الصحافة المصرية تواجه «الأزمة» بالبحث عن «خلطة» تناسب القراء

الصحافة المصرية تواجه «الأزمة» بالبحث عن «خلطة» تناسب القراء

لم يكن يحلو لكثير من الناس أن يتحرك إلا والجريدة مطوية تحت إبطه، كأنه يحمل رسالة من الوالي إلى أبنائه المنتظرين عودته في البيت. لم تكن الجريدة مجرد حصول على خبر، لكنها كانت انتماء، وكل حزب بما لديه سعيد، ولا يصدق الخبر إلا إذا كتب في جريدته المفضلة، وكانت أشهر اللقطات التي أبرزتها السينما للمخبر في أثناء عمله وهو جالس خلف الجريدة يتابع تحركات المجرم، في حين كان فلم «بياعة الجرائد» من أشهر كلاسيكيات السينما المصرية، وفيه غنت ماجدة الصباحي ليوسف شعبان أغنيتها الشهيرة «أهرام، أخبار، جمهورية».

كانت الصحف الورقية هي القوت اليومي للمواطن، ولا يمكن تصور رجل ينتمي للطبقة الوسطى لا يجلس على المقهى مطالعًا جريدته المفضلة. وكان نجيب محفوظ قبل الاعتداء عليه من متطرف ديني عام 1994م يذهب إلى مقهى «علي بابا» في ميدان التحرير في تمام السابعة صباحًا ليتناول فنجانه من البن ويطالع جرائد الصباح.

لكن هذا كله أصبح شيئًا من الماضي، فمع مطلع الألفية الجديدة تراجع دور الصحافة الورقية، ولم تعد مصدرًا لتقديم الخبر إلى القارئ، فقد سبقتها إليه القنوات الفضائية، والمواقع الإلكترونية على النت، ومواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت بمنزلة نبض الشارع والحياة، هكذا حرمت الصحافة الورقية من ملايين الجنيهات التي كانت تتدفق عليها من الإعلانات، وتوقف قطاع كبير من القراء عن التعامل معها، وهو قطاع الشباب أو من هم دون الأربعين، هؤلاء الذين لم يدمنوا ملمس الورق ورائحة الحبر ومطالعة الجريدة الصباحية، هؤلاء الذين نشؤوا في عصر الستالايت والشبكة العنكبوتية والسمارت فون، فصرنا نسمع عن توقف جرائد عريقة كالسفير اللبنانية، والبديل المصرية، ونسمع عن توقف إصدارات في مؤسسات أكبر وأكثر عراقة مثل الأهرام والأخبار المصريتين، فما مستقبل الصحف الورقية؟ وهل هناك حلول لبقائها في المنافسة؟ أم أننا قد نستيقظ يومًا لنجد العالم وقد أصبح بغير جريدة الصباح وفنجان البن اللذين طالما تغنى بهما شعراء وكتاب ينتمون إلى بلدان ومدن عربية؟

عدد من رؤساء تحرير الصحف المصرية ومسؤولي الإعلام لم يقطع في الحديث حول نهاية قريبة محتملة للصحافة الورقية. وأدلى هؤلاء لـ«الفيصل» بشهادات مختلفة حول واقع الصحافة في مصر وفي الوطن العربي، وفقًا لعدد من المعطيات، ومع ذلك فإنهم أكدوا على أزمة كأداء تمرّ بها الصحافة العربية:

فهمي عنبة:

الصحافة الورقية مريضة لكن لن تموت

فهمي عنبة

بلا شك تواجه الصحافة الورقية تحديات في العالم كله بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ووصول النت إلى معظم البيوت، فقد أصبحت المعلومات متاحة للجميع، والخبر يرد إليهم في وقته وربما آن حدوثه. لكن الصحافة الورقية تمرض ولا تموت، ولو تذكرنا ظهور الراديو، وما تردد وقيل وقتها عن موت الصحافة الورقية، وتكرار هذا الأمر مع ظهور التليفزيون ثم الفيديو، نتأكد أن الصحافة الورقية تمرض، أو تمر بأوقات ضعف مع ظهور أي تقنية أو وسيلة إعلامية جديدة، لكنها لا تموت، وإن كان مرضها هذه المرة قد يستغرق مدة أطول، أو أكثر قوة وشدة من أوقات مرضها مع ظهور الراديو والتليفزيون والفيديو. لكننا نراهن على أن متعة القراءة لا يساويها متعة، ومن ثم فعلى الصحافة أن تركز ليس على الخبر لكن على ما وراء الخبر، والنزول إلى الشارع حيث العمل الميداني، وإبراز الرأي أو ما يعرف بصحافة الرأي، وتقديم خدمات جديدة للقراء.

تبقى الصحافة الورقية الأرشيف القومي للشعوب، في حين المواقع الإلكترونية أو وسائل التواصل الاجتماعي نجد جانبًا منها يقوم على الإشاعة أكثر من الحقيقة، وفكرة إثارة القراء وجذبهم، ثم العودة بعد دقائق لبثّ أخبار جديدة، من دون التأكد من صحة الخبر أو حقيقته، ومن ثم فالصحافة الرصينة سواء قومية أو حزبية أو خاصة، ستجد نفسها خارج الصندوق في وقت ما، لكنها سرعان ما ستعود بقوة حين يكتشف القارئ أن المواقع الإلكترونية لا تقدم له سوى هوس المتابعة الدائم، وعدم تقديم معرفة حقيقية في شيء. علينا أن نعترف أن خريطة الإعلانات تذهب في الدرجة الأولى الآن لبرامج «التوك شو» التي تستحوذ على ثلاثة أرباع المتاح من الإعلانات، يأتي بعدها المواقع الإلكترونية وهي متعددة وكثيرة، ثم إعلانات الشوارع التي أصبحت تغطي كل مكان، ثم الصحافة الورقية، ويمكننا الرهان في الحقبة المقبلة على أفكار مثل الصحافة الإقليمية أو المحلية أو ما يعرف بصحافة الكومباوند أو الأحياء المجاورة، هذا النوع يمكنه الاعتماد على إعلانات بسيطة وبأثمان زهيدة لكنها تغطي تكاليفه وتكفل له الاستمرار. وهناك نوع من الجرائد الخدمية حقق انتشارًا وتوزيعًا عاليًا كالوسيط القائم على الإعلانات فقط، إضافة إلى أننا في «الجمهورية» قدمنا تجديدًا في أبوابنا، فلدينا باب خاص بالمعاشات، وباب للعمال، ولدينا صفحات الفن والمسرح، ونقوم على العمل الميداني بالدرجة الأساسية حيث الجمهور وتحليل الخبر.

رئيس تحرير جريدة الجمهورية

محمد السيد صالح:

البحث عن دخل إضافي

محمد السيد صالح

توزيع الجرائد الورقية في مصر مُتَدَنٍّ جدًّا، وبعض الجرائد أغلق، كالتحرير والبديل وغيرهما، لكن الجرائد القومية لن تغلق، والجرائد الخاصة كالمصري اليوم تبحث عن بدائل جديدة، فهي تسعى لعمل معادلة في السعر والورق والبحث عن دخل إضافي من خلال الموقع، واستغلال إعلانات على النت والبحث عن مصادر للورق أرخص من المتاح. وهناك نوع ثالث من الجرائد، لا هو جرائد قومية مملوكة للدولة، ولا جرائد خاصة مملوكة لرجال أعمال، لكنها جرائد مموَّلة من جهات سيادية أو غير سيادية، هذا النوع في ظننا سيتحكم في مستقبل الصحافة الورقية، وهو نوع ليس موجودًا لا في الشرق ولا في الغرب، فالخليج به جرائد مملوكة للأمراء والأثرياء، وفي مصر أو غيرها جرائد خاصة أو قومية، الجرائد الخاصة إما أن تغلق أو أن تبحث عن عمل معادلة في الورق والإعلانات والثمن.

ثمة حلول أخرى على هامش هذه المعادلة، وهي اللجوء إلى نوع جديد من التوزيع الورقي، عبر إقامة شركات توزيع جديدة بديلة عن شركات التوزيع الحكومية التي تسيطر على السوق، والتفكير في صحافة الكومباوند أو المحيط السكني الصغير، هذه التجربة ليست موجودة لدينا، لكنها في أميركا والغرب ويمكن التفكير في إصدارها هنا. من المعروف أن الصحافة نوعان: صحافة خاصة يمتلكها أمراء أو رجال أعمال، وهذه تبحث عن مصادر أخرى للدخل وإقامة معادلة فيما يخص الإنفاق والعائد من التوزيع والإعلانات، وبعضها أمام الضغوط الاقتصادية أو السياسية يغلق، النوع الثاني هو الجرائد القومية التي لو رفعت الدولة يدها عنها فإنها ستغلق، لكنّ ثمة نوعًا ثالثًا ظهر في السوق مموَّل من جهات بعينها، لا يعنيه التوزيع ولا غيره، ولا تشغله الضغوط السياسية ولا الاقتصادية. هذا النوع نعتقد أن مستقبل الصحافة سيكون لصالحة، لأن تمويله قويّ، وأهدافه أن يكون موجودًا بغض النظر عن الضغوط السياسية التي قد تكون لصالح بعض وضد بعض، أو الضغوط الاقتصادية التي يعانيها الجميع الآن، بما فيها الجرائد القومية التي اضطرت إلى تخفيض بعض إصداراتها.

ما زال القارئ التقليدي الذي لم يرتبط بالسوشيال ميديا ومواقع النت مرتبطًا بالإصدارات الورقية من الجرائد، هذه التي يذهب إليها نحو 80% من الإعلانات. بعض الجرائد قامت بإنشاء مواقع إلكترونية أنفقت عليها الكثير؛ كي يعود البريق إلى الجريدة الورقية نفسها، وتستطيع المنافسة في سوق الإعلانات.

رئيس تحرير المصري اليوم.

عماد الدين حسين:

الحاجة إلى تحرير جديد وكُتاب جدد

عماد الدين حسين

هناك تحديات حقيقية تواجه الصحافة الورقية، السبب الأساس هو منافسة وسائل الاتصال وارتفاع أسعار الورق واستيراده، وتعويم الجنيه، وارتفاع سعر الدولار، إضافة إلى غياب أي تصور حقيقي للتطوير. والنتيجة أن عددًا من الصحف التي كانت توزع في السبعينيات بأعداد هائلة اختفت.

توجد أزمة حقيقية في المحتوى، وبخاصة مع ظهور الفضائيات والمواقع الإلكترونية، والصحف التي لن تستطيع في المستقبل أن تطور من أدائها وفكرتها وطرائق تواصلها ومحتواها، لن يكون لها فائدة. فلا بد من وجود حلول، والحلول الجوهرية تكمن في تقديم محتوى مختلف، فلم يعد مهمًّا أن تهتمّ بالخبر اليومي، فلا بد من تقديم محتوى مختلف يشتمل على حوارات وقصص وأمور ليست متاحة للـ«توك شو» على الفضائيات، وهذا بدوره يحتاج إلى نوعية جديدة من المحرِّرين والكُتاب والمفكِّرين، كما يحتاج إلى تدريب وإعادة تأهيل واكتساب لغات ومعارف جديدة.

رئيس تحرير الشروق

سامي حامد:

ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج

سامي حامد

مجدي شندي

الصحافة الورقية تواجه في الوقت الحالي الكثير من التحديات، وبالتأكيد تأثرت سلبًا بعد انتشار المواقع الإخبارية الإلكترونية لكنها لم تمت ولن تموت، فالصحافة الورقية لها مذاق خاص ونكهة مختلفة عما تبثه المواقع الإلكترونية من أخبار وموضوعات. الصحافة الورقية في اختبار حقيقي اليوم؛ فإما أن تكون أو ﻻ تكون، وأرى أن الصحافة الورقية لكي تنجح في اﻻستمرارية عليها اﻻبتعاد بقدر الإمكان من العنصر الخبري، فالمواطن يحصل على الخبر في الحال سواء على الموبايل أو شاشات التلفاز وأجهزة الحاسب الآلي. عليها التركيز على ما بعد الخبر واﻻهتمام بالرأي والتقارير والتحليلات والقضايا سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. وهناك تحدٍّ آخر يواجه الصحافة الورقية هو ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج من ورق وأحبار وزنكات، وهو ما يستلزم في كثير من الأحيان خفض الكمية المطبوعة سواء كانت صحفًا أو مجلات.

رئيس تحرير جريدة المساء المصرية.

مجدي شندي:

وداعًا للتوزيع «المليوني»

اقتصاديات الصحافة الورقية تضررت كثيرًا؛ لأن هذه الصحافة فقدت وظيفتها وهي الإخبار، فقد أصبحت لدينا بدائل أكثر سرعة في نقل الخبر وتقديمه للمتلقي، كما أن أنماط القراءة وعاداتها اختلفت من القراءة الورقية إلى القراء على اللوح الضوئي، هذا هدَّد مستقبل الصحافة الورقية، وبخاصة من قطاعات الشباب؛ لأنه لا أحد منهم يُقبل على شراء الصحف الورقية، فأغلبهم يعتمد على المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما جعل انتظار خروج الصحف الورقية من المطابع، والسير مسافات لشرائها من بائعي الجرائد، عملًا من الماضي، نظرًا لوجود بدائل قوية تبث الخبر في آن حدوثه.

تضررت الصحافة الورقية، وهو أمر ليس خاصًّا بمصر وحدها، فهو متعلق بالثورة التكنولوجية التي أنتجت الفضائيات والمواقع الإلكترونية، وأصبح التوزيع المليوني للصحف الورقية جزءًا من الماضي؛ لأن قُرَّاء الصحف فيما فوق الأربعين وحدهم هم الذين اعتادوا على ملمس الورق ورائحة الحبر، كل الأجيال الجديدة الآن لم تَعتَدْ على ذلك، وليس لديها أدنى ارتباط نفسي مع الجريدة الورقية، وهذا ترك آثاره على الصحف الورقية في العالم كله. صحف عريقة في أوربا والولايات المتحدة تحوَّلت إلى الواقع الافتراضي، أما في مصر فربما يتأخر ذلك التحول قليلًا، وقد تأتي مجلات متخصصة في تفسير وتحليل الأحداث، ما يمكنها من التعايش مع الواقع الجديد، كي نشهد دورًا جديدًا للإعلام الورقي.

رئيس تحرير المشهد

داعش والمهربون أخطر ما يهدد التراث الإنساني في البلدان العربية – صبحي موسى

داعش والمهربون أخطر ما يهدد التراث الإنساني في البلدان العربية – صبحي موسى

في الوقت الذي كانت أوربا لا تزال في عصور الظلام كأنها لم تولد بعد، كانت حضارات الفراعنة والبابليين والآشوريين والسومريين والكلدانيين ترفع مشاعل الفكر في العالم، هذه المشاعل التي حملها من بعدهم اليونان والرومان والفرس، ثم سرعان ما دارت الدورة وعادت الريادة إلى المنطقة العربية عبر الفكرة الإسلامية التي مزجت قانونها السماوي بتراث كل هذه الأمم منتجة حضارة أنارت العالم لعدة قرون، قبل أن يفقد قطار الشرق قدرته على مواصلة السير إلى الأمام، تاركًا ريح التقدم في يد الأوربيين بتنويعاتهم من إسبان وبرتغال وإنجليز وفرنسيين وأميركان.

باندلاع ثورات الربيع العربي، أصبح التراث الإنساني الموجود بهذه البلدان في خطر، فقد اقتحم اللصوص عام 2012م متحف حماة في سوريا، ونهبوا الأسلحة القديمة التي به، كما نهبوا مدينة أبيلا الأثرية في إدلب، وهو ما جعل اليونسكو تصدر بيانًا تدعو فيه الهيئات الدولة لحماية الآثار السورية، وضمان عدم تعرضها للنهب، كما جعل كاتبًا بحجم روبرت فيسك يكتب في الخامس من أغسطس عام 2012م عن أن التراث الإنساني في سوريا، بما فيه من قلاع الصليبيين والمساجد العتيقة والفسيفساء الرومانية، بات لقمة سائغة للصوص، بعدها نشرت نيويورك تايمز تقريرًا قالت فيه رئيسة صندوق الحفاظ على المواقع التراثية العالمية يوني بيرنهام: إن حلب بها العديد من الكنوز الأثرية النادرة التي تتعرض للأضرار الفادحة، كهيكل آلهة العاصفة الذي يعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وأكدت اليونسكو في فبراير عام 2014م على أن عمليات التنقيب عن الآثار التي تجري في مواقع متفرقة من سوريا غير قانونية، ودعت جميع الأطراف لوقف العنف في المدن الأثرية لحماية الآثار، مؤكدة أن «داعش» دمر مواقع إسلامية ومسيحية ويهودية، ونسف أضرحة ودُور عبادة يعود تاريخ بنائها لأكثر من عشرة قرون.

