بمناسبة صدور كتاب «رياض الشعراء في قصور الحمراء» خوسيه ميغيل بويرتا: نحن أمام مسؤولية إبراز التعايش مع الإرث الأندلسي بمفاهيم عصرية

بمناسبة صدور كتاب «رياض الشعراء في قصور الحمراء»

خوسيه ميغيل بويرتا: نحن أمام مسؤولية إبراز التعايش مع الإرث الأندلسي بمفاهيم عصرية

بمناسبة صدور كتابه باللغة العربية «رياض الشعراء في قصور الحمراء» بالاشتراك مع الدكتور عبدالعزيز بن ناصر المانع، والصادر بالتعاون بين جائزة الملك فيصل ولجنة إدارة الحمراء وجنة العريف، حاورنا البروفيسور الدكتور خوسيه ميغيل بويرتا عضو الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة بغرناطة، أستاذ علم الجمال في جامعة غرناطة، والمعروف أيضًا بغزارة دراساته التي تتناول مظاهر الفنون والعمارة الأندلسية، ليوضح لنا الكثير من النقاط المشتركة بفهم وإدراك قيمة الحضارة الأندلسية متمثلة برياضها وقصورها وآدابها، التي تحتل فيها قصور الحمراء في غرناطة مكانة رفيعة قياسًا مع مثيلاتها، لما تتميز به من فنٍّ معماري نادرٍ وطرازٍ شكلي بديع، وقد لقيت هذه الحمراء عناية خاصة من لدن العديد من الدارسين العرب والأجانب.

والمعروف أن المستعرب الدكتور خوسيه ميغيل بويرتا من مواليد عام ١٩٥٩م في قرية دوركَل، جنوبي غرناطة. تخرج في تاريخ الفن عام ١٩٨١م، وحصل على الدكتوراه في اللغة العربية في عام ١٩٩٥م. أول بحث له كان حول «البنية الطوباوية لقصور الحمراء»، وبعد ذلك كتب «تاريخ علم الجمال عند العرب.. الأندلس والفكر الجمالي العربي» الذي يتناول في أكثر من ألف صفحة مفاهيم الجمال والفن في الثقافة العربية منذ الجاهلية حتى سقوط الأندلس، وقد صدر في عام ١٩٩٧م عن أحد أهم دور النشر الإسبانية، ثم قررت دار بريل الشهيرة ترجمته إلى الإنجليزية ونشره.

كذلك أصدر كتابه «مغامرة القلم»، وهو أول كتاب عن تاريخ الخط العربي وخطاطيه وأنماطه، كما ترجم كتابين لغادة السمان «بيروت ٧٥» و«القمر المربع»، وكتاب «الصوفية والسوريالية» لأدونيس، وغيرها من كتب. وشارك في تنظيم بعض المعارض للفنانين العرب المعاصرين، أمثال «بورتافوليو غرناطة» للرسام والكاتب الفلسطيني كمال بلاطه، ومعرض «ذكرى لنمير» للنحات والكاتب السوري عاصم الباشا، وأول معرض للخط العربي المعاصر الذي أقيم في مدريد وقرطبة في العامين ٢٠١٠ و٢٠١١م.

الاهتمام بالحضارة الأندلسية

  ربما السؤال الأول الذي يبدر لذهن القارئ العربي، لماذا هذا الاهتمام الكبير بالأندلس والمظاهر الأدبية الفنية، وهل هو رهن لمرحلة معينة أم إنه هوس ودراسة اعتدت عليها ولم تتوقف هنا أو هناك في أي كتاب آخر؟

  الاهتمام بالتاريخ والمظاهر الأدبية والفنية للأندلس قديم وراسخ في الأوساط الأكاديمية والثقافية الإسبانية منذ بداية الاستعراب الإسباني في القرن ١٨م، إن لم يكن قبل ذلك بكثير. وللاستشراق الأوربي ميل واسع النطاق كذلك بالحضارة الأندلسية كجزء أساسي من أوج ازدهار الحضارة العربية والإسلامية. وماذا يمكنني أن أقول عن العرب، الذين شددوا اعتناءهم بالأندلس منذ بدء النهضة حتى يومنا هذا. تنوع الإنتاج الثقافي المادي والمكتوب الأندلسي ومساهمته، شأنه شأن الإنتاج العربي الكلاسيكي عامة، في تطور العلوم والآداب والنزعة الإنسانية على مستوى تاريخ البشر، من ناحية، وانتهائه القاطع والكارثي، هما السببان الرئيسان اللذان سيبقيان الأندلس للأبد فضاءً خصبًا للبحث والتفكير. بصرف النظر عن الموضات الأكاديمية أو المصالح السياحية البحتة التي كثيرًا ما تبسط بشكل انتقائي وخاطئ التراث الأندلسي في بلد كإسبانيا، التي تحظى بمعالم أثرية عربية-إسلامية عظيمة، يُعدّ العديد منها ضمن مواقع الإرث العالمي.

