قراءة في تجربة العماني عوض اللويهي بين العتمة والماء يتشكل العالم

قراءة في تجربة العماني عوض اللويهي

بين العتمة والماء يتشكل العالم

الشاعر العماني عوض اللويهي يقترح نصًّا مغايرًا، يبتعد من المألوف من خلال مجموعاته الشعرية: «العتمة تفر من ظلالها»، و«المياه تخون البرك»، و«كائنات الظهيرة»، و«حصى وبصيرة»؛ إذ تقدم كل مجموعة من مجاميعه، خيارات جمالية مغايرة لما يليها، وفي الوقت ذاته ترتبط معًا من خلال تنامٍ لا يمكن تجاوزه؛ فهي منفصلة ومتصلة في آنٍ، وتشكّل في مجملها رؤية للتاريخ والذات وتحمل أنساقًا جمالية ومعرفية تنطلق من ذات شديدة الرحابة، تحاول جمع شتات العالم وتتفاعل مع موجوداته وتشتبك معها وتسعى إلى اكتشاف جوهرها فتنتقل العناصر من زمن الحدث، وهو زمن خارجي، إلى زمن مطلق، زمن داخلي، وهو زمن المبدع ذلك المتجول في العالم بلا يقين، يلقي بأسئلته من دون انتظار إجابة، ويحاول استعادة حيوات لا تخصه بمفرده؛ ليصوغ من خلالها تاريخًا شخصيًّا وسيرة حياة تتقاطع مع ذكرياتنا وما نعيشه.

إننا أمام تجربة شعرية ثرية ومتنوعة تحمل صيرورتها التأويلية، يسيطر الشاعر من خلالها على هيمنة اللغة ويكبح جماحها عبر تنوع غير محدود في التراكيب اللغوية وتفجير طاقاتها اللانهائية، إضافة إلى السعي نحو تجاوز المقولات الراسخة حول الجملة الخبرية التي تقدم -وفق ما حدده النحاة- إخبارًا عن أمر خارجي يحتمل الصدق أو مما يخافه، والجملة الإنشائية التي توجد أمرًا خارجيًّا لم يكن موجودًا من قبل. إن الجمل الخبرية داخل النصوص لا يمكن إخضاعها للمفاهيم التي رسخها النحاة وغدت مع الوقت حقيقة؛ إذ لا يمكن عدّها إخبارًا وتنأى عن احتمالات الصدق والكذب، وتشكل كمًّا من الانحرافات الدلالية سواء للمفاهيم الثابتة كما ذكرنا أو للعلاقات بين الأشياء والتصورات حولها. والانحراف الدلالي في هذه التجربة يشكل سياقات جمالية تصنع الدهشة، إضافة إلى أنه يشكل صيرورة تأويلية فهو أي الانحراف الدلالي، مجموعة من التقنيات تتحول فيها العلامة من معنى إلى آخر بما يحدث توترًا دلاليًّا من خلال الغموض والتناقض، واللامعنى كذلك؛ إذ إنه ظاهرة لغوية تتبع المعنى العميق للانزياح في السياق، بل في النص بأكمله، لإضفاء الإيحاء الدلالي المتولد للتركيب البنائي، فهو في جوهره تطور للأداء اللغوي، وفي الوقت ذاته خلخلة لما هو مستقر عن اللغة وأساليبها والبنية الشعرية كذلك، والأمثلة في المنتج الشعري لعوض اللويهي كثيرة مثل:

«رتبوا عظامهم تحت جلد البلاستيك وناموا» و«الخيول رمادية في نسيج السجاجيد/ تغدو وتمرح في فسحة البهو»، أو «يخرج القلب من شجر» في مجموعة «كائنات الظهيرة»، و«النار التي نسيناها في الطفولة/ خاصمتنا في معنى الشاي/ واشتقاقات الزنجبيل» من مجموعة «المياه تخون البرك».

