الهوامش الفلسفية في التراث الشرعي
إن الناظر في التراث الإسلامي يلحظ تسرب بعض المسائل والقضايا الفلسفية إلى العلوم الشرعية وتحديدًا أصول الفقه، وعلوم الحديث. وورود مباحث ومسائل في الأدبيات الشرعية، مما ليس داخلًا في حدود الفن الذي وردت فيه بمعناه الضيق، ليس غريبًا(1)، إلا أن ثمة خصوصيةً في طبيعة العلاقة بين المسائل الفلسفية -أو أغلبها- والعلومِ الشرعية التي دخلت عليها، فالناظر يلحظ أنها تعمل كخلفية نظرية يحتاج إليها الشرعي أحيانًا للبت في مسائل فنه. فمثلًا نجد الأصوليَّ عند نظره في مسألة العمل بحديث الآحاد كدليل شرعي محتاجًا للنظر في الأسئلة الماقبلية لهذه المسألة كالقيمة الإبستيمولوجية لأخبار الآحاد عمومًا (هل تفيد العلمَ أم الظن، وهل للقرائن أثر في ترجيح القيمة المعرفية للخبر وغيرها؟)، ثم نجد أن هذا قد يدعوه أيضًا للبحث في الخلفيات النظرية لهذه المسائل كذلك كحد العلم، وحقيقتِه، ومدارك العلوم، ومراتبها، وتقاسيم الأخبار وغيرها…
علاقة مألوفة ومتكررة
كل هذه مسائلُ فلسفيةٌ صرفة تقف كمسلمات وافتراضات نظرية خلف المسائل الأصولية، وليست داخلة بشكل دقيق في حد أصول الفقه وموضوعه(2)(3)، وهذه الخصوصية لطبيعة العلاقة بين المباحث الفلسفية، والعلوم الشرعية مثيرة للاهتمام؛ لأنها علاقة مألوفة ومتكررة بين العلوم الشرعية بعضها ببعض. فالعلوم الشرعية ينبني بعضها على بعض من الناحية النظرية، فالفقيه مثلًا يعنى بتحصيل الأحكام العملية من الأدلة التفصيلية، وهو بعمله هذا يبني على مجموعة من الافتراضات والمسلمات النظرية التي نشأ عن مساءلتها فرع معرفي آخر هو أصول الفقه؛ الذي كما يقول أبو يعلى (ت: ٤٥٨هـ): «عبارة عما تبنى عليه مسائل الفقه، وتعلم أحكامها به» (العدة لأبي يعلى: ٧٠)، بل إن الاصطلاح المستقر على تقسيم العلوم الشرعية، لعلوم غاية، وعلوم آلة، يمكن ترجمته جزئيًّا كتقسيم على أساس العلاقة بين مجموعة من العلوم الشرعية: (علوم الغاية)، وخلفياتها النظرية (علوم الآلة).
فالعلوم الشرعية صدرت وتفرعت أولًا عن النص بشكل مباشر؛ فكان القرآنُ والحديث تحملًا وروايةً، ثم التفسير والفقه شرحًا واستنباطًا، ثم نجد وراء هذه العلوم علومًا كان موضوعها البحثَ في المسلمات والافتراضات النظرية التي بنيت عليها المعارف الشرعية الأساسية؛ فكان أصول التفسير، وعلوم الحديث والمصطلح، وأصول الفقه…
ولقد تمايزت هذه العلوم بعضها عن بعض شيئًا فشيئًا؛ ذلك أن مسائل كل فن من فنون الشريعة تكون عادة في أول الأمر جزءًا من فن نشأ قبله، ثم تنفصل عنه بعدُ فنًّا مستقلًّا؛ إلا أن هذا الترقي النظري الذي نشأت وتفرعت عنه العلوم الشرعية انقطع -في تقديري- أبكر مما يجب، فالمسائل الفلسفية التي نبتت على هوامش علوم الآلة كان ينبغي أن تستقل كذلك بفرع معرفي خاص بها، تكون علاقته بعلوم الآلة (أو بعضها) كعلاقة بعض علوم الآلة بعلوم الغاية بحيث يناقش هذا الفرعُ المعرفيُّ -الذي يمكن أن نسميه الفلسفة الإسلامية- الخلفياتِ الفلسفية لعلوم الآلة ذات الصلة سواء خلفياتُها الإجمالية التي بني عليها العلم بكليته، أو الخلفياتُ لبعض مسائلها على التفصيل، فيختص هذا الفرع المعرفي بالمباحث والمسائل الفلسفية الناشئة عن قضايا العلوم الشرعية، فيكون من ناحية «فلسفة» باعتبار أن مباحثه مباحث فلسفيةٌ خالصة، ومن ناحية ثانية «إسلامي» لاقتصاره على المباحث الفلسفية الناشئة عن العلوم الشرعية دون غيرها.
وبالتالي؛ فلا يدخل في هذا الفرع المسائل الفلسفية غير ذات الصلة بالمباحث والقضايا الشرعية، كما أنه لا يدخل فيه -وتمييز هذا أعوص- المباحث الشرعية العقلية غير الفلسفية كالخلافات الكلامية في الصفات مثلًا، ولعل المعيار في تمييز الأخير هو أن يكون الشق الفلسفي من المسألة -منزوعًا عن الشق الإسلامي- من شأن الفيلسوف بوصفه فيلسوفًا بغض النظر عن أي وصف زائد له، فإن لم تكن المسألة كذلك فهي غير داخلة في هذا الفرع. ومن هنا؛ فهذا الفن -أعني الفلسفة الإسلامية- مقيد بقيود خارجية تميزه داخل فرع الفلسفة لكنها لا تخرجه عنها(4).
