العمارة العربية من التقليدية إلى ما بعد الحداثة
إن العمارة العربية بمنتجاتها قد تأثرت وتفاعلت مع ما حولها. وكثير من المشروعات قد نتجت بسبب التفاعل المحلي والغربي أو العالمي إن صح التعبير. وبالتالي فإن التمثيل المحلي للعمارة قد تفاعل مع مدخلات من خارج سياقه؛ لتجسيد وخلق معانٍ مختلفة عما هي عليه في سياقها الغربي. فنجد أن هناك تأثيرًا وتبنيًا لبعض الأفكار المعمارية الغربية. فقد اعتمدت العديد من الدول العربية على التصميمات المعمارية الغربية الحديثة، مثل الأبراج العالية والمباني الزجاجية ذات الطابع العصري.
مدن مثل دبي، وأبوظبي، والدوحة نجدها أصبحت أيقونات للعمارة الحديثة مع ناطحات سحاب شهيرة مثل برج خليفة في دبي وغيره. كما ظهر العديد من المدن الجديدة التي اعتمدت اعتمادًا كبيرًا على النموذج الغربي في تخطيطها، مثل العاصمة الإدارية الجديدة في مصر وغيرها. وهذا ما يقودنا إلى محاولة معرفة ما يدور على أرض الواقع عندما تأتي المكاتب الاستشارية العالمية داخل سياقاتنا العربية. وما ستؤول إليه هوية ومعنى ومضمون هذه المنتجات التي ستُقدم لنا، متجاوزةً السياق والمضمون المحلي للمكان.
من التقليدية إلى الحداثة
إن واقع المدينة العربية اليوم يسعى جاهدًا للتحول من سردية التقليدية إلى الحداثة، في محاولة للتعبير عن مدى التقدم والازدهار. فيما هناك العديد من المحاولات التي حاولت المزج والتكامل بين العمارة المحلية والأفكار الغربية التي تبنتها العديد من المدارس الغربية، والتي تحاول جاهدة خلق نمط معماري مميز يعبر عن الهوية المحلية مع الاحتفاظ بسمات الحداثة. وفي المقابل هناك حركة ملحوظة لإعادة إحياء العمارة التقليدية والتراثية من خلال استخدام التصاميم القديمة في المباني الحديثة، مثلما هو الحال في مدينة مسقط في عمان، حيث تحافظ المباني الجديدة على الطابع التقليدي بشكل ملحوظ.
الحقيقة أن هناك مجموعة من التطورات والتغييرات في مجال العمارة في العالم العربي في القرن العشرين، حيث شهدت المنطقة نشاطًا معماريًّا ملحوظًا يتمثل في إنشاء مبانٍ جديدة بأساليب معمارية متجددة ومتطورة. ولعل جُل هذه المشروعات اشتركت فيما يتعلق بالبحث عن الهوية، والسعي نحو التوازن بين الحفاظ على الهوية والثقافة العربية التقليدية، وبين قبول التطورات الحديثة والمفاهيم الغربية في العمارة. وهذا يعكس السعي لإيجاد تعبير معماري فريد يعبر عن الهوية الوطنية. إضافة إلى ذلك فهناك تقبل واضح لاستخدام التقنيات المعمارية الحديثة والمواد المتطورة، وهذا بدوره انعكس على تطوير تصاميم معمارية متقدمة تتناسب مع الظروف البيئية والثقافية المحلية، من دون تجاهل تام لمسألة التطورات الاجتماعية والثقافية في المنطقة، وهو ما أدى إلى تعزيز الاندماج الاجتماعي وحَفْز التفاعل الثقافي.