إن مثل هذه المقاطع التي هي جمل خبرية في بنائها لا يمكن أن تكون غايتها الإخبار، ولا تخضع لاحتمالات الصدق والكذب، بل تتجاوز ذلك إلى انحراف وتوتر دلالي. فمشهد أطفال يرتبون عظامهم تحت جلد البلاستيك خارج تلك المفاهيم، وكذا الحال ذاتها في تصور الخيول المرسومة في السجاجيد وهي تجوب البهو، وهناك نار قديمة من ذكريات الطفولة نسيت مع الوقت.

إذن، مثل هذه العلاقات تتجاوز المقولة السائدة للنحاة، التي ترسخت في الأذهان حول الجملة الخبرية، لتكشف قدرة المخيلة على تجاوز ما هو ثابت. وتكشف هذه المقاطع، بجانب الانحراف الدلالي، عن وظائف اللغة التواصلية والأدائية والجمالية والتأثيرية، عبر التراكيب اللغوية التي تشكل علاقات غير متوقعة بين الأشياء والتصورات حولها. فالجملة هي الوحدة البنائية، أما المفردة فلا تعني شيئًا خارج السياق، بل تكتسب وجودها من موقعها داخل الجملة. فالكلمة علامة وليست وحدة. وفي نصوص المجموعات يلجأ عوض اللويهي إلى علامات مركزية تشكل مساحة من نسيج النص وغالبيتها علامات ترتبط بالوجود الإنساني، وتحمل تراكمات من الرؤى تكونت عبر تاريخ البشر وشكلت ما لا يستهان به من أحلامهم ومخاوفهم وأساطيرهم.

تاريخ العتمة ومعانيها

نتوقف هنا أمام علامتين مركزيتين داخل النصوص هما العتمة والماء، بجانب علامتي السدرة والكهف، وجميعها تثري النصوص وتفتح آفاقًا دلالية غير محدودة من خلال تاريخ هذه العلامات وارتباطها بالوجود الإنساني؛ إذ تشكل مكونات أساسية للحياة والتاريخ، وترتبط بأفكار ومعتقدات تمتد منذ بداية الحياة على الأرض.

فالعتمة تعني ظلام أوله بعد زوال الغسق، والعتمة تعني عدم اتضاح الرؤية، وعتم عن الشيء أي كف عنه بعد المضي فيه، والتعتيم هو ستر الحقائق، وعتم عن الموعد أي تأخر عنه، والعتمة النفسية نقطة تصويرية في الوعي النفسي تتسم بعدم تبصر الشخص فيظل جاهلًا أو فاشلًا، والعتمة ظلام أي غياب للضوء، والعتمة تدل على الجهل والخطيئة والشقاوة والعقاب، والعتمة تناقض الفهم واستخدام العقل؛ فهي مسلك الحمقى والأغبياء كذلك.

فالمعنى متعدد، وللعتمة أو الظلام مفاهيم تراكمت عبر التاريخ الإنساني، وفي سفر التكوين في العهد القديم كانت العتمة سابقة على حياة البشر ولم يكن للنور وجود فكانت تلك المقولة: «وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة». كما أن للظلمة معنى آخر في العهد القديم، في سفر أيوب، فجاء على لسان النبي أيوب: «قد حوط طريقي فلا أعبر، وعلى سبيلي جعل ظلامًا». وللعتمة تاريخها في مدونة الشعر العربي منذ معلقة امرئ القيس وأبياته الشعرية عن الليل ورؤيته لظلامه التي بلغت ذروتها مع صيحته: «ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي… بصبح وما الإصباح منك بأمثل».

