ثلاثيةُ الهزائم والكرامة والانتصار
في بعض هزائمنا كرامةٌ تفوقُ الانتصار، وحكمةٌ أعمقُ في تحمل المسؤولية، ورؤيةٌ بعيدة المدى، تنظر إلى المستقبل في بعده الإنسانيّ؛ الفرديّ والأمميّ. وهي فرصةٌ، أيضًا، لتأمُّلٍ أعمقٍ في فهم المسؤولية الإنسانية، عندما نَحتَكِمُ إلى النصوص الدينية، والمذاهب الفكرية الوجودية، والإنسانية العلمانية. ولعلنا نبدأ بتساؤل فلسفي مفتوح، حول جوهر الإنسانية: «مَنْ نحن؟»، وما السبيل إلى ذلك في السياقات الدينية، والفلسفية، والعلمية، وفي كل محطة من حواراتنا، وصولًا إلى ربطنا لهذه المفاهيم بكيفية تأثيرها في دورنا في هذا العالم، ومكانتنا فيه؟
وجه آخر للانتصار
تثير ثلاثيةُ الهزائمِ والكرامةِ والانتصارِ تفكيرًا عميقًا حول قيمة النجاح والفشل في حياتنا، وتشكل تحديًا للفهم التقليدي للنجاح، كقيمةٍ نسعى إلى تحقيقها، وإلى الفشل كمنقصةٍ يجب تجنبها. ولعل الأمرَ، في بعده الفلسفي، نِسبيٌّ في سياقات تقتضيها محكاتٌ لا انفكاك منها، فقد تكون الهزيمةُ نتيجةً للتَّمسُّكِ بالمبادئ الأخلاقية أو القيم الشخصية، وإن لم يؤدِّ ذلك إلى تحقيق النجاح بالمعنى التقليدي، فهذا النوع من «الهزائم» هو انتصارٌ للكرامة واحترام للذات، وإعلاء للمبادئ والقيم الفردية والعامة.
إنّ الكرامة والأخلاق مسألتان محوريتان في تكوين هويتنا الشخصية والعامة، ويرى الفيلسوف كانط أن الكرامة تنبع من القدرة على التصرف وفقًا للقانون الأخلاقي العالمي، بغض النظر عن العواقب. وبالتالي، قد تكون الهزيمة التي تحافظ على كرامة الشخص، وتمسكه بالأخلاق، على المدى الطويل، أكثر قيمة من انتصار يكون ثمنه الخيانة، أو التضحية بالمبادئ. واحتكامًا إلى هذا المفهوم، علينا التفكير فيما نعتبره نجاحًا في حياتنا، وكيف يمكن لقراراتنا أن تعكس القيم الأساسية التي نحملها.
في كتاب «الأمير» لمكيافيلي، وعلى الرغم من أنه يُعرف بنظرته البراغماتية للسلطة، في مقولته الشهيرة «الغاية تبرر الوسيلة»، فإن هناك أجزاءً في النص تناقش أهمية الفضيلة والشرف، حتى في وجه الهزيمة. ويتناول فريدريتش نيتشه في «الإنسان الأخير»، فكرة الإنسان الذي يتنازل عن كل شيء من أجل النجاح، لكنه في النهاية يفقد كرامته وهويته. وتظهر المسرحية اليونانية القديمة «أنتيغون» لسوفوكليس، كيف تتمسك أنتيغون بمبادئها، وتُعارض القانون الظالم، وهو ما يؤدي إلى هزيمتها ولكن بكرامة. وفي الأدب الإنجليزي تأتي فكرة «البطل المأساوي»، التي تجسدت في شخصيات مثل هاملت وأوديب، اللّذَين واجها الفشل والمصاير المحتومة، ولكنهما ظَلّا محتفظين بكرامتهما، من خلال التمسك بالحقيقة والمبادئ الأخلاقية. ويناقش جوزيف كامل في روايته «البطل بألف وجه» الرحلة البطولية، التي تضمنت العديد من الصراعات، والهزائم، والتي أسهمت في صقل الشخصية البطولية، وأكسبتها معنى أكثر عمقًا، وجمَّلتها بالكرامة. وفي «الحرب والسلام» لتولستوي، يواجه العديد من الشخصيات تحدياتٍ وهزائمَ تُظهر قوتهم الأخلاقية ونبلهم، حتى في ظل الخسارات. كل هذه الأعمال، وغيرها، تعكس فكرة أن النجاح، ليس دائمًا، ما يُحَقِّقهُ المرءُ بالفوز أو الانتصار، ولكن، أحيانًا، بالثَّباتِ على المبادئ، والحفاظ على الكرامة؛ حتى في وجه الفشل.
يُعد الشيخ سانتياغو في رواية «الشيخ والبحر» لإرنست همنغواي، مثالًا بارزًا للبطولة التي تعكس المقولة الشهيرة: «قد يُحطم الإنسان ولكن لا يُهزم». هذه المقولة تسبر أعماق الصراع الإنسانيّ بين الإرادة والمصير، وبين الانكسار الجسديِّ والثَّباتِ الرُّوحيِّ.