أنا شخصيًّا مِلتُ إلى الدراسات الأندلسية لحظة التخرج بعد أن زرت الحمراء بصحبة أستاذ كشف لي أن تلك العمارة الرائعة مزخرفة بكثافة بكتابات عربية. على الرغم من أنني تربيت، على غرار معظم جيلي دون أن نعلم شيئًا عن اللغة العربية بل حتى عن وجودها، ونحن أبناء غرناطة وطلاب كلية الآداب!

أقول على الرغم من ذلك، وبغرض تفهم عمارة الحمراء الجذابة والغريبة معًا، قررت دراسة اللغة العربية وقدمت أطروحتي في الدكتوراه حول تاريخ علم الجمال عند العرب، وانضممت إلى الجيل الجديد للاستعراب الإسباني، الذي شارك في فتح أقسام اللغة والدراسات العربية في مدن إسبانية عدة والذي سينجز فيما بعد مشروعًا طموحًا ألا وهو موسوعة «مكتبة الأندلس» (٩ مجلدات) بمشاركة نحو ١٦٠ مستعربًا بين عامي ٢٠٠١ و٢٠١٣م، جمعنا فيها معلومات وتحليلًا وتصورات لجلّ النتاج الأندلسي المكتوب.

هذا دليل، من بين أدلة كثيرة أخرى يمكن طرحها، على أن الأندلس ليست بالنسبة للإسبان هوسًا عابرًا بل ضرورة معرفية، ناهيك -إن أخذنا في الحسبان- عن المعمار والتحف الفنية المنتشرة في شبه الجزيرة الإيبيرية التي تشكل جزءًا مهمًّا من التراث الإسباني، وهو الجزء الذي تنفرد به إسبانيا إزاء بلدان أوربا المجاورة. التعايش مع الإرث الأندلسي المادي في عدد لا يحصى من المدن والضيع تجعل الإسبان، لا محالة، أمام تحدٍّ معرفي وأمام مسؤولية حمايته وعرضه أمام الذات أولًا وأمام العالم بمفاهيم سديدة وعصرية.

العمارة الشعرية

  كتابكم الجديد بعنوان: «رياض الشعراء في قصور الحمراء»، كتاب ضخم ويضم محتوى ومعلومات جديدة إضافة إلى الصور المرفقة والملاحق الثانوية، كيف فكرتم فيه، وبخاصة أنك قد أصدرت كتبًا سابقة عن قصر الحمراء؟

  في أول كتاب لي حول الحمراء، المعنون «البنية الطوباوية لقصور الحمراء» (١٩٨٥م) اعتمدت بشكل أساسي على الأشعار المنقوشة في القصور النصرية بيد أنها لم تكن متوافرة آنئذ، سوى مجموعة من المقطوعات الشعرية والقصائد المتبقية في الجدران التي لم يتعد عددها ٣٠ منظومة شعرية. كان الموريكسي آلونسو ديل كاستييو قد دوّن وترجم إلى الإسبانية في عام ١٥٦٤ عددًا منها، ثم رجع إليها بعض الرحالة والباحثين الإسبان والأجانب في القرنين ١٨ و١٩م، كان أبرزهم لافوينتي القنطرة، إلى أن قام الاستعراب الإسباني الحديث بتحقيق تلك الأشعار بأساليب علمية وحديثة. سأذكر هنا على وجه خاص كل من كابانيلاس فرناندث بويرتاس وروبييرا ماتا، وغارثيا غوميث، الذي اشتهر كتابه «أشعار عربية على جدران ونافورات الحمراء» (١٩٨٥م) الذي يحتوي على ٣٠ منظومة بلا صور ومزودة بدراسة لغوية قيمة.