المعماريون العرب
إن الحركة المعمارية الرائدة في الوطن العربي قد مرت بمجموعة من المعماريين العرب الذين تلقوا علومهم من أقطار مختلفة، حيث تمركزوا بعد عودتهم إلى العالم العربي في مرحلة انطلاق نشاطاتهم. وقد أوضح ذلك مرارًا الدكتور وليد السيد -رحمه الله- في العديد من أطروحاته، حيث صنّف هؤلاء المعماريين فئتين من حيث منهجهم التجديدي، وهما: المجددون من الداخل، والمجددون من الخارج. فعبر عن الفئة الأولى بالمعماريين الذين تخلقت ثقافتهم وعلومهم ضمن بوتقة الثقافة العربية كإطار وكمحتوى، وتكونت أفكارهم ورؤاهم المعمارية ضمن هذا الإطار؛ مثل المعماري المصري حسن فتحي. أما الفئة الثانية التي تلقت أفكارها وعلومها ضمن الإطار المحلي، وفي الوقت ذاته صِيغت أفكارها ضمن الإطار الغربي في مرحلة من حياتهم الأكاديمية أو العملية، وهي مجموعة ليست بسيطة، وقد انفتحت على الغرب مما زاد من انفتاح العمارة العربية المعاصرة على الغرب بشكل موسع. ومنهم المعماري محمد مكية، وعبدالواحد الوكيل، ورفعت الجادرجي، وعبدالحليم إبراهيم، وراسم بدران. فنجد المحاولات التي سعت لإحياء وإبراز وتفعيل التراث كما عمد حسن فتحي إلى ذلك، كما هي محاولاته للتجديد من الداخل. بينما هناك من يسعى لتطبيق نظريات على التراث المحلي ضمن إطار البحث عن الهوية والتوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وهم فئة المجددون من الخارج. وعلى الرغم من اختلاف المنهجية والأدوات فإن غزارة الإنتاج الفكري من الفئة الثانية يعد ملموسًا وواضحًا على أرض الواقع المحلي المعاصر.
يمكن القول: إن العمارة الحديثة في الوطن العربي قد مرت بمراحل عدة حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم. ولعل أولى هذه المراحل كانت في أوائل القرن العشرين، حينما كانت مرحلة التقليد المباشر واستيراد الأفكار واقعًا ملحوظًا بسبب قلة المعماريين العرب، ورغبة العديد من الدول العربية في بناء العديد من المباني الحكومية والتجارية والسكنية، التي كانت بتصاميم مستوحاة بشكل كبير من العمارة الغربية، دون تعديلات كبيرة لتناسب البيئة المحلية، وهو ما سهل من عملية استيراد الأنماط المعمارية الغربية بشكل مباشر. فنجد كثيرًا من المدن مثل: الجزائر وبيروت والقاهرة، قد بُنيت فيها مبانٍ ذات أنماط كلاسيكية وحديثة أشبه ما تكون بتلك التي في أوربا. تلت ذلك مرحلة دمج العناصر المحلية التي أتت مع قدوم المعماريين العرب، حيث عملوا على أن تلامس تصاميم المباني ثقافتنا وبيئتنا. ثم مع مرور الوقت، تطورت العمارة في العالم العربي لتصبح أكثر إبداعًا وابتكارًا. فبدأ المعماريون في تطوير أنماط جديدة تجمع بين الحداثة والتراث بطرق فريدة تعبر عن الهوية الثقافية المحلية، مثلما فعل المعماري راسم بدران في مشروع تطوير منطقة قصر الحكم في العاصمة الرياض.
دور محوري
وكما هو معلوم فالمعماريون العرب الذين تلقوا تعليمهم في الخارج، ثم عادوا إلى الوطن العربي أدوا دورًا محوريًّا في تشكيل المشهد المعماري الحديث في المنطقة. هؤلاء المعماريون جلبوا معهم أفكارًا وتقنيات جديدة، وهو ما ساهم في تطوير وتحديث العمارة المحلية. ويمكن تلخيص توجهاتهم وتأثيرهم في محاولة المزج بين المحلي والعالمي وكذلك الابتكار والتجديد والحفاظ على الهوية الثقافية. فحينما عاد العديد من المعماريين العرب بفهم عميق لكيفية دمج التقنيات الحديثة مع الطرز التقليدية المحلية، أسفر عن ذلك تصاميم تجمع بين الأصالة والحداثة. على سبيل المثال، حسن فتحي من مصر الذي اشتهر بمزجه للتقنيات التقليدية بمواد البناء المحلية مع الأفكار المعمارية الحديثة. بينما هناك من المعماريين ممن درسوا في الخارج قد استخدموا أحدث التقنيات ومواد البناء المبتكرة لتقديم تصاميم معمارية حديثة تلبي الاحتياجات العصرية. المعمارية العراقية الشهيرة زها حديد أبرز هذه الأمثلة التي عُرفت بتصاميمها المستقبلية والهندسية الفريدة. فيما قام المعماريين الذين تأثروا بالتعليم الغربي في الخارج بإعادة تفسير العمارة التراثية بطريقة معاصرة، وهو ما يساعد في الحفاظ على الهوية الثقافية والتاريخية للمدن العربية. المعماري محمد مكية الذي اشتهر بقدرته على مزج العناصر التقليدية الإسلامية مع الأساليب المعمارية الحديثة، وهو ما أسفر عن تصاميم فريدة تعكس الهوية الثقافية الإسلامية. يُعد مكية من الرواد الذين عملوا على إحياء العمارة الإسلامية ودمجها في التصاميم الحديثة. وكان يعتقد أن العمارة يجب أن تعكس الهوية الثقافية والدينية للمجتمع.