وقد يُفَسَّرُ الصّراعُ بين الهزيمةِ والنصر في الرواية، من خلال مفاهيم الـ«أنا» و«الأنا العليا» في النظريات النفسية، خصوصًا تلك التي طورها سيغموند فرويد. فالـ«أنا» تمثل الجانب الأكثر واقعية وتكيفًا في الشخصية، التي تحاول التوفيق بين الرغبات البدائية والمطالب الأخلاقية والاجتماعية. أما «الأنا العليا» فتمثل الجانب الأخلاقي والمثالي في النفس. في قصة سانتياغو، تظهر الـ«أنا» في تصميمه على البقاء والقتال ومحاولة التغلب على الظروف الصعبة من أجل البقاء، والفوز بالصيد الكبير. لكن «الأنا العليا» تتجلى في احتفاظه بكرامته، واحترامه للطبيعة والمخلوقات التي يصطادها، وفي تَقَبُّلِهِ للهزيمة، دون أن يفقد إحساسه بالذات الأخلاقية والمعنوية. فالمنطقة بين الهزيمة والنصر في هذه الرواية تنبع، إذًا، من صراع داخلي بين هذين الجانبين من النفس، حيث يجد سانتياغو الكرامة حتى في الهزيمة؛ لأنه لم يفقد إنسانيته، ولم يتخلَّ عن مبادئه الأساسية. هذا مدعاةٌ للتفكير في القيم التي تحدد النجاح الحقيقي، وكيف أن الكرامة والثبات، يمكن أن تكونا أهمّ من الفوز الظاهريّ.
دروس الهزائم
كان الصراع، في تاريخ البشرية، دومًا، جزءًا لا يتجزأ من التطور الاجتماعي والسياسي. كل حرب تُخلف وراءها طيفًا واسعًا من النتائج، من الانتصارات التي يحتفل بها فريقٌ، إلى الهزائم التي تجلب الأسى والدمار للآخرين. إنّ الانتصار في أي صراع تاريخي، لا يعني كسب المعارك العسكرية وحسب، بل يشمل تأثيرات طويلة المدى في الثقافة، السياسة، والهويات الوطنية والشخصية أيضًا.
ويظهر الصراع، سواء كان قسريًّا أو اختياريًّا، كيف تُقْسَم المجتمعات بين فائزين وخاسرين، وكيف يُشَكِّل كلٌّ من الانتصار والهزيمة الهوية الجماعية، ولكن الهزائم، على وجه الخصوص، قد تكون لحظات تعلم مهمة، ففي كثير من الأحيان، تكشف الهزائم عن قوة الروح الإنسانية، والقدرة على الصمود، وإعادة البناء. لقد شهدت أوربا بعد الحرب العالمية الثانية هزائم مدمرة، لكنها شهدت، أيضًا، تعاونًا وتكاتفًا ملحوظين في إعادة البناء والتعافي، الذي أسّس لتكوين الاتحاد الأوربي، ففي هذا السياق، كانت الهزيمة بمنزلة بداية لعملية بناء شكلٍ جديدٍ أكثر نفعًا وجدوى.
وحَرِيٌّ بنا النظر إلى الصراعات والحروب من منظور نقدي، يأخذ في الحسبان، إلى جانب التأثيرات، العسكرية، والجغرافية السياسية، الأبعاد النفسية والاجتماعية والاقتصادية. حيث علّمنا التاريخ أن الهزائم تحمل دروسًا عميقة، لا تقل أهمية عن دروس الانتصارات. إنَّ التاريخ مليء بالأمثلة التي تُظهر كيف أن الانتصارات والهزائم مرت وتلاشت، بينما استمرت الإنسانية في التطور والتكيف، فمع مرور الزمن، تُصبح الأحداث التاريخية الكبرى جزءًا من الذاكرة الجماعية، وتشكل جزءًا من الهوية الثقافية والوطنية، وتستمر الحياة اليومية للناس بتحدياتها وآمالها وطموحاتها.
لقد شهدت الحضارات العظيمة، كالأكادية والبابلية والآشورية والفارسية واليونانية والرومانية والعثمانية وغيرها، فترات من الانتصارات العظيمة والهزائم المؤلمة كذلك، ولكنّ ما تركته من إنجازات في العلوم، والفنون، والهندسة، والفلسفة، والآداب وسواها، ما زال يؤثر في حياتنا حتى اليوم. لقد أثرت الهزائم التاريخية في فهم وتشكيل السياسات المستقبلية، وتعزيز العلاقات الدولية، وفي تطور النظريات الاقتصادية والسياسية، فالصدمة التي خلفتها الحرب العالمية الثانية، أدت إلى إنشاء الأمم المتحدة، ونظم جديدة للحكم والتعاون الدولي، تهدف إلى منع تكرار مثل هذه الكوارث، ولكنها بكل أسف تحدث، نتيجة غطرسة القوة وزيف الانتصارات الميكانيكية على حساب الإنسانية. إن هذه الأمثلة، وسواها، تُظهر أن الإنسانية تستمد قوتها من القدرة على التعلم من التاريخ، والبناء على الماضي، سواء كان ذلك الماضي مليئًا بالانتصارات أو الهزائم. ومن هذا الوعي تكون قادرة على المضي قدمًا، وإعادة التفكير في الذات، والمجتمع، بما يُحدد مسار التقدم الإنساني.