عبدالعزيز المانع

في هذا السياق، تناول الباحثان العربيان محمد الجمل وصلاح جرار، الموضوع عينَه، ودرسَا ونشرَا نصوص الأشعار المتبقية في جدران الحمراء مصحوبة بالصور، ولكنهما لم يتطرقا، ولا زملاؤهم الإسبان، إلى جمع الأشعار كلها في كتاب واحد مصور، حيث تفيدنا مصادر الدواوين النصرية أنها قد أُلِّفت لنقشها على جدران مباني القصور. وبما أن الشعر الجداري العربي بات نوعًا شعريًّا في حدّ ذاته، وبلغ ذروته في مملكة غرناطة حيث حظيت قصور ملوكها بأكبر مجموعة نقوش شعرية وبأكبر عدد من الدواوين والمصادر التي جُمعت، فقد اهتم الباحثون بها، وتسنّت لنا الفرصة لتقديم كتاب موحد وشامل لهذا الشعر، ولا سيما بعد أن جرى العثور ونشر وتحقيق -في النصف الثاني من القرن الماضي- بعض الدواوين غير المعروفة سابقًا.

لكن الحافز المباشر لخوض مغامرة إنجاز هذا الكتاب الجديد، «رياض الشعراء في قصور الحمراء»، جاء حين تعرفتُ إلى الدكتور عبدالعزيز المانع في الرياض في أوائل سنة ٢٠٢٢م، واستأذنني لنشر الأشعار الجدارية المنشورة ضمن كتابي «قراءة الحمراء، الدليل البصري لصرح الحمراء من خلال نقوشه الخطية» (٢٠١٠، ٢٠١٥م) في كتاب جديد ومنفرد. وكان الأمر مرتبطًا كذلك بالناشر وكنت ملتزمًا مع إدارة الحمراء التي طالبتني منذ زمن نشر تلك الأشعار في كتاب مصور، وكنت أنوي القيام بذلك، ولكن بعد جمع جلّ أشعار نقوش الحمراء. هنا عرضتُ عليه أن ننفذ المشروع معًا، علمًا أن الكتاب سيستفيد من إلمام الدكتور المانع بالعروض وبالشعر العربي، وأيضًا من تجربتي في دراسة نقوش الحمراء ونشرها مع صور وخرائط لأماكن وفضاءات القصور النصرية.

كتاب مختلف

  كيف يتم الأمر عادة في التأليف المشترك، وبخاصة في كتابكما هذا «رياض الشعراء في قصور الحمراء»، وهو مؤلَّف منكما أنت والدكتور عبدالعزيز بن ناصر المانع؟

  نعم، كانت عملية إنجاز كتاب مشترك من هذا النوع عملية صعبة؛ لأن مهام التصميم وإعداد النصوص والتصوير غدت أكثر تعقيدًا مما ظنناه في البداية، ورغم أننا كنا حريصَيْنِ على احترام آراء الآخر وبذل كل ما بوسعنا للتوصل إلى نتيجة ترضينا معًا في كل التفاصيل: طريقة تقديم الأشعار وترقيمها وأسلوب كتابة الملحوظات والهوامش، علاوة على إدراج المخططات والصور والمراجع، إلخ. كنا نتبادل الآراء والتعديلات يوميًّا تقريبًا. وهذا يجعلني أعتز كثيرًا لأن التعاون بين أستاذ عربي الأصل والنشوء وآخر إسباني الأصل والتربية، جعلنا نتمكن من إصدار كتاب نراه مفيدًا وجذابًا، بل نموذجًا لتحقيق بحوث مشتركة يتعلم فيها الواحد من الآخر ويستفيد منها القارئ.

بالنسبة لي وزميلي الدكتور عبدالعزيز المانع، هذا الكتاب مختلف، ليس فقط لأنه يحتوي بين دفتيه على نصوص الأشعار الجدارية للحمراء، ولأنه مزود بصور مهنية ممتازة وروعة قام بها المصور أغوسطين نونييث، صاحب دار نشر Edilux، المكلفة بالإخراج والطباعة، ولأنه يتضمن العديد من الخرائط والرسوم للمخططات وبعض الأبيات الشعرية، بل لأننا أخرجنا كتابًا فخمًا بالحجم الكبير وبتصميم راقٍ وحديث للمصممة السورية نيروز بكور، حَوَّلَ الكتاب إلى تحفة للاستمتاع بقراءته ومشاهدة صوره، وفقًا لما رغبنا فيه، للإحساس بمهابة هذه العمارة الشعرية وجمال ذلك الشعر المعماري وأساليبه الخطية الفريدة.

