تكثيف «الاستعارة المكنية» و«التشبيه التمثيلي» في قصيدة «الومضة» عند الشاعر الأردني «هزاع البراري»

تكثيف «الاستعارة المكنية» و«التشبيه التمثيلي»

في قصيدة «الومضة» عند الشاعر الأردني «هزاع البراري»

تعرف قصيدة «الومضة» بأنها شكل شعري، أو وسيلة من وسائل التجديد الشعري، تتسم بالقصر، وتكثيف الجمل، والصور، والاستعارات. وعرفها الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة، الذي يعتبره نقاد كثيرون أول من نظمها، بأنها «قصيدة قصيرة جدًّا، موجزة، مكثفة، تتضمن مفارقة مدهشة». وعرفها آخرون، ومنهم الكاتبة التونسية إلهام بوصفارة، بأنها لحظة، أو مشهد، أو موقف، أو إحساس شعري خاطف، يمر في المخيلة أو الذهن، يصوغه الشاعر بألفاظ قليلة، معتمدًا على تركيز عالٍ، وكثافة شديدة، تمكنه من النفاذ إلى الذاكرة للبقاء فيها.

وخلال رصدي وتتبعي لأربعين ومضة شعرية، للكاتب والشاعر الأردني هزاع البراري، نشرها عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، ظهر لي عدد هائل من الاستعارات المكنية، والصور الشعرية البديعة، بحيث تظهر كل ومضة وكأنها قصيدة مكتملة العناصر الفنية، اختزلت بكلمات قليلة، أشياء كثيرة أراد الشاعر إيصالها. وقد تكونت معظم ومضاته من سبع كلمات لكل ومضة، فيما لم تزدْ أطول واحدة فيهن عن عشر كلمات. واحتل الشتاء ومفرداته، وما تعلق به، المرتبة الأولى في قاموس الشاعر، فيما احتلت المظاهر الكونية المتعلقة بالليل والنهار، والشمس والقمر، المرتبة الثانية، وجاءت الطريق والرصيف، وما اقترب منهما في المرتبة الثالثة، وهكذا.

مواطن الاستعارات المكنية

حين يتحدث الشاعر عن غياب حبيبته الناقص، الذي لا هو حضور ولا هو غياب، يشير إلى أنها طعنته بخنجر وشبهه بكلب مسعور ينهش لحمه، دلالةً على قساوة وتأثير غيابها، مستخدمًا أسلوب الاستعارة المكنية التي يذكر فيها المشبه، ويحذف المشبه به، ويكنى عنه بشيء من لوازمه وصفاته. يقول: «لم يكتمل غيابك/ فما زال الخنجر مسعورًا». والشجرة عنده كائن حي يخبئ أشياءه المهمة، إنسان أو حيوان يضم أبناءه، حذر الموت أو الخوف أو العواصف: «كلما جاء شتاء/ خبأَتِ الشجرة أغصانها». والنهار كائن حي أيضًا يستشعر البرد، يحس ويتنفس، والغياب كذلك يتحرك ويتجول، ويرتدي المعاطف: «يبرد النهار/ كلما تجول غيابك بلا معطف».

وما أجمل هذه الصورة التي رسمها البراري عبر مقابلة لطيفة ظريفة، حين جعل الغياب إنسانًا إذا خلع معطفه شعر النهار بالبرد. وعنده أيضًا هاجس لليل، وبقايا محبوبته مجرات سماوية يعتريها القلق والتوتر، والجرح عنده على اتساع دمه وآلامه يشبه الغيمة المنهمرة بكثافة، والكلمة ترتجف مثل البشر والكائنات الحية، وللقلم جوف كجوف البشر والحيوانات:

«ها أنا/ في هاجس الليل/ وبقاياك مجرات أرق/ كان الاعتذار ضئيلًا/ لذا بقي الجرح كغيمة ماطرة/ لم يبقَ من اللغة/ سوى ارتجاف كلمة في جوف قلم».

والعتمة كأنها طائر يغفو وينام على أغصان الشجر، والارتباك ينقش كالحناء والرسومات والألوان، والجدران تذوب كالثلج أو الجليد، والطرق سائل يسكب، ويعتريها التعب، ومصيرها الرحيل، والرصيف إنسان يتحلى بالصبر وطول البال: «أتقن المسافة/ كلما تراكم الجليد في الكلام/ لا قمر/ لا ظل قصيدة/ وحدها العتمة تغفو على الشجر/ اللوحة غامضة/ برودة تنقش الارتباك على النوافذ/ وليل موحش مثل غريب/ حين ذابت جدرانها/ سكنت الغرفة تفاصيل الحنين/ سأسكب الطرق في خطاي/ وأتركني/ على قارعة رصيف طويل البال».

وللقصيدة سماء وظل، والقاعة تغرق، والقنديل يشيب، والكلام يتحجر في العيون كما الدمع، والأصابع لها عيون ترى فيها، والربابة كأنها سكين تجرح، والمدى كأنه شيء مادي ملموس ومحسوس يحمل: «وحدك/ طريق أتعبتها القوافل/ كان صمته/ قريبًا من سماء القصيدة/ لذا غرقت القاعة بموازين الشعر».