ومُقدِّرة قيمة الآثار المنهوبة في كل من سوريا والعراق بنحو 15 مليار دولار، وفي يونيو عام 2015م صفع «داعش» العالم أجمع بصور تدمير أعضائه معبد بعل شمين، ثم المدرج المسرحي الروماني في تدمر، ومعبد بل وأقواس النصر وغيرها، وهو ما ذكَّر الجميع بالصفعة التي وجهها طالبان عام 2001م إلى العالم كله بتفجيره تمثال بوذا…

كل ذلك يجعل «الفيصل» تعيد التساؤل عن القيمة الحضارية التي تمثلها الآثار الموجودة في بلداننا العربية؟ هل يتعارض وجود هذه الآثار مع سؤال الهوية العربية أو الإسلامية للمنطقة، حتى تتعرض لما تتعرض له اليوم من تدمير تارة، وتهريب تارة أخرى؟ وما المشترك والمختلف في هذه الآثار؟

زاهي حواس: أمر فوق المعقول

زاهي-حواسبالنسبة لمصر في عامي 2011 و2012م خرجت كميات كبيرة من الآثار الحقيقية خلسة، وحدثت تعديات رهيبة على أراضي الآثار وجباناتها، وقام بعض الأهالي بنهب العديد من المقابر، أما في سوريا وليبيا والعراق فقد دُمِّرت عشرات المواقع والمتاحف، وما يحدث في ليبيا وسوريا فهو أمر فوق المعقول، فلا أحد يستطيع أن يحصي الخسائر التي وقعت في آثار هذه البلدان، سواء بالتدمير أو النهب والتهريب، والجامعة العربية لا بد أن يكون لها دور في حماية آثار هذه البلدان، ففي مصر توقفت التعديات بحدوث الاستقرار، وقدرة الدولة على حماية المواقع والمتاحف الأثرية، لكن في كل من ليبيا وسوريا والعراق فالأمر خارج نطاق السيطرة، ويكفي أن نعلم أن عالم آثار سوريًّا جليلًا، تخطى الثمانين من عمره، اغتيل على يد المتطرفين.

ومن ثم يجب الانتباه إلى ضرورة حماية الآثار بعيدًا من أيدي المتطرفين وعبثهم، إضافة إلى الفوضى التي يتيحها مناخ عدم الاستقرار، مما يجعل بعض الأهالي والعصابات الصغيرة وغيرهما يفكران في الاستيلاء على آثار وبيعها؛ لذا لا بد من تخبئة الآثار الموجودة في المتاحف في بدرومات المتاحف، ولا بد أن تقوم الجامعة العربية والمجتمع الدولي بدور واضح وقوي في حماية آثار البلدان العربية، ولا بد من إرسال رسالة إلى كل المتطرفين والحمقى المعادين للثقافة الأثرية بأن خَلْقهم الفوضى وتعدياتهم على المواقع الأثرية ونهبهم متاحفنا لن يثنينا عن تكريم علماء الآثار، وفي مقدمتهم العالم السوري الذي اغتيل على أيدي الجماعات المتطرفة.

ولا أعتقد أن الإسلام في حد ذاته لديه مشكلة مع الآثار، لكن المشكلة مع المتطرفين، هؤلاء الذين يسعون لإحضار سلاح وعتاد، ومن ثم يبحثون عن كل ما يمكن بيعه، وهذه الآثار تحقق مبيعات كبرى لدى مهربي الآثار، ومن ثم فكلما ضعفت يد الأمن انتشر مهربو الآثار، وكلما ظهرت جماعة ترغب في التمويل قامت بعمليات تهريب كبري إلى الخارج. الكتب الإسلامية ليس فيها ما يحضّ على تدمير الآثار، والقرآن نفسه حدثنا عن فرعون واحد بوصفه حاكم ظالم وليس كل الفراعنة ولا كل عصورهم، المتطرفون هم الذين يسعون إلى تدمير الآثار تحت ستار الإسلام من أجل مصالحهم الخاصة.

وزير آثار مصري سابقًا.

عالم الآثار السوري خالد الأسعد الذي اغتالته داعش

عالم الآثار السوري خالد الأسعد الذي اغتالته داعش

إياد السليم: النظام العالمي الخاطئ

أياد-السليمأثر الحضارات والتراث فينا قد يكون أكبر مما تتصوره أنت، فقيمنا ومبادئنا، وكثير من عاداتنا، جاءت من هناك، صقلتها التجارب والحضارات، وهنا يحضر ظرفنا القاهر القاسي هذه الأيام، في منطقتنا، الذي للأسف لا يصقل وحسب بل ينهش نهشًا. ظرفنا هذا، يفوق الخيال، وقد يصعب تصديق أحداثه ولو شاهدناها أمام أعيننا، ونقول: يا أسفاه، ماذا حصل للبشرية؟ نحن وصلنا القرن الحادي والعشرين وقلنا لقد تخطينا بشاعة الأمور الإنسانية، لكن وللأسف كانت مفاجأة كبيرة لنا. غدا سياسيو النظام العالمي الجديد يتعسفون بأنانية كبيرة، بل بلؤم وحقد، وغريزة حيوانية، نعم هذا من أسباب الفتك بصروح حضاراتنا هذه الأيام، فمسيِّرو سياساتٍ خارجية ومخابراتية تجاه منطقتنا هذه الأيام، هم مِن أعتى الحاقدين للأسف، ولا يشبعون من تدمير ومحو حضاراتنا، غير مبالين بكونها إرثًا عالميًّا وملكًا للأجيال القادمة.

هؤلاء يستغلون كلّ فراغ أمني وحاجة عسكرية، ليقايضوها بأمر تخريبٍ أثريّ، صفقات مباشرة لحصص سياسية، ولحصص على الأرض، مقابل تهديم الصرح الأثري هذا أو ذاك، فرضوا ظرفًا، تسمع فيه مقاتلًا يقول: «بوط عسكريّ واحد، هو أهمّ من كامل آثار البلد».

مدير مؤسسة الاستكشاف السورية.

خالد عزب: شكوك حول الأساطير والمرويات القديمة

خالد-عزبهناك تطور كبير في علم الآثار خلال الثلاثين عامًا الماضية أدى إلى إعادة النظر في المنطقة العربية ككل، فنحن نتحدث الآن عن وجود لغة أم، ليست بالضرورة هي اللغة العربية التي نعرفها اليوم، لكنها كانت لغة فيها مشتركات كثيرة بين النحو والصرف في اللغة المصرية القديمة والنحو والصرف في اللغة العربية، وهناك مشتركات بين اللغة المصرية القديمة واللغة الأمازيغية. هذه المنطلقات إما أن تستخدم استخدامًا سياسيًّا لتعزيز المشترك العربي، أو تستخدم للتفرقة العربية، فلُبّ القضية هو التوظيف السياسي للآثار.

وإذا كان لدينا كعلماء آثار شكوك كبيرة حول صحة روايات التوراة، التي كتبت بعد السَّبْيِ البابليّ، ومدى مطابقة مروياتها مع ما يمكن تسميته بالمكتشفات الأثرية، فهل يصبح لدينا الآن شكوك حول بعض الأساطير والمرويات العربية؟ فمن المؤكد أن شبه الجزيرة العربية في عصور ما قبل التاريخ كانت بها حضارات وأنهار وغابات، ومنطقة الربع الخالي كانت منطقة زراعية، وعليه فإننا نتساءل: هل نستطيع إعادة كتابة تاريخ شبه الجزيرة العربية مرة أخرى؟ وذلك بناء على ما تُوُصِّل إليه من اكتشافات حديثة.

وهذا كله يعني أننا خلال السنوات المقبلة سنعيد كتابة تاريخ المنطقة مرة أخرى، وربما بطريقة مختلفة، ويصبح التساؤل الملحّ هو: هل سنبحث عن المشتركات التي تقرِّبنا كأمة عربية أم سنبحث عن الاختلافات التي تباعد بيننا؟ أعتقد أن الأمر مرهون بالفعل السياسي الثقافي أكثر منه بالفعل الثقافي الأثري نفسه.

متخصص في الآثار الإسلامية.

داعش-والآثار

حسين عبدالبصير: العالم العربي المحظوظ

حسين-عبدالبصيريعد سؤال البحث عن الهوية وماهية الوجود الحضاري في العالم العربي من الأسئلة المؤرقة دومًا وأبدًا في عالمنا العربي العريق قديمًا، الذي يعاني حاليًّا تــــراجـعًا حضــــاريًّــــا كــبــيــــرًا على كل المستويات الحضـــــارية. ويزيد من حيرة ذلك العالم وحيرة أهله الوقوع بين هويات عدة تمتدّ إلى الماضي البعيد، ويحيط بها الحاضر غير البهيج، ولا أحد يعلم مصيرها في عالم المستقبل الغامض. وتدخل الآثار في البلاد العربية في هذا الخضم الهائل لتزيد من عمق السؤال، وهوّة التناحر، وحدّة التعارض بين تلك الهويات المتعارضة.

ويمكن اعتبار عالمنا العربي محظوظًا من كثافة ووفرة المواد الحضارية الأثرية؛ نظرًا لاحتوائه على حضارات مهمة متعاقبة في أقطار عديدة، لعل من بين أهمها الحضارة المصرية القديمة وحضارة بلاد النهرين وحضارات بلاد الشام وغيرها. ومن بين أروع ما يميز حضارات تلك البلدان العربية هو الاستمرارية والتواصل الحضاري، لا الانقطاع الزمني، على أرضها الحضارية العريقة؛ مما يشكل لها تميزًا بين حضارات العالم قديمه وحديثه، وفي الوقت ذاته تحديًا كبيرًا لتلك البلاد التي تعيش في ظروف حضارية مغايرة لنهضتها القديمة التي أبهرت العالم قديمًا ولا تزال تبهره. ومن دون شك، فإن وجود آثار تلك الحضارات في الأرض العربية، يجعل المواطن العربي مذهولًا من عمق الهوة الحضارية الفاصلة بين ماضيه المشرّف، حين كانت بعض الحضارات الموجودة حاليًّا على الأرض العربية سيدة للعالم القديم في وقت كانت البشرية جمعاء تبحث لنفسها عن بصيص أمل في الظلام الدامس الذي كانت تعيش فيه مسترشدة بأنوار حضارات العالم العربي الباهرة.

لكن السؤال الذي يثار باستمرار :«لماذا نحن متخلفون؟». ويفكر العرب المحدثون بصوت عالٍ: «كيف وصل أجدادنا إلى هذا التقدم المذهل الذي ما زال العالم يبحث في أسراره وكيفية حدوثه؟». وفي حقيقة الأمر، فإن الإنسان العربي الحالي غير معنيّ بالكلية بالبحث عن تراثه، بل أكثر من ذلك يساهم على نحو من الأنحاء في العبث بهذا التراث العريق وتدميره.

رئيس آثار منطقة الهرم والمتحف المصري الكبير.

علي الحضوري: هدموا المقابر وتركوا الأوثان

على-الخضوريالآثار الليبية تعرضت للنبش والتشويه، فبعد سقوط النظام سادت الفوضى، وانتشر اللصوص، والراغبون في البحث عن الآثار من أجل بيعها، ولم يسلم موقع أثري في ليبيا من النبش والحفر بحثًا عن آثار فيه، ولم يسلم العديد من الآثار من التشويه سواء بالكتابة عليها أو دهنها بمواد كيميائية، لكن الأمر ليس مرتبطًا بالإسلاميين إلا فيما يخص المقابر والأضرحة، وهي تعود إلى عقود وقرون بعيدة، أغلبها كان يمثل تحفًا فنية مزدهرة بالنقوش والآيات، وهذه تعاملت معها الجماعات الإسلامية بعنف؛ لأنهم يرونها حرامًا، في حين تركوا الأعمدة الرومانية وغيرها رغم أنهم يسمونها بالأوثان، ولا نعرف آثارًا دُمِّرت كما حدث بالشكل المروع في سوريا، لكننا نعرف ما حدث من تشويه ونبش في المواقع الأثرية الليبية، والقصة في مجملها تجيء بإغراءات من السياح أو مهربي الآثار، ومن ثم فالكل أصبح يبحث عن الآثار بطريقته ومجهوده الفردي؛ كي يبيعها ويصبح من الأثرياء.

الرئيس الأسبق لمصلحة الآثار في الجماهيرية الليبية.

داعشيون

حسين العيدروس.. نقاط مشتركة

حسين-العيدروسالتراث الحضاري على المعمورة، يُعدّ من الشواهد الحية على وجود الإنسان وتفاعله ونشاطه الدؤوب والمستمرّ على مدى العصور، سواء في البلدان العربية أم في العالم أجمع. وإذا ما اقتصرنا على البلدان العربية، فإننا لا بد أن نتعايش تحت أي ظرف من الظروف، وننسى هذه التقسيمات العقيمة، التي شتتت شمل الأمة وفرقتها، فمن خلال معظم التنقيبات الأثرية في العالم، وُجِدت شواهد تثبت الصلات والعلاقات بين الشعوب، وعُرف التلاقح الحضاري فيما بينها، ولولا هذه الصلات لما تحضَّرت الأمة بالأخذ والعطاء (التبادل)، هذه السمة الأخلاقية التي تدلنا على الفضيلة في عدم الاستئثار والأنانية، فالشعوب المحرومة، هي الشعوب المنعزلة، المنكفئة على ذاتها، لا تسمح بالتواصل مع الآخرين، وبالتالي ظلت متقوقِعة، حتى انتهت وأَفَلَ نجمها مهما كان سطوعه.

قد تكون الوحدة الجغرافية في كثير من الأحيان، لها أثر في التقارب بين المجموعات البشرية التي تعيش فيها، وهذا الأمر طبيعي وإيجابي، ليس بالاختيار، لكن في الوقت نفسه قد تنشأ خلافات فكرية، أو اجتماعية، أو سياسية، أو خلاف ذلك، تؤدي إلى نشوب نزاعات، وهذه غالبًا طبيعة بشرية، لكن بالمقابل قد تُحل وتعود إلى وضعها الطبيعي، وقد تتعقد وتُنهِي طرفًا من الأطراف.

أستاذ الآثار بكلية الآداب جامعة صنعاء.

نينوى-داعش

الشرقي‭ ‬دهمالي‭: ‬محور‭ ‬أطماع‭ ‬ومصالح‭ ‬عالمية

الشرقي-دهماليالمتأمل في التاريخ العربي يجد أن منطقتنا العربية شكلت وستشكل دائمًا مجالًا لبروز أطماع ومصالح بين قوى خارجية، وميدانًا لتصفية مجموعة من الحسابات بين أجهزة استخباراتية عالمية يكون فيها المواطن العربي وهويته الحضارية حطَبًا لحروب مفروضة يصاحبها نشاط مكثف لتهريب الممتلكات الثقافية العربية تؤدي إلى فقداننا جزءًا غاليًا من تراثنا، هذا التراث الذي يباع بأثمان خيالية في المزادات العلنية، وأصبح قسم منه في ملكية متاحف عالمية تتباهى بعرضه للزوار، وتحقق من ورائه مكاسب مالية مهمة جدًّا.

وبالرجوع إلى الخمس عشرة سنة الأخيرة فقط، نجد أن عالمنا العربي عرف مجموعة من الأحداث المتسارعة والمؤلمة التي أضرت كثيرًا بمعالم تراثنا المشترك، من خلال استهداف «ممنهج» للمعالم البارزة للتراث العربي كما سيتبيّن من خلال هذه الأمثلة التي سنوردها على سبيل المثال لا الحصر:

– استمرار عمليات الحفر تحت المسجد الأقصى المبارك منذ عام 1967م إلى اليوم، وما نتج عن ذلك من تشققات في بنيته الأساسية وبخاصة في الجدار الجنوبي، إضافة إلى هدم أحياء عربية قديمة بالقدس الشريف من طرف الكيان الإسرائيلي.

– تعرض المتاحف والمواقع الأثرية لبلاد الرافدين، خلال الاجتياح الأميركي للعراق سنة 2003م، لعمليات واسعة من السرقة والتهريب قامت بها، في أغلب الأحيان، عصابات دولية منظمة ومحترفة تحت أنظار قوات الاحتلال. وهنا أسرد حديثًا دار بيني وبين الزميل المرحوم الدكتور توني جورج، مدير متحف بغداد آنذاك، خلال لقائنا في الجمعية العامة للمجلس الدولي للمتاحف بكوريا الجنوبية سنة 2004م، أكد لي فيه عن «وجود حقائق تثبت أن ما سُرق من التحف من المتحف العراقي في بغداد خلال الأيام الأولى للاحتلال تم بشكل منظم على أيدي عصابات مدرَّبة، كما يدل على ذلك طريقة اقتحام المتحف، ومن خلال درايتهم الدقيقة بمحتويات المتحف: ففي المتحف نسخة طبق الأصل من «المسلة السوداء» لشريعة حمورابي الموجودة في «متحف اللوفر» في باريس لم يسرقوها لمعرفتهم بعدم أصليتها.