فالعتمة لا ترتبط فقط بالليل، بل تتجاوزه إلى عتمة الروح وإلى التخبط في بحث الذات عن هويتها ووجودها، كما ترتبط العتمة بالغرابة فلا وجود للأشباح إلا داخلها والعتمة ترتبط بالمجهول كذلك، وبالميثولوجيا حيث تصورات الإنسان عن الظلام وذهاب الضوء كما في الحكايات المصرية القديمة عن مراكب الشمس، والحياة أيضًا كانت تمثل العتمة والموت خروج إلى النهار، فهذا ما يقوله كتاب الموتى. والعتمة غياب للمعرفة كما في أسطورة الطائر «أنزو» سارق ألواح المعرفة في الحضارة السومرية. هذه الرؤى ترتبط جميعها بالعتمة وتراكمت عبر تاريخ البشر، ويتعدد معنى العتمة داخل النصوص خاصة في مجموعة «العتمة تفر من ظلالها»:

«كانتِ السماءُ مليئةً بالنجومِ/ عداكِ» و«كم أضعنا من الوقتِ/ باحثينَ عن الضلعِ الزائفِ/ في عَتمةِ أيامنا»، أو «راجمينَ الغيبَ/ بالكلام الأخف من الحجارةِ/ نعيدُ للعَتمةِ/ أبناءها الغارقينَ بين ثنايا ألسنتنا»، و«لا يتشققُ الأسفلتُ/ إلا من تعبكِ في وحشةِ الليلِ»، و«أنا لا أحفل بالضوء».

إن هذه المقاطع تتجلى فيها العتمة ومرادفاتها وعناصرها بصور متعددة تصل ذروتها في انتحار الشمس في قنينة ماء، والعتمة لا تبدو حاضرة بكينونتها المادية، بل تتجلى في الغياب إذ لا وجود للنجوم في السماء في غيابها، والتيه حيث البحث عن الضلع الزائف في عتمة الأيام، ومحاولة استعادة ما هو مفقود بلا يقين عما هو ضائع من ذكريات وأحلام، تبدو ساطعة حين ينطلق صادحًا: «سننفق أعمارنا في اصطفاق الرماد مع الغيم».

رمزية الماء والكهف

أما الماء فهو المكون الحيوي العابر للحضارات والثقافات، هو مصدر الحياة والخصب. وفي مجموعة «المياه تخون البرك» تتعدد دلالات الماء وتنطلق من خلال مفردات الطبيعة كالريح والشجر، وتأتي أكثر وضوحًا من خلال البحر وضفة النهر والبحيرة والبئر والدلو والعطش كذلك. وبالتأكيد نص «قطرة ماء» يُعَدّ نصًّا مركزيًّا؛ إذ إن قطرة الماء هي المحور وبؤرة النص، ومن خلالها يجمع الشاعر شتات العالم؛ فهي تسقط على فقير وعلى رضيع وعلى الرصيف وفي فنجان القهوة وعلى الخشب، ليأتي السؤال: «لماذا كل هذا الزحام إلى الأرض؟» ليقترب النص بعفوية وحميمية شديدة من الرمزية والتعبيرية ليؤكد اتساع النصوص وقدرتها على احتواء رؤى مختلفة، ولا سيما مع التناقض بين مفردات الطبيعة التي تقترب من التعبيرية والرمزية وموجودات الحياة اليومية التي هي استهلاكية بطبيعتها، وهو التناقض الذي أحدث توترًا دلاليًّا وشكل سياقات جمالية متعددة، وفي الوقت ذاته صاغ مفارقات نصية ولفظية، ومن خلالها بدت ثنائية الحضور والغياب ساطعة داخل النصوص مثل: «لعلك تسمعين الطيور الميتة/ تغني في اللوحة المعلقة على مدخل البيت».

فالمفارقة هنا من جمع نقيضين حيث الاستماع إلى الطيور الميتة وهي تغني داخل لوحة، وكأن الغناء صار عصيًّا بل مستحيلًا والطيور بلا وجود حقيقي.

أما الكهف كعلامة سيميائية فهو يحمل مرموزات اجتماعية وتاريخية غير محدودة: من الكهف مسكن الإنسان الأول إلى كهف الدم حيث أول جريمة في الأرض. ولا يمكن إغفال فتية الكهف، ويقال: إن كل إنسان يبحث عن كهفه، فالكهف داخل البشر جميعًا حيث تكمن البراءة والبساطة. والسرو علامة مركزية كذلك، ويقال: إن داخل كل إنسان شجرة. والسرو في نصوص المجموعات لا يمثل الشجرة كما هي في كينونتها، فهي الملاك الحارس للبلدة في سدرة السيل، وباقتلاعها تصبح أكثر حضورًا. وهي رمز للأم الصاعدة من صخرة الوادي، والبهية في الأزمنة في نص «نشيد إلى الأم في صباحها الأول بعد الترمل» وتقترب السرو كثيرًا من مدلول الطوطم في الديانات القديمة. إنها الشجرة اللصيقة بالذات والملجأ والملاذ.

