«طبول الوادي» لمحمود الرحبي حياةٌ بين واقعين
الوادي الذي ليس فيه طبول، ولكنَّ ما يُقرع فيه هو تباين الحياة التي على ضفتيه. حياةٌ متذبذبة بين واديين هما وادي السحتن ووادي عدي. ولكل وادٍ منهما حياته الخاصة وشخوصه الذين رضخوا لممارسة الحياة كما كُتبت لهم، سوى من أراد له الكاتب، محمود الرحبي، الذي يفاجئنا دائمًا بجديده في أسلوب كتابته وإصداراته. ليس العنوان وحده الذي يشد القارئ ويجعله يتردد بين الأودية، وإنما الأحداث التي تقع بين تلك الأودية وما حولها.
البحث عن الحرية
بدأ الكاتب في سرد روايته على لسان الشخصية الأساسية للرواية واستمر بذلك في عناوين عدة. ثم تبعتها عناوين أخرى كان السارد هو الكاتب نفسَه. وبعد ذلك عادت الحكاية للشخصية التي يكتب عنها. وفي كل ذلك لم يتقيّد الكاتب بالسرد حسب أزمنة الحدث. وهذه مزيّةٌ أستطاع الرحبي أن يقود بها القارئ بين ضفاف أوديته دون أن يسقط في أي منها.
تتناول الرواية الفارق بين حياتين عاشهما بطل الرواية سالم في وادي السحتن ووادي عدي؛ إلا أن البحث عن الحرية هو الثيمة الأساسية في الرواية، بل تكاد تكون موتيف الرواية أيضًا، لما تخللته الرواية من إشارات صريحة وتلميحات. ليس سالم وحده الذي هرب من وادي السحتن إلى وادي عدي ناشدًا الحرية؛ بل حتى والده -المسبب لذلك الهروب برصاصة بندقيته- كان أيضًا يمارس الحرية؛ سواء مع ولده أو مع الآخرين. إذًا فالحرية هي المسيطرة على معظم الرواية، بل ربما تعدّت ذلك إلى أن الكاتب نفسه وجدها سانحة في ممارسة حريته، في إدخال بعض المفردات من اللهجة العامّية وبعض اللغات غير العربية.
يقودنا ذلك إلى الحوار الذي أضفى عليه الكاتب أسلوبًا مميزًا، فعلاوة على اللغة الفصحى الأساسية للرواية نجد الحوار أحيانًا بمفردات عامية، وأحيانًا بلغة عربية وهندية مكسرة، كالحوار الذي دار بين شبوت الهندي وسالم. وهناك حوارات أخرى بلغات بلوشية وهندية وسواحلية. لكن الكاتب وصف الحوار في موضعين مختلفين بأنه «كلام غير مهم»؛ كي لا يرهق شخصيته في البحث عندما كان يستمع للمتحدثَيْن. وعلاوة على الحوار المكتوب والحوار الذي أشار إليه الكاتب من بعيد؛ فهناك الحوار الصامت، إن صح التعبير. فقد ورد في الرواية ما يشير إلى حديث الطبيعة ولا سيما شجرة القاو التي كانت تقف شامخة تراقب ما يدور تحتها.
وبالرجوع إلى الحرية فإن للكاتب رأيًا خاصًّا في توزيعها على مكونات روايته. ومن بين هذه المكونات بطله سالم الذي ترك أسرته وقريته لكي يمارس حرية التدخين أولًا، ثم تلا ذلك حريات أخرى وجدها في العاصمة التي فتحت له ذراعيها، وأتاحت له ما كان ينشده من ممارسة حريّته فوق ما يتوقع، مما لم يستطع بعده الرجوع للاستقرار في قريته بوادي السحتن. وهنا مارس حريته في اختيار بلده المصيري بعد وفاة والده.
وقد تجاوزت الحريةُ الشخصياتِ الأساسية إلى الشخصيات الثانوية في الرواية. ففي حديثه عن البيوت «كان الأطفال يدخلون ويخرجون منها بحرية»، وشملت الحرية كذلك الكائنات الحية من الأشجار والعصافير «وهي تتنقل بحرية من غصن إلى آخر»، حتى الجمادات مثل الأفلاج وشعور النساء التي يصفها بـ«المتحررة».