تتوالى عمليات التخريب للشواهد المادية للتراث العربي لتصل ذروتها مع ما يسمى بـ«الربيع العربي»، وما نتج منه من فراغ وانفلات أمْنيينِ وتدخل أجنبي سافر، وتفريخ لمجموعة من الجماعات المسلحة التي جندت، للأسف فئة من أبناء جلدتنا، وجعلت من تدمير التراث وسيلة للتعبير عن وهمها، ومن الاتّجار في التحف مصدرًا لملء خزينتها من العملة الصعبة. وهنا أكتفي بسرد مجموعة من الأحداث المؤلمة:

– تعرض مجموعة من الآثار الليبية إلى التخريب والتنقيب غير المشروعين بعد التدخل الأجنبي سنة 2011م.

– سرقة مجموعة من القطع من المتحف المصري بالقاهرة في ليلة «جمعة الغضب» يوم 28 يناير 2011م.

– تفجير واجهة وبهو متحف الفن الإسلامي بالقاهرة في يناير 2014م، وتدمير مدخل متحف العريش في يناير 2015م.

– نهب وتخريب محتويات متحف الموصل في فبراير 2015م، وتدمير تماثيل الثور الآشوري المجنح في المتحف وفي «بوابة نركال» الأثرية، التي ترجع إلى القرن التاسع قبل الميلاد.

– قتل مجموعة من زوار متحف باردو الوطني بتونس في هجوم مسلح يوم 18 مارس 2015م.

– تدمير معابد وأقواس مدينة تدمر الأثرية بسوريا، وإعدام مدير متاحف وآثار المدينة د. خالد الأسعد بتهمة العمالة و«حراسة الأصنام» في أغسطس 2015م.

– تدمير مجموعة من المتاحف والبنايات التاريخية باليمن خلال العمليات العسكرية المتتالية.

أساطير على هامش يوميات مترو القاهرة

أساطير على هامش يوميات مترو القاهرة

حين تتحدث مع أي من قاطني مصر الجديدة قائلًا: «ترام مصر الجديدة …» يوقفك بانزعاج قائلًا: «مصر الجديدة ليس بها ترام، دا مترو». هكذا تجد نفسك في مأزق غريب، فمترو الأنفاق يربط في خطه الأول ما بين شبرا والجيزة، وفي خطه الثاني ما بين حلوان والمرج، ويسير تحت الأرض وفوق الأرض بين سورين عظيمين يمنعان الناس والسيارات عن مساره، ويسير بالكهرباء وليس بالوقود كالقطارات، ولا توجد به «سينجة» يشدها الشباب فيقفونه عن السير، وليس به مقابل، وليس له مزلقان كما في القطار، فكيف يمكن القول عن ذلك الذي يمشي على وجه الأرض بين الناس والسيارات، وينعطف ليمرّ بين العمارات في الشوارع دون خصوصية ولا استقلال، ودون هيبة وأسوار تحولان دون مطاردة الأطفال له، كيف يقولون عنه «مترو» وليس «ترام»؟

سوف تتذكر أن مهندسًا في السكك الحديدية المصرية تَقدَّم إلى الملك فاروق باقتراح لإقامة أول مترو أنفاق في مصر وإفريقيا والشرق الأوسط كله، لكن الملك أهمل الاقتراح فماتت الفكرة، ولم تستيقظ إلا مع مجيء جمال عبدالناصر، هذا الذي رغب في أن يكون المؤسس الثاني لمصر الحديثة بعد محمد علي، فاقترح على الخبراء الفرنسيين أن يضعوا تصورًا لإنشاء أول مترو في مصر، واتُّفِق مع بيت الخبرة الفرنسي «سوفريتو» عام 1970م على إنشاء خطين أحدهما يربط ما بين بولاق أبو العلا وقلعة محمد علي بطول 5 كم، والثاني يربط ما بين باب اللوق وترعة الإسماعيلية بطول 12 كم، وفي عام 1973م صدَّق أنور السادات على إنشاء مترو القاهرة، لكنه لم يبدأ العمل فيه إلا في عصر مبارك، وكان أول تشغيل له عام 1987م.

كانت القاهرة قبل أن يربط المترو بين أطرافها أشبه بصندوق مكتظ بالبشر، وكانت أحياء مثل حلوان والمعادي والمرج وغيرها أشبه بدول أخرى، لا يذهب إليها أحد، ولا يسمع بها أحد، ويتندر الناس على من يفكر في الإقامة بها، لكنها مع المترو أصبحت أقرب من وسط المدينة؛ لأن زحام المرور فوق سطح الأرض لا يمنح أحدًا حق التحرك من مكانه، والإشارات لا تفتح أضواءها إلا لتغيرها، وقد عبَّرت السينما في السبعينيات والثمانينيات عن هذا الاختناق المروري المزمن في شوارع القاهرة وكباريها من خلال أفلام مثل «أربعة في مهمة رسمية».

مدن داخلية على أبواب المحطات

لم يكن مترو القاهرة مجرد حدث أو وسيلة مواصلات جديدة، لكنه كان تغيرًا ديموغرافيًّا كبيرًا، فقد امتدت القاهرة الكبرى على ضفاف هذا الثعبان الحديدي، فنشأت مدن داخلية على أبواب محطاته، وصارت علامة «M» الحمراء رمزًا لتجمعات البشرية متباينة، حيث تجار الملابس والفاكهة والزيوت والمساويك والكتب القديمة والموبايلات وكروت الشحن والسماسرة والبهلوانات وأصحاب الثلاث ورقات، فضلًا عن عيادات الأطباء ومكاتب المهندسين وشركات الصرافة وسماسرة العقارات والشقق المفروشة وغيرها، نشأت حيوات وتغيرت طبيعة أماكن، وتوالدت أساطير وحكايات، ليس عن نشأة القاهرة ومجيء المعز بسيفه وذهبه، ولكن عن المترو والترام والقطار الفرنساوي والقشاش، وتحول الناس من آدميين يمشون على أقدامهم رافعين أنوفهم نحو السماء إلى فئران أو أرانب تهرول بمجرد دخولها من باب المحطة، تهرول في أنفاق طويلة وباردة، وسط ضجيج عالٍ وكثير، مسموع وغير مفهوم، ضجيج يبعث على التوتر والسرعة، ليتسابقوا في دخوله على شباك التذاكر، ومرورهم من بوابات ممغنطة، فرحين بوصولهم إلى الرصيف، في انتظار الثعبان الحديدي الكبير، هذا الذي لا تمر دقائق إلا بمجيئه، وحيث تكتظ المحطة بالنازلين والصاعدين، لكنها سرعان ما تصبح خالية في انتظار قادمين جدد.

لم يكن الأدب بعيدًا من حضور المترو بثقافته الجديدة على الجميع، فقد سجل العديد من الكتاب هذا الحضور في أعماله، من بينها رواية «مترو» المصورة لمجدي الشافعي، التي تدور أحداثها حول «شهاب» مهندس الإلكترونيات الحانق على النظام الاجتماعي والفساد المنتشر في مصر، الذي يقترب من الإفلاس بسبب المنافسة التي يسحق فيها أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة سواهم، ورواية ياسمين مجدي «معبر أزرق برائحة الينسون» الفائزة بجائزة دبي عام 2009م، التي تدور أحداثها في شباك بيع تذاكر في إحدى محطات المترو، وكذلك ديوان حمد عبدالعزيز «عشرين سنة على سلم المترو». وفلم «ساعة ونص» التي تدور أحداثه حول حادث قطار العياط الذي اشتعلت فيه النيران عند منطقة «العياط»، ويحكي قصصًا إنسانية عن ركابه.

في هذا التحقيق نتعرف على مشاعر وانطباعات وذكريات وأفكار وتصورات عدد من المثقفين المصريين والعرب، ممن تعرفوا على مترو القاهرة أو اتخذوا في رحلاتهم مترو دبي أو غيرها من مدن العالم، وكيف تركت هذه الوسيلة الجديدة حضورها لديهم، وكيف تَشكَّل خيالهم معها.

جاكلين سلام: نصوص في مترو تورنتو

جاكلين-سلاميشكل المترو عصب التنقلات في مدينة تورنتو الكندية التي تعد واحدة من أكبر مدن العالم. شخصيًّا أستخدم المترو للذهاب إلى العمل. أحيانًا أقرأ الكتاب الذي في يدي، وأحيانًا أقرأ وجوه العابرين. أحيانًا أكتب الشخصيات والمواقف في دفتر الملاحظات. هنا بعض أحوال مترو المدينة التي يعيش فيها خليط بشري متنوع من كل الألوان والأجناس.

*

خرجتُ مرة في الصباح الباكر وكنت على موعد للذهاب للترجمة الفورية لوزراء كنديين سيتحدثون عن تجربة استقدام اللاجئين السوريين إلى كندا. لبست ثيابي الرسمية وفي منتصف الطريق إلى مكان انعقاد المؤتمر، توقف المترو لعطلٍ ما. اختنقتُ. لم أستطع الخروج من النفق. حين تدبرنا طريقًا للخروج، استقللت سيارة أجرة، كانت عشرات الرسائل الصوتية قد وصلتني من مكتب العمل يسألون عن تأخر المترجمة. حين وصلت إلى المكان، دقائق فقط أمامي كي أرتّب شعري وأشرب الماء، ثم قُدِّمتُ إلى الوزيرة والشخصيات التي ستلقي خطابًا سأقوم بترجمته مباشرة في حضور عدد كبير من القنوات التلفزيونية الكندية. أثناء إلقاء الخطابات عن دور كندا الإنساني حيال مساعدة اللاجئين وتقديم فرص العمل لهم، كنتُ أقول في نفسي: أنا سورية- كندية ومن الممكن أن أتضرر لو توقف المترو في ساعة حرجة. المترو واللغة وسيلتان للوصول إلى مكان والعبور إلى الطرف الآخر.

*

الكلاب أيضًا تستقلّ مترو تورنتو: حين تكون برفقة كلب وتستقلّ عربة في المترو، ستحظى بكل الاهتمام من الركاب. إنهم يداعبون الكلاب ويتحدثون مع مالكها بود شديد. ذات مرة كانت سيدة بجواري تحمل في حضنها كلبًا صغيرًا وسيمًا. الشاب في الكرسي المقابل، صار يداعب الكلب ويقول للسيدة: «لكلبك شخصية مميزة، أعجبني كلبك» نظرتُ إلى الكلب بعين فاحصة وفي داخلي مشاعر متناقضة. مرات كثيرة أرى امرأة تجلس في مقعد في المترو، تبكي ولا أحد يلتفت إليها.

*

في ساعات الازدحام الشديد، أركض بين الجموع كي أصل إلى المترو وكلّي أملٌ أن أجد مقعدًا. حين أصاب بالخيبة أبدأ بتصفح عناوين الكتب التي يقرؤها العابرون إلى قلب المدينة. وأسترق النظر إلى وجوه الأشخاص. بعضهم ينام وبعضهم يأكل. أقرأ الوجوه ككتاب وأدوِّن الملحوظات أحيانًا. العالم محصور في عربة أمامي، أتمنى لو أكتب المفارقات والصور.

*

ينام الشحاذون في المترو أحيانًا. يصحبون معهم أكياسًا كبيرة تفوح منها رائحة عفنة. رائحتهم أيضًا تنتشر في المقطورة. أحيانًا أغيِّر مكاني كي أبتعد من مصدر الرائحة.

*

في المناطق المكشوفة في المترو يتناهى إلى سمعي المحادثات التليفونية الخاصة. أسرار تصلك بالعربية والإنجليزية. أبتسم وأنا أستمع إلى امرأة عربية تشتكي من زوجها، أو العكس.

*

يحدث أن أنغمس في قراءة رواية وأجتاز المحطة التي سأنزل فيها، حينها ألعن الكاتب وأبدأ بتأليف كذبة مناسبة عن سبب تأخري عن العمل.

كاتبة ومترجمة سورية مقيمة في كندا.

عمر العادلي: ضجيج لا يُسمع وسرعة تُرى

القاهرة عام 1986م هي تقريبًا ثلث القاهرة عام 2017م، ليس فقط من حيث عدد السكان إنما من حيث التنامي والانتشار في المدن الجديدة المنتسبة لهذه المدينة العريقة، فهناك بعض المدن التي لا علاقة لها بالقاهرة جغرافيًّا، لكن يبدو أن أصحابها سعداء بالانتساب غير الدقيق للعاصمة المصرية.

في عام 1986م لم يكن هناك سِوى بعض أعمال حفر لما سمعنا في تلك الأيام أن اسمه مترو الأنفاق، ومترو الأنفاق الذي يجري في إنجلترا منذ عام 1899م لم يدخل إلى القاهرة إلا في عام 1987م، وكان المترو حدثًا يعدّ الأبرز وقتئذ، فمن حيث الأهمية فهو وسيلة المواصلات الأسرع على الإطلاق، ومن حيث دقة التنفيذ فقد كانت الشركة الفرنسية المشرفة على المشروع تحدد ميعاد التسليم باليوم والساعة، لدرجة وجود عداد رقمي يتناقص يومًا كل أربع وعشرين ساعة لدقة العدّ التنازلي، وفي صيف عام 1987م أصبح يجري تحت أرض القاهرة مترو أنفاق كالذي يجري في لندن وروما وباريس.

هذه المدينة، القاهرة، جدَّد فيها المترو شبابها في السنوات الأولى من عمله، فقد كانت قد وصلت حد الترهُّل والبدانة، وأصبحت المواصلات العامة في حالة يرثى لها، فيمكن أن يستغرق قطع عشرين كيلو مترًا أكثر من ساعتين، وقد كان المترو يقطع المسافة نفسها في ثلث ساعة فقط لا غير. تغير شكل الانتقال في القاهرة، وتغير معها نظرة الناس بشكل عام، فأصبح متاح لإنسان أن يعطي بسهولة موعدًا ويستطيع الالتزام به، وذلك ببساطة لأن فرق توقيت مترو عن آخر لم يكن يزيد على خمس دقائق، ويمكن القول: إن المترو كان أداة تجميل ضرورية ولازمة بسبب التكدس الذي ضرب المدينة العريقة، وجعلها تستوعب أكثر مما يكفيها من البشر بثلاثة أضعاف على أقل تقدير.

بعض المثقفين فضلوا التنقل عن طريق المترو بدلًا من التاكسي أو وسائل المواصلات العامة، فقد ربط المترو بين مراكز ثقافية في أول المدينة بأخرى على أطرافها، فلو أن هناك منتدى في المعادي مثلًا يُقدِّم محتوى ثقافيًّا؛ ويريد شخص ما أن يذهب إليه وهو يقطن في منطقة المرج أو منطقة الزيتون، هل كان يستطيع الوصول إلى هذه الضاحية البعيدة؟ الإجابة لا؛ لأنه من الصعب تخيل شخص يقطع قرابة سبعين كيلو مترًا فوق أسفلت متكدس وطريق مزدحم وإشارات تغلق أكثر مما تسمح بالمرور، وكان من الصعب أيضًا أن تزيد هذه الكثافة السكانية العالية في هذا الزمن الوجيز دون حلول، فلولا مترو الأنفاق لانفجرت القاهرة.

الآن، وفي عام 2017م تمددت خطوط المترو، وأصبحت تربط أطراف القاهرة من جميع الاتجاهات، وهذا يَسَّر على الكثيرين سرعة التنقل ودقة المواعيد، إضافة إلى شيء آخر ألا وهو التخفف من الزحام قدر المستطاع، فالقاهرة يعمل بها عمالة مؤقتة تتعدى خمسة ملايين نسمة، يزورونها كل صباح ويتركونها في مساء اليوم نفسه.

روائي مصري.

صبحي فحماوي: كلام في المترو

هل كان حيوان «الخلد» هو أو من استخدم الأنفاق تحت الأرض ليمر بسلام آمن؟ وهل سيبقى الخلد حيًّا في أنفاقه تحت الأرض إذا ما قامت حرب نووية أزالت الحياة من على الأرض؟ في المدرسة كنا نقرأ في كتاب الإنجليزي أن المدينة التي يزيد عدد سكانها على مليون مواطن، لا يحل مشكلتها المرورية سوى المترو.. لكن مدينتنا عمّان التي يزيد عدد سكانها مع الضواحي هذه الأيام على خمسة ملايين نسمة لم يصلها المترو حتى الآن. وللمعلومة فإن أول مترو أنفاق أسس في لندن عام 1863م، مقتبسًا من القاطرات البخارية، وأسس مترو الدولة العثمانية في إسطنبول عام 1871م، تلاه مترو بودابست عام 1896م، أما مترو باريس فأسس عام 1900م، ويعد مترو لندن وشنغهاي هما الأطول من حيث خطوطهما، ويعد مترو طوكيو وموسكو هما الأكثر ازدحامًا.