الأدوات والمحتوى الفلسفي
إن استقلال المسائل الفلسفية الإسلامية سالفة الذكر بفرع خاص سيمكنها -كما حصل للفروع المعرفية الأخرى- من أن تأخذ حقها من النظر والاستثمار المعرفي؛ فتجمع من شتاتها على هوامش علوم الآلة المختلفة، ليضم بعضها إلى بعض، وتتهيأ البيئة المناسبة لتولَد قريناتُها وشبيهاتُها. ثم إن من المهم أن تقارب هذه المسائل بأدوات التفلسف المحايدة (التي تعتني بها وتطورها منذ عقود الفلسفة التحليلية)، مع الحرص على تحاشي الخلط بين الأدوات، والمحتوى الفلسفي، فالأدوات متجاوزة ومتاحة لكل أحد للتنظير والحجاج، أما المحتوى فهو إنتاج الفيلسوف الذاتي (أو تقليدِه الفلسفي) الذي هو في المجمل عبارة عن آراء ظنية صادرة عن شبكة معقدة من الاعتقادات والافتراضات التي لا يصح أن يكون لها سلطة قبلية مفروضة على أحد.
وبهذا يتحرر هذا الفرع المعرفي من بعض القيود التي قيدت النظر العقلي التراثي من غير حاجة، فما عرف تراثيًّا بالفلسفة الإسلامية -وإن سلمنا بأنها لم تكن مجرد وصلة للفلسفة اليونانية- قد اصطبغت بطابعها، وتمسكت ببعض عناصرها الظنية كمسلمات وحدود قبلية للتفلسف، وهذا حرمها -جزئيًّا أو كليًّا- من أن تكون امتدادًا طبيعيًّا للتراث الشرعي الذي كان حجر زاويته النص، وصدر عنه متحررًا إجمالًا في ترقيه المعرفي من القيود الوافدة(5). وهذا الإشكال ينطبق -وإن بشكل أقل صرامة- على وليد التراث الشرعي، علمِ الكلام؛ الذي لم يسلم كذلك -ولا سيما بعد نضجه- من لزوم ما لا يلزم من المفردات الميتافيزيقية التي تسربت إليه من الفلسفة اليونانية بشكل مباشر أو غير مباشر؛ وهو ما جعل مكانه ومكانته في خريطة العلوم الشرعية محل خلاف قديم(6)(7).
إلا أن هذا لا يعني هجر المحتوى الفلسفي والاقتصارَ على الأدوات عند تناول المسائل الفلسفية محل النظر؛ ذلك أن المتأمل في أي مسألة منها سيتقاطع ضرورة مع محتوى فلسفي عريض ومركب ومستحق للنظر والأخذ في الحُسبان. فاطلاع الباحث على هذا المحتوى ضروري لمعرفة الإجابات التي وردت في الموضوع وحججِها والحجج المضادة لها وتطوراتها إن وجدت، وتطلعه على كيف تناول الآخرون السؤال نفسه، ولماذا اختلفت إجاباتهم… لكن هذا الاتصال اللازم بالأدبيات الفلسفية يجب أن يقرن به دوامُ استحضار أنها إجمالًا آراء تقبل، وترد، وتؤخذ، وتترك، وليست مسلَّماتٍ يجب قبولها، بل ربما كان من المشروع أن يستصحب الفيلسوف في نظره الفلسفي اعتقاداتِه المبررةَ الأخرى التي قد تلعب دورًا في ترجيح رأي على رأي، أو قبولِ حكم ورد آخر.
وبهذا الفرع المعرفي تكتمل اللبنة النظرية الأخيرة في العلوم التراثية الشرعية التي ابتدأت بالنص، وتتبعت الافتراضات النظرية لكل ما صدر عنه واحدًا بعد آخر حتى انتهت (أو كان ينبغي أن تنتهي) إلى قواعده النظرية الأخيرة؛ أعني أسسه الفلسفية.
(1) فمن المألوف أن يجد المطالع مباحث لغوية، وتاريخية مثلًا في أدبيات العلوم الشرعية.
(2) الذي هو العلم بالأدلة الشرعية الإجمالية وطرق ثبوتها، وشروط صحتها، ووجوه دلالتها على الأحكام، وحال المستدل (انظر مثلًا: المستصفى للغزالي: ٦؛ ونهاية الوصول للساعاتي: ٧).
(3) وهذا تمايز لم يفت علماء الأصول؛ فنحن نجد أبا المعالي الجويني (ت: ٤٧٨هـ) مثلًا يعنون لبعض المباحث الفلسفية الواردة في كتابه البرهان في أصول الفقه بـ«فصل يشتمل على مقدار من مدارك العقول تمس الحاجة إليه في مسائل الأصول» (البرهان للجويني: ٢٩).
(4) مع الإقرار باحتمال وجود مناطق رمادية محتملة بين الفلسفة وجيرانها من الفروع المعرفية الأخرى يصعب القطع بنسبتها لفرع دون آخر.
(5) ذلك أن معظم القيود التي تحكمت في النظر الشرعي ولا سيما في بواكيره كانت جزءًا منه، أو نبتت داخله بشكل طبيعي كأحكام اللغة، وقواعد القياس الأصولي.
(6) للاستزادة بشأن الخلاف في شرعية علم الكلام؛ انظر: (إحياء علوم الدين للغزالي ج١: ٩٤-٩٩).
(7) لعل عددًا من المسائل التي مثلنا بها كمسائل فلسفية على هوامش العلوم الشرعية قد قوربت في التراث على طريقة علماء الكلام؛ فلربما لحق تلك المقاربات أو بعضها ما أوردنا من إشكالات تلطخ به النظر الكلامي عمومًا، فإن كان ذلك؛ فينبغي إعادة مقاربتها متحررة من تلك الإشكالات.