فيليب ماينلاندر: فيلسوف الخلاص
شنق الفيلسوف الألماني فيليب ماينلاندر نفسه ليلة 1 إبريل 1876م مُتخذًا من أكداس نسخ كتابه حديث النشر منصة أنجز فوقها عمله الخِتامي. لم يكن انتحاره حادثًا عرضيًّا ولا نتيجة لمزاج قاتم عابر أو خيبة طارئة، بل كان عملًا سالف التدبير ومحكم التخطيط ومقصود الدلالة ومكين العماد. كان ماينلاندر يرمي إلى جعل موته شهادة على عبثية الحياة، واحتجاجًا على قسوتها، ووصية فلسفية عملية تعضد بنيانه الفلسفي النظري المتمثل في كتاب «فلسفة الخلاص» (1876م) الذي صدر قبل أيام من انتحاره، واحتوى رؤية للعالم متكاملة تستغرق شتى أفانين الفلسفة من ميتافيزيقا وإستطيقا وفيزيقا وإيتيقا وبوليتيقا.
وُلد ماينلاندر سنة 1841م في مدينة «أوفنباخ أم ماين» الألمانية لعائلة بورجوازية ثرية. لم يتلق تكوينًا فلسفيًّا أكاديميًّا، بل كان تكوينه الرئيس في مجال التجارة والأعمال، أما في مجالي الفلسفة والآداب فقد كان ذاتي التحصيل، وذلك ما ساهم في بساطة أسلوبه وأصالة فكره؛ إذْ لم تصبه لوثة الرطانة الأكاديمية والتعقيد المتكلف. اشتغل ماينلاندر مدةً في التجارة والأنشطة المصرفية، كما أشرف مدة على مصنع والده، لكن هذه المهن جميعها لم تناسبه؛ ذلك أنه كان شغوفًا بالنشاط الفكري، وتاق إلى أن يكرس بقية حياته للفلسفة والأدب، ومن أجل تلك الغاية استثمر في المضاربة علَّه يكسب ثروة تُغنِيه عن العمل، وتُهيئ له ظروف التفكير والتفلسف، فما كان له إلا أن قُصم ظهره وخاب مسعاه إثر الأزمة الاقتصادية الكبرى وانهيار الأسهم سنة 1873م. حقق بعد ذلك حلمًا قديمًا بأن يصبح جنديًّا، وصار فارسًا في الجيش الملكي البروسي، كان من المفترض أن تدوم مدة تجنيده ثلاث سنوات، لكنه غادر الجيش بعد سنة واحدة لأسباب صحية وعائلية، وانتحر بعد ذلك بستة أشهر، كانت أخصب لحظات عمره وأكثرها إنتاجية، اجتمعت في شخصيته الفذة مُفارَقات عدة، فهو ملحدٌ صميمٌ، عظَّمَ المسيحَ وعدَّه مثالًا أخلاقيًّا، وفردانيٌّ جذريٌّ أنكَرَ ذاتَه وعاش زاهدًا، ومتشائمٌ عدميٌّ سانَدَ الحركاتِ اليساريةَ ودافَعَ عن المسحوقين.
ثورة الشك الأولى
شرع ماينلاندر في مطالعة كتب الفلسفة مبكرًا، وكان لقاؤه الفلسفي الأول سنة 1858م مع الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632-1677م) من خلال كتاب «رسالة في اللاهوت والسياسة». يقول ماينلاندر متحدثًا عن هذه التجربة: «لقد أحدث هذا الكتاب ثورةً داخلي، كما لو أن ألف غشاوة رُفعَت عن ناظري، وكأن ضباب الصباح الذي لا يُخترق قد تبدد، وكأني أرى الشمس تُشرق للمرة الأولى، كنت في السابعة عشرة من عمري فقط، وعليَّ أن أشكر مدبر الأقدار لأن رسالة ذلك الرجل العظيم كانت أول كتاب فلسفي وُضع بين يدي». لقد زرعت أطروحات سبينوزا في عقل ماينلاندر بذرة الشك الأولى تجاه اللاهوت التقليدي، ودفعته إلى الاعتناء بجوهر المسيحية الإيتيقي، وإلى الإعراض عن كل ما عداه من قشورٍ.