الحياة بين زمنين
الحياة بين زمنين هي أكثر ما احتوت عليه الرواية، وذكرها سوف يطيل الحديث؛ لأنه يكاد لا توجد صفحة إلَّا اشتملت على مقارنة بين حياتين. وأكثر ما في ذلك حياة القرية وحياة المدينة. ويأتي في الرواية على أشكال متعددة سواء برواية الكاتب أو برواية شخصياته.
وتجدر الإشارة إلى وجود ما يمكن أن يكون ضربًا من التورية عند الحديث عن الفارق بين حياة القرية وحياة المدينة إلى أبعد مما جاء في الرواية، على الرغم من وضوح محتوياتها وأماكنها وشخوصها. ولكن إذا ما ذكرنا الحياتين على خطين متوازيين فإنه يمكننا اكتشاف الفوارق البديهية، التي قد تطرأ لكل من تهيأت له الظروف لمغادرة الحالة التي هو عليها إلى حالة أخرى يرى فيها الحرية المطلقة. وباستطاعته ممارسة نمط حياة مغايرة على ما اعتاد عليه. ويمكن توظيف هذا التحول في موضوعات وظروف حياتية متعددة. وهنا تكون الحرية للقارئ في هذا التوظيف. ولننظر كيف استطاع الكاتب أن يبسط حريته حتى للقارئ. ليس في هذا وحسب، وإنما جعل له أيضًا حرية التخيل فيما بعد قراءته لهذه الرواية، التي لم يجعل لأحداثها نهاية. مثال على ذلك، عندما احتل زهران دور البطولة، بعد أن بدَّل نمط حياته بالانتقال من وادي عدي إلى وادي السحتن، في تبادل للأدوار حدث مصادفة بينه وبين سالم؛ لكي يجد كل واحد منهما أن واديه البديل هو الأفضل. يذهب كل واحد منها لممارسة حياته الجديدة. وهنا يبين الكاتب الفارق العجيب بين زهران وسالم في نظرتيهما للقرية والمدينة.
الدليل على سعة إدراك الكاتب بمجريات الحياة هو استخدامه للخطاب التأملي، وقد تمثل في بعض الأقوال الرائعة التي ربما اخترعها بنفسه. في صفحة 111 يقول: «حين يكون لديك سقف فإنك الثابت كمركز والعالم يدور حولك»، جاءت على لسان سالم معبرًا عن فرحته بعد انتقاله من بيت العمّال، حيث كان يسكن في سطحه دون سقف، إلى البناية التي احتضنته وأسس فيها تجارته البسيطة. وبعد 5 صفحات جاء قول آخر أكثر عمقًا وهو: «إن المرأة التي لا تعرف الصراخ لا يمكنها أن تعرف الحب»، وفي صفحة 141 قال: «إن العصا إذا تحولت إلى صديق فلا يمكنها أن تربي أحدًا».
علاوة على ذلك، هناك لفتة تاريخية أشار إليها الكاتب في مواضع عدة عن أحداث زنجبار في حديث شخصية زهران الذي هرب من «مذبحة الستينيات»، وأصبح يحكي قصته قبل الهروب وملخص الأحداث التي كانت تجري هناك. وفي موضع آخر اشتملت القصة على بدء المؤامرة وغياب الأمن. وأخيرًا عندما اختار وادي السحتن مقرًّا له «كأنما تذكّر ماضيه وطفولته في زنجبار» لما وجده من الطبيعة التي «لم يكن يراها سالم».
وأخيرًا يجدر بنا الحديث عن مزية أخرى امتازت بها الرواية وهي التأني في السرد. وجاءت هذه الميزة في صورٍ متعددة: منها ما يكون في حالة شخصياتها، مثل ما حدث أثناء هروب سالم، ووصوله إلى العاصمة وتجواله في شوارع وادي عدي ليكتشف القارئ هيئته، بعد صفحات عديدة، بأنه لا يزال حاسر الرأس. وكذلك تأخر استغراب سالم من نمط الحياة في وادي عدي، عندما أشار الكاتب إلى ذلك بعد مدة. والمدة التي قضاها سالم قبل أن يسأل الهندي عن اسمه، وكذلك التأني في إجابته عن السؤال المعاكس. وأطول مهلة وضعها الكاتب هي عودة سالم إلى القرية وهي لم تكن لولا وفاة والده. وهناك أحداث فاصلة ذكرها الكاتب وربما تكوّن مهلة للقارئ، منها ما جاء تحت عنوان: «بيت بلا سقف» وأحداث أخرى متفرقة بين العناوين الأخرى.