أُدَوِّن بعض الملاحظات، أقلق، أعيد الفكرة إلى الدُّرج. مع ذلك لم أرغب في كتابة رواية تاريخية.

خفت من كمية العمل المطلوب. لم يتخفف هذا القلق بمشاهدة جاري المذكور آنفًا في نيويورك -دانيل كيلمان- وهو يقرأ ما يتوجَّب عليه من كتب من أجل كتابة رواية تاريخية أخرى، «تول» التي تدور أحداثها في ألمانيا خلال حرب الثلاثين عامًا. لقد فعل ذلك في ملعب جامعة نيويورك، في أثناء لعب طفله مع طفلينا. وعلى مقاعد الحديقة. وفي المكتبات. بدا أنه يفعل ليل نهار لمدة خمس سنوات تقريبًا. كلما سألته عن كيفية سير الأمور، كان يقول: إن الأمر منهك، وإنه أصعب ما فعله في حياته على الإطلاق: «مثل العمل الذي يتطلبه الحصول على درجة الدكتوراه وكتابة رواية في الوقت نفسه. الكثير من الملاحظات!».

لم يعجبني صدى ذلك. بشكل عام، أنا لا أدوّن ملاحظات. أجلس. أكتب رواية. لكن فعلًا هذه الـ لا رواية التي كنت أرفض كتابتها قد ولَّدت درجًا مليئًا بالملاحظات ورفًا من الكتب. قلت لنفسي: أيام دراستي انتهت. إذا سمحت بحدوث هذا فسوف يعبث بغرائزك الأطول نفسًا وأكثرها ديكنزية. بالفعل بدا أني كلما سحبت خيطًا من قصة تيتشبورن قادني إلى قماش وثير آخر أيضًا من حياة القرن التاسع عشر، مما توجب قراءة المزيد من الكتب وتدوين مجلد آخر من الملاحظات. كنت بالفعل مملة بحق في بيتي: «هل تعلم أنه في عام 1848…» قلت لنفسي: زيدي، رواياتك طويلة بما فيه الكفاية عندما تدور حول لا شيء! ماذا سيحدث عندما تتضمن حقائق واقعية؟ ابتعدي، سميث، ابتعدي!

تأثير ديكنز

كان الظِّل الطويل لديكنز مصلتًا فوق كلِّ هذا القلق. أن أكون في مثل سني، ومولعة بالكتب، ومولودة في إنجلترا، عنى أن أترعرع تحت ذلك التأثير الهائل بشكل متعب. كان ديكنز في كلِّ مكان. في المدرسة وعلى الرفوف في البيت وفي المكتبة. لقد ابتكر الكريسماس. كان في السياسة، مؤثرًا في إحداث التغييرات في قانون العمل، وقانون التعليم، حتى قانون حقوق الطبع والنشر. كان بطل الطبقة العاملة الأصلي -رمزًا مشرقًا لجدارتنا المفترضة- إضافة إلى واسطة عقد لصناعة سياحة الإرث الإنجليزي. (بتعبير آخر، جرى التلاعب به بعد وفاته من جانب الكثير من الفروع المختلفة للمجتمع البريطاني لتسجيل تشكيلة من النقاط السياسية). كان أيضًا حيثما أردت أن أكون: في المسرح، في إيطاليا، في أميركا. كانت نُسَخ متلفزة من كتبه تتعاقب -ينبغي القول: إن ديكنز وراء امتلاكنا لمسلسلات تلفزيونية قصيرة ذات شأن في المقام الأول- وكان في الدمى المتحركة (Muppets) اللعينة وفي شتى أرجاء هوليوود، في الاقتباس الواعي والسرقة غير الواعية.

أنا شخصيًّا قرأت كثيرًا جدًّا عنه عندما كنت طفلة، ولو أني تربيت لتكون عندي جميع الشُّكوك الاعتيادية والتحذيرات حوله -عاطفي للغاية، متكلف للغاية، متزمت للغاية، متحكم للغاية- لم أكن يومًا أيضًا قادرة على الخروج تمامًا من تحت تأثيره المحرج، بالقدر نفسه الذي أردته غالبًا. هذا ما جرى مع بحثي السِّريّ. أينما اتجهت في لندن القرن التاسع عشر، كنت ألتقي ديكنز. في الفصول الرئيسية، في الفهرس، في الجمل الاعتراضية أو خارجها، كل الطرق أدت إلى تشارلز. لم يبدُ أن هناك قدرًا من القرن التاسع عشر لم يضع إصبعه فيه.