قبل عشر سنوات في لندن نزلت بمصعد مسافة عشر طوابق تحت الأرض ليفتح هناك باب المترو، فكان في وجهي امرأة محجبة مستغرقة في قراءة القرآن.. أدهشني المشهد. أدهشني نفق سيارات «أوراسيا» الذي دشنته تركيا مؤخرًا ليربط الشطرين الأوربي والآسيوي لإسطنبول كأول نفق بحري تركي لعبور السيارات، بعد افتتاح نفق مرمراي للمترو، الذي يمتد مسافة حوالي 15 كم، منها 3.5 كم تحت مضيق البوسفور، ويبلغ ارتفاعه 14 مترًا، وهو مؤلَّف من طابقين للذهاب والإياب، ليربط الطريق بين الضفتين الأوربية والآسيوية هناك، كما سيمكِّن 90 ألف سيارة من العبور خلاله يوميًّا ذهابًا وإيابًا بين طرفي المدينة. ويعمل هذا النفق على توفير 25 مليون ساعة على المسافرين كل سنة، كما سيخفف 85 طنًا من التلوث الناتج عن السيارات. وأما النفق الأوربي، تحت البحر للقطارات والسيارات فيربط بين بريطانيا وفرنسا بطول 50.5 كم، وهو ثاني أطول نفق بحري في العالم؛ إذ إن نفق (سيكان) الياباني للسكك الحديدية، هو أطول نفق بحري في العالم حتى عام 2010م. ويتفوق النفق الياباني للسكك الحديدية، بطوله البالغ 53.9 كم، وكان يعد الأطول في العالم. وفي سويسرا افتتح نفق «غوتهارد» للسكك الحديدية بصفته الأطول والأكثر عمقًا، ويمر تحت جبال الألب في سويسرا، بطول 57 كم، ويربط بين شمال وجنوب أوربا. لتُنقل البضائع عن طريق القطار، بدلًا من نقلها برًّا عن طريق ملايين الشاحنات في العام.

كاتب أردني.

أمجد ريان: ضجيج حبيب إلى نفسي

2أمجد-ريانعلاقتي بـ«المترو»، علامة توحد بيني وبين أبناء جيلي جميعًا؛ لأن هذه العلامة تتكرر بشكل أو بآخر لدى الجميع. تبدأ علاقتي بالمترو منذ الطفولة المبكرة في سن الخامسة وما بعدها، فقد كنت أعيش مع والدي في إحدى العمارات في شارع المقريزي، ويخترقه بامتداده خط مترو «مصر الجديدة» الآتي من ميدان «روكسي» متجهًا إلى ميدان «رمسيس»، وكانت الشقة فخمة وفي حي راقٍ، لا تتناسب مع المستوى الاجتماعي الحقيقي لوالدي ووالدتي، لكنها رمز لتطلعات الطبقة المتوسطة الصغيرة المرتبكة اقتصاديًّا دائمًا. وكان والدي الطالب الصعيدي تلميذ «طه حسين» في كلية الآداب لشدة فرحه بعروسه أجّر لها هذه الشقة، وكانت الشقق وقتئذ متاحة لكل من يمكنه أن يستأجر. كان والدي مدرسًا للغة العربية في مدرسة سراي القبة الثانوية للبنات، وكان راتبه الشهري أقل من ثلاثين جنيهًا، فأجَّر هذه الشقة بسبعة جنيهات، وهو مبلغ كبير جدًّا بالقياس إلى ظروفه. وزوجته (أمي) هي قريبته من بعيد تعيش في حي «السبتية» الشعبي الفقير. وكانت علاقتي بمترو مصر الجديدة وطيدة، فهو يجري ليل نهار أمام باب العمارة محدثًا هذا الضجيج الحبيب إلى النفس، ونوافذه فيها وجوه الركاب، وعيناي تتأملان هذه الرحلات التي لا تتوقف، وكأنها رمز للحياة كلها بل للوجود كله في رهجه وحركته الذاتية المطردة. وكنا نحن دائمي ركوب المترو، وبخاصة عندما نذهب لزيارة جدتي في «السبتية»، فكان المترو هو الذي ينقلني بين مشهدين أو حالتين هما الحي الأرستقراطي من جهة والحي الشعبي من جهة أخرى، بكل ما فيهما من معانٍ ورموز ودلالات موحية. ولا أنسى أيضًا يوم «الخناقة» الكبرى التي اشتعلت في بيتنا بين والديّ، فوضعت أمي على جسدها أول فستان وجدته في الدولاب، ووضعت أقدامنا أنا وأخي «أحمد» في حذائين وحملت أختي «آيات» الرضيعة وجرت بنا غاضبة، وفي المترو اقترب منا الكومساري طالبًا التذاكر، ولكن أمي أخبرته أنها لا تملك النقود، وأفهمته أنها في ظرف خاص، نظر الكومساري لحالتنا وابتعد عنا على الفور دون أن ينبس ببنت شفة، ويبدو أن هيئتنا كانت تنبئ بما كنا فيه، كما أن أخلاق البشر وقتئذ كانت تفيض بالمسامحة وبالتعاون.

وظلت علاقتي بالمترو قوية، حتى بعد أن سكنت في «وادي حوف» بحلوان، وكانت تذكرة المترو القديم بقرش ونصف، ولكن الدرجة الأولى كانت بثلاثة قروش، وكان مجرد الدخول إلى المترو ينبئ بالمستوى الاجتماعي للركاب، وإن كانت المسألة قد تغيرت الآن في المترو الجديد (under ground) الذي استوردناه من فرنسا، وبمناسبة فرنسا فأنا قد ركبت المترو الفرنسي في باريس، عندما دُعيت أنا والشاعرة «رنا التونسي» لنمثل مصر في مهرجان «لوديف» الشعري الدولي. أما الفرق بين المترو المصري والمترو الفرنسي فحدِّث ولا حرج، أبسط فرق هو أنك بمجرد دخولك المترو هناك، تجد أن معظم الناس يمسكون الكتب المفتوحة بين أياديهم، ولا تتوقف عيونهم عن القراءة، مستفيدين من الزمن الذي سيقطعونه في أثناء ركوب المترو.

شاعر مصري.

صلاح حسن: وسيلة عملية ونظيفة

مترو الأنفاق هو واحد من المشاريع المهمة التي تثبت أن قدرة الإنسان غير محدودة في استخدام الطبيعة لتسهيل حياة الإنسان، وجعله قادرًا على الاتصال بالآخرين مهما كانوا بعيدين عن بعض. نشهد اليوم في أوربا بالتحديد مشاريع عملاقة لمد الأنفاق تحت البحر، وقد نجح كثير من البلدان في ذلك، وأكبر الأمثلة هو النفق الذي يربط فرنسا ببريطانيا، والمشروع العملاق بين أكثر من سبع دول أوربية لإنجاز نفق طوله مئات الكيلومترات. إنها تجربة فريدة بالفعل أن تسافر في قطار يسير تحت الماء. بالنسبة لي وأنا أستخدم هذه القطارات بين وقت وآخر أجدها طريقة عملية ونظيفة وسهلة للوصول إلى المكان الذي تريده دون تضييع كثير من الوقت، لكن نحن العرب معتادون على المساحات المفتوحة، نخاف من هذه القطارات لأسباب سيكولوجية، وهي الخوف من الأماكن المغلقة مع أنها غير مبررة طالما أثبتت نجاحها المستمر.

شاعر عراقي. 

هاني الصلوي: صيغة كلاسيكية زمنية للإبداع

هاني-الصلوييعد المترو -بلا شك- من أهم وسائل المواصلات الحديثة عند العرب وغيرهم بلا فرق أو مزية، سوى أنه ليس منتشرًا لدينا كعرب بل يكاد ينحصر في دول عربية ليست غنية البتة، عدا دولة الإمارات وأعني «دبي» تحديدًا، وحداثة المترو بين الدول نسبية (دخل بعض المدن في السنوات الأخيرة)، ولعل مسألة الكلفة المادية لإنشاء شبكة مترو العائق الأساسي لإنشاء مثل هذه الشبكة في الدول العربية الفقيرة، أما الدول الغنية حيث دخلُ الفرد مرتفع فيستبدل الناس به السيارات.. وهو أمر معروف وغير محتاج لتفصيل. الأدباء العرب انبهروا كالغربيين بهذه الوسيلة الحديثة والمختلفة، بوسيط نقل متداخل كهذا، بانبهار قديم للكائن البشري بالقطـار، أي أن الاندهاش بالمترو وليد الاندهاش التاريخي بالقطـار، فليس المترو سوى قطار حديث، وكذلك التراموي بصفته وسيلة وسطى أو متوسطة الزمنية والخصائص بين القطار الكلاسيكي وقطار الأنفاق، بل إن بعض الدول بنت شبكة المترو على سكك الترام (التراموي).

على المستوى الأدبي شكَّل القطار (الجد) صيغة كلاسيكية زمنية للإبداع قراءة وكتابة، تتميز هذه الصيغة بالهدوء وراحة البال والاسترخاء والتأمل، كتب كثير من الأدباء أعمالًا أدبية على القطارات في أسفارهم الطويلة أو المتوسطة من دون اشتراط تعلق موضوعات أعمال هؤلاء بالحياة على القطار، بل عهدت شركات القطارات في الغرب لمنظمي فعاليات ثقافية بتسيير الحياة اليومية على القطارات. قد توظف شركة قطار شاعرًا، يسافر في وسائله بشكل يومي ويقرأ للمسافرين، ويشبه ارتباط الأديب العربي والكاتب غيره في ممارسة الحياة على القطارات عدا في سِمة ارتباط القطارات في أوربا -في حالات ما لا يشترط تواترها- بفعليات ثقافية وفنية… كان القطار وما زال وسيلة سفر، وهو ما منحه ما مر من سمات في علاقته بالأدب أو الكتابة، أما مترو الأنفاق (الحفيد الشرعي) فهو وسيلة نقل داخلي داخل المدن مما يجعل ممارسة الانتقال عبره سواء تمت بشكل يومي دوري أو غير دوري، متسمة بالسرعة ومحاولة الإنجاز واللحاق بالمهمات أو أماكن الراحة.

       إنه سياق نقل متوتر وآني، وإذا افترضنا أن هناك من يستغلّ لحظات امتطائه من الأدباء للقراءة والكتابة (وهو ما يحدث كثيرًا) سيكون المقروء خفيفًا وقليلًا يتناسب مع الوقت وطريقة استخدام هذا الوسيلة ووقتها، سيكتب كاتب ما على سبيل المثال قصة قصيرة جدًّا بدلًا من رواية أو قصة. ومضات صغيرة وليست قصائد.. من جانب آخر يوفر مترو الأنفاق أوقـاتًا منزلية ثرية لممارسة الإبداع بعيدًا من الازدحام وضياع الوقت في الطرقات، مما يعد ازدوجـًا فيما تتيحه وسيلة المترو الإشكالية. في حالة كان المترو (قطار أنفاق) لا بد أنه يمنح الذهن فرصة أخرى للتأمل والتساؤل أثناء سير القطار في الأنفاق المظلمة، وهي مجالات ذهنية وخيالية استغلها التفكير الفني الإنساني منذ الوهلة البكر، نجد ذلك في أفلام السينما تحديدًا، والبرامج التصويرية، والروايات والشعر… يشبه الاعتماد اليومي أو المنقطع على وسيلة المترو طقسًا روحيًّا قديمًا… هل نقول عنه حجـًّـا آليًّا ميكانيكيًّا؟ ربمــا.

شاعر يمني.

يسري حسان: دليلك لمعرفة الشخصية

المترو دليلك الصادق لمعرفة الشخصية المصرية.. على المحطات يتراص المواطنون، وبمجرد أن يفتح القطار أبوابه، ودون إتاحة الفرصة لهبوط الآخرين، يندفع الجميع للركوب وتحدث المشادات في المحطات التي يحدث فيها تبديل للقطارات، مثل محطتي السادات والشهداء، تلاحظ أن من يغادرون قطار الخط الثاني مثلًا ليستقلوا قطار الخط الأول أو العكس، جميعهم يهرول للحاق بالقطار، ويأخذون في وجوههم المتجهين إلى القطار الآخر، كثيرًا ما طرحني أحدهم أرضًا وهو يهرول للحاق بقطاره، وأحيانًا كنت أقوم سريعًا فيأتي غيره ليطرحني مرة أخرى، وهكذا..!

القطار في الغالب يأتي كل دقيقتين أو ثلاث، والمواطنون، في أغلبهم، ليس لديهم مواعيد أو اجتماعات لتغيير العالم، فلماذا إذًا يهرولون بهذه الطريقة؟ ظني أنها مسألة في لا وعيهم، فالفرص دائمًا ما تضيع منهم والوعود التي يتلقونها من حكامهم لا تتحقق في الغالب، لذلك فهم يهرولون لاقتناص فرصة وجود القطار؛ لأنهم لا يضمنون أن يأتي قطار آخر.

في المترو إذا كنت في محطة المرج مثلًا، التي تفصلها عن محطة حلوان ساعة على الأقل، لا تستغرب إذا سمعت هذا الحوار عبر الهاتف:

السلام عليكم

…………………

خمس دقايق وأكون قدامك

……………………

داخل على حلوان أهو ودقايق إن شاء الله وأوصل

…………………………..

محمد رسول الله

مترو-القاهرة-3مجرد نموذج للشيزوفرينيا التي يعانيها المصريون، ويمكن أن تسمع أحدهم، على الهاتف أيضًا، يعتذر عن عدم قدرته على لقاء محدثه لأنه خارج القاهرة، لا تستغرب فهذا أمر طبيعي يدل على قوة خيال المصريين!! وداخل المترو أنت في مبنى الإذاعة والتليفزيون، اخترعوا سماعات للهاتف المحمول لكن أغلب المصريين يحبون المشاركة، فمنهم من يُسمعك القرآن الكريم، ومنهم من يسمعك أغاني المهرجانات، ومنهم من يسمعك موسيقا رومانسية حالمة، وعليك أن تستوعب كل ذلك معًا، وإياك أن تعترض على أحدهم، وبخاصة لو كان يدير هاتفه على محطة القرآن الكريم.

من قال لا أعرف فقد أفتى، لكن كل المصريين يعرفون، فإذا سألت أحدهم عن مكان تقصده حتى لو كان يسمع به لأول مرة فلا بد أن يصف لك مكانه، ولسان حاله وهو يودعك يقول: «مع السلامة يابو عمة مايلة» كما فعل أراجوز صلاح جاهين في أوبريت الليلة الكبيرة في الريفي الذي سأله عن مكان يقصده فأرشده إلى سكة اللي يروح ما يرجعش!!

والمترو أيضًا أفضل مكان للتسول، جميع المتسولات منتقبات، وكلهن يروين هذه القصة: «زوجي توفي وترك لي خمسة أبناء، واحدة منهم مصابة بالفشل الكلوي، وتغسل ثلاثة أيام في الأسبوع، واليوم موعد الغسيل الذي يتكلف أربع مئة جنيه وليس معي سوى مئة وعشرين جنيهًا.. ومن لا يصدقني يتصل بقسم الغسيل الكلوي بمستشفى الدمرداش» هو قسم مجاني بالمناسبة!! راقبتُ إحداهن في عربة واحدة من القطار الذي يضم عشر عربات، فاكتشفت أنها حصلت على أكثر من مئة جنيه، اضربْها في عشرة ولا تتعجب إنه عبط المصريين. في المترو حركة بيع وشراء رهيبة من كروت المحمول إلى مشابك الغسيل إلى الملابس الداخلية، ويا ويلك لو قلت لأحدهم: إن المترو ليس مكانًا للبيع والشراء، سيقول لك أحد الملتحين: «ربنا لا يجعلك من قاطعي الأرزاق، دعه يسترزق».

أحب المترو وركوبه، والدقائق التي أقضيها بداخله تمنحني طاقة وحيوية وتجعلني قريبًا من أمزجة الناس وتصرفاتهم واهتماماتهم.. وهم في الأول والآخر أهلي وناسي، ثم من أدراك أنني لا أكون في حلوان وأخبر محدثي على الهاتف أنني على أبواب المرج وأغلق معه قائلًا: لا إله إلا الله محمد رسول الله.. عظيمة يا مصر!!