رواد جدد
يمكن العمل على إعداد رواد ومعماريين جدد لهم دراية بالتراث العربي والإسلامي، وفهم أسسه وقيمه ومفاهيمه المعمارية عبر تعزيز الوعي بالتراث والفهم العميق لاحتياجات المجتمعات المحلية والثقافة والبيئة التي يعيشون فيها. وبالتالي المساهمة في تطوير تصاميم تتجاوب مع هذه الاحتياجات بشكل فعال وملائم من خلال استخدام التقنية والابتكارات الحديثة في تصميماتهم، مع الحفاظ على العناصر الثقافية والتراثية من ناحية الجوهر والمعنى والوظيفة ما أمكن. كما ينبغي أن تكون هناك محاولة لإنتاج تجارب معمارية لا تتسم بالشكلانية والسطحية، ولا تضيف للعمارة العالمية كثيرًا حسبما يطرح الدكتور مشاري النعيم، بل يجب أن يكون هناك عمق تاريخي محلي مرتبط بقيادات ثقافية معمارية ملهمة، وهذا ما يسعى إليه النعيم من خلال العديد من أطروحاته وأعماله الفكرية.
عمارة ما بعد الحداثة
عند الحديث عن عمارة ما بعد الحداثة وتأثيراتها ومآلاتها، فلا شك في أنها قد أتت كردّ فعل على المدرسة الحديثة، التي كانت تعتمد على المبادئ الوظيفية والتقنية والجمالية. تُعد عمارة ما بعد الحداثة تطورًا للتفكير المعماري، حيث تنتقل من التركيز الكبير على الوظيفة والتقنية إلى التركيز أكثر على السياق الاجتماعي والثقافي والبيئي لعكس الهوية المحلية. ولعل العامل البيئي هو أحد أبرز هذه الجوانب؛ إذ تُعَدّ الاستدامة أمرًا حاسمًا في البيئة الصحراوية، حيث تواجه التحديات، مثل نقص المياه وارتفاع درجات الحرارة.
عمارة ما بعد الحداثة تتناغم مع هذه الظروف عبر استخدام تقنيات توفير الطاقة وإدارة المياه بفاعلية. كما أن العمارة في البيئة الصحراوية تعتمد على استخدام المواد المحلية المتاحة، مثل الطين والحجر، وتدمجها بشكل مبتكر في التصاميم؛ لتوفير عزل حراري فعّال وجودة بيئية أفضل. بشكل عام، يمكن أن تتناغم عمارة ما بعد الحداثة مع البيئة الصحراوية العربية عن طريق تبني مبادئ الاستدامة والتقنية المبتكرة والاحترام للهوية الثقافية، وهو ما يؤدي إلى إنشاء تصاميم معمارية تتناغم بشكل فعّال مع البيئة الصحراوية، وتلبي احتياجات المجتمعات المعاصرة. وعلى الرغم من اختلال توازن العمران في المدينة العربية؛ بسبب اقتناع الكثير بهذه التقنيات الحديثة القادمة من الغرب، فإن هناك محاولات دعت إلى ضرورة البحث عن تقنيات متوافقة مع بيئتنا المحلية وإمكاناتنا البشرية كنوع من البحث عن الذات وبديل للتعبية الفكرية والثقافية. كما أن هناك محاولات أيضًا لإعادة اكتشاف التراث وتفكيك جوهره وتوظيفه في النظرية المعمارية المحلية المعاصرة.
كما يجب أن يكون المنتج العمراني في مرحلة ما بعد الحداثة منتجًا اجتماعيًّا أكثر منه إنجازًا فرديًّا حتى يتوافق مع البيئة المحلية. وبطبيعة الحال لا يمكن إغفال التقدم العلمي والنظريات المعمارية الغربية المتلاحقة التي أصبحت تقدم للعالم العربي بوصفه مستوردًا لها ومتلقيًا دون قدرته على إنتاج ما هو موازٍ، وبالتالي سيزيد ذلك من قدرة توفير حلول محلية تتناسب مع السياق الجغرافي والطبيعي المحلي للمنتجات العمرانية المقدمة لواقع المدينة العربية.