تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي

تجربة التشكيلي حلمي التوني

خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي

على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في سبتمبر 2024م عن تسعين عامًا، من إضافة إسهاماته الخاصة إلى المنجز التشكيلي المحلي والعربي والعالمي، عبر عشرات المعارض وآلاف الأعمال في التصوير الزيتي والرسم والكاريكاتير والزخرفة والغرافيك وتصميم أغلفة الكتب وشخصيات العرائس وقصص الأطفال وغيرها.

وتتعدّى بصمة حلمي التوني المميزة حدود هذه الانفجارات اللونية والتجليات المرئية التعبيرية، التي أفرزها في منجزه الاستثنائي بشتى الصيغ، عبر أكثر من ستين عامًا من الإبداع المتواصل. فهذه البصمة، لدى الفنان الذي نال كبرى الجوائز المحلية والعربية والدولية، ليست مجرد طرح فني ابتكاري في فضاء التخييل البصري المعاصر، وإنما هي خريطة رؤيوية وفلسفية لمسارات واضحة محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية، وقنص جوهرها الصافي، وخميرتها النشطة.

المفاتيح السحرية

من أقصر الطرق، وأيسرها، وأخصبها، يصل حلمي التوني، ابن محافظة بني سويف عام 1934م، إلى مبتغاه دائمًا؛ الحياة الحقيقية المتسعة، حاملًا مفاتيحه السحرية لمَشَاهدها المُركّبة والمُربكة، وتفاصيلها الكثيرة المتشابكة، التي لا تستغلق على حلوله النافذة، ولا تستعصي على معالجاته، ووعوده الناجزة.

وفي منظومة خريطته، هناك مسارات إلى الحياة الحقيقية حيث توجد، وهناك مسارات أخرى محرّضة على صناعة هذه الحياة، إن لم توجد من تلقاء ذاتها. وهكذا، تتجاور في خريطة الفنان الإبداعية والمعرفية، مسارات الرموز والطقوس والمفاهيم والإشارات المضيئة والعلامات الأيقونية، الدالة على الوجود الخالص، وعلى الصلصال الآدميّ النقي، في آنٍ واحد. فالحياة الحقيقية، في قاموسه، هي تلك التي يستحق البشر أن يجدوها ويعيشوها وينغمسوا فيها ويتذوقوها، ويُنعشوا بها حواسّهم المُنهكة.

هي، ببساطة، حياة تقود إليها، وتصنعها، مساراتُ التحرر، والبراءة، والانطلاق، والتمرد، والانفلات، والائتناس، والبهجة، والدفء، والغناء، وقرع الدفوف، والرقص، والأمل المتوالد، والحلم الذي لا ينقطع. وهي حياة، لا مجال لتلمُّسها من غير مسالك العشق، وحدائق الزهور والفواكه والرحيق المختوم، ومدارات الكواكب والنجوم والحكايات والملاحم والأساطير.

كما أن هذه الحياة الحقيقية، ليس ممكنًا إدراكها، من غير العبور المتعمق إلى الهوية الذاتية الأصيلة، والروح الشعبية، والموروث الوجداني، والضمير الجمعي، ومن غير وطء الدروب السرية إلى سراديب الأنثى/ المرأة، بكل ما تعنيه هذه الـ«هي» من نضج وتحقُّق وتفتّح وتجدد ونماء وازدهار ورشاقة وتبختر ودلال ومشاركة تفاعلية خلاقة.

وتكفي إطلالات عابرة على معارض حلمي التوني في السنوات القليلة الأخيرة، لتقصّي وجوه الحياة الحقيقية في تجربته، وتحسُّس مساراتها المتشعبة، خارج قيود الروتين اليومي والضغوط المحيطة والأطر الضيقة. ومن عناوين هذه المعارض، التي ترسم عوالمه الخاصة مثلما أنشأها بطلاقة وأريحية ومرح وتفاؤل: «يحيا الحب»، «أنا حرة»، «للنساء وجوه»، «فاكهة محرّمة»، «ليه يا بنفسج»، وغيرها مما شهدته قاعات العرض في غاليري بيكاسو، بحيّ الزمالك في القاهرة.

العشق والحرية

في الحياة المشحونة بالوهج وحرارة الأنفاس الصادقة، التي يبلورها الفنان حلمي التوني بريشته المرهفة وألوانه الصاخبة، كما في معرضه الأخير «يحيا الحب» (2024م)، لا صوت يعلو على صوت الحب، ولا إيقاع يفوق إيقاع النبضات القلبية.

وهذا الحب الضافي الشامل، هو ليس فقط العشق المتبادل بين الذكور والإناث، ولكنه أيضًا الحب الإنساني المتنامي في مواجهة الحرب، والعنف، والدموية، والقسوة، والهمجية، والآلة العسكرية التي تنشر العدم والخراب والكراهية، مع النيران والقذائف والأدخنة.

ويأخذ هذا الحب عنوانًا لفِلْم موسيقيّ غنائيّ لمحمد عبدالوهاب وليلى مراد في عام 1938م، هو «يحيا الحب». وتتناغم لوحات المعرض كلها مع هذه النزعة الموسيقية، حيث تنسكب الألوان بمرونة، وتتراقص الأجساد بانسيابية، وتتجلى القلوب والزهور والتفاحات الحمراء في حالات من الافتتان والنشوة، والإمساك بتلابيب الحلم والخيال الشعبي، والاعتداد بقيمة الحب، وطاقته الخلاقة، وقوته القادرة على سحق الشرور والآثام، ومحو القُبح والأحقاد والمكائد في النفوس وعلى سطح الأرض.