الصور المتخيلة والانفعال الحسي

ولا يمكننا إغفال التخييل في تجربة عوض اللويهي، فهو أساس الأداء الشعري وبه تتم الوظيفة الدلالية التواصلية، وهو يقوم على ركيزتين هما الصورة المتخيلة المبتكرة والانفعال الحسي المحدث في المتلقي؛ إذ يمنحه حقيقة افتراضية تنزاح عن قوانين المنطق العقلي، فهو إعادة صياغة للواقع بحيث يراه المتلقي في ضوء جديد، وكيان منسق وتفاعل جديد مع الأشياء، مثل:

«الفجر مغرفة مثقوبة، والليل طاه أعمى» و«كلما ذكرناك/ انطلقت جياد بلا رؤوس/ تلهث في أحلامنا»، «وهذا اليم/ قرطاس وملح غارق في الصمت».

هذه الأمثلة وغيرها كثير تكشف عن مخيلة باذخة وقدرة على الإدهاش وإعادة تشكيل العناصر والموجودات. والتخييل هو مصدر التميز والجدارة في النص الشعري. ولا يتوقف التخييل حول إعادة تصور الأشياء، بل يتجاوز ذلك إلى المجاز البصري الذي يبدو معه الشاعر وكأنه يقف خلف عدسة يلتقط من الصور والمشاهد ما لا نتوقع، ليتواكب مع عصر الصورة ويتفاعل مع الفنون الحديثة في السينما والدراما مثل:

«للنافذةِ قلبانِ/ واحدٌ لابتهاجِ الستارةِ/ والآخرُ يحرسُ ندمكِ/ حينَ تدخلينَ/ حافيةً/ إلى البيتِ/ وليسَ من إزميلٍ/ يحرسُ ضحكتكِ/ المبللةَ بالندمِ».

هذا المقطع يشكل صورة بصرية ممتدة تقترب من السيناريو، وتشكل مشهدًا سينمائيًّا بامتياز. إننا نكاد نشعر بوقع خطوات سيدة حافية تدخل وعلى وجهها ضحكة مبللة بالندم، ونرى النافذة والستارة المبتهجة وخلفها من تتأسف، وتتابع المشاهد واتساعه يصنع حالة ديالكتيكية قابلة لتأويلات متعددة.

وكذا حين يقول:

«مرةً فكرتُ أنْ/ أغسلَ الليلَ بالماءِ والصابونِ/ بيدين عاريتين/ لكنني تذكرتُ أن الليلَ لا يتسخُ أبدًا».

والمشهد المتخيل لمن يغسل الليل بالماء والصابون هو صورة بصرية صنعها مخيال الشاعر؛ فالمقطع حقيقته: بيدين عاريتين أغسل بالماء والصابون… وهو مشهد عادي تحول مع غسيل الليل من صورة عادية إلى مشهد متخيل، وبخاصة مع التصورات حول الليل الذي لا يتسخ، لتتشكل صورة شعرية ممتدة تثير الدهشة وتحفز إدراك المتلقي وحسه، ومثل:

«ها أنذا/ أرُسِلُ قُبلةً/ لتلكَ الفتاةِ/ التي كانت في نهارٍ صيفي كهذا/ تحاولُ اللحاقَ/ برجلٍ/ يحملُ سمكةً مشويةً/ في طريقه إلى البيتِ».