شاعر مصري.

إيناس العباس: كاميرا تراقب التفاصيل

المفارقة أنني لم أستعمل المترو في تونس، إنما في سيؤول وفي دبي، وإن كانت متروهات سيؤول في معظمها تمر عبر الأنفاق، فهي عالم كامل من المفاجآت المبنجة للعين والأفكار التي استعملتها لاحقًا في كتابي حكايات شهرزاد الكورية. عالم تحتي كامل من المحلات والمطاعم كشف نفسه مع لمسات حميمية، ستجد محلًّا يبيع أحدث الأفلام أو أدوات الصيد وبجانبه محل ملابس وبجانبهما محل للعناية بأظافر ووجوه الركاب وعاداتهم الصباحية التي تختلف عن المسائية، من يقرأ في الصباح الجرائد ليس نفسه من يقرأ الكتب جالسًا أو واقفًا… الصبايا الضاحكات صباحًا في مهرجان من الألوان والفساتين القصيرة والأحذية العالية بطريقة لافتة هن اللائي يشاهدن الدراما الكورية مساءً متعبات… وأنا هناك مثل كاميرا تراقب التفاصيل وتحتويها. في دبي، المترو يعبر من فوق الطرقات، يعبر المدينة في جولة شبه كاملة سياحيًّا، لو استعملتها من أول إلى آخر محطة، ومن النادر أن تلتقي طلبة به مثلًا، أو ربما كان الخط الذي استعملته لأشهر لا يمر ناحية الجامعات، لست متأكدة… ذاكرتي البصرية تحتشد بتفاصيل الممرضات والعاملات في المطار ومشرفات الطيران. أما مترو القاهرة فقد رأيته عام 2006م أو 2007م، أذكر أنني انبهرت بالبنية التحتية للمترو والعربات نفسها، أذكر أنني للحظة شعرت كأنني في فلم أميركي، حيث بدت المحطة ضخمة ومليئة بالاحتمالات والحكايات.

شاعرة وكاتبة تونسية.

عزة حسين: شبكة صيدٍ طائشة

شرق قريتنا، التي لم تعرف من الآلات سوى ماكينة الطحين، كان هدير القطار، على الشريط الحدودي الموازي للطريق لكل شيء، آسرًا. أيام كنا لا نلتفت لدرجة العربة العملاقة، ولا لفخامة المقاعد، كان هذا الكبير لا يعني سوى الرحلة. الأحلام المدونة على أغلفة الكراسات، وجدران البيت الأسمنتي، كانت تعرف أن نقطة البداية، لا بد أن تتم بمباركته.

كل الوداعات لا تكتمل سوى بمحاذاة قطار، واللقاءات أتخيلها دائمًا مصادفةً سعيدةً على مقعدين متجاورين في قطار. أما الأسى فتكفيه جملة: «كل القطارات تحملني إليك ولا وصول». كمغتربة؛ احتفظت بهذا الوصف، منذ التحقت بالمدرسة التي تبعد من قريتنا نحو 10 دقائق بالسيارة، قبل أن تمتد يد، طالما انتظرتها، لتغرسني في قلب العاصمة، كان الطريق بيتي. ففي السابعة عشرة، وأنا أودع عائلتي، حاملةً أكبر حقيبة ملابس عرفتها في تلك السن، أدركت أنني لن أعود لبيتنا تمامًا، لكن روحي لم تصمد كثيرًا في المرفأ الجديد، وظل قلبي على الدوام عالقًا في الطريق- القطار. في القطار كان كل شيء جديدًا، بلا خبرةٍ سوى بعض حكايات مغتربي العائلة، ومشاهد أفلام السينما: الفقر، والبرد، والمزاح بدرجاته، والبضائع، والبشر، والمعممون، والأفندية، والطلبة، وبائعات الجبن، والخبز، وبائعو «كل شيءٍ بجنيه»، كانوا رفاق طريق؛ لم أعد أتفاداهم أو أخشاهم. وعندما صرت مدينيةً، واحدةً من أرقام وأصفار العاصمة، كان المترو بديل القطار، شبيهه الأقرب، والرفاق تغيروا إلى حد ما، وبخاصة عندما لُذْتُ ككل البنات بعربة السيدات؛ لتفادي كل المخاطر! في البداية لم أرتح للمترو؛ لكونه يسرق مني الطريق، بمساراته المظلمة، وجدرانه التي لا تشبه بأي حال الماء والنخيل والمدن التي تتآكل، بمحاذاة القطارات التي جاءت بي إلى هنا، لكنها العادة تطغى على كل شيء في العاصمة.

خبرت في المترو إلى أي مدى تتشابه النساء، كيف يمكن أن تتحاور غريبتان بالنظر، وكيف تتوحد الحياة والأمنيات العابرة في برهة من الزمن، في مقعد صغير ونافذة، يمكن أن ترسم الأنفاس عبرها قلبًا واهنًا وحروفًا مرتبكة. طالما اعتقدت أن ركاب المترو مختلفون عن غيرهم في أي وسيلة انتقال أخرى، تلك الرحلة الخطية في الزمن والمسافة، المكرورة بنفس تفاصيلها، وبأقل احتمالات المفاجأة، تُكسِب روادَها ملامحَ خاصةً، تحكم قراراتهم، وانحيازاتهم وأفكارهم عن المغامرة، وعن مفارقة المسار، وعن هيئة الطمأنينة. المترو في مدن الزحام، ليس طريقًا ولا عربة، إنه مدينةً أخرى، وزمن موازٍ، طالما استفقت لنفسي في المحطة المنشودة، دون أن أتذكر شيئًا عن تفاصيل الرحلة، كثيرًا ما تشابهت عليّ محطات الوصول، وكثيرًا ما أضعتها عمدًا.

المترو حيث أنا هناك الآن وفي بيتي أيضًا، وحيث عشرات الاحتمالات والمصادفات والوجوه المفقودة، وسيلة مناسبة جدًّا للعواصم والمدن الكبرى، كأنه شبكة صيدٍ طافية أفلتتها يد الصياد، تمتلئ وتفرغ يوميًّا، دون أن تعرف الأسماك أو الشبكة أيهما يسحب الآخر. وبالنسبة إلي نادرًا ما كان المترو مكانًا للكتابة، لكنه احتشاد يومي لها، هو ربما كهف التأمل، برهة الصمت وسط الضجيج اليومي، ولوحة الحياة، بتجلياتها الساكنة والمهرولة. في بعض الأحيان، وربما يعود ذلك لطبيعة الشعر، كتبت بعض القصائد في المترو، لكنها كانت قصيرة نسبيًّا، وغائمة.

شاعرة مصرية.

محمد أحمد بنيس: مهاجرون يتمايلون وقوفًا داخل مقصورات تهدر تحت الأنفاق

لم يعد مترو الأنفاق مجرد وسيلة نقل فرضها تطور المجتمعات المعاصرة وتزايد إقبال الناس على وسائل النقل العمومية، في ظل اتساع المدن والحواضر وتمددها المرعب في عدد من بلدان العالم. أصبح المترو أحد التجليات اليومية التي تعكس غربة الأفراد داخل هذه المجتمعات التي جعلت الحداثة التقنية والاقتصادية أفقًا لتطلعاتها، غربة متعددة الأوجه أمام سلطة هذه الحداثة. تقدم المحطات والأنفاق والسلالم وشبابيك التذاكر الإلكترونية صورة لسلطة المترو في مدن كبرى تعيش تحت رحمة ازدحام يومي غير محتمل، يغذيه سيل السيارات والحافلات الذي لا يتوقف. مئات الرجال والنساء يتدفقون على الأنفاق، تسبقهم أنفاسهم المتقطعة، وسحنات وجوههم، وصراعهم مع الدقائق التي تفصل بين وصول القطارات، يشتركون في ذات الملامح التي لا روح فيها تقريبًا. محطات متناثرة على طول المدن الكبرى لتربط بين أطرافها، تنتظر الصباح الباكر لتبدأ في ابتلاع هذه الأمواج البشرية التي تتلاحق حتى منتصف الليل.

في مدريد وبرشلونة وإسطنبول وبوخارست وباريس والقاهرة ودبي وبوينوس آيرس وليما، ذاتها القطارات تركض مجهدة داخل أنفاق مظلمة تحت الأرض، وجوه شاردة تنتظر محطات بعينها تتشابه في كل شيء إلا في أسمائها. تترك تفاصيلُ المكان بصمتها على المترو، فتصبح له هوية محلية، أتذكر مثلًا صورة الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار في إحدى محطات بوينوس آيرس، كان فيها نوع من التقدير لهذا الكاتب الكبير، ربما في موقع لا يتوقعه عابر مثلي. في دُبي، يبدو المترو جزءًا من تلك «التسوية» بين التقليد والحداثة التي تضمرها مشاريع البنية التحتية الضخمة في بلدان الخليج العربي. في القاهرة، تكاد لا تحس بأن المترو يخفف قليلًا عن المدينة العملاقة من ازدحام شوارعها بالسيارات والحافلات وملايين الناس. في باريس ومدريد وبرشلونة، يجعلك المترو تتعثر بوجوه وسحنات المهاجرين من مختلف الأعراق والثقافات، عرب وأفارقة وأوربيون وآسيويون وغيرهم يتمايلون وقوفًا داخل مقصورات تهدر تحت الأنفاق، ينتظرون متى يفرغهم في هذه المحطة أو تلك.

من ناحية أخرى، تعكس شبكات المترو نوعًا من الوعي العمراني والحضري في بلد معين. مثل هذه المشاريع تمثل استجابة في أوانها لمشكلة النقل المتفاقمة في المدن الكبرى، بمعنى أنه في كثير من الأحيان، ومع اتساع وتمدد هذه المدن، في البلدان النامية على وجه الخصوص، يصبح إحداث شبكة للمترو شبه مستحيل بعدما تتزايد مدن الصفيح والسكن العشوائي وأحزمة الفقر، هذا فضلًا عن الكلفة المالية الكبيرة لمثل هذه المشروعات.

شاعر مغربي.
الجوائز الأدبية في العالم العربي.. شراء ولاءات أم بحث عن فعل ثقافي حقيقي؟

الجوائز الأدبية في العالم العربي.. شراء ولاءات أم بحث عن فعل ثقافي حقيقي؟

لم تكن الثقافة العربية تعرف غير عدد محدود من الجوائز التي يتنافس عليها المبدعون العرب، فلكل دولة جوائزها القومية التي تمنحها لمبدعيها، ولا يوجد غير جائزتي العويس والشيخ زايد اللتين كانتا في عداد مكافأة نهاية الخدمة، إذ تمنح للشيوخ على مشروعاتهم الثقافية التي استنفدت أعمارهم، سواء في الشعر أو الرواية أو الفكر بشكل عام، حتى إن «العويس» كانت تسمى نوبل العرب، أما جائزة الملك فيصل العالمية فكان الكثيرون يعدونها جائزة التيار المحافظ، أما «زايد» فقد كان الرهان عليها قليلًا، ونادرًا ما كانت التغطيات الإعلامية توفر مادة جيدة عن الفائز بها.

كانت جائزة نجيب محفوظ التي تمنح مرة لفائز مصري وأخرى لفائز عربي هي أولى الجوائز التي خرجت عن الإقليمية، فقد قررت ترجمة النص الفائز إلى اللغة الإنجليزية، ومنح الفائز مبلغًا رمزيًّا قيمته ألف دولار تخصم من عائد مبيعات أعمال نجيب محفوظ المترجمة، وفي يوم ميلاد صاحب نوبل تقيم الجامعة الأميركية حفلًا ومؤتمرًا صحفيًّا بحضور أمانة الجائزة وأعضاء تحكيمها وكبار المثقفين المصريين ليتم الإعلان عن اسم الفائز ومنحه ميدالية نجيب محفوظ. ظلت هذه الجائزة رغم صغر قيمتها المالية هي الجائزة الأبرز والأهم حتى ظهرت جائزة البوكر في نسختها العربية، لتخطف الأضواء والمبدعين أنفسهم، ففي حفل إعلامي كبير تتم تسمية الفائز ومنحه ستين ألف دولار، ويمنح إلى جانبه كل من وصلوا إلى القائمة القصيرة عشرة آلاف دولار. هكذا عرف العالم العربي القائمة الطويلة والقائمة القصيرة، وأخذ الجميع يترقب إعلان القوائم واسم الفائز.

من جانبها حاولت القاهرة البقاء في المنافسة كمركز ثقافي كبير وقديم عبر منحها ثلاث جوائز تخص ثلاثة ملتقيات دولية للشعر والرواية والقصة القصيرة، لكن جوائزها ظلت محكومة بأدائها الحكومي ورغبتها في مراعاة أبعاد سياسية وجغرافية، ما أفقدها البريق المطلوب للجوائز الكبرى. ثم ظهرت جائزة كتارا عبر سخاء غير مسبوق لتغطي على الجميع، فلأول مرة في تاريخ الجوائز الثقافية في العالم العربي نجد عملًا روائيًّا يفوز بنحو ربع مليون دولار، إضافة إلى ترجمته وتحويله إلى عمل سينمائي. الملحوظ أن كل هذه الجوائز للنثر وليست للشعر، بما فيها جائزة الملتقى التي خصصتها الجامعة الأميركية بالكويت للقصة القصيرة. والملحوظ أيضًا أن التنافس بين الجوائز أصبح على مستوى العواصم والمدن، فالعويس والشيخ زايد والبوكر من أبو ظبي، ونجيب محفوظ وجوائز ملتقيات الشعر والرواية من القاهرة، وكتارا من الدوحة، والملك فيصل من الرياض، والملتقى من الكويت، والطيب صالح من الخرطوم.

والمدهش أن دول الخليج أصبحت قبلة المبدعين العرب عبر ما أطلقته من جوائز كبرى ماليًّا وإعلاميًّا، وخرجت من المنافسة العديد من المراكز الثقافية القديمة، كدمشق وبغداد والرباط وتونس، على حين ما زالت القاهرة تصارع للبقاء في مكانها عبر آلياتها القديمة. ويتضح أنه منذ بداية الألفية لم تعد الجوائز تمنح بأسماء أمراء ولا شيوخ، فقد حرصت كل جائزة على أن يكون لها مجلس أمناء ولجان تحكيم مستقلة، كما حرصت على عقد مؤتمر صحفي تحضره قنوات الإعلام ومشاهير الثقافة والفن لتدشين اسم الفائز أمامهم جميعًا، وعلى الرغم من أن جوائز مثل البوكر وكتارا تقوم بترجمة الأعمال الفائزة فإن أحدًا لا يهتم ولا يشعر بمردود لهذه الترجمات.

في ظل هذا السياق كان لا بد لـ«الفيصل» أن تتوقف أمام ظاهرة الجوائز الثقافية العربية لنعرف ما لها وما عليها، وكيف تعامل النقاد والمبدعون معها، وكيف تركت آثارها بالسلب أو الإيجاب على إبداعنا العربي، وهل الأموال التي تغدق عليها من أجل شراء الولاءات السياسية للمثقف العربي، أم رغبة في خلق فعل ثقافي حقيقي؟ أسئلة طرحتها «الفيصل» على عدد من أدباء وكتاب من مختلف البلدان العربية، سواء ممن فازوا بالجوائز أو تنافسوا ولم يحصلوا على شيء، أو شاركوا في تحكيم بعضها، أو اكتفوا بالنقد والتعليق، سواء من الشباب أو الشيوخ، بقصد تعرف رؤية كل منهم وكيف يمكن الدفع بعجلة التطوير إلى الأمام.

أمير تاج السر: كثير من الأعمال المقدمة للجوائز نيئة

%d8%a7%d9%94%d9%85%d9%8a%d8%b1-%d8%aa%d8%a7%d8%ac-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%b1كما هو متوقع، فإن من المفترض أن يبدع الناس في كل المجالات الفنية والإنسانية، من دون أن ينتظروا جوائز أو تكريمًا معينًا من أي جهة، وقد كان هذا التقليد، أي الإبداع بلا تطلعات مادية، سائدًا في الوطن العربي حتى عهد قريب، إذ فجأة ظهرت الجوائز الأدبية، ظهرت في البداية على استحياء ثم تكاثر عددها، وهكذا أصبح للكتاب أمل جديد في الاعتماد على كتابتهم، حين تصيب جائزة ما، كتعويض بالنسبة للكتاب الكبار، وكبداية تساعد على المضي في سكة الكتابة، بالنسبة للمبتدئين.