التشبيه التمثيلي: صورة مقابل صورة

ويكثر الشاعر البراري من استخدام التشبيه التمثيلي، عبر كلمة «مثل» ليظهر صورة مقابل صورة؛ إذ يشبه النجم الآفل الشاحب البعيد، الذاهب إلى المجهول بالقنديل الذي ستطفأ ذبالته كلما مشى في الطريق: «مثل نجم/ موغل بالشحوب/ يشيب قنديل رحلت عنه الطريق».

وأحيانًا يحذف المشبه ويُبقي على المشبه به: «مثل كلام/ تحجر في العيون/ مثل ليل الخريف يمر الغريب/ مكتمل التعب/ مثل شجرة طاعنة بالخريف/ كتاب على الرف/ مثل قلب لا تراه أصابعك».

ويشبه تأثير النغم الشجي الصادر عن الربابة على السامع، بما يتركه الأثر المرسوم على وجه الرمل: «مثل ربابة/ تجرح الأشجان على وتر الرمل/ مثل طائر/ يحمل المدى والشمس تغيب».

سيطرة الألفاظ والمفردات اللغوية

وردت ألفاظ الشتاء والمطر والكلمات المتعلقة بها في القصائد المرصودة عشرين مرة، مثل: الغيوم الماطرة، والجليد، والبرودة، والذوبان، والانسكاب، والغرق، والنهر، والبحر، والشاطئ، والقارب، والعاصفة، والخريف، وهذا يدل على الرغبة في التغيير، والجنوح إلى التحرر، وكسر الأطواق والأصفاد، وقدوم الخير. ووردت ألفاظ القمر، والشمس، والنجم، والمجرات، والقنديل، والظل، والليل، والنهار، والعتمة، ثماني عشرة مرة، وهو الأمر الذي يعني هروب الشاعر إلى مدارات الكون، وعوالم الطبيعة، بعيدًا من ضيق الأرض. والطريق، والرصيف، والشوارع، والجسور، وردت اثنتي عشرة مرة. والغياب ست مرات. والشجر أربع مرات. وكذلك القلب أربع مرات. والقصيدة أربع مرات أيضًا، فيما الاكتمال ثلاث مرات.

والصحراء ثلاث مرات، والتوغل والقوافل مرتين لكل منهما.

«لا طريق/ سوى وجهها في الذاكرة/ صمتك مسافة/ ها أنت توغل بالوجوم/ لا جسر بيننا/ لا ضفاف/ تلم خوف النهر قبل المصب/ عندما تعبت الطريق/ اتكأت على ذكرى خطاك/ كشحوب القصيدة صوتي/ وأنت تغرق في الرحيل/ كأنني والشوارع تمضي/ رصيف تكوم عليه الانتظار/ في الغموض أنا».

ما هذا الضباب الذي يظهر على وجه العطش؟ وكيف يكون للعطش وجه؟ في ظل صحراء قاحلة تزداد رقعتها ولا مؤشر على نية سقوط المطر ليهدأ قلبه الظمآن: «كضباب على وجه العطش/ لا مطر/ على تخوم القلب/ فالصحراء تكبر في غيابك».

وحين يقول: «يتكئ على ظله/ الشمس تغيب، والظل يبتعد».

فكأن الظل شيء يمكن الاتكاء عليه، فيما يجري سباق دائب دائم بين الشمس والظل، فكلما اتجهت نحو المغيب، أخذ الظل في الابتعاد.

وللنهار قبعة، والقبعة بيت يلجأ إليه أرق الليل، ولليل أرق ثقيل شديد السواد. وحين يكون القلب موحشًا مقفرًا فإنه يشبه تمامًا الصحراء دون رمال. وشجرة البراري عاقلة تحلم كالبشر ويتراكم على حلمها الياسمين ببهائه وعطره الأخاذ: «أرفع/ قبعة النهار/ لآوي أرق ليل ثقيل العتمة/ موحش قلبك/ كصحراء بلا رمل/ حين هز الشجرة/ تراكم على حلمها الياسمين».

وبطريقة جميلة، وعبر تشبيه مقلوب، يرسم البراري صورة عكسية للمطر، بحيث يجعله يسقط صعودًا نحو فضاء السماء، على غير عادته في عناق الأرض وإطفاء ظمئها، بحيث يتحقق من وراء هذا الشموخ المتصاعد إزهار لغيم العاصفة: «صعودًا/ يسقط المطر/ كي يزهر غيم العاصفة».

وفي غمرة الحنين، وفيما يشبه الاستنكار، ومخالفة المألوف، يستغرب لأن قلب محبوبته وعلى غير عادته، لم يعد إلى حضنه الدافئ، حين غابت الشمس وجن الليل: «غابت الشمس/ ولم يأوِ قلبك إلى ليلي».