أما لقاؤه الفلسفي الثاني والأهم فقد حدث بعد سنتين، حين عثر على كتاب «العالم إرادةً وتمثلًا» لآرثر شوبنهاور (1788-1860م)، كان ذلك «أهم يوم في حياته». يقول واصفًا ذلك اليوم المشهود: «ذهبت إلى متجر كتب، وأخذت في تقليب بعض الكتب القادمة حديثًا من لايبزيغ. هناك عثرت على «العالم إرادةً وتمثلًا» لشوبنهاور. لكن من يكون شوبنهاور؟ لم أسمع بهذا الاسم من قبل. تصفحت العمل فقرأت عن إنكار إرادة الحياة، كما اعترضتني بعض الاقتباسات التي أعرفها، وهو ما جعلني أحلم، لقد غفلت عن كل ما يحيط بي وانغمست في القراءة، وأخيرًا قلت: «كم ثمن الكتاب؟»- «6 دوكات». – «تفضل هذا هو المال»! أمسكت بكنزي وهرعت إلى البيت كالمجنون حيث قرأت المجلد الأول بسرعة شديدة، ثم شرعت في إعادة قراءته، أمضيت الليل كله في القراءة من دون انقطاع ولم أتوقف إلا بمطلع اليوم التالي. شعرت عندما نهضت بأنني وُلدت من جديد (…) شعرت أن أمرًا ذا أهمية غير عادية قد حدث في حياتي». دأب ماينلاندر بعد ذلك اليوم على قراءة كتابات شوبنهاور التي صارت وِرده اليومي، يقول: «أقرأ شوبنهاور مثلما تقرأ رُوحٌ وَرِعةٌ الكتابَ المقدس: لتقوية نفسي».
على الرغم من افتتان ماينلاندر بشوبنهاور وفلسفته، فإنه لم يكن يوافقه في كل ما ذهب إليه، بل كانت له وقفات نقدية مع بعض أفكاره؛ ذلك أنه لم يكن يتبنى المثالية الترنسندنتالية (Transcendental Idealism) القائلة: إن العالم الخارجي يقع حصرًا في تمثلاتنا، وكان يرفض واحديته (Monism) التي تفترض وجود إرادة كونية واحدة تسري في جميع الإرادات الفردية، كما لم يكن متفقًا مع الأطروحة القائلة: إن معيار الأخلاق كامنٌ في لا ذاتية الأفعال، وخالفه أيضًا في أفكاره السياسية ونزعته المحافظة. لكنه كان يوافقه في مبدأين رئيسين: أولًا، أن إرادة الحياة هي الشيء -في- ذاته، أي أنها تمثل الجوهر الباطن (النومينون) الذي يكمن وراء عالم الظواهر (الفينومينون). ثانيًا، أن كُنْه الحياة معاناةٌ؛ لأنه إذا ما قدرْنا اللذات والآلام التي تصيب أي إنسان طوال حياته، فإننا سنلحظ طغيان الألم، وعليه فإن العدم أفضل من الكينونة.
عقيدة خلاص حديثة
بسط ماينلاندر فلسفته في كتاب «فلسفة الخلاص». قد يوحي عنوانه بأنه كتاب في الوعظ الديني أو في اللاهوت التقليدي، ذلك أن للفظة الخلاص دلالة تتعلق بالمسيحية خاصةً. لكن الكتاب أبعد ما يكون عن الأغراض اللاهوتية المتعالية، بل أراد له ماينلاندر أن يكون إنجيلًا أرضيًّا يبشر بخلاص المعذبين ويدلهم على سبيل انعتاقهم. لقد لحظ فيلسوفنا أن الإنسانية الحديثة تعيش توترًا مُعضِلًا؛ لأن الإنسان الحديث فقد إيمانه الديني لكنه يشعر في الوقت نفسه بالحاجة إلى الدين، أي أنه يحتاج إلى عقيدة خلاص توفر له سبل النجاة من عذاباته المحتومة، وبما أن التدين التقليدي لم يعد ذا مصداقية بالنسبة إلى الإنسان العارف الملمّ بالعلوم الحديثة، رأى ماينلاندر أن غرض فلسفته صياغة عقيدة خلاص حديثة متسقة مع الرؤية الطبيعية للعالم. تكمن خلاصة هذا الإنجيل في تعليمين أساسيين: أن لا سبيل إلى الخلاص والانعتاق سوى الموت، وأن الموت يكمن في العدم المطبق حيث يفنى الجميع ولا يبقى للحياة أثرٌ.