السرد الحكائي الشعري

نتوقف أمام هذا السرد الشعري الذي يؤكد توظيف تقنيات عديدة داخل النص، ولا يتوقف عند تمظهرات التشكيل البصري التي هي عناصر تكوينية في النص الشعري وليست جمالية فحسب، وهو تشكيل بصري خارج عن الشكلانية، أي خارج مفاهيم فضاء الصفحة والسواد والبياض. فالمجاز البصري ليس فقط صورًا ترمز إلى حقيقة على نحو محسوس بقدر ما هو تجسيد لغوي لتلك الصور، إنه مكون من مكونات السرد الشعري الذي هو في هذه النصوص يشكل سردًا حكائيًّا أيضًا. والسرد بحسب «جيرار جينيت» هو المنطوق اللفظي للحكاية، والحكي سمة إنسانية في المجتمعات البشرية كافة، كما يقول رولان بارت. والحكاية في الشعر تتباين مع الحكي في السرود من حيث اكتمال الحكاية وانتقال الزمن في الشعر من زمن الحدث، وهو زمن خارجي، إلى زمن الشاعر، وهو زمن داخلي ومطلق يخصه. وللحكي في نصوص عوض اللويهي أشكال متعددة، وهو ليس غاية في ذاته، إنما هو جزء من نسيج النص أي شبكة العلاقات المعقدة داخله، ويُوَظَّف ليمنح النص قوة دلالية تضيف إليه لتحقيق إنتاجية الدلالة، وفي الوقت ذاته تقدم أنساقًا جمالية تثري النص، مثل:

«في لحظةٍ ما/ تورقُ أشواكُ الخطيئةِ في دمكَ/ بعيدًا هناكَ/ حيثُ مساربُ كثيرةٌ/ توشكُ على التفشي».

إن الحكاية المتخيلة داخل هذا المقطع تشكل حكاية من خلال السياق الزمني؛ «في لحظة ما»، والسياق المكاني «بعيدًا هناك» والحدث وتتابعه، وتبتعد خطوات عن الواقع وترتبط به في الوقت ذاته من خلال الفعل «تورق» الذي صنع المفارقة؛ إذ الأشواك لا تورق وما يورق ليس في الدم وكذا: «منحنا أصواتَنا للعصافيرِ/ ونحنُ صِغارٌ/ حتى تحنَّ السماءُ باكرًا علينا».

إن الحكاية هنا التي تحمل زمنًا ماضويًّا هي حكاية متخيلة تصنع المفارقة بين زمنين: زمن الطفولة والبراءة واللحظة الآنية، ومن خلالها يتم تشعير العالم وإعادة تصور الأشياء ببساطة وسلاسة. وهذه الحكاية شأنها داخل النصوص شأن الحكايات الصغيرة الأخرى داخل بنية النصوص، التي لا تهدف إلى الحكي وهو ليس غايتها؛ فالحكي مكون من مكونات النص يصنع تشكيلات جمالية تثري النص وتفتح آفاقًا دلالية لا نهائية. وبجانب المجاز البصري والسرد الحكائي يأتي المونولوج الداخلي بما يحمله من غنائية وبوح كذلك؛ ليضيف قيمًا جمالية تكشف عن قدرة غير محدودة على توظيف آليات وتقنيات متنوعة. يقول الشاعر:

«أنا ابنُ هذه الحقولِ والماءِ والتربةِ/ روحي عُجِنَتْ/ بهذه الخضرةِ اللانهائيةِ/ عُجِنَتْ بشجاعةِ الفلاحِ/ وبيقينه الهشِّ/ في وجهِ الجفاف».

وأيضًا يقول: «أنا من يعني/ كي يمر الضوء في البيت القديم/ أنا من تحدّر من جدوع السقف».