ثمرة التعاون

  كيف رأيت فرصة التعاون وإسهام جائزة الملك فيصل بإصدار الكتاب؟

عبدالعزيز السبيل

  أنا شخصيًّا فخور جدًّا بهذا التعاون، وبخاصة لأن موضوع الكتاب له علاقة بالعروبة المشتركة بين الرياض وغرناطة. ودعني أقول: إننا استمتعنا حين اخترنا كلمة «رياض» لعنوان الكتاب؛ لأنها تجمع بين اسم العاصمة السعودية وبين عادة النصريين اعتبار الكُتُب والقصور بصفتها «رياض»! أعتز كذلك بالتعاون بين «جائزة الملك فيصل» وإدارة «الحمراء»، التي سمحت لنا بالتصوير والعمل داخل القصور وفي متحف الحمراء. إن شاء الله هذا النوع من التعاون وسواه يدوم بين المؤسستين، أو بين إدارة الحمراء ومؤسسات سعودية وعربية أخرى. أنتهز الفرصة هنا لأعبر للدكتور عبدالعزيز السبيل عن بالغ امتناني وامتنان زميلي الدكتور المانع بحسن رعايته بصفته الأمين العام لـ«جائزة الملك فيصل» في عملية إنجاز هذا الكتاب وتمويله، كما سعدنا كثيرًا بإعجابه بالنتيجة. وجزيل شكرنا أيضًا لسفارة المملكة السعودية بمدريد التي نسقت مع الدكتور السبيل ومع المطبعة الغرناطية لنقل صناديق نسخ الكتاب إلى الرياض للتوزيع هناك.

  هنا كتاب آخر عن الحمراء، تخصصك الأساس ومنبع دراساتك التاريخية والفنية والجمالية، وسبق لك أن درستها في كتب أخرى. ما المختلف الذي أضفتما وتناولتما فيه عن كتبك الأخرى؟

  حين كنت بصدد إنجاز كتابي «قراءة الحمراء. الدليل البصري للصرح من خلال نقوشه الخطية» (٢٠١٠م) اطلعت على دواوين كل من ابن الجياب وابن الخطيب وابن فركون ويوسف الثالث، وبعض المصادر الأخرى، التي تتضمن أشعارًا للنقش في مباني الحمراء تعرضت للدمار بالكامل. لقد استفدت إلى أبعد مدى من ظهور «ديوان ابن زمرك»، الذي نشره مالك المخطوطة المعروفة الوحيدة حتى الآن، الأستاذ التونسي توفيق النيفر، وهو كتاب سمح لي باستكمال، ما ورد في كتابي المذكور عن المحور الشعري لقصر قمارش بثلاثة أشعار غير معروفة سابقًا، وبخمسة أخرى غير معروفة أيضًا للمحور الشعري لقصر الأسود، إضافةً إلى قطعة لبرج الأميرات، وبعضها لنقشها في قصر الدشار الذي دمره الزلزال، وغيرها.

لذا كانت تراودني الفكرة لجمع جلّ الأشعار المنظومة للنقش في قصور الحمراء المتبقية والمختفية في كتاب واحد وليس كما فعلته في «قراءة الحمراء»، حيث النقوش الشعرية ترد في مكانها في جوار النقوش القرآنية والسلطانية والأدعية الأخرى، وهو ما يصعب للقارئ تذوق الشعر الجداري أو المعماري في حد ذاته، كما يعسر الفهم بوضوح مدى الكُنْهِ الشعري لهذه العمارة التي أسماها السينمائي والكاتب التونسي ناصر خمير قائلًا: «إن قصر الحمراء هو القصر -الشعر الوحيد في العالم». أو بكلمة أخرى، كنت أريد إبراز أفضل صورة للتزاوج ما بين الشعر والعمارة المتمثل في قصور الحمراء.

كنز لا ينضب

  في رأيك الشخصي، هل لا تزال هناك الكثير من الخفايا التي تتعلق بقصر الحمراء ولم يَجْرِ دراستها والكشف عنها، أم قيل كل شيء عنها؟

  لم يكشف كل شيء عن الحمراء حتى اليوم بكل تأكيد. من الناحية الأركيولوجية تظل هناك أماكن عدة في انتظار التنقيبات المناسبة في تل السبيكة وداخل أسوار الحمراء والقصور. وفيما يتعلق بدرايتنا لتاريخ المملكة النصرية وتشييد قصورها ومبانيها العسكرية والسكنية، توجد مصادر غير مدروسة كما ينبغي، وسوف تظهر مخطوطات أخرى لا تزال مخفية. في الثلاثين عامًا الأخيرة عُثِرَ على مخطوطات عدة غيّرت جذريًّا رؤيتنا عن قصور الحمراء.