بنى ماينلاندر فلسفته على دعائم إبستمولوجية حتى يضمن اتفاقها مع العلوم الطبيعية الحديثة، ويحفظها من سوء الفهم وفوضى التأويل؛ لذلك خصص المجلد الأول من كتابه لمناقشة الأسس المعرفية والميتافيزيقية التي تشد عماد بنيانه الإيتيقي، ويمكن إجمالها في ركيزتين رئيستين: تتمثل الأولى في مبدأ المحايثة (Principle of Immanence)، أما الثانية فهي الاسمانية (Nominalism). يعني مبدأ المحايثة اقتضاء مكوث الفلسفة في حدود التجربة الإنسانية، ونفي جميع الافتراضات التي لا يمكن اختبارها وتصديقها في تلك الحدود. إن الفلسفة المحايثة طبيعية المنزع، أي أنها تفسر كل شيء وفق القوانين العلمية، ولا تأخذ في الحسبان القصص الخارقة لقوانين الطبيعة. إن لمبدأ المحايثة عميق الأثر في إيتيقا ماينلاندر، فهو يؤسس لأخلاقيات إنسانية محضة، وينأى عن كل أخلاق مؤسسة على سلطة متعالية أو فوقية. لا يمكن للخلاص أن يتأسس على الإيمان بالأخرويات، نحن لا نرى أبعد من الموت؛ لأن الموت نهاية التجربة الإنسانية، وعنده تنتهي خبراتنا. أما الاسمانية فهي الاعتقاد بأنه لا توجد غير الأشياء المتعينة والمُحددة.
إن كل ما نختبره ونشعر به ونحدسه هي أشياء تنتمي إلى حيز المتعينات المُفردة، خلافًا للكيانات المجردة من أجناس وأفكار وكليات ونماذج بَدْئِية، فهي ذات مرجعية متعالية لأنها لا تدخل حيز خبراتنا. يقول ماينلاندر: «لا يوجد في العالم سوى الأفراد»، وهو يشير دومًا إلى أن العالم يتكون من مجموع الأفراد، حيث لا وجود لأي وحدة تتجاوزهم، وعلى أساس هذا المنزع الاسماني، يثبت فيلسوف الخلاص إحدى عقائده التأسيسية: «لا يوجد في العالم سوى مبدأ واحد: إرادة الحياة الفردية». إن في تشديده على «فردية» الإرادة وتعددها منازعةً لعقيدة شوبنهاور القائلة بوجود إرادة كونية واحدة تثوي في الوجود كله وتبقى حتى بعد زوال الأفراد واندثارهم. يرى ماينلاندر أن الإرادة الفردية هي المبدأ والمُنتهى، ولا يبقى بعد فنائها سوى العدم. كما أن الفرد عنده مسؤول تمامًا عن أفعاله، فالطبيعة الفردية للإرادة تفرض المسؤولية والاستقلالية الذاتية، لذلك كان رفضه لفكرة الإرادة الكونية قاطعًا؛ لأنها تجعل الحرية الفردية محل ريبةٍ، ذلك أن افتراض إرادة كونية واحدة يقتضي أن يكون الفرد دميةً ولن تكون أفعاله سوى إنجاز إملاءات تلك الإرادة التي تعمل من خلاله.
الانسحاب الطوعي من الأرض
تتمثل مهمة الفلسفة حسب ماينلاندر في التحرر الذاتي، أي في انعتاق الإنسانية من عبوديتها التي تفرضها على ذاتها. والتاريخ في نظره إنما هو قصة عن خطوات الإنسانية نحو هذا التحرر. ويمر مسار التحرر عبر ثلاث مراحل كبرى: بدءًا بتعدد الآلهة، ومرورًا بالتوحيد، ووصولًا إلى الإلحاد، تتعلم الإنسانية خلال هذه المراحل أن تكون أكثر نقدًا تجاه ذاتها، وأكثر وعيًا بقدراتها، وتدرك أنها استعبدت نفسها وأخضعتها إلى كيانات من صنعها، يؤدي هذا الإدراك إلى نمو استقلالها الذاتي، وإلى إحكام سلطانها على غاياتها ومثُلها. كان ماينلاندر يرى أن عصره يمثل مرحلة «وحدة الوجود» (Pantheism) التي تمثل بدورها آخر مراحل «التوحيد». وهذا يعني أن الإنسانية توشك أن تبلغ المرحلة الأخيرة، وأن تلك اللحظة التاريخية تؤذن بانبثاق الإنسان الفردِ المتملك لذاته.