التفاعلات مع نصوص مختلفة

علينا أن نتوقف أمام التناص الذي هو مجموعة من العلاقات تتضمن التلميح والاقتباس والإشارة والتضمين، فهو تفاعل مع النتاجات الأدبية ولا يقتصر على حضور نص من نصوص، بل هو الدليل على مجموعة التحولات التي يمارسها النص على ما تشرّبه من خطابات مختلفة. فجسد النص هو مكون من فسيفساء، من علامات موجودة بكينونتها، ويُعاد تشكيلها من خلال رؤية الذات الشاعرة لها، وتُقدَّم في صورة مغايرة. فالشجرة والمياه والنافذة والصابون والشاي جميعها كائنة في الواقع، وما يعنينا في قراءة النص هو كيف غدت جزءًا من شبكة العلاقات المعقدة داخله؟ وماذا أضاف النص إليها من خلاله، أي إعادة تصورها. وبجانب تلك المفردات الكائنة في الحياة التي يتفاعل البشر معها طيلة الوقت، هناك نصوص سابقة تتسرب داخل النص مثل: «لا عاصم من الماء»، حيث التناص مع القصة الدينية حول سفينة النبي نوح وموقفه مع ابنه في لحظة فارقة، وجاءت آلية التضمين «قال سآوي إلى الماء»؛ لينتقل من استحضار النص والتفاعل معه إلى تضمينه، ليؤكد تداخلَ النصوص وتفاعلها، وكذا «تنحتين من الجبال مساكن»، «وهزي قليلًا إبرة». ومن التناص الديني إلى التراث وحكاية الشاعر المتلمس، وقد نجا من رغبة الملك عمرو بن هند في قتله. وحين تأتي الحكاية يتجسد أمامنا الشاب القتيل طرفة بن العبد أحد شعراء المعلقات السبع: «للمتلمس أن يتملس/ من غده الغدر/ في لغة الآخرين». ومن التراث العربي إلى ديستويفسكي وروايته الشهيرة «الجريمة والعقاب» من خلال بطلها القاتل الأشهر في الأدب العالمي «راسكولينكوف». إن هذه التفاعلات مع نصوص مختلفة ومتنوعة يمنح قيمًا مضافة إلى النص.

ومن التناص ننتقل إلى الحس الصوفي الساطع في فضاء نصوص المجموعات، ويتجلى بشكل أكثر في مجموعة «العتمة ترمي ظلالها»، حيث التقشف والاقتصاد في اللغة والتكثيف والإيحاء والإزاحة. ولا يتوقف الحس الصوفي عند مفردات بذاتها شاعت لدى المتصوفة، لكنه يتجاوز ذلك إلى رؤية صوفية تتأمل العالم من خلال الألم والتجوال والاستبطان الداخلي.

وعلى الرغم من العلامات السيميائية، التي تشكل في غالبيتها مكونات الحياة منذ عاش البشر على الكوكب الأزرق، لم تغفل مفردات الحياة اليومية وموجوداتها الاستهلاكية والمجانية، بطبيعتها البعيدة، عن الأسئلة الكبرى، مثل: سائق سيارة الأجرة والمكنسة الكهربائية وأنبوبة غاز الطبخ وبراد الشاي والصابون والأزرار والقميص. وجاءت هذه الموجودات لتقدم صورة اللحظة المعيشة وقسوتها، وكعناصر ومكونات في بنية النصوص لا تنفصم عنها، بل هي من شفرات النص ونسيج جسده.

إننا أمام منجز شعري ثري لذات تعيش أزمتها، متورطة في الحياة، ومرتبكة بين متناقضات لا تنتهي. ذات تبوح بما في داخلها بتلقائية، وتحاول التمسك بما هو إنساني وحميمي، من خلال نصوص تحمل أنساقها الجمالية والمعرفية، وتطرح أسئلتها البادية حول العتمة والماء والبراءة المفقودة، أسئلتها الباحثة عن سروة ضائعة وقميص وبراد شاي، وإن صعدت علامتا الماء والعتمة إلى الواجهة.

وعلى الرغم من جمع تلك المتناقضات بين ما يحمل الأسئلة الكبرى، وما هو يومي وعادي ومألوف، فلا يمكننا أن نصف عوض اللويهي بالشاعر الضد أو الشاعر اللامنتمي ولا الشاعر الحالم. فنصوصه تقترب من الميتاحداثية، وفي حاجة إلى قراءات متعددة تواكب صيرورتها التأويلية، وتكشف عن سياقاتها المتعددة وآليات كتابتها.