قد أكون منصرفة إلى ما يخصني وأقرأ، لنقل، عن انتفاضة في جامايكا، وفجأة ها هو ذا ثانية، يوقع عريضة عن المسألة. قد أكون أقرأ عن كاتب رحل منذ زمن طويل ومنسي، ويليام هاريسون إينسورث -قاطن في حيي- وقد يكون ديكنز هناك، يصادقه. قد أقرأ كتابًا عن العبودية الأميركية وأكتشفه في الحواشي! عند تلك المرحلة كنت أجد نفسي أقول: أوه، مرحبًا، تشارلز، مثل شخص مجنون بالفعل. ثم جاء الإغلاق العام، وأصابني بعض الجنون كما أصاب الجميع. تصيدت كلَّ رواية نفدت طبعتها لوليام هاريسون إينسورث (كتب أكثر من أربعين رواية، وهي رهيبة في معظمها). أصبحت مهتمة باطراد بمدبرة منزل ويليام، وهي امرأة تدعى إليزا توشيه. أصبحت مهووسة بالمزرعة التي كان أندرو بوجل مستعبدًا فيها -عزبة هوب (الأمل)- والاشتباك الطويل والوحشي بين إنجلترا وجامايكا. قرأت كتبًا عدة عن المدعي تيتشبورن (Tichborne Claimant) وفكرت كثيرًا باحتيال: هويات زائفة، أخبار زائفة، علاقات زائفة، تواريخ زائفة. عندما حاولت أن أشرح لأي شخص ما تشترك فيه جميع هذه المواضيع، لم أبدُ مثل من يكتب رواية تاريخية بقدر ما بدوت مثل من ضيَّع الحكاية كليًّا. أو ربما: من أعاد اكتشاف الحكاية.

 

حقيقة أغرب من الأدب

سميت روايتي «الاحتيال». من ثم، في مايو 2020م، تمامًا عندما وضعت إصبعي أخيرًا على لوحة المفاتيح، عدنا إلى إنجلترا، في الوقت المناسب لننضم للإغلاق البريطاني العام. لما لم يكن لدي ما أفعله ولا أي مكان أذهب إليه، رحت في نزهتي العادية عبر الشوارع مثل أمثالي البريطانيين، لكن مع فرق صغير أن عينيّ دومًا ظلتا فوق مستوى المتاجر: مدربة عاليًا نحو الأفاريز والطنف والمداخن. نحو القرن التاسع عشر، بتعبير آخر، الذي هو في كل مكان في شمال غرب لندن، ما إن تبدأ بالنظر. بدأت أرتاد المقابر المحلية. وجدت قبر ويليام إينسورث وقبر إليزا توشيه، وأمكنني العثور على الخريطة، على قبر الفقير غير المعروف تيتشبورن، إضافة إلى ركن صليب الملك حيث لفظ بوجل أنفاسه الأخيرة.

كان عام 2020م في الخارج لكن 1870م في رأسي. أذعنت تمامًا بفاعلية: كنت في إنجلترا وكنت أكتب رواية تاريخية. استقر تكبري الآن على مبدأ واحد: ما من ديكنز. هذا عنى أقل ما يمكن، أنه ما من يتامى، ما من وصوفات ديكنزية مسهبة، وقطعًا ما من نساء وضيعات باسم السيدة سبايتلي، أو جبناء يحملون اسم السيد فيرفينت، أو غير ذلك. لأضمن هذا حرصت على عدم إعادة قراءة ديكنز، وفيما عدا هذه الظهورات المتكررة في موادي البحثية، بذلت جهدي لإخراج الرجل من عقلي. لكنّ واحدًا من دروس كتابة الأدب هو أن الحقيقة أغرب منه. واقعة أن امرأة حقيقية كنت أكتب عنها كانت تدعى إليزا توشيه -وأن هذه المرأة نفسها كانت آخذة بالتفتح في عقلي، إلى أن قزَّمت جميع الشخصيات الأخرى- عنى أنه كان عليَّ الآن مواجهة استشراف أن روايتي تعرض بقوة امرأة اسمها حتى ديكنز قد يكون فكر فيه قليلًا أيضًا بكل دقة. توشيه، توشيه، السيدة توشيه! لكن تلك لم تكن حتى آخر مزحة كان على ديكنز أن يلعبها معي من خلف القبر.