يرى ماينلاندر أن رؤية الهيغليين الجدد تتسم بالتفاؤل الساذج؛ ذلك أنهم كانوا يحسنون الظن في الحياة، ويرون أنها تستحق العيش إذا ما عشناها وفق مُثلنا وقيمنا التي نبتدعها بأنفسنا. إن مصدر المعاناة بالنسبة إليهم لا يكمن في الوجود ذاته، بل في المؤسسات الاجتماعية والسياسية الفاسدة والاستغلالية؛ لذلك ركزوا أعمالهم على نقد الدولة والكنيسة، ولم يتجاوزوا ذلك إلى نقد الوجود برمته.
يرى ماينلاندر أن كل فرد مجبولٌ على الكفاح من أجل تحقيق سعادته الخاصة، والأفعال الإنسانية كلها إنما هي مدفوعة بالمصلحة الفردية، بما في ذلك أفعال الإحسان والرحمة والتضحية بالنفس، يعود كل فعلٍ –مهما بدا عليه من إيثار- على صاحبه بمنفعة ما. لا يعني ذلك أن المصلحة الفردية تنفي عن الفعل أخلاقيته، يرفض ماينلاندر الإيتيقا الشوبنهاورية المؤسسة على الرحمة أو الشفقة التي تقتضي أن تكون الأفعال الأخلاقية لا ذاتية/ إيثارية (Selfless)، حيث يمكن للفرد أن يحل مكان فردٍ آخر فيفقد ذاته، ويتماهى مع الآخر ويشعر بعذاباته. يفنّد ماينلاندر هذه الإمكانية؛ ذلك أنه ليس بمستطاعنا أن نفقد ذواتنا في الآخرية، بل نحن حين نتعاطف مع شخصٍ ما ونحزن على حاله، فإننا نفعل ذلك داخل ذواتنا، ونساعده على تخفيف عذاباته من أجل أن نشعر بالرضا الذاتي.
تحسين شروط الحياة
تهدف إيتيقا ماينلاندر إلى تحديد معنى السعادة وإيجاد طرائق بلوغها، وتتمثل أرقى صور السعادة عنده في «سكينة القلب التامة». لكن ما الذي يحول بين الفرد وهذه السكينة؟ إنها رغائبه التي تُحكم شد وثاقه إلى الحياة، «إن الدافع الجنسي هو الرابط الأقوى الذي يشدنا إلى العالم بوثاقه؛ إنه الصخرة الكبرى التي تفصلنا عن سكينة القلب»؛ لذلك نذر ماينلاندر حياته للبتولية، وتَصَوَّنَ من العلاقات الجنسية، فلم يعرف امرأةً قط، وكان يرى في النُّسّاك المسيحيين أسعد الناس، وعدّ المسيحَ وبوذا أرقى النماذج الأخلاقية؛ لأنهما يرمزان إلى التعفف عن الرغائب وعدم التعلق بها. يقطع ماينلاندر مع العقيدة المسيحية وينقضها، لكنه لا يقطع مع القيم المسيحية المبنية على التواضع والتعفف ونبذ الذات، ولا يرى ضيرًا من الاستئناس بها واستلهامها بما يتوافق مع نسقه الفلسفي.
رغم تشاؤم ماينلاندر ونزوعه إلى الزهد وإنكار الذات، فإنه لا يتخلى عن فكرة النضال من أجل تحسين شروط حياة الفرد، ولم يُنكر حقه في طيب العيش وتحقيق الرفاه؛ لذلك كانت أفكاره السياسية يسارية المنزع، وكان مسكونًا بالهاجس الاجتماعي. ساند الحركات الديمقراطية والاشتراكية في عصره، وتعاطف مع العمال والطبقات الدنيا، ودعا إلى التوزيع العادل للثروات، ورأى في الدولة ضامنًا لحقوق الأفراد وأمنهم، لكنه لم يطمع في أكثر من «تحسين شروط الحياة». لم يكن يعتقد إمكانية استئصال شرور الحياة الجذرية وتحقيق السعادة الإنسانية عبر الوسائل السياسية. لا يمكن لأي تغيير أو إصلاح سياسي انتشال الناس من بؤسهم، وليس بمقدرة أي دولة جعل الحياة جديرة بالعيش.