وإذا كانت الـ«هي» معنى من معاني هذا العشق الجارف في الحياة الحقيقية الجميلة، التي ينشدها الفنان حلمي التوني، فإنها معنى أكثر وضوحًا للتحرر، والتمرد، وخلخلة الثوابت، والإقدام، والتحليق عاليًا في الفضاء. وهذه الأفعال المقتحمة الجريئة كلها يفجّرها الفنان في معرضه «أنا حرة» (2023م)، الذي تُجسّد فيه هذه الـ«هي» صورًا متعددة للأنثى وربّة الجمال وملكة النحل والوردة والسمكة والثمرة اليانعة وعروس البحر والكرة الأرضية والشمس الساطعة، وغيرها من التنويعات البصرية، التي تمزج الواقعي والخيالي، وتدمج الحقيقي والأسطوري.

والحرية هنا، التي تعد مسارًا من مسارات الحياة الجوهرية، هي أيضًا ترجمة للجمال، وفق فلسفة المعرض التي ترى أنه لا جمال بلا حرية، ولا حرية بدون جمال. ولم تكن الحرية لتسفر عن تمظهراتها البارزة على هذا النحو لولا اقترانها بالـ«هي»، خصوصًا الأنثى، التي يستدعيها حلمي التوني كثيرًا في أعماله، ويزوّدها بأجنحة الفراشات والطيور والملائكة؛ لتحكي سردية المقاومة والخلاص والفكاك من الأسر، والإعلان عن الذات، وقطع المسافات الطويلة في طريق الارتقاء وبلوغ المستحيل.

 

أنوثة المرح

وفي معارضه «فاكهة محرمة»، و«ليه يا بنفسج»، و«للنساء وجوه»، (2018-2020م)، تتلاقى وتتشابك مسارات الحياة الحقيقية بعضها مع بعض في تجربة حلمي التوني، من خلال هذه التقاطعات الجارفة إلى حدّ التماهي بين وجوه الأنوثة والزهور والفواكه، بوصفها جميعًا على السواء من دوافع الصمود وفواتح الشهية للاستمرار على هذا الكوكب.

وهذا البقاء المدعوم بالإكسير الأنثوي، بطابعه العطري ومذاقه الحسي، هو ليس بقاءً اعتياديًّا أو سلبيًّا على سبيل مواصلة الحياة الباهتة والمحنطة والمتجمدة اضطراريًّا تحت وابل الظروف المأساوية. ولكنه بقاء تحفيزي مخلوط بالمرح، الأنثوي أيضًا، في هذه الطبيعة التي تقدّس الأنوثة الفاعلة، وترضخ عادة لكل محاولاتها للتغلب على الجدب والتصحّر والتعاسة والهلاك والانسحاق والأشباح السوداء، وزراعة الينابيع والاخضرار، ومناخات الربيع، والألوان الزاهية.

ويستعين الفنان بالهالات والأطياف التي تطلقها الابتسامات والضحكات الجاذبة والمدهشة، ولا سيما على وجوه النساء وفي قسماتهن المبهجة وملامحهن المصرية الشعبية والفرعونية؛ ليُعيد صياغتها في تكوينات لونية وتشكيلات موسيقية متحركة تفيض مرحًا تلقائيًّا، إيذانًا ببشرى الخروج من دوامات العصر الآلي المادي ومكابداته الساحقة، وامتلاك الإنسان من جديد آدميته الفطرية النفيسة الهاربة.

الجماليات والتوظيف

وبقدر ما تنفتح مدرسة التشكيلي حلمي التوني على الجماليات التصويرية والهندسية المجردة، وبذخ اللوحات خطًّا وظلًّا ولونًا وقيمةً فنية وتعبيرية، بقدر ما تعتني هذه المدرسة عناية كبيرة بتوظيف الفن، بمعنى الدور أو مجموعة الأدوار التي يمكن أن يؤديها التشكيل البصري، اجتماعيًّا وإنسانيًّا. وإلى جانب تعزيز الذائقة الجمالية لدى المتلقي، فإن أعمال حلمي التوني تحمل رسائل أخرى، مفادها إذاعة الطاقة الإيجابية، ومداواة الآلام والجراح، والحث على تخطّي المعاناة المؤقتة، والإخفاقات الظرفية، والمطبات الوعرة، والأزمات الفردية والجماعية التي قد تصل إلى حد الكوارث، ولكنه يراها دائمًا نسبيةً وقابلة للإزاحة؛ لأن البشر خُلِقوا ليواصلوا الكفاح والتحديات. ولا يقدم حلمي التوني هذه الموجات التفاؤلية من خلال إنشائية فجة أو تلقينات توجيهية مباشرة بطبيعة الحال. ولكنه يذيبها في بالتة ألوانه، ويبثها في تكويناته ومفرداته وعناصره الدينامية المُشعّة بالنضارة والإثمار، مستكنهًا بوعيٍ عميقٍ حقَّ الحياة الأصيل في أن تظل حياة، رغم كل شيء، وحقَّ البشر والكائنات جميعًا في أن يستعيدوا اتزانهم ويحصنوا أرواحهم بالجمال، منتظرين الحصاد الطيب في كل المواسم والفصول، وتلك هي غاية الفن القصوى من منظوره.