كل هذا، طبعًا، بغض النظر عن الجوانب الجمالية المحضة لعمارتها وزخارفها، وهو كما ذهب إليه أمبرتو إيكو من أن الفن «عمل مفتوح» ولا يمكن أن نفسره برؤية أحادية أو نهائية أبدًا. على غرار كل عمل فني كبير، ستبقى الحمراء دومًا قابلة لتحليلات جديدة ورؤى تفسيرية مختلفة. في مشواري البحثي المتواضع سعيت دومًا لتخطي الرؤى الأثرية الصارمة والمنشورات السياحية المبتذلة لمحاولة إحراز رؤى تفسيرية متعمقة للفنون الأندلسية والإسلامية. ومن أجل ذلك عكفت على سبر اللب العربي- الإسلامي لعمارة الحمراء وعلى إبرازه للجمهور، فهذا الكتاب يندرج في هذا السياق وعسى أن يساهم في ذلك ويجتذب أبصار القراء والمثقفين العرب إلى دراسة وفهم الحمراء بدقة أكثر.

  هل تعتقد أن دراسة الحمراء بشكل خاص والأندلس ثقافيًّا قد شكل حلقة كبيرة ومهمة في إسبانيا أم لا تزال الفكرة ناقصة، وما هي برأيك أسبابها سلبًا وإيجابًا؟

  أجل، أظن ذلك، والحق أننا نعيش حالة ازدهار جديدة في حقل الدراسات الأندلسية بإسبانيا. بفضل الضخامة والغنى المعماري الذي تحتفظ به الحمراء، على الرغم من اختفاء أجزاء منها، بات هذا الموقع الأثري الرائع متحفًا شاملًا لفنون آخر الأندلس وواحد من أهم المواقع الأثرية الإسلامية على مرّ العصور؛ لذلك سوف تظل عناصرها المكونة، سواء أكانت البنائية أو الزخرفية وتلك المرتبطة بفنون الزراع والبساتين وتوزيع المياه تسترعي أبصار الباحثين وعقولهم. في مضمار الأشعار المنقوشة نفسه، ما زلنا لا نعلم مؤلف بعضها ونشك في المكان الذي نقشت بعضها، كما أن العديد من القضايا لا تزال عالقة وغير محسومة، كتأريخ بعض المباني ووظائفها والتدقيق في البحث والتمثيل الرقمي الحديث لرسم الزخارف وإدراك معانيها بصورة أفضل، إلخ.

إن مجموعة قصور ومباني الحمراء وصلتنا شبه متكاملة مقارنة بالقصور العربية الأخرى المندثرة معظمها، مما يتيح للباحثين الفرصة لتوسيع فهمهم للعمارة والفن الأندلسيين وإغناء معرفتنا عن ذلك العصر، الذي كان مفصليًا في التاريخ الإسلامي وإسبانيا والعالم.

في أيامنا هذه يلاحظ نشوء تيار جديد من الباحثين يتجاوز الآراء النمطية والناقصة للفن الإسلامي والأندلسي ويطل على آفاق غير مسبوقة بالاستناد إلى الترابط بين الآثار المادية والمكتوبة. بكلمة واحدة، أعتقد أن المنظور الاستشراقي والأثري المحض والمنظور الاستهلاكي السياحي الصرف اللذين يسودان في الماضي، وإلى حد ما في الحاضر أيضًا، فيما يتعلق بدراسة الأندلس والحمراء، قد بدأ بالتراجع إزاء البحوث والرؤى الحديثة التي تتناول الحمراء، كقمة من قمم الفنون والثقافة العربية الإسلامية، بروح شمولية تعتني بالتفاعل بين البنية الثقافية ومخيلة المجتمع، من جهة، وبالتنفيذ الفني والمعماري من جهة ثانية؛ لذلك أتوقع أننا نتطلع إلى عهد جديد وإيجابي يمنح البحث حقه لحمراء غرناطة وبناتها ومعانيها في تاريخ الثقافة البشرية.