في منتصف بحثي تقريبًا، بدأ يطفر اسمه من الحواشي وفي المتن الرئيسي للنص، كفاعل حقيقي في الأحداث التي كنت منشغلة بها، واتضح لي أنني لكي أروي قصتي الحقيقية كاملة لم يكن هناك من سبيل حقًّا لأتفادى كليًّا ظهور السيد تشارلز ديكنز ظهورًا فعليًّا في صفحاتي الفعلية. كان لسنوات عدة ضيفًا منتظمًا على مائدة عشاء إينسورث. كان منخرطًا في نقاش حول مستقبل جامايكا. (كان على الجانب الخاطئ للنقاش). بشكل مدهش غالبًا، يقع شارع داوتي -حيث عاش ديكنز مرة- في تلك الناصية جنوب شرق بلومزبيري التي تنتمي لعزبة داوتي تيتشبورن. يعني أن بيت ديكنز السابق كان جزءًا مما كان المدعي خاصتي يحاول أن يدعي. كان ديكنز في كل مكان، مثل الطقس.

استحالة الخلاص من ديكنز

أحيانًا في الكتابة عليك أن تتخلى عن التحكم، وتتبنى موقف الزن، فتذهب حيث تقاد، وهذا غالبًا يعني العودة تمامًا من حيث أتيت؛ لذا قلت للسيد ديكنز: انظر، يمكنك أن تأخذ دورًا ثانويًّا، لكن حينها سأقتلك في الفصل التالي، عاجلًا. لن تكون متسكعًا، ولن تلقي أية خطابات بارعة أو تفصح عن أية حكمة. وفيت بوعدي، قتلته في فقرة، في فصل موجز للغاية، لا ديكنزي معنون بـ«ديكنز ميت!» شعرت في الحال بإحساس بالتنفيس الذي يعتقد الناس غالبًا أن الكتابة تجلبه، لكن أنا نفسي اختبرته نادرًا فقط. انظري إلي! (قلت لنفسي). أنا قتلت ديكنز للتو! (بوصف موته المفاجئ ودفنه اللاحق في ويستمينستر آبي). لكن ليس بعد وقت طويل من كتابتي لذلك المشهد المظفَّر؛ لأسباب عملية (مشهد ارتجاعي) عاد تشارلز عودته المحتمة، ليظهر أصغر سنًّا وبقوة أكبر متعذر كبتها مما كان قبل أربعين صفحة.

استسلمت عند تلك المرحلة. تركته ينتشر على صفحاتي، كما يطوف عبر لندن القرن التاسع عشر. هو هناك في الهواء والكوميديا، والتراجيديا، والسياسة، والأدب. هو هناك حيث لم يكن له شأن كونه (في مناقشات حول مستقبل جامايكا على سبيل المثال). هو هناك كقمعي أحيانًا، أحيانًا لا يقاوم، أحيانًا مبهج، أحيانًا تأثير طاغٍ، تمامًا كما كان في الحياة. تمامًا كما كان دومًا في حياتي. لكن تأثيرات الطفولة مثل ذلك. إنها تقودك إلى الجنون تمامًا؛ لأن دينك لها أكبر بكثير مما تريد أن تعرف أو تهتم أن تعترف. انظر أيضًا: الأبوين.

بعد إحدى عشرة سنة، عند نهاية مدة المشروع الطويل بالذات ومدة كتابة روايتي التاريخية، أغلقت كمبيوتري المحمول، وقلت لنفسي: أعرف أنه يغضبك غالبًا، لكن الحقيقة هي أنك ما كان بوسعك أن تكتبي هذا مطلقًا من دونه. عندئذ، وهذا الدَّين في عقلي، قررت أن أفعل شيئًا تجنبت القيام به طوال حياتي اللندنية: قمت برحلة حج إلى ويستمينستر آبي (كنيسة ويستمنستر). درت حول الجهة الخلفية نحو ركن الشُّعراء ووقفت تمامًا عند قبر تشارلز ديكنز. أوه، مرحبًا، تشارلز. وأنا أشعر بديني، لكن أيضًا راجية أنه سُدِّدَ كاملًا في النهاية. وعندما عدت إلى البيت، منتهية تمامًا مع السَّيد ديكنز المحتوم ومن تأثيره وراغبة في أن أفعل شيئًا لا يتطلب القراءة ولا تدوين الملاحظات ولا أي بحث على الإطلاق -شيء من قبيل مشاهدة التلفزيون لبعض الوقت- أدرت قناة البي بي سي القديمة الجيدة، وماذا كان على القائمة؟ «التوقعات العظيمة». نسخة جديدة «غير عنصرية»، بالتأكيد، لكن مع ذلك «توقعات عظيمة». أوه، مرحبًا، تشارلز. مرحبًا ووداعًا ومرحبًا ثانية.


المصدر: https://www.newyorker.com/magazine/2023/07/10/on-killing-charles-dickens