برايتون
… يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر ممسكًا بيد ابنه، قرر أن يصافح البحر صديقه الأول هنا، قبل أن يذهب إلى حيث يسكن، شوقه طاغٍ وقلبه مستهام، يغيب.. لا يسمع حديث ابنه.. يغوص في لذّة قديمة فقدها ثلاثين عامًا.
لا يتذكر إن كان ابنه فرّ منه واختفى، أو أنّه هو الذي فرّ من ابنه واختفى، ثم لا يتذكر إن كان هو الذي ذهب يبحث عن ابنه أم إن ابنه هو من يبحث عنه، أملت عليه ذكرياته كل تصرفاته في طريقه للبحث عن ابنه، بدأ يحوك أيامه الأولى كسلسلة متصلة ربما تُفضي به إلى ابنه، أو تفضي به إلى والده الذي أتى به يومًا إلى «برايتون»، في أول شبابه كي يلتحق بمدرسة لتعليم اللغة الإنجليزية، ثم أسكنه مع عائلة إنجليزية مكوّنة من أب وأم وطفل، تركه وغادر بعد أن اطمأن عليه مع
عائلة إنجليزية.
الآن ينظر من بعيد، نظرة والده الأخيرة وهو يودعه كانت تنطق بعبء سنين، بعبث يهصره ويبعده عن مواطن الظل الرطيب، لم يلتفت الشاب، لم تهتك تلك النظرة غشاوة شبابه، كان ثائرًا يبحث عن متعة الأيام وبواطن السرور، لم يدرك من نظرة أبيه تلك إلا شوق الأب الرحيم والدفء الحميم، تقلّب في أزقة «برايتون» بين المدرسة والمنزل ومتعة القلب الخلي، لم يبثه والده حزنًا يخالطه، ولم ينفثه جرح الأيام، لم يشأ أن يعنّته، تركه يخوض غفلته بكل أطيافها كي لا يفطن إليه وإلى جرح تتقاذفه بين عينيه أزمنة فائتة.
غفا الشاب فوق مخدة الليالي الناعمة، ينام ويصحو ليعبث بين أيام وادعة.. وصغيرة، في المدرسة عاش الشاب طفولته للمرة الثانية، برع في اصطياد اللحظات المارقة، يستوقفها ويلتهم كل ما تكتنزه من سعادة ومُتعة، التفّ حول أصدقاء في مدرسته يشاركونه عبث الأمسيات الصاخبة ومراتع اللذّة العميقة، كانت العائلة الإنجليزية التي يعيش معها تعتني به جيدًا، تُفتّق في ذهنه مسارب للجمال يجهلها، تزرع في قاحل نفسه مروجًا ملونة بألوان زاهية فتُنبت نفسه زهور أيام جديدة. حين تمضي به الأيام ويعتلي ركام السنين ويرسل بصره إلى أسفل؛ ليبحث عن مكان يرطب به خشونة كهولته ويتذكر فيه نعومة السنين، فلن يرى إلا «برايتون»، مدينة أتته سعيًا في بدايات شبابه، فحفرت في شيخوخته مروج ذكريات خضراء لا تمّحي.
عاد الشاب إلى بلاده، وعاود السفر بعد أشهر إلى «برايتون» وحيدًا دون أن يحتاج إلى من يُرشده، نما الشاب يعبّ من فتوّة الشباب أجزل اللحظات، مرّ العمر خطفًا من بين يديه، وحين غامت السماء يومًا وغابت شمسه عن عينيه، فجأته الأيام المتربصة بوجه لها لم يكن يعلم أنها كانت تحمله بيدها الأخرى، كان وجهًا قاتمًا عبوسًا قمطريرًا، كانت أيام محتقنة تترصد مروره بها لترمي عليه شباكها وتنزعه من أيامه الصغيرة الناعمة، سار وقد رفس شبابه الغضّ خلفه، وأقبل على الحياة المكتظة بصراخ وعويل اللحظات، كابد عناء الأيام وبؤس العافية، بدّلت الليالي ملامحه سريعًا فشابت ناصيته، وهرم قلبه، ومارس لذّته الجديدة، فاجترّ دومًا وجوهًا حميمة وأصواتًا وحوادث يقتنصها من بين شقوق السنين، يجد فيها متعة نديّة، لم يكن يحتاج من وقته سوى ذكرى نسمة تلفح وجهه وتغادر به بعيدًا من عالمه، وقف أمام البحر يعبّ من نسيمه القديم، فتختلج في قلبه حوادث السنين الصغيرة، فيرى أن قلبه يتقافز بعيدًا منه كطفل شقي، كان ساهمًا.. بعيدًا حين شدّ ابنه الشاب يديه ينبهه وقد طال وقوفه أمام البحر بأن الشمس قد غابت، أرخى نظره.. عاد إلى نفسه.. نظر إلى ابنه الشاب.. ابتسم له معتذرًا ثم أحنى ظهره أمام وجه ابنه وسأله: من أطفأ شمعة أمس؟ لم يفهم الشاب قصد والده، كان الشاب متحفزًا لرؤية «برايتون»، وللتعرف إلى العائلة الإنجليزية التي سيعيش معها مدّة دراسته.