وفي المقابل، سلبت كثيرًا من القناعة، وأوجدت لهفة جديدة لدى كل من يكتب، ومن يحاول أن يكتب، في الركض للحصول على جائزة، ولذلك قد تجد كثيرًا من الأعمال المقدمة للجوائز الأدبية، حتى من كتاب كبار، نيئة، وبحاجة لتنضج، لكن نُشرت لتركض في سباق الجائزة. أيضًا نتجت كثير من الغيرة التي لم تكن موجودة حين كان الأدب مجرد تميز طفيف، لا عائد ماديًّا له. بالنسبة للقيمة المادية للجوائز الأدبية، فأنا لا أراها مبالغًا فيها، وهناك جوائز لأنشطة كثيرة في الرياضة، والغناء، والموسيقا أعلى كثيرًا من أعلى قيمة جائزة لدينا، وما دامت هناك مؤسسات تقوم بالتمويل فلماذا نقول بأن القيمة مبالغ فيها؟ نأتي لمسألة الأعمال التي قد تفوز في تلك الجوائز، وهي مسألة معقدة خاصة للذي يعمل محكمًا فيها. لذلك لن نقول بأن أي عمل حصل على جائزة، هو بالضرورة عمل جيد وينبغي اتخاذه مرجعًا، وأي عمل طرد من الجائزة هو بالضرورة عمل سيئ وينبغي الحطّ من قدره. ودائمًا عندي رأي أردده وهو أن الجوائز مكسب في النهاية، ينبغي الحفاظ عليه، مهما كانت السلبيات.

يحيى يخلف: الجائزة توفر للمبدع حياة كريمة

yahya-2الجوائز نظام معمول به في الدول والمؤسسات الأهلية. الجوائز تكريم للمبدعين في مجالات الآداب والفنون والعلوم. الدول ممثلة بوزارات الثقافة تمنح جوائز لأدباء وفنانين عن مجمل أعمالهم أو مسيرتهم اعترافًا بجهودهم وعطائهم. كما تمنح لأدباء وفنانين شباب جوائز تشجيعية لتحفيزهم وتشجيعهم. يحدث ذلك في دول عربية وفي دول العالم. الجوائز العربية الأكثر أهمية هي الجوائز التي تمنحها مؤسسات غير حكومية أو مستقلة ممولة من حكومات أو رجال أعمال مثل جوائز البوكر، وكتارا، والشيخ زايد، والعويس، والملك فيصل، ومؤسسه الفكر العربي… إلخ، وهي جوائز تستحق التقدير وتلعب دورًا في تكريم القامات العالية، وتحفيز إبداع الشباب. الجوائز بشكل عام تفيد ولا تضر. إنها تكريم وتحفيز وقيمتها المادية توفر للمبدع حياة كريمة. لنتذكر الشعر والشعراء في تراثنا الذين كانوا يضطرون للتكسب في بلاط الحكام على حساب كرامتهم. التكسب قبيح لكن الجوائز مختلفة. للجوائز لجان تحكيم ونظم داخلية ومعايير لا تمنح إلا إذا توافرت لها عناصر فنية. وبالتالي تحفظ للمبدع كرامته. صحيح أننا أحيانًا نختلف مع لجان التحكيم؛ إما لأن بعض أعضائها ليسوا على مستوى من ناحية القدرات أو الكفاءة، لكن معظم لجان التحكيم يتوافر بها حد معقول من النزاهة. باختصار يستحق المبدع التكريم ويستحق أن يمنح جوائز كما هو معمول به في كل دول العالم.

هيثم حسين: البيئة الثقافية الفاسدة لا تنتج إلا جوائز فاسدة

%d9%86%d8%a7%d8%b5%d8%b1-%d8%b9%d8%b1%d8%a7%d9%82حسن النيّة يفترض التعاطي مع الجوائز لكونها مخصّصة للاحتفاء بالفنون التي تقوم بتتويج المبدعين فيها، وتركيز الاهتمام على أعمالهم وعليهم، وتسليط الأضواء على مجالاتهم وتسويقهم وتقديمهم لشرائح عريضة من المتلقين، لكن كما يقال: إنّ سوء الظنّ من حسن الفطن، فإنّ التعاطي لا يخلو دومًا من تأويلات وبحث عن مقاصد خفيّة تكمن في مضمون اختيار الفائزين وآليات التتويج المتّبعة التي لا تنجو من انتقادات تصل حدّ الاتّهامات بالفساد والإفساد. لا يمكن الإغفال عن أنّ الجوائز المخصّصة للفنون الإبداعيّة (شعر، رواية، قصة، رسم..) في العالم العربيّ على قلّتها تدار في مناخ فاسد، ولا أقصد إدارة أيّة جائزة بعينها، بقدر ما أشير إلى البيئة الثقافيّة الفاسدة التي تنخر بنية المؤسّسات الثقافيّة العربيّة، البيئة التي هي جزء من بيئة أشمل تنتعش فسادًا وإفسادًا، ذلك أنّ هناك من كرّس نفسه للشلليّة والتنفيع، يكون إمّا هنا في لجنة تحكيم أو هناك في لائحة قصيرة أو طويلة، يمنح هنا تتويجًا أو تصديرًا ليتسلم من هناك المقابل المطلوب. وقد لا يخلو التتويج من إقحام اسم ما على سبيل التنويع وتبديد الشكوك والتأكيد على الاستقلالية والنزاهة والبراءة من التنفيعات والفساد. الفائزون بالجوائز يسبغون عليها نزاهة مطلقة، أمّا بعض المرشحين لها ممّن لم يحالفهم الحظّ فيبالغون في اتّهامهم لها بالإقصاء والتهميش وتصدير أسماء بعينها. بالطبع لا توجد وثائق تدين الفاسدين في الجوائز، لكن لدى المتابعين ما يمكن توصيفه بحدس بما بين السطور.

ناصر عراق: لم تسلم جائزة من غمز

%d9%87%d9%8a%d8%ab%d9%85-%d8%ad%d8%b3%d9%8a%d9%86حسب علمي لم تسلم جائزة من الغمز واللمز من الذين لم يحالفهم الحظ وينالوا فواكهها، حتى نجيب محفوظ نفسه تلقى هجومًا شرسًا من يوسف إدريس وآخرين واتهموه بأن مهادنته وتأييده للسلام مع إسرائيل هي التي فرشت له طريق الورد إلى قطف نوبل… ويبدو لي أن غضب الخاسرين يتصاعد كلما كانت قيمة الجائزة المالية مرتفعة. بسبب الوضع الاقتصادي المأزوم الذي يعيش في كنفه أغلب المبدعين العرب بكل أسف. فالجوائز السخية توفر قدرًا من الأمان المالي لمن يظفر بها. فإذا خاصمتهم الجائزة هذه الدورة صبوا عليها اللعنات واتهموها بعدم النزاهة. لكن سرعان ما يهرعون إلى تقديم رواياتهم للمشاركة في الدورة المقبلة وهكذا. وأنا أتفهم هذا الأمر جيدًا. وأتمنى لجميع زملائي من الروائيين والكتاب الفوز بجوائز مهمة. أما هل كانت هناك أعمال تستحق الفوز فلا أستطيع التأكيد. لأَنِّي لا أعرف الروايات التي تقدمت للمشاركة، ولكني موقن أن المبدع العربي يتمتع بإمكانيات مدهشة تجعله قادرًا على كتابة رواية مهمة وجديرة بثقة القارئ والناقد. أعتقد أن آليات جائزتَيْ كتارا والبوكر معقولة جدًّا وفقًا لما أعلنته إدارة كل جائزة عن طريقة التحكيم وآلياته. وحبّذا لو أُصدِرت ورقة تشرح حيثيات الفوز موقَّعة من لجنة التحكيم. هذا باختصار فيما أعتقد بشأن الجوائز.

مكاوي سعيد: مرحى بالجوائز وإن جانبها الصواب

makkawi2في اعتقادي أن الجوائز التي تمنح لأشكال الإبداع الثقافي كافة لها فوائد ومزايا جمة مهما اتفق أو اختلف بعض المهتمين عليها، وبخاصة في واقعنا العربي النامي، فالمبدعون يعانون تردِّي الرواتب وقلة ساعات الفراغ التي يستقطعون منها بصعوبة وقتًا يخصصونه للإبداع، إضافة إلى رحلة البحث المضنية عن ناشر يتحمس لإبداعهم ويوافق على نشره، كما أنهم لا يحصلون على مقابل لإبداعهم إلا نسبة قليلة يمنحهم الناشر مقابلها بعض النسخ. هذه الجوائز سواء ممنوحة من دول أو مؤسسات خاصة أو رجال أعمال، فهي أمر حسن جدًّا يدافع عن وجوه الإبداع ضد خطر التقزم والاندثار. الجوائز في غاية الأهمية لدفع عملية الإبداع ومساعدة الشباب الموهوب في تكملة طريقه الإبداعي، وأيضًا مساعدتهم في اقتحام مجالات باتت مهجورة؛ لأن أغلب الجوائز صارت تعطى للترجمات والأعمال الروائية (وهذا جانب سلبي من الجوائز؛ لأنه يدفع بالمتبارين لاقتحام مجالات غير موهوبين فيها. كبعض الشعراء الذين يتجهون للرواية من أجل القيمة المالية) وقد انتبه بعض المهتمين لذلك فظهرت بعض الجوائز التي تمنح للقصة القصيرة، وأتمنى أن تكثر هذه الجوائز بالنسبة للقصة والشعر والكتابة المسرحية حتى نضخ دماء جديدة في هذه الشرايين الإبداعية. وبعض الذين يهاجمون هذه الجوائز (وبخاصة الكبرى منها) يتقدم لها سنويًّا ويثير اللغط نفسه بغية الضغط على لجان التحكيم كي تمنحهم الجائزة في العام التالي. وبعضهم قد يكون محقًّا لأن عدد المحكمين المعلن عنهم لا يكفي لفحص كل الأعمال المقدمة. وهذا جانب سلبي أيضًا في الجوائز يجب معالجته. المهم في هذا الصراع في رأيي أن من ارتضى أن يدخل إلى هذه السباقات لا بد أن يرضخ لنتائجها.

هويدا صالح: معيارية التحكيم في الجوائز العربية


%d9%87%d9%88%d9%8a%d8%af%d8%a7-%d8%b5%d8%a7%d9%84%d8%adكلما قرأت نصًّا يحصل على جائزة عربية وأجده أقل فنيًّا وجماليًّا من أن يصل إلى مستوى جائزة كبرى كنت أتساءل عن معيارية التحكيم في الجوائز العربية، ثم جاءت جائزة نوبل التي منحت جائزتها لمغنٍّ، عاودني التساؤل أليس ثمة معيارية أدبية يتمثلها مانحو الجوائز وهم يمنحونها؟

ومن خلال تجربتي في تحكيم جوائز مصرية وعربية أتحدث عن طريقتي مع النص الذي يجب تحكيمه، أنا شخصيًّا عند قراءة نص ما من أجل تحكيمه، وتبيان مدى استحقاقه لجائزة أم لا، أضع لنفسي معيارين أساسيين لا يمكن أن أحيد عنهما: المعيار الأول هو الخطاب الجمالي ومدى تحقق الأدبية والجمالية في النص، والمعيار الثاني هو الخطاب الثقافي الذي يتضمنه النص، ومدى قبول هذا الخطاب من منطلق وعيي الفكري والأيديولوجي، فإن تحقق للنص مستوى أدبي يرضي قناعاتي الأدبية ومقولاتي النقدية لكنه يحمل خطابًا ثقافيًّا لا يليق بما نتمنى أن نجده في مجتمعنا من خطاب يكرس لقيم المدنية والمواطنة، ويتوافق مع منظومة القيم الإنسانية العالمية أرفض هذا النص فورًا.

شريف صالح: نوبل نفسها لم يحصل عليها مبدعون كبار

2%d8%b4%d8%b1%d9%8a%d9%81-%d8%b5%d8%a7%d9%84%d8%adمن المؤكد أن أي أديب يفوز بجائزة مشفوعة بحفنة من الدولارات لن يشعر أن ثمة ضررًا، بل سيكون سعيدًا للغاية، وسيتلقى التهاني بأريحية وسيظل يشيد بنزاهة المانحين. حتى الجوائز التي «على قد حالها» يتكالب عليها الكثيرون؛ لتأكيد جدارتهم واستكمال وجاهتهم الاجتماعية بتعليق شهادات التقدير على الفيسبوك. لا أقول ذلك زاعمًا أنني لا أشارك في الجوائز. إنني بالفعل أشارك وأدرك أن «الكاتب العربي» في وضع مادي بالغ البؤس. فالجائزة هي تعويض مادي ومعنوي من الصعب الاستغناء عنه. لكن إذا أعدنا صياغة السؤال «هل تفيد الجائزة الأدب نفسه؟» الإجابة: ليس بالضرورة. بل ربما تضرّ أكثر مما تفيد. إذا عممت نموذجًا متوسطًا على حساب النموذج الأكثر أصالة. ولكي تفيد جائزة الأدب لا بد أن تتحلى بمصداقية وشفافية عالية جدًّا. وهو ما لا يتوافر في معظم الجوائز العربية، والنتائج والكواليس معروفة للجميع.

إعتدال عثمان: الجوائز إما تتويج لمشروع أو تبشير بموهبة

%d8%a7%d9%95%d8%b9%d8%aa%d8%af%d8%a7%d9%84-%d8%b9%d8%ab%d9%85%d8%a7%d9%86لا شك أن تعدد الجوائز الثقافية في الساحة العربية مؤشر دالّ على حراك ثقافي يسهم في توجيه الثقافة، وتزويد المجتمع بالزاد الفكري والإبداعي المطلوب. إننا نستطيع أن نحصي أكثر من عشر جوائز لمؤسسات وهيئات مانحة، اكتسب معظمها شهرة واسعة ومصداقية عالية؛ لكونها تجمع بين التكريم المادي والمعنوي لأسماء لهم إسهاماتهم البارزة في الإضافة إلى مجالات تخصصهم، لذلك فإن فوزهم يعدّ تتويجًا لرحلتهم، وحفزًا لهم على مزيد من الإبداع والتطوير والتأثير في الساحة الثقافية. كذلك تُسلِّط الجوائز الضوء على أصحاب مواهب مغمورة، يمنحها الفوز بالجائزة فرصة الحضور والاعتراف بمواهبهم وتقديرها حق قدرها، وهذا مكسب كبير يضاف إلى تشجيع المبدعين الجدد لتطوير أدواتهم، والانطلاق إلى آفاق واسعة، تتيح لهم الدخول بكفاءة في حلبة المنافسة.

ولكن الملحوظ أيضًا تواري بعض الأسماء الفائزة بعد انطفاء أنوار الاحتفال. ترجع بعض أسباب هذه الظاهرة السلبية إلى أن الجهة المانحة غالبًا ما تنصرف عن مواصلة رعاية المشروع الأدبي أو الفكري الفائز، وتهيئة المجال لنوع من الاستمرارية والمتابعة التي تفتح آفاقًا أرحب في الواقع الثقافي عن طريق عقد المؤتمرات، ونشر الدراسات حول الأعمال الفائزة، وتنظيم ندوات ومناقشات مفتوحة على نطاق واسع، تحقق تواصل الأجيال، وجذب شباب الأدباء والمبدعين، إلى جانب الجمهور العادي من مختلف الأعمار؛ لذلك يظل هذا الحراك الثقافي محدود الأثر في الواقع الفعلي، كما لا يحدث التراكم المطلوب لنقلة نوعية على مستوى زيادة أعداد القراء، وبالتالي التفاعل المجتمعي المأمول، فيما تبقى الجوائز مناسبات احتفائية مرموقة، لكنها معزولة في إطار موسمي.

من السلبيات التي لا بد من تداركها افتقاد تخطيط منظم على مستوى العالم العربي، ينظر إلى الأعمال الفائزة بوصفها منتجًا حضاريًّا عربيًّا يقتضي نوعًا من التنسيق بين الجهات المانحة لتدارس ما تكشف عنه الأعمال الفائزة من توجهات ومسارات واستشرافات فكرية وإبداعية، وارتباطها بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة. ومن الضروري أن يمتد هذا التنسيق مع دور النشر لتسهيل زيادة مراكز التوزيع على نطاق أكثر اتساعًا وتنظيمًا. أيضًا ينبغي ألا ننسى دور الإعلام الثقافي في التعريف بالأعمال الفائزة، وتقريبها للجمهور العادي، وعدم اقتصار هذا الدور على إبراز الحدث في تغطيات صحفية سريعة، تهتم بالإخبار والاحتفاء أكثر من اهتمامها بالقيمة الأدبية الحقيقية للأعمال الفائزة.

أحمد‭ ‬المديني‭:‬ فقر‭ ‬المبدعين‭ ‬يدفعهم‭ ‬للتهافت‭ ‬على‭ ‬الجوائز

%d8%a7%d9%94%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%af%d9%8a%d9%86%d9%8aعلى رغم تكرار الحديث عن قضية الجوائز في حقل الثقافة والإبداع العربيين في السنوات الأخيرة، فإنه حديث يعبر عن حاجة فعلية يتبادلها المانحون والفائزون والناشرون، أعني السوق. فالمانحون، أغلبهم اليوم من بلدان الخليج، لما يتمتعون به من ريع مالي، اهتدوا إلى هذا السبيل، بين سُبُل أخرى، للفت نظر وترويج صيت ثقافي لبلدان ناشئة، لا بأس، وللإحسان، على غرار سلوك معهود في حواضر وأزمنة، لا بأس كذلك.

والفائزون، بين روائيين وشعراء وفنانين، أغلبهم من المعوزين، ممن وجدوا ضالتهم في هذا الأعطيات والإكراميات، فتهافتوا عليها إما لسدِّ العوَز أو لنيل شهرة يغفلون أن رأسمالها هو النصوص قبل صكوك المانحين، فيختلط الحابل بالنابل، وتختل المقاييس، وقد اختلَّت.

وأما الناشرون فهم أكبر الكاسبين، يجنون من البضاعة الكثير، ويروِّجون ويزايدون بالرخيص والنفيس، على حد سواء، سيكبر في أعينهم أردأ كاتب غدًا، شأن القراء تقريبًا؛ لأن البَرَكة حلّت به، وسيباع، ومنهم من يتطاوسون كأنهم في بورصة، سيرشحون هذا العمل لوليمة الجوائز أو هم لا يفعلون، والكتاب والمفكرون الجياع كُثر عليهم يتهافتون، وبأعتابهم يتمسّحون، وفوق هذا بعضهم لكُتبهم مموِّلون، حتى إنه لا ثقافة عربية الآن، ولا إبداع، إن لم تتوَّج بجائزة! حسن. ليُعلم، بعد هذا، أن ما العيب في الجائزة، ولا للغط أن يقوم عنها لذاتها مجردة. إنه حول إطارها وشروطها وسياقها… أهلًا بالجوائز، شريطة أن تكون لغرض نبيل، ولها مُحكِّمون أكْفاء، ويقتحمها النبغاء، لا سقط المتاع من كل قول، كأغلب روايات هذا الزمن الأعور، وعلى الله فليتوكل المتوكلون.

شوقي‭ ‬عبدالأمير‭:‬ الجوائز‭ ‬أساءت‭ ‬للرواية‭ ‬وأسهمت‭ ‬في‭ ‬ابتذالها

%d8%b4%d9%88%d9%82%d9%8a-%d8%b9%d8%a8%d8%af%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%94%d9%85%d9%8a%d8%b1لقد أساءت الجوائز إساءة بالغة للرواية، وأسهمت في ابتذال قيمها؛ بسبب تحويلها إلى سوق رخيصة، ويكفي قراءة النصوص ومقارنتها مع الجوائز العالمية التي أعطيت لروائيين عرب كما حدث مؤخرًا في باريس بجائزة الغونكور للرواية، وهي أرقى الجوائز؛ إذ منحت ثلاثة من العرب هم: الطاهر بن جلون، وأمين معلوف، وأخيرًا هذا العام للمغربية ليلى سليماني، والمؤكد أنه لا يمكن رعاية الرواية الحديثة، إنما فقط محاولة شراء الروائيين، كمن يتسوق بضائعه في المولات…

ولا يمكن اعتبار أن القيمة المالية المرصودة للجائزة هي مال سياسي أكثر منه ثقافي، فالأمر يعتمد على طريقة التوظيف، لا على القيمة المالية مهما كانت مرتفعة، ومن ثم فأمر الجوائز يحتاج إلى ترفُّع وإيمان بدور الأدب والفكر، لا باستغلاله مباشرة. وعلى البلدان المانحة للجوائز الكبرى والمهمة أن تختار الأسماء في شكل حيادي، وتشكل لجنة تحكيم متوازنة، وتمنح الجائزة لمن يستحقها، حتى إن كان معارضًا لسياستها، عند ذلك يبدأ العمل الجدي والتأسيس الصحيح. الظاهرة في الجوائز العربية هو أن الفائز لا يذكر إلا ساعة الجائزة، ثم يختفي… لأنه حصل عليها بترتيب ما لا علاقة له بالدور والحضور، ظروف مالية لشراء الولاءات.

ثم إن هناك عملًا في الخطاب الإعلامي للجائزة، الجائزة ليست مكافأة مالية فقط، إنها خطاب إعلامي للعالم، هذا الجانب لا تفكِّر فيه الجوائز العربية كلها؛ لأنها تجهل مفردات وفلسفة الخطاب، كيف نوصل صوت الفائز واسمه إلى العالم؟ هل فكروا بهذا؟

كل الجوائز العربية تتهشم أمام صخرة الخطاب العالمي، هذا الجانب مهم جدًّا، ولم يشتغلوا عليه. يعملون حفل عشاء وخطبًا إنشائية ومجاملات ويطبعون كتبًا بورق «أملة»، يصرفون عليها آلاف الدولارات، وتبقى مكدسة في السراديب، ويعيدون الكرة كل عام من دون نقد ذاتي أو دراسة جدوى…، هدر أموال وجهل مع سبق الإصرار. وبالطبع يختلف فوز بوب ديلان عما يحدث في جوائزنا الثقافية في العالم العربي، ففوز بوب ديلان تطوير لنوبل؛ ذلك لأنها المرة الأولى التي تكِّرم فيها مغنيًا وهي جائزة أدبية… يمكنك المقارنة عندما تضع اسم بيكت إلى جانب ديلان لفهم القفزة التي حققتها نوبل، والرسالة من وراء ذلك موضوع يطول الحديث عنه بغض النظر عن قبولنا أو رفضنا له.

عزت القمحاوي: لجان التحكيم قد تنحرف بالجائزة وتجعلها عبئًا

ezzatالأصل في الجائزة الأدبية أنها تقدير من المجتمع لكاتب مجتهد. قد تنوب الحكومة عن المجتمع في تقديم هذه الجائزة، وقد تفعلها شركة أو يقدمها شخص يقدر الثقافة. المهم أنها نوع من التقدير، نوع من المديح الذي يرتدّ في جزء منه على الجهة المتبنية للجائزة. لكن لجان التحكيم قد تنحرف بالجائزة وتجعلها عبئًا على الأدب والكتابة، عندما تتخلى عن الاشتراطات الأدبية لصالح اشتراطات أخرى، سياسية كانت أو شخصية. هذا الانحراف يصيب العدالة في مقتل ويؤثر على الكتابة سلبًا؛ لأنه يغالط في ترتيب أقدار الأدباء. عندما نتأمل الساحة العربية حاليًّا نجد أنواعًا من الجوائز، قليلها ينتصر للأدب، والكثير منها ينتصر لقيم أخرى، مثل قيمة الاحتفالية مثلًا، وكأن أهم ما في الجائزة هي الإشارة إلى الجهة المانحة لا التنويه بالعمل الفائز وصاحبه. بعض الجوائز دأبت في الترويج للكتابة الخفيفة «الأكثر مبيعًا» وأصبح هذا مستقرًّا فيها. ولذلك، قد أخالفك، في أن بعض الجوائز تبدأ قوية ثم تضعف؛ فكل جائزة تقف من البداية في المكان الذي يريده لها مطلقها.

وإذا كانت لجان التحكيم تتغير في كل عام، فإن هذا التغيير بلا جدوى؛ لأن مجالس الأمناء أو مجالس إدارات الجوائز ثابتة. وهذه المجالس لا تصوّت على الأعمال، لكنها قد تختار لجنة التحكيم التي ستخرج بنتائج تُرضي المجلس ولا تحرجه مع مطلق الجائزة. يختارون من يرونهم أقرب فكريًّا منهم، أو المتمرسين في معرفة سقف الجائزة ومحظوراتها. وهناك الكثير من المحظورات في الدول العربية، ولا يمكن الاحتفاء بكتاب يخترق حدود الحرية المعروفة سلفًا، سواء المتعلقة بقيود السياسة أو بما يـسـمـى أعراف وتقاليد المجتمع والذوق العام.

بلا إستراتيجية ثقافية  العرب يتلمسون طريقهم في الظلام

بلا إستراتيجية ثقافية العرب يتلمسون طريقهم في الظلام

على الرغم من تأكيد وزراء الثقافة العرب أهمية التفكير الإستراتيجي، وتشديدهم في مؤتمرهم الذي يعقد سنويًّا في إحدى العواصم العربية، على وجود خطط إستراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى رفع مستوى الوعي لدى المجتمع، إلا أن المتأمل لواقع الثقافة العربية لا يكاد يلمس أي أثر لتفكير إستراتيجي، فهل فعلًا لدينا إستراتيجية ثقافية تنظم العمل الثقافي وتعطيه بعدًا مؤسسيًّا؟ أم أن العرب يفتقدون فعلًا التفكير الإستراتيجي؟… إذا كان الأمر كذلك فما الأسباب التي جعلتنا بلا خطط مدروسة بأهداف تعمل المؤسسات على تحقيقها في مراحل منتظمة، ثم كيف يمكن للثقافة العربية أن تقوم بدورها تجاه المجتمع، في ظل هذا الغياب؟

«الفيصل» لجأت إلى عدد من المثقفين العرب؛ لمعرفة إن كان لدينا إستراتيجية ثقافية حقيقية في بلدان العالم العربي أم لا، وإذا كانت موجودة فلماذا لا يتم تفعيلها؟

%d8%b4%d8%a7%d9%83%d8%b1-%d8%b9%d8%a8%d8%af%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%85%d9%8a%d8%af-2

شاكر عبدالحميد

في البدء أكد وزير الثقافة المصري الأسبق الدكتور شاكر عبدالحميد عدم وجود إستراتيجية ثقافية في بلدان العالم العربي، موضحًا أن غالبية الأنظمة العربية «تعدّ الثقافة شيئًا ثانويًّا مرتبطًا بالتسلية والترفيه، وليس تكوين الإنسان، أو أن للثقافة دورًا فعالًا في المكون الاقتصادي للدولة والبشر، ومن ثم فهذه الأنظمة تعدّ الثقافة كما يقولون: «فض مجالس»، والثقافة في نظر كثير من المسؤولين مجرد رقص وغناء، وفي بعض الأحيان شعر وقصة وفن تشكيلي».

ويلفت عبدالحميد إلى أن الثقافة «هي كل ما يخص حياة الإنسان، بدءًا من المأكل والمشرب وأدوات العمل وطريقة التفكير وصولًا إلى الآداب والفنون والقيم والمفاهيم، وبالتالي فأي إستراتيجية عليها أن تضع كل هذه الحسابات في مخيلتها، لكن الواقع يخبرنا بنقيض ذلك، ومن ثم فكل مسؤول يتحرك وفق أهواء شخصية ورؤية يومية يحكمها «الشو الإعلامي»، أما فكرة وجود مفهوم كلي متكامل فهذا غير وارد، وفكرة الإستراتيجية نفسها غير موجودة».

وأضاف عبدالحميد: «وبالرغم من ذلك فما زلت أحلم بوجود تكامل بين بلدان العالم العربي يمكنه أن يخلق لنا رؤية ثقافية واحدة، وإن كان ذلك أمرًا يحتاج إلى سنوات من التعاون كي يتحقق؛ لذا فإننا يمكننا أن نبدأ بعمل خريطة واحدة للعالم العربي، خريطة تخبرنا بالمواقع الثقافية الموجودة في كل بلدان العالم العربي، تخبرنا بكل مواقع وقاعات الفن التشكيلي وأنشطته، تخبرنا بتباين المناطق العربية من الفقر إلى الغنى، من العشوائيات إلى الصحراويات، خريطة نرى أنفسنا من خلالها، وحينها سوف ينتبه الجميع إلى ما يجب عليهم عمله حيال ما يرونه على هذه الخريطة، وهذه بداية وضع إستراتيجية ثقافية عربية شبه موحدة، أو على الأقل متلائمة مع كل هذا التنوع والتباين والتفاعل العربي».

%d8%b2%d9%8a%d9%86-%d8%b9%d8%a8%d8%af%d8%a7%d9%84%d9%87%d8%a7%d8%af%d9%8a

زين عبدالهادي

أما رئيس قسم المكتبات بجامعة حلوان والرئيس الأسبق لدار الكتب المصرية الدكتور زين عبدالهادي، فأوضح أن الثقافة تحتاج إلى دعم سياسي كبير يأتي من الدولة ومؤسساتها الكبيرة المتحكمة، «ومن دون ذلك تظل الثقافة هامشًا، كما أنها تحتاج إلى عقل واعٍ بقيمتها وأهميتها، ومدى تأثيرها في الشارع، وأشك كثيرًا في وجود مثل هذا العقل في العالم العربي، وتحتاج إلى بيئة حاضنة لمفهوم الثقافة بكل أشكاله، وأشك أيضًا بأن هناك في العالم العربي هذه البيئة، وإن كانت بعض دول الخليج الآن لديها هذه المساحة وبشكل محدود».

وتساءل عبدالهادي: إذًا كيف يمكننا بناء إستراتيجية للثقافة في هذه البيئة الطاردة؟ ربما كان لدينا في مصر في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات مثل هذه البيئة بشكل أو بآخر، فانتشرت صناعة الكتاب والسينما والمسرح والأدب والفن التشكيلي وغير ذلك، لكن العقل الذي بنى ذلك ليس كالعقل الموجود الآن، فهناك تحالفات سياسية دينية، وهناك تحالفات مذهبية وعرقية أو فئوية، وكلها تحالفات ترى في الثقافة مجالًا للزندقة، وليست صناعة يمكن أن تسهم في العالم العربي بنسبة مئوية كبيرة في اقتصاد الخدمات».

نديم الوزة

نديم الوزة

وذهب إلى أن الفكر السياسي والديني المتطرف «يلتهم في طريقه كل شيء. ولم نصل بعد – كدول وجماعات وأفراد- إلى درجة من النضج التي تمكننا من التوجه نحو اقتصاد معرفة مبني على مفاهيم إنسانية عظيمة؛ إذ يعاني الإنسان العربي من نقص شديد في المعرفة، بدليل القرارات الخاطئة التي يتم اتخاذها كل يوم، لذلك لم يحن بعد الوقت لإستراتيجيات الثقافة؛ لأن الأرض نفسها تمتلئ الآن بالمطبات والغبار والمعارك الطاحنة، دعنا نأمل في المستقبل القريب أن يتفهم العالم العربي مدى حاجته لإستراتيجيات ثقافية توازي ما هو موجود بالعالم المتقدم وتفوقه».

الشاعر والناقد السوري نديم الوزة يرى أننا عندما نتحدّث عن إستراتيجيات ثقافية في بلدان فائتة حضاريًّا مثل البلدان العربية، «فإننا أمام سؤال التأسيس الذي فشلت هذه البلدان مجتمعةً أو منفردة في الإجابة عنه إن كان إحيائيًّا مع عصر النهضة أو حداثيًّا مع المدّ القومي؛ وهذا بسبب فقدان العوامل الذاتية والموضوعية لإنجاح مثل هذه الإستراتيجيات. ويبدو السؤال حاليًا أكثر تعقيدًا في ظلّ العولمة من جهة، وفي ظلّ الأنظمة التي هي امتداد للفشل العربي وعامل من عوامله الأساسية من جهة أخرى. بهذا المعنى يستطيع من يحلم بمستقبل ما لأيّ من البلدان العربية المتشظية أو في طريقها إلى ذلك؛ أن يتساءل: ما العوامل أو الحوامل الممكنة للتأسيس من جديد لإستراتيجيات ثقافية عربية؟ أو ربما مصرية أو سورية أو مغربية أو خليجية… كلّ على حدة؟ وهل يمكن لهذه الإستراتيجيات أن تلقى قبولًا إقليميًّا وعالميًّا؟ على ما أرى في ظلّ الأنظمة الحالية، ومنظومات معارضاتها الهشّة، يصعب عليّ الإجابة، وإن كنت ما زلت أفكّر بها!».

من جانبه أرجع الروائي المصري محمد المنسي قنديل غياب إستراتيجية ثقافية في العالم العربي ككل، «إلى أننا نعيش في عالم عربي مأزوم، وكل عوارض الأزمة العربية تتجسد في الثقافة، ومن ثم لا توجد لدينا سياسات ثقافية، وربما كانت لدينا مشروعات طموحة في زمن ما، كانت لدينا مجلات ثقافية كبرى، لكن كل الأشياء تَفَتَّتَتْ، وكل بلد يحاول على حدة، ومن ثم حجم العمل الثقافي أصبح خافتًا، الاهتمام بالثقافة وتفعيلها بشكل عام أصبح خافتًا، نظرًا لأننا نعيش في جزر منعزلة، بلدان العالم العربي جميعها تعيش في جزر منعزلة، وتعيش في أزمة التخلف، إننا نكتشف كل فترة أننا صرنا أكثر تخلفًا، وندخل كل معركة جديدة ونحن أكثر تخلفًا مما سبق، حتى في إنتاجنا الثقافي، فقد صار من النادر وجود أعمال مهمة، أو مجلات مهمة، أو مشروعات مهمة، والإعلام لا يروج إلا للأشياء التافهة، التلفزيون لا يعرض إلا المسلسلات والإعلانات، كل الأمور طابعها صار تجاريًّا، والثقافة بمعناها المجرد لم تعد موجودة».

المنسي قنديل

المنسي قنديل

وأضاف قنديل فيما يخص تمنياته للبدء في وضع هذه الإستراتيجية العربية الكبري قائلًا: «كنت أتمنى أن توجد دار نشر عربية موحدة، أو مؤسسة كبرى للترجمة العكسية إلى الآخر، بحيث تدفعنا قليلًا إلى دائرة النور، أو أن توجد مؤسسات تختار الأعمال السينمائية الحقيقية، وتقوم بدعمها وتوزيعها في العالم كله، كنت أتمنى أن توجد فرقة مسرحية جوالة في العالم العربي ككل. أشياء كثيرة أتصور أو أتمنى أن تحدث لكن لا توجد إستراتيجية حقيقية لفعل ذلك».

علوان الجيلاني

علوان الجيلاني

ورفض الشاعر والناقد اليمني علوان الجيلاني الحديث عن فكرة إستراتيجية عربية أو إستراتيجيات للبلدان العربية كل على حدة، مؤكدًا أن هذا الحديث بات لا يقوم على أساس؛ «إذ إن ثلث دول العالم العربي يفتقر إلى وجود الدولة بمعناها المتعارف عليه، كما هي الحال في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وليبيا.. وثلث آخر تفترسه مشكلات بنيوية عميقة تعوق التنمية بشكل عام، وعلى رأسها التنمية الثقافية المستدامة كما هي الحال في مصر والسودان وتونس والأردن والبحرين، والثلث الأخير يتمتع بقدر كبير من الرخاء والاستقرار لكن البنى المجتمعية تحول دون استثمار هذا الرخاء والاستقرار وتحويله إلى خادم جيد للتنمية الثقافية». ويشير الجيلاني إلى أن المقصود بالإستراتيجية الثقافية «هو وجود خطة إستراتيجية دقيقة يدرس فيها الواقع الثقافي بشكل دقيق وتحدد الأهداف، وتعد البرامج التنفيذية لتلك الأهداف، ويتم وضع آليات لعمل المؤسسات على نحو ما يتم في دول العالم المتقدمة التي تعتمد على مناهج صارمة وتطوير وتحديث مستمرين لأساليب العمل والتنفيذ، وعلى رأس ذلك مراكمة مجموعة من القيم المؤسسية التي تضمن البقاء والنمو والاستمرارية لتلك المؤسسات التي يجب بديهيًّا أن تكون ذات شخصية اعتبارية، ويتوزع نشاطها على كل أشكال الثقافة والتعبير والإبداع بحرية كاملة وتمويل سخي رسمي وأهلي. وتلك شروط يستحيل أن تكون موجودة إلا على شكل مبادرات نشهدها بين الحين والآخر هنا وهناك أشبه ما تكون بالجزر المعزولة. وغالبًا ما تفتر وتتقهقر بعد حين».

وقال: إن وجود إستراتيجية ثقافية «يعني وجود مجموعة مؤسسات في شتى مجالات العمل الثقافي تعمل على طريقة الأواني المستطرقة، أي تتكامل جهودها وتترادف اشتغالاتها لتؤدي وظيفتها على نحو مكتمل… ناهيك عن كونها ذات رسالة من شقين؛ شق يتوجه إلى الداخل، وشق يتوجه إلى العالم بما يعنيه ذلك من قدرات على الترجمة والتسويق والترويج للفنون المختلفة… فهل هذا موجود عندنا؟!».

بينما ذهب الشاعر والمترجم المصري محمد عيد إبراهيم إلى أن السياسة الثقافية هي الدليل الوحيد على ترقّي المجتمع، «فالنظام حين يتفشّى في كل شيء تنطلق الثقافة إلى نمط أمين، لا تظهر فيه تلك المظاهر التي تبين سوءاته. ولا أستطيع قطعًا الكلام عن العالم العربيّ، حتى أظلّ أمينًا في وجهة نظري، ويكفيني وزيادة مشاكل الثقافة في مصر».

وطبق عيد رؤيته من خلال ما جرى في الثقافة المصرية عقب قيام ثورة يناير قائلًا: «بالنظر إلى ما حدث لدينا من ثورة نُقضت بل سارت بالأمور إلى ما هو أسوأ مما قبلها، فأرى أن وزراء الثقافة المتعاقبين منذ بداية الثورة، ومع احترامي للجميع، لم يكن لديهم الطاقة لتنفيذ ما يرون؛ لعدة أسباب: أن النظام يرى الثقافة وكأنها الحلقة الأضعف فباستطاعته الضغط على مسؤوليها أو تخفيض الميزانية أو تعيين مسؤولين غير أكفاء، وبعضهم لا ناقة له أو جمل أصلًا في التنظير الثقافي، أو حتى التنفيذ الإداريّ، كما كان الجوّ السياسيّ -بل لا يزال- مشدودًا، كلّ يوم هو في شأن، فكيف تستقرّ الأوضاع، ومتى، وأين، ولماذا؛ إلى آخر الكلمات الاستفهامية؟ ولذلك تتفشّى أمراض وعلل، منها تحكّم كلّ فريق في منصب أو مطبوعة، يخدم بها المقربين، ويلوي عنق المبعَدين، فانهار مستوى الكتب والمطبوعة الثقافية أكثر من ذي قبل. عمومًا، هذه أعراض لغياب السياسة الثقافية، حيث لا رقيب ولا حسيب لما يقوم به كل منا في موقعه، ناهيك عن غياب مفهوم الجمهور أو المتلقي، فبارت سلعة الثقافة أو تكاد، ويكفينا أسى أن الكتب الإبداعية مثلًا لم تعد توزّع أكثر من مئتي نسخة وسط شعب تعداده 90 مليونًا!».

فاطمة بوهراكة

فاطمة بوهراكة

على حين تقول الباحثة المغربية فاطمة بوهراكة صاحبة موسوعة الشعراء العرب: «من وجهة نظري الشخصية ومن خلال تجربتي المتواضعة في فعاليات الحقل الثقافي العربي أستطيع أن أقول: إننا لا نتوافر على إستراتيجيات ثقافية حقيقية في أوطاننا العربية، رغم تفاوتها من بلد إلى آخر، والسبب في ذلك يعزى إلى عدم الاعتراف بقيمة الدور الثقافي داخل الشعوب التي عرفت تقهقرًا فكريًّا خطيرًا أوصل بعضها إلى تدمير بلدانها تحت ما يسمى بالربيع العربي، فلو كانت هناك إستراتيجية حقيقية للنهوض بالمشاريع الثقافية الجادة التي تخدم العقلية البشرية بالأوطان العربية لما كانت نتيجتها بهذا الحال» .

وتذكر فاطمة بوهراكة أنه آن الأوان «لوضع خطط إستراتيجية للعمل الثقافي الجاد، ودعمه ماديًّا في جميع الدول العربية حتى لا نضطر إلى الوصول لمرحلة الدمار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بسبب تفريط دولنا في دعم المجال الفكري والثقافي، فما أحوجنا إلى أن يكون الإنسان المناسب في المكان المناسب بغية الوصول إلى شاطئ الأمان من خلال هذه الإستراتيجية» .

فتحي عبدالسميع

فتحي عبدالسميع

ويذهب الشاعر فتحي عبدالسميع إلى أن المجتمع العربي «يعانى أزمتين كبيرتين، تتمثل الأولى في ضعف اهتمام الحكومات العربية بالثقافة، ويبلغ الأمر حد الشعور بأنها لا تؤمن بالثقافة، أو تناصبها العداء وتتجاهلها عن عمد، وفي تقديري إيمان الحكومات بدور الثقافة بائس جدًّا، ومشوّه، فالثقافة تعني الترفيه، أو الدعاية الوطنية، وغير ذلك مما يبعد عن معنى الثقافة باعتبارها جوهر بناء الدولة، والسبيل لبناء الأفراد، والمعبّر الحقيقي عن الرقيّ والتقدم الإنساني، وهكذا ينتقل بؤس إيمان الحكومات بالثقافة إلى الإعلام، ومن ثم إلى المجتمع، أما الأزمة الأخرى فتأتي نتيجة طبيعية للأولى وتتمثل في عشوائية الفعل الثقافي، فهو لا ينطلق من قاعدة ثابتة، بل يعتمد على مزاج صانعي القرار، أو وعيهم الفردي فقط، أو اهتمامهم المرحلي، وتلك العشوائية تقتل الثقافة؛ لأن الثقافة في جوهرها تنظيم للعالم الإنساني، ولا يمكن أن تؤدي رسالتها بعشوائية».

ويشير فتحي عبدالسميع إلى جهود ثقافية لأفراد يؤمنون بالثقافة ويستوعبون قيمتها، «لكن تلك الجهود تتحطم في الغالب؛ لأنها تتأثر بالمناخ العام المعادي جهلًا أو عمدًا للثقافة، كما أن الواجب الثقافي أكبر من الطاقات الفردية رغم أهميتها، وهكذا يبقى وضع إستراتيجيات ثقافية فعالة مرهونًا بإرادة الحكومات، أو المؤسسات الأهلية، ويبقى الجهد الفردي مجرد حفاظ على راية مهزومة، واستغاثة طويلة المدى تعلن عن بؤس المصير الذي ينتظرنا، ما دام الوضع الثقافي بائسًا».

تخبط وعشوائية

عيد الناصر

عيد الناصر

يرى الكاتب السعودي عيد الناصر أن الأمة في هذه المرحلة التاريخية بأقطارها كافة، «تعيش حالة تخبط وعشوائية وارتجالية على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعليه فإنه لأمر طبيعي جدًّا، وكتحصيل حاصل، أن نعيش على نفس مسار التخبط والعشوائية فيما يخص الفن والفكر والثقافة. ولكن بالإمكان رؤية الأمر من زاوية أخرى، وهو أن ما يحدث الآن هو نفسه إستراتيجية، ولكنها إستراتيجية بالمعنى السلبي وليس المعنى الإيجابي، إستراتيجية تهدف إلى تفكيك وتمزيق العلاقات الروحية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي تكونت ونسجت خيوطها على مدى مئات السنين بين أبناء الوطن العربي لأهداف وأغراض لا تمت بصلة لمصلحة الوطن الأكبر أو الأصغر (طبقتها أميركا بشكل كامل في العراق).

ويشير إلى أنه «لو تتبعنا مسار الأحداث منذ بداية القرن العشرين حتى هذا اليوم لوجدنا أنها حدثت بفعل وجود خطط وإستراتيجيات كبرى تحاول السيطرة على مقدرات البشرية في كل مكان، بما في ذلك وطننا العربي الكبير، عبر استخدامها لكل السبل وأدوات القهر البشعة والناعمة على السواء. وكانت النقطة الرئيسية في محاولة السيطرة هي التغلغل في العقول عبر الثقافة (فكر وفن وأدب وسياحة … إلخ)؛ لأن من يمتلك السيطرة على مكونات التفكير يمتلك القدرة على توجيه المستهلك لتلك الثقافة أينما شاء».

ويعتقد الناصر أن استمرار الأوضاع على ما هي عليه «يعني المزيد من الفرقة الثقافية والتمزق الاجتماعي والسياسي والدماء النازفة بلا مبرر أو قيمة إنسانية أو أخلاقية».

عائشة‭ ‬البصري‭:‬ الدولة‭ ‬تعدّ‭ ‬القطاع‭ ‬الثقافي‭ ‬غير‭ ‬منتج

عائشة البصري

عائشة البصري

من جانبها أكدت الشاعرة والروائية والفنانة التشكيلية المغربية عائشة البصري أن ما تعرفه عن السياسات الثقافية في البلدان العربية لا يسمح لها بإصدار أحكام. وإن كانت قد لاحظت في العموم أن هناك بعض الديناميات التي تشهدها بلدان عربية، مثل مصر وتونس ولبنان والجزائر وبعض البلدان في منطقة الخليج، وقالت البصري: «سأتحدث عن المغرب فقط، فأول مرة فكرت الدولة المغربية في هيكلة قطاع الثقافة كان ذلك سنة 1968م، بإسناده إلى وزارة التعليم. ثم أُلحقت بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بعد ذلك. قبل أن يستقل قطاع الثقافة بوزارة خاصة به سنة 1974م. الواقع أن الشأن الثقافي في المغرب اهتم به المجتمع المدني قبل أن تهتم به الدولة. فقد تأسس اتحاد كتاب المغرب سنة 1961م. وظهرت مجلات ثقافية مستقلة منذ بداية الستينيات. فاهتمام الدولة بالشأن الثقافي كان رد فعل. حين أدركت أن الثقافة بدأت تصبح من اهتمامات اليسار المغربي. والحديث يطول بهذا المعنى التاريخي. إذًا، فالمغرب ظل يمتلك سياسة ثقافية تشمل مجالات: التراث والفنون والنشر وترويج الكتاب وسوق القراءة العمومية، والدبلوماسية الثقافية… إلخ».

وتلفت البصري إلى أن الإخفاق الذي ظل يطبع السياسات الثقافية العمومية في المغرب، «يرجع إلى انعدام مشروع ثقافي وطني من جهة، كما أن الدولة ظلت دائمًا تعدّ القطاع الثقافي قطاعًا غير منتج، بالرغم من أنه استثمار في رأس المال البشري. ما يفسر أن وزارة الثقافة ظلت تخصص لها أصغر الاعتمادات المالية. وهي أرقام يصعب أن تستجيب لتطلعات ومطامح الفاعلين في المجال الثقافي المغربي».

سعد‭ ‬البازعي‭:‬ ما‭ ‬أكثر‭ ‬الإستراتيجيات‭ ‬وما‭ ‬أقل‭ ‬العمل‭ ‬بها

سعد‭ ‬البازعي

سعد‭ ‬البازعي

قال عضو مجلس الشورى السعودي الناقد الدكتور سعد البازعي: إن «الإستراتيجية» من المفردات «التي تكاد تهيمن على الخطاب الإعلامي والتنموي في بلادنا وبلاد كثيرة تشبهها. نشكو من غياب الإستراتيجيات ونقصد بها التخطيط، فتبدو الجهود تبذل على غير هدى أو بشكل عفوي، إن لم نقل: عشوائي. غير أننا في الوقت نفسه نعيش تخمة في الإستراتيجيات، وهل خطط التنمية إلا إستراتيجيات؟ فما الذي أدى إليه العمل عليها وتبويبها والسعي للسير بمقتضاها؟ لا شك أن هناك نجاحًا ما قد تحقق، وأن أشياء كثيرة أنجزت، لكني لا أدري ما مقدار ذلك الذي أنجز، وما مقدار الذي لم ينجز، ولماذا. إحدى المشكلات هي أننا قلما نتحاور على نحو شفاف حول تلك الخطط أو الإستراتيجيات».

ويتساءل البازعي: «هل العمل وفق إستراتيجية بحد ذاته كافٍ لإنجاز ذلك العمل؟ هل وجود الإستراتيجية ضمان بالنجاح؟ أعتقد أن الإجابة ستكون بلا؛ لأن الخطط سهلة من حيث هي تصورات تبنى على وقائع ومعلومات، لكنها أيضًا تنطوي على الكثير من الأماني غير المختبرة والتي كثيرًا ما تتراجع أمام قسوة الواقع».

ويرى أن ذلك «لا شك ليس مبررًا لعدم التخطيط، والمؤسسات الثقافية بشكل خاص بحاجة إلى التخطيط، بل هي الأولى أن تكون واعية بذلك من حيث هي قائدة للمجتمع برؤيتها المستقبلية وطموحاتها الكبيرة. لكن التخطيط دون مقدرة على التنفيذ سيتحول إلى نوع من الرضا الذاتي والمؤقت. لقد كنت ضمن لجنة وضعت إستراتيجية لوزارة الثقافة عند إنشائها، وحتى اليوم لا أرى من تلك الخطة شيئًا على أرض الواقع، بل إن الوزارة حاليًا تفكر في إستراتيجية أخرى. فما أكثر الإستراتيجيات وما أقل العمل بها».