سيف الرحبي.. هذا الرأسمال الثقافي العربي الكبير
أُومِنُ بأن لا شيء يدوم، كل زمن له جيله، بما في ذلك الأزمان الثقافية والمؤسساتية، ومع ذلك، ولأنني أعتبر «نزوى» بيتي الثقافي فقد شعرت بنوع من الحزن الغريب، يتعالى على المنطق، وأنا أقرأ خبر مغادرة الصديق سيف الرحبي هذا النزل الأدبي والفكري العريق، شعور يشبه من يرى بيتًا وقد هجره أهله بعد مقام وأصبح طللًا أو قفرًا لا يجيب.
عرفت الشاعر الكبير سيف الرحبي منذ كنت طالبًا في ثمانينيات القرن الماضي بدمشق، ولم تنقطع صداقاتنا منذ ذلك الزمن، صداقة أدبية وفكرية وإنسانية متينة.
كنت من أوائل من اطلع على مجموعته الشعرية الأولى «نورسة الجنون» وهي لا تزال مخطوطة، وبعد صدورها عام 1981م احتفلنا بها في دمشق معية مجموعة من الكتاب والصحفيين، احتفالًا يليق بها وبصاحبها الذي بدأ حضوره يشكل فارقة أدبية لافتة.
منذ ديوانه الأول هذا حتى آخر كتاب نثري صدر له وهو «ليل المحطات والنجوم» عن دار العين بمصر 2024م، أربعون سنة ويزيد من الكتابة، ودالة سيف الرحبي الإبداعية في تصاعد وتنوع في الأساليب وفي الأجناس، وظل هو في تواضعه وفي إنسانيته العالية في التعامل مع مجايليه ومع الأسماء الجديدة العمانية والعربية والمغاربية.
سيف الرحبي شاعر أولًا في حياته، يتجلى ذلك في طبيعة سلوكه مع ذاته ومع الآخرين، فهو على انسجام مع محيطه وعلى تناقض معه في الوقت نفسه، انسجام لا يقبل الذوبان أو المجاراة القائمة على النفاق الأيديولوجي أو الاجتماعي، وتناقض ليس فيه أي عداء أو كراهية للمختلف عنه.
حين أدقق النظر في مسيرة أربعين عامًا من إبداعات سيف الرحبي أشعر بأن ليست هنا مسافة كبيرة بين القصيدة التي يكتبها والحياة التي يحياها من خلال يومياته في الأسفار وفي علاقاته مع المثقفين في المشرق والمغرب، فهو يحافظ على صورة المثقف الحر فيه وعلى استقلاليته في رؤيته للعالم.
حين تعارفنا بدمشق عام 1980م، كان مشروع إصدار مجلة متميزة يشغله، وفي هذا الإطار حاولنا نحن الأربعة: «سيف الرحبي، والروائي الأردني غالب هلسا، والقاص السوري جميل حتمل، وأنا» إصدار مجلة اخترنا لها عنوانًا هو: «زوايا»، إلا أن المشروع لم يتحقق لظروف الوضع السياسي في سوريا آنذاك، وافترقنا بعد أن عدت أنا إلى الجزائر وسافر سيف الرحبي إلى أوربا والمغرب، وبعدها توفي غالب هلسا، وسافر جميل حتمل إلى فرنسا.
وبعد سنوات حين عاد سيف الرحبي إلى عمان وأطلق مجلة «نزوى»، أذكر أني قلت له في واحدة من جلساتنا: ألا يصعب على سيف الرحبي الشاعر صاحب المزاج الخاص والمثقف الرحالة أن يبني بيتًا بعماد حول مشروع ثابت كمجلة «نزوى»؟
رؤية متحررة من سلطة الأيديولوجيا
لكن يبدو أن أمرين أساسين ساهما في إنجاح واستدامة مشروع مجلة «نزوى» هما: أولهما شبكة العلاقات المميزة والمحترمة التي تجمع سيف الرحبي بالمثقفين من المشرق والمغرب، على اختلاف مشاربهم الفكرية والجمالية واللغوية، فلا يوجد مبدع في المنطقة العربية وشمال إفريقيا، من الجيل القديم أو الجديد، لا يعرف سيف الرحبي. وثانيهما هو الرؤية التنويرية الحداثية المتحررة من سلطة الأيديولوجيا التي ينخرط فيها مشروعُه الإبداعي كشاعر وكاتب مدافع عن الحرية وعن القيم الإنسانية الكبرى.
استنادًا إلى هذين العاملين بنى سيف الرحبي مجلة نزوى، وكان يريدها أن تكون استمرارًا لإبداعه، لم يكن يتعامل مع المجلة كمدير أو رئيس تحرير فقط، بل كان يريدها أن تكون جزءًا من قصيدته أو نصه النثري، حيثما حل في سفرياته كانت المجلة تصاحبه دون أن تكون عقدة أو عقبة أو حصارًا له، فقراءة لافتتاحياته العديدة تكشف عن هذا الارتباط بين كتابات سيف الرحبي المسافر وهاجس المجلة، فكما يحرص على نحت نصوصه بهدوء مجنون ظل يحرص على أن تكون المجلة مرآة لهذه الجدية والتنوع.
بكثير من الإيمان والحفر المستمر العنيد، استطاع سيف الرحبي أن يصنع من اسم قرية عُمانية صغيرة منسية ومهمشة هي نزوى، بيتًا ومدينةً يحج إليها الكثير من مثقفي ومبدعي العالم العربي المتوسطي. قليل من كان يعرف نزوى، ولكن المجلة منحتها جواز سفر إلى قلوبنا جميعًا. وقد حول سيف الرحبي من خلال «نزوى» مدينة مسقط العاصمة التي كانت هامشًا إلى مركز مرجعي من مراكز الثقافة في العالم العربي وشمال إفريقيا.
لقد تمكنت مجلة نزوى خلال ثلاثين سنة برئاسة سيف الرحبي من تحويل الهامش إلى مركز، وأن تجعلنا كمثقفين نعيد النظر في مفهوم الأطراف والهواش في الثقافة العربية، وأن لا وجود لهامش دائم، ولا لمركز مفروض أبدي.
ظل سيف الرحبي في رؤيته التحريرية لنزوى، وهذا سر من أسرار نجاحه، محافظًا على التراث المحلي من جهة، ومنفتحًا على كنوز العالم الأدبية والفكرية الحديثة عربيًّا وعالميًّا من جهة ثانية.
حلقة وصل إبداعي وفكري
منذ الأعداد الأولى كان سيف الرحبي يسعى لأن يجعل من منبر نزوى حلقة وصل إبداعي فكري ما بين القارئ العربي وما ينتج من خيرات في الآداب العالمية الجديدة، دون أي اعتبار للغة أو الجغرافيا أو الفلسفة. وقد نجح إلى حد كبير في تقديم تجارب أدبية عالمية تكتب باللغات المختلفة من الإنجليزية إلى الصينية مرورًا باليابانية والإيطالية والإسبانية والفارسية. وقدم أصواتًا مغاربية عديدة تكتب بالفرنسية، وبعضها لم يكن معروفًا لدى القارئ العربي في المشرق، وبخاصة الأسماء الجديدة فيها. وأذكر أنه صدر في الأعداد الأولى من المجلة ترجمة لفصلين من روايتي التي كتبتها باللغة الفرنسية، بعنوان: «إغفاءة الميموزا» ترجمها إلى العربية الدكتور محمد عضيمة. وأذكر أيضًا أنني وبطلب منه أعددت للمجلة ملفًّا خاصًّا بالروائية الجزائرية وعضو أكاديمية اللغة الفرنسية آسيا جبار نشر في واحد من أعدادها.
من خلال رئاسته تحرير مجلة نزوى تمكن سيف الرحبي من خلق حوار جاد وجديد بين الكتاب المشارقة والمغاربيين من أجيال مختلفة ومن حساسيات فلسفية متعددة، حوار مستمر ودون روتين.
على مدى ثلاثين سنة من عمر المجلة، لم يشعر القارئ في صحبته لجميع الأعداد بالروتين أو التكرار في مواد المجلة أو في المشاركين في تحريرها، ففي كل عدد هناك شيء ما يميزه، من اسم جديد أو طرح مغاير، أو ملف مثير، أو ترجمة جادة.
لم تكن نزوى، خلال تجربتها الطويلة برئاسة سيف الرحبي، بذخًا أو استعراضًا ثقافيًّا خارجًا عن السؤال المتعدد والمختلف للقارئ العربي والمغاربي، بل كانت حاجة ثقافية وفكرية منتظرة من قبل المثقف في منطقتنا.
اليوم والشاعر سيف الرحبي يغادر رئاسة تحرير نزوى كيف يمكننا قراءة هذا التغيير؟ متأكد أن سيف الرحبي يترك المجلة وهو سعيد ومرتاح الضمير؛ لأنه بعد ثلاثين سنة من هذه المسؤولية لم يتغير ولم يبدل جلده كمثقف تنويري حر، وأن قبيلة الأصدقاء الذين يحبونه قد توسعت أكثر فأكثر، وأعتقد أيضًا أن سيف الرحبي سيجد الوقت الكافي لاستكمال كثير من المشاريع الأدبية التي لطالما حدثني عنها.
إن ما يملكه سيف الرحبي وما راكمه من رأسمال كبير وقيم في تجربة الإدارة الثقافية لا يمكنه أن يذهب سدى، فنتمنى أن يستثمر بشكل جيد وواعٍ، وأن يوظف في جهة الخير للثقافة العمانية والعربية، فصناعة مثقف ومبدع مثل سيف الرحبي ليس بالأمر الهين، فهو نموذج تحتاج الأمة إلى سنوات لصناعته، فليس كل يوم يولد سيف في بلداننا.
كما أن الإعلامية والروائية السيدة هدى حمد التي تسلمت مهمة رئاسة تحرير المجلة بعد سيف الرحبي ليست غريبة عن هذا المشروع، فقد كانت ولسنوات طويلة منسقة موادها، وبهذا فهي ذات خبرة كبيرة تؤهلها لاستكمال المهمة، وهو ما نتمناه لها حتى تظل نزوى بيت المثقفين والكتاب والمبدعين في المشرق وشمال